الأحد، 2 نوفمبر 2014

القتل – المبحث الأول : القتل العمد –- أركان جريمة القتل العمد – الركن الأول: القتيل آدمى حي - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

القتل
من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني
الدكتور عبد القادر عودة 

المبحث الأول

القتل العمد
6 - القتل العمد هو ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجنى عليه: أى أن تعمد الفعل المزهق لا يكفى لاعتبار الجانى قاتلاً متعمدًا بل لابد من توفر قصد القتل لدى الجانى، فإذا لم يقصد الجانى القتل وإنما تعمد فقط مجرد الاعتداء فالفعل ليس قتلاً عمدًا ولو أدى لموت المجنى عليه، وإنما هو قتل شبه عمد كما يعبر عنه فقهاء الشريعة، وضرب أفضى إلى موت فى لغة شراح القوانين الوضعية.
7 - ويعتبر القتل العمد فى الشريعة من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم: وقد جاء القرأن والسنة بتحريمه وتعظيم شأنه وتحديد عقوبته.
تحريم القتل من القرآن: قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: 33] وقال: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] ، وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ
(2/10)
________________________________________
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] ، وقال جل شأنه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة 32] .
عقوبة القتل من القرآن: قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] .
وإذا كانت هذه الآية تذكر أن هذا الحكم كتب على من قبلنا فليس ذلك بشىء لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما يقم دليل على نسخه، فضلاً على أن القرآن جاء بنص صريح فى أنه مكتوب علينا، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178, 179] .
تحريم القتل من السنة: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن قالوها فقد عاصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل"، وقال: "من قتل نفسه بشىء من الدنيا عُذَّب به يوم القيامة"، وقال: "من أعان قتل امرئ مسلم بشطر كلمة لقى الله مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله"،
(2/11)
________________________________________
وقال: "قتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا"، وقال فى خطبة عرفات: "ألا أن دمائكم ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومى هذا فى شهرى هذا فى مقامى هذا".
عقوبة القتل من السنة: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وجد فى قائم سيفه: "إن أعدى الناس على الله غير قاتله، والضارب بغير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل على محمد"، وروى أنه قال: "من اعتبط مؤمنًا بقتل فهو قَوَد به إلا أن يرضى ولى المقتول، فمن حان دونه فعليه لعنة الله وغضبة، لا يقبل منه صرف ولا عدل"، وقال: "العمد قود"، وقال: "من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا فالقود، وإن أحبوا فالعقل".
أركان جريمة القتل العمد
8 - أركان جريمة القتل فى الشريعة ثلاثة:
أولها: أن يكون المجنى عليه آدميًّا حيًّا.
ثانيها: أن يكون القتل نتيجة لفعل الجانى.
ثالثها: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة.
وهذه الأركان هى نفس أركان جريمة القتل العمد فى قانون العقوبات المصرى وغيره من القوانين الوضعية.
* * *
الركن الأول: القتيل آدمى حي
9 - تقع جريمة القتل على النفس فهى بطبيعتها اعتداء على آدمى حى: ولذلك سماها الفقهاء بالجناية على النفس، فلتحقق وقوع الجريمة يجب أن يكون المجنى عليه آدميا وأن يكون على قيد الحياة وقت ارتكاب جريمة القتل, فمن أطلق مقذوفا ناريا على حيوان حى فقتلة فإنه لا يعتبر قاتلاً عمدًا وإن كان يعتبر متلفًا لحيوان، ومن شق بطن إنسان ميت أو فصل رأسه من جسمه بقصد قتله وهو
(2/12)
________________________________________
لا يعلم أنه ميت فإنه لا يعد قاتلاً له لأن الموت لم ينشأ عن فعله ولأن الفعل كان بعد أن فارق الميت الحياة فاستحال قتله، أو بتعبير آخر: لا يعاقب الجانى على جريمة القتل العمد لاستحالة وقوعها ولكنه يعاقب لأنه استحل حرمة ميت.
10 - ومن المتفق عليه أن الميت هو من خرج فعلاً عن الحياة: فإذا قتل شخص مريضًا فى حالة النزع فهو قاتل له عمدًا؛ لأنه أخرجه بفعله عن الحياة.
11 - وإذا جنى شخصان على ثالث وكان فعل الأول يفضى إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل شق البطن ومَزْق الأمعاء فإذا قطع الثانى رقبته فالقاتل هو الثانى لأنه فوَّت حياة مستقرة أو ما هو فى حكم الحياة، ويستدلون على ذلك بحادث عمر رضى الله عنه فإنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنًا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى، فقبل الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه، وهكذا ما دامت الحياة باقية يعتبر الثانى مفوتًا لها ويكون هو القاتل كما لو قتل عليلاً لا يرجى له البُرْء (1) .
12 - أما إذا كان فعل الأول قد أخرج المجنى عليه من حكم الحياة كأن قطع حشوته أى قطع أمعاءه وانتزعها ثم جاء الثانى وذبحه، فقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه الحالة: ففريق يرى أن القاتل هو الأول إذا صير المجنى عليه إلى حركة مذبوح لأنه هو الذى صيره بفعله لحالة الموت ومن ثَمَّ أعطى حكم الأموات مطلقًا والمفروض فيمن يصل لهذه الحالة أن يكون عاجزًا عن النطق فاقدًا الإدراك والاختيار وإذا نطق بكلام منتظم فنطقه حركة مضطر كطلب الماء (2) .
ويرى الفريق الآخر أن القاتل هو الثانى لأن من قربت روحه من الزهوق
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص295 , نهاية المحتاج ج7 ص250 , 251 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص244 , الشرح الكبير ج9 ص338.
(2) أصحاب هذا الرأى هم الحنفيون والشافعيون والحنابلة وبعض المالكيين , راجع المراجع السابقة.
(2/13)
________________________________________
يعتبر فى حكم الحياة ما دام لم يسلم الروح، وهو يرث غيره وتصح الوصية له إذا مات الموصى قبله وإذا استطاع الكلام فأسلم اعتبر إسلامه وورثه أهله من المسلمين وهو على كل حال إما حى أو ميت ولا سبيل لغير هذين الاعتبارين، ولا يمكن القول بأنه ميت قبل أن يسلم الروح، فهو إذن حى على ما به من إصابات، فإذا فعل به أحد فعلاً عجل بموته فهو قاتل نفسًا عمدًا (1) .
13 - والجنين فى بطن أمه لا يعتبر آدميًّا حيًّا من كل وجه: ويعبر عنه فى الشريعة بأنه نفس من وجه، دون وجه فمن يعدم الجنين لا يعتبر قاتلاً له عمدًا، وإنما يعتبر مرتكبًا لجريمة قتل من نوع خاص، ويعاقب على فعله بعقوبة خاصة، وسنتكلم فيما بعد عن هذه الجريمة.
ويتفق القانون المصرى مع الشريعة فى هذا الاتجاه فمن يعدم جنينًا فى بطن أمه لا يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة لقتل العمد فى المادة 1/234 عقوبات، وإنما يعاقب بالمادة 260 عقوبات وما بعدها الواردة فى الباب الثالث من الكتاب الثالث والخاصة بإسقاط الحوامل.
14 - وليس لجنسية المجنى عليه أو دينه أو لونه أو سنه أو نوعه أو ضعفه أو صحته أى أثر على اعتباره مقتولاً عمدًا: فيستوى أن يكون القتيل أجنبيًا أو من رعايا دولة الجانى، ويستوى أن يكون متدينًا أو غير متدين يعتنق دين القاتل أو دينًا آخر، ويستوى أن يكون أبيض أو أسود، عربيًا أو أعجميًا، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، ضعيفًا أو قويًّا، مريضًا أو صحيحًا، ويستوى أن يكون مرضه بسيطًا أو عضالاً يتوقع له الموت أو يرجى له الشفاء، فمن يقتل إنسانًا أيًّا كان فهو قاتل متعمد ولو كان طبيبا قصد أن يخلص القتيل من آلام مرضه المستعصى.
15 - ووجود جثة القتيل ليس شرطًا لاعتبار جريمة القتل واقعة، وليس
_________
(1) من هذا الرأى أصحاب المذهب الظاهرى وبعض المالكيين , راجع مواهب الجليل للحطاب ح6 ص233 , 244 الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , المحلى لابن حزم ج10 ص518.
(2/14)
________________________________________
شرطًا لقيام الدعوى، ما دامت الأدلة قائمة على حدوث واقعة القتل.
16 - ولا خلاف بين الشريعة وقانون العقوبات المصرى فيما سبق: ولا يشترط القانون المصرى لتوفر هذا الركن أكثر مما بسطناه. ولكن الشريعة الإسلامية تشترط فوق ما سبق أن يكون القتيل معصومًا؛ أى: غير مهدر الدم.
17 - والعصمة أساسها فى الشريعة الإسلام والأمان: ويدخل تحت الأمان عقد الجزية والموادعة والهدنة. وعلى هذا يعتبر معصومًا المسلم، والذمى، ومن بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، ومن دخل أرض الدولة بأمان ولو كان منتميًا لدولة محاربة ما دام الأمان قائمًا ويعتبر الإذن بالدخول أمانًا حتى تنتهى مدة الإذن. فهؤلاء جميعًا معصومون؛ أى لا تباح دمائهم ولا أموالهم، وإذا قُتل أحدهم كان قاتله مسئولاً عن قتله عمدًا إن تعمد قتله. وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (1) .
أما أبو حنيفة فيرى أن العصمة ليست بالإسلام وإنما يعصم المرء بعصمة الدار ومَنَعة الإسلام وبالأمان، فأهل دار الإسلام معصومون بوجودهم فى دار الإسلام وبمنعة الإسلام المستمدة من قوتهم وجماعتهم وأهل دار الحرب غير معصومين لأنهم محاربون، وإن كان فيهم مسلم فلا يعصمه إسلامه حيث لا منعة له ولا قوة (2) .
والفرق بين رأى أبى حنيفة ورأى بقية الأئمة أن قتل المسلم فى دار الحرب لا عقاب عليه لأنه غير معصوم كما يرى أبو حنيفة، وعندهم يعاقب على قتله لأنه معصوم النفس محقون الدم بإسلامه فقط ولا عبره بوجوده فى دار الحرب.
18 - وإذا كان أساس العصمة الإسلام والأمان فإن العصمة تزول
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص231, تحفة المحتاج ج4 ص10, المغنى ج10 ص476, 606 وما بعدها , الإقناع ج4 ص173 , المغنى ج9 ص335.
(2) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص252 , البحر الرائق ج8 ص327.
(2/15)
________________________________________
بزوال الأساس الذى قامت عليه: فالمسلم يصبح مهدر الدم بردته وخروجه عن الإسلام، والمستأمن والمعاهد يصبح مهدر الدم بانتهاء أمانه ونقضه عهده، ولا عصمة أصلاً لرعايا الدولة المحاربة ويسمى الفرد منهم حربيًا اصطلاحًا والحربى مهدر الدم أصلاً إلا إذا استأمن فأمن فإنه يعصم عصمة موقوتة بمدة أمانه، وإلا إذا عقدت دولته عهدًا ينهى حالة الحرب مؤقتًا أو دخلت فى الذمة فإنه يصبح معصومًا بعقد الموادعة أو عقد الذمة.
19 - وكما تزول العصمة بالردة وبانتهاء الأمان فإنها تزول بارتكاب بعض الجرائم: وهى على وجه الحصر: الزنا من محصن، وقطع الطريق، والقتل العمد. كذلك تزول العصمة - على رأى أبى حنيفة (1) - بارتكاب جريمة البغى وهى الخروج على أنظمة الدولة وقوانينها والثورة على القائمين بالأمر فيها، ويسمى الثائرون بغاة. وسنفصل القول فيما يأتى عن كل جريمة من هذه الجرائم (2) .
20 - ويترتب على زوال العصمة أن يصبح الشخص مهدر الدم، أى مباح القتل: فإذا قتله آخر لا يعتبر قاتلاً لأن قتل المهدر لا يعتبر جريمة من حيث فعل القتل، إذ الفعل مباح، ولكن لما كان قتل المهدرين من شئون السلطات العامة وموكولاً إليها فإن قتل الأفراد لهم يعتبر اعتداء على السلطات العامة ومن ثم يعاب قاتل المهدر باعتباره مرتكبًا لجريمة الافتيات على السلطات العامة لا باعتباره قاتلاً. وهذا هو الراجح فى المذاهب الأربعة (3) .
_________
(1) يرى أبو حنيفة وأصحابه أن البغاة غير معصومن , ويخالفه فى ذلك مالك والشافعى وأحمد , ويقولون إنهم معصومون إلا فى حالة الاشتباك مع أهل وهم الفريق الآخر من الأمة الذى خرج عليه البغاة.
(2) يحسن بالقارئ أن يرجع إلى ما كتبناه عن هذا الموضوع فى الجء الأول من كتابنا حيث تكلمنا عنه بتوسع.
(3) الأصل فى الشريعة الإسلامية أن من ارتكب جريمة حوكم عليها فإن ثبتت عليه حكم عليه= =بالعقوبة المقررة للجريمة وإن لم تثبت حكم ببراءته مما نسب إليه, وإذا حكم عليه بالعقوبة تولى تنفيذها ولى الأمر أو نائبه , ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أى العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى أى حق الجماعة وجب تفويضه الى نائب الجماعة , ولأن الحد مفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فى استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواطة نائبه.
... وحضور الإمام ليس شرطاً فى إقامة الحد لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازماً فقال: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم , وأتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه".
... لكن إذن الإمام واجب فى إقامة الحد , فما أقيم حد فى عهد رسول الله إلا بإذنه وما أقيم حد فى عهد الخلفاء إلا بإذنهم (المذهب ج2 ص287) . ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع إلى الولاة: الحدود , والصقات , والجمعات , والفئ" (شرح فتح القدير ج4 ص130) . وإذا كانت القاعدة العامة إقامة الحد للإمام أو نائبه إلا أنه لو اقامة غيره من الافراد فإن مقيمه لا يسأل عن إقامته اذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف؛ أى إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة , أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد فى الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته أى أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يخلف عنهما. والفرق بين الحالين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف , وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع , فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف فيبقى معصوماً ومن يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف , وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة.
(2/16)
________________________________________
21 - الحربى: هو من ينتمى لدولة محاربة، والإجماع على أنه مهدر الدم فلا يعاقب قاتله باعتباره قاتلاً عمدًا وإنما يعاقب لأنه أحل نفسه محل السلطة التنفيذية وافتات عليها بإتيانه عملاً مما اختصت نفسها به.
ولا عقاب على قتل الحربى إطلاقًا إن قتل فى ميدان الحرب أو قتل دفاعًا عن النفس فى غير ميدان الحرب، وفى هذا يتفق حكم الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية.
أما إذا قتل الحربى فى ميدان الحرب لغير مقتضٍ كأن ضبط فى أرض الوطن أو استؤسر فقتله من ضبطه أو أسره أو قتله غيرهما فلا يؤاخذ القاتل طبقًا
(2/17)
________________________________________
للشريعة باعتباره قاتلاً؛ لأن الحربى مباح الدم أصلاً كما قلنا لحرابته فضبطه أو أسره لا يعصمه ولا يغير من صفته كحربى ومن ثم يبقى دمه مباحًا بعد الضبط أو الأسر، فمن قتله فقد قتل مباح الدم ولا مسئولية عن قتل مباح باعتبار فعل القتل، وإنما المسئولية تأتى من كون القاتل اعتدى على السلطة العامة التى يوكل إليها أمر من يضبط أو يؤسر من الحربيين، فمن هذه الوجهة يسأل القاتل ويعاقب لافتياته على السلطة العامة.
هذا هو حكم الشريعة الإسلامية فى هذه الحالة، وهو يخالف حكم القوانين الوضعية التى تعتبر الفعل قتلاً عمدًا ويعاقب عليه على هذا الاعتبار، ولكن الذى يحدث عملاً أن المحاكم تقدر ظروف الجانى والمجنى عليه وتقضى على الجانى بعقوبة مخففة بقدر الإمكان، فالنتيجة العملية أن الشريعة تتفق مع القوانين الوضعية من وجهة تقرير عقوبة على فعل الجانى وأن الخلاف واقع فى تصوير الجريمة تصويرًا قانونيًا، فالقوانين تعطى للقضاة حق تحفيف العقوبة لظروف الجانى والجناية فإن الشريعة تجيز لولى الأمر أن يرتفع بعقوبة التعزير إلى القتل، وجريمة الاعتداء على السلطة العامة من جرائم التعازير فيستطيع أولياء الأمور إن شاءوا أن يشددوا عقوبتها فى بعض الحالات دون البعض الآخر.
22 - المرتد: هو المسلم الذى غير دينه، فلا يعتبر غير المسلم مرتدًا إذا غير دينه، ويعتبر المرتد مهدر الدم فى الشريعة (1) ، فإذا قتله شخص لا يعاقب باعتباره
_________
(1) يعتبر المرتد مهدر الدم من وجهين:
... أولهما: أنه كان معصوماً بالإسلام فلما ارتد زالت عصمته فأصبح مهدراً , وأساس العصمة بالإسلام قوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فإن قالوها فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل".
... ثانيهما: أن عقوبة المرتد فى الشريعة القتل حداً لا تعزيزاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان , وزناً بعد أحصان , وقتل نفس بغير نفس" ولقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" وعقوبة الحد فى الشريعة لا يجوز العفو عنها ولا تأخيرها فيعتبر الجانى مهدراً لوجوب تنفيذ العقوبة فإذا نفذها عليه أى شخص فقتله فقد قتل مهدراً بحد من حدود الله مباح القتل كما لو قتل زانياً محصناً.
(2/18)
________________________________________
قاتلاً عمدًا سواء قتله قبل الاستتابة (1) أم بعدها؛ لأن كل جناية على المرتد هدر ما دام باقيًا على ردته.
والأصل أن قتل المرتد للسلطات العامة، فإن قتله أحد الأفراد دون إذن هذه السلطات فقد أساء وافتات عليها فيعاقب على هذا لا على فعل القتل فى ذاته. وعلى هذا الرأى فقهاء المذاهب الأربعة (2) إلا أن فى مذهب مالك رأيًا مخالفًا (3) يرى أصحابه أن المرتد غير معصوم ولكنهم يرون مع ذلك أن على قاتله التعزير ودية لبيت المال، وحجتهم أن المرتد يجب استتابته فهو بعد ردته كافر، فمن قتله فقد قتل كافرًا محرم القتل فتجب عليه ديته لبيت المال لأنه هو الذى يرث المرتد. فكأن أصحاب هذا الرأى يزيلون عصمة المرتد بالردة ويعصمونه بكفره، وهو تناقض ظاهر يكفى لهدم رأيهم ويمكن الرد عليهم بأنه لما كان مسلمًا عصمه الإسلام فلما كفر زالت عصمته، وأن الكفر لا يعصم صاحبه، ولكن الذى يعصمه الأمان من ذمة أو عهد أو غيرهما، والمرتد لا يدخل تحت واحد منها فلا يمكن اعتباره معصومًا بعد كفره.
وتختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية فى أنها لا تعاقب على تغيير الدين، ويرجع الخلاف إلى الأساس الذى قام عليه كل منهما، فالقوانين الوضعية قامت على أساس لا دينى فاقتضى منطقها أن لا يعاقب على تغيير الدين، والشريعة الإسلامية أساسها الدين الإسلامى فاقتضت طبيعتها العقاب على تغيير الدين الذى أسست عليه.
وقد جرى قانون العقوبات المصرى مجرى القوانين الوضعية التى أخذ عنها
_________
(1) يشترط الفقهاء قبل الحكم بعقوبة القتل على المرتد أن يستتاب ويعرض عليه الإسلام من جديد , فإن لم يتب قتل حداً.
(2) راجع: البحر الرائق ج5 ص125 , الإقناع ج4 ص301 , المهذب ج2 ص238 , مواهب الجليل ج6 ص233.
(3) راجع: الشرح الكبير للدردير ج4 ص271.
(2/19)
________________________________________
فلم ينص على عقاب المرتد، وعدم النص لا يعنى أن الردة مباحة ولا عقاب عليه لأن الردة جريمة معاقب عليها بالقتل حدًا طبقًا لنصوص الشريعة التى لا تزال قائمة ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ بالقوانين الوضعية كما بينا ذلك فى الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام على الركن الشرعى للجريمة، فمن يقتل الآن مرتدًا لا يعاقب على قتله لأنه أتى فعلاً طبقًا للشريعة واستعمل حقًا من الحقوق التى قررتها له الشريعة (1) .
23 - ارتكاب جريمة من جرائم الحدود عقوبتها القتل: إذا ارتكب شخص جريمة من جرائم الحدود المقدرة حقًا لله تعالى عقوبتهاِِ القتل أصبح مهدرًا وزالت عصمته بارتكابه هذه الجريمة؛ لأن محل الجريمة حد من حدود الله، والحدود فى الأصل واجبة التنفيذ فورًا ولا تحتمل التأخير أو التهاون، كما أنها لا تحتمل العفو أو إيقاف التنفيذ، وتزول العصمة من يوم ارتكاب الجريمة لا من يوم الحكم بعقوبتها؛ لأن أساس زوال العصمة هو إتيان الجريمة وليس الحكم بالعقوبة، فالزنا من محصن عقوبته الرجم أى القتل، فإذا أتاه شخص أصبح مهدرًا بمجرد ارتكاب الجريمة، فإذا قتله آخر فقد قتل شخصًا مباح القتل ولا يعاقب على جريمة القتل ما دام أنه يستطيع إثبات وقوع الزنا بالأدلة المقررة لإثبات الزنا، فإذا عجز اعتبر قاتلاً وعوقب بالعقوبة المقررة للقتل العمد، على أنه لا يعفى من العقاب إطلاقًا إذا أثبت الزنا لأنه يعتبر مفتاتًا على السلطات العامة التى اختصت نفسها بتنفذ العقوبات، فيمكن أن يعاقب بعقوبة الافتيات على السلطات العامة.
ومثل الزنا من محصن جريمة قطع الطريق المعاقب عليها بالقتل أو القتل والصلب، فإن مرتكبها تزول عصمته بارتكابها ويصبح مهدر الدم، فمن قتله لا يعاقب على قتله وإنما يعاقب فقط على افتياته على السلطات العامة.
وليس فى جرائم الحدود المقدرة حقًا لله ما يعاقب عليه بالقتل إلا الزنا من محصن
_________
(1) راجع ما كتبناه عن اتعمال الحق وأداء الواجب فى الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2/20)
________________________________________
وقطع الطريق والردة وقد تكلمنا عن الردة فى الفقرة السابقة.
24 - ارتكاب جريمة القتل المعاقب عليها بالقصاص: يعتبر القتل قصاصًا حدًا من حدود الله ولكنه حد مقدر حقًا للأفراد وليس حقًا مقدرًا لله - أى للجماعة - ومن ثم فرقنا بينه وبين جرائم الحدود المقدرة حقًا لله كالزنا والردة وقطع الطريق.
والقتل الذى يستوجب القصاص من القاتل يزيل عصمة القاتل ويجعله مهدرًا من وقت ارتكاب الجريمة إهدارًا نسبيًا مطلقًا، فهو مهدر فقط بالنسبة لأولياء القتيل ولكنه معصوم بالنسبة لغيرهم، فإذا قتله أحد ولاة دم القتيل فلا يعتبر قاتلاً عمدًا لأن لأولياء القتيل فى الشريعة حق استيفاء القصاص من القاتل إذا كان القتل ظلمًا وعدوانًا تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] أما إذا قتله من ليس وليًّا للقتيل فإنه يعتبر قاتلاً عمدًا لأن القاتل الأول معصوم الدم بالنسبة للقاتل الثانى، وقد فصلنا الكلام فى هذا الموضوع فى الجزء الأول من هذا الكتاب بمناسبة الكلام على استعمال الحق وأداء الواجب.
25 - البغى: هو الثورة أو الدعوة إلى قلب الأنظمة من غير الطريق المشروع أو بالقوة، ويسمى الداعون له بغاة كما يسمى الفريق المؤيد للحالة القائمة أهل العدل. والبغاة أمرهم مختلف فيه، فيرى مالك والشافعى وأحمد (1) أنهم معصومون إلا فى حالة الحرب بينهم وبين أهل العدل، وفى حالة مهاجمتهم لأهل العدل، أو الاعتداء على أموالهم.
ويرى أبو حنيفة (2) أن البغاة غير معصومين فى أى حال وأن دمهم يهدر وعصمتهم تزول بالبغى. وطبقًا لهذا الرأى لا يعاقب قاتل الباغى بعقوبة القتل العمد، وإنما يعاقب باعتباره مفتاتًا على السلطات العامة، هذا إذا قتله فى غير حرب، أما القتل فى حالة الحرب فلا يعتبر جريمة باتفاق الفقهاء وطبقًا لرأى مالك والشافعى وأحمد يعتبر قاتل الباغى
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص278 , المهذب ج2 ص236 , الإقناع ج4 ص293.
(2) البحر الرائق ج5 ص142 , البدائع ج7 ص236.
(2/21)
________________________________________
قاتلاً عمدًا إذا قتله فى غير حرب أو حيال أى دفاع عن النفس.
26 - ولا يزيل العصمة ارتكاب أية جريمة أخرى معاقب عليها بالقتل ما دامت العقوبة لا تجب حدًا أو قصاصًا: لأن لولى الأمر فى غير جرائم الحدود والقصاص حق العفو عن الجريمة، وحق العفو عن العقوبة (1)
، ومن ثم كانت العقوبة غير لازمة حتمًا، وكل عقوبة غير محتمة لا تزيل العصمة ولا تهدر الجانى حتى ولو حكم بها لأن من الجائز أن يعفو ولى الأمر عن العقوبة فى اللحظة الأخيرة.
_________
(1) ليس لولى الأمر حق العفو فى جرائم القصاص , ولكن لأولياء الدم حق العفو بمقابل أو بغير مثابل وبالرغم من تقرير هذا الحق لأولياء الدم واحتمال عفوهم حتى اللحظة الأخيرة فإن الجانى يعتبر مهدر الدم لأولياء الدم حتى يعفوا فإن عفوا أو عفا أحدهم عاد معصوم الدم كما كان قبل ارتكاب الجريمة. وقد يظن أن هناك تناقضاً بين حكم هذه الحالة وحكم الجرائم التى لولى الأمر حق العفو فيها , ففى جرائم القصاص يعتبر الجانى مهدر الدم من وقت ارتكاب الجريمة مع أن لولى الدم حق العفو , وفى الجرائم التى يملك ولى الأمر فيها حق العفو يعتبر الجانى معصوم الذنب الى وقت تنفيذ العقوبة. والواقع أنه لا تناقض أصلاً , لأن العقوبة من حق الجماعة لا من حق الأفراد , وولى الأمر يعتبر ممثل الجماعة , وقد اقتضت المصلحة العامة حرمان ممثل الجماعة من حق العفو فى جرائم القصاص , تحقيقاً لعدل والمساواة وحفظاً للدماء , كما اقتضت المصلحة العامة التعجيل فى تنفيذ العقوبة , فأصبحت عقوبة القصاص بهذا لازمة واجبة التنفيذ من وقت وقوع الجريمة , واقتضى هذا النظر اعتبار الجانى مهدراً , فاهدار دم الجانى فى جرائم القصاص اقتضته المصلحة العامة. أما العقوبات التى يجوز فيها عفو ولى الأمر , فإن تقرير العفو فيها استوجبته المصلحة العامة أيضاً , فوجب تحقيقاً لهذه المصلحة أن يعتبر الجانى معصوماً ما دام العفو مكناً؛ لأن العقوبة لا تعتبر لازمة ولا واجبة التنفيذ حتماً ما دام العفو محتملاً , فالأهدار فى جرائم القصاص استوجبته المصلحة العامة , والعصمة فى غيرها اقتضتها المصلحة العامة.. وليلاحظ فوق هذا أن ولى الأمر حين يعفو أنما يعفو عن حق الجماعة وهو حق عام , وأن ولى الدم حين يعفو عن حقه فى القصاص أنما يعفو عن حقه وهو حق خاص , ولا يمكن أن نرتب على العفو عن حقين مختلفين فى طبيعتهما نتائج واحدة.
(2/22)
________________________________________
وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة فى هذه النقطة حيث تعتبر القوانين الجانى معصومًا ولو حكم عليه بالإعدام ولكنها تخالف الشريعة فى تعميم هذا الحكم بالنسبة لكل الجرائم. وأساس هذا الخلاف أن جرائم الحدود والقصاص فى الشريعة لا تقبل العفو ولا تحتمل الإمهال والتأخير فى تنفيذ العقوبة، فاقتضى هذا اعتبار مرتكب الجريمة المعاقب عليها بالقتل مهدرًا من يوم ارتكاب الجريمة؛ لأن من الواجب توقيع العقوبة عليه فورًا، ولأن العقوبة لازمة محتمة، أما القوانين الوضعية فتجيز العفو فى كل الجرائم ومن ثم كانت العقوبة فيها غير لازمة حتمًا كما هو الشأن فى الشريعة فى غير جرائم الحدود والقصاص، وقد اقتضى هذا المنطق اعتبار الجانى معصومًا حتى بعد صدور الحكم عليه بالإعدام لجواز العفو عنه.
27 - وقت العصمة: لمعرفة وقت العصمة أهمية كبرى، لأن تحديد مسئولية الجانى يتوقف على معرفة حال المجنى عليه، فإن كان معصومًا فالجانى مسئول عن قتله وإن كان مهدرًا فلا مسئولية.
وقد اختلف فى تحديد وقت العصمة فأبو حنيفة يرى أن وقت العصمة هو وقت الفعل لا غير، فإن كان المجنى عليه معصومًا وقت الفعل فالجانى مسئول عن فعله وإلا فلا، فإذا جرح مسلمًا يقصد قتله ثم ارتد المجروح بعد الجرح ومات وهو مرتد فإن الجارح لا يسأل عن القتل، وإنما يسأل فقط عن الجرح الذى أحدثه فى معصوم، وحجته أن مسئولية الجانى لا يصبح قتلاً إلا بفوات حياة المقتول، وقد فاتت حياة المقتول فى وقت لم يكن فيه معصومًا فكان القتل هدرًا.
ويرى أبو يوسف ومحمد أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعًا، وحجتهما أن للفعل تعلقًا بالقاتل والمقتول لأنه - فعل القاتل وأثره - يظهر فى المقتول بفوات الحياة فلا بد من اعتبار العصمة فى الوقتين جميعًا.
والظاهر
(2/23)
________________________________________
أنه لا فرق بين رأى أبى حنيفة ورأيهما إذا اعتبرنا حجة أبى حنيفة، لأنه استند فى حجته إلى وقت الموت ونفى مسئولية الجانى عن القتل على أساس أن المجنى عليه لم يكن معصومًا وقت أن أصبح الفعل قتلاً أى وقت موت المجنى عليه فكأنه بهذا ينظر إلى وقت الفعل ووقت الموت معًا، وهذا نفس ما يقول به أبو يوسف ومحمد. ويرى - زفر - أن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير.
ويختلف أبو حنيفة مع أبى يوسف ومحمد فى تحديد وقت العصمة عند الرمى فيرى أبو حنيفة أن وقت العصمة هو وقت الرمى لا وقت الإصابة، ويرى أبو يوسف ومحمد أن وقت العصمة هو وقت الإصابة لا وقت الرمى. وحجة أبى حنيفة أن مسئولية الجانى تترتب على فعله ولا فعل منه غير الرمى. ولا يدخل فى قدرته غيره فيصير قاتلاً به إذا كان المجنى عليه معصومًا عند الرمى، وحجة أبى يوسف ومحمد أن العبرة بوقت التلف وهو وقت الإصابة، فإن حصل التلف فى محل معصوم استحق الجانى العقوبة، وإن كان المحل غير معصوم وقت التلف فلا عقوبة، وعلى هذا لو رمى شخص آخر برصاصة فارتد المجنى عليه بعد الرمى وقبل أن يصاب فالجانى مسئول عند أبى حنيفة لأن المجنى عليه كان معصومًا وقت الرمى، وأما عندهما فهو غير مسئول لأن المجنى عليه لم يكن معصومًا وقت الإصابة (1) .
ويرى أصحاب مالك والشافعى وأحمد أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت، ولكن الفقهاء فى المذاهب الثلاثة يختلفون فى تحديد وقت العصمة حالة الرمى، فيرى بعضهم أنه وقت الرمى، ويرى البعض الآخر أنه حالة الإصابة (2) .
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص326, بدائع الصنائع ج7 ص253.
(2) مواهب الجليل ج6 ص244, المغنى ج9 ص342 وما بعدها.
(2/24)
________________________________________
وقد وضح فقهاء المذهب الشافعى قاعدة لتغير حال المجنى عليه بين العصمة والإهدار فقالوا: "إن كل جرح وقع أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونًا يتغير الحال فى الانتهاء وما ضمن فيهما يعتبر قدر الضمان فيه بالانتهاء", فإذا جرح شخصًا حربيًا أو مرتدًا ثم أسلم الحربى أو المرتد ومات من جرحه بعد إسلامه فلا مسئولية على الجارح؛ لأن الجرح وقع غير مضمون، أى وقع على مهدر، فلا جريمة فى فعله، وإذا جرح مسلمًا فارتد بعد الجرح ثم مات من جرحه فلا يسأل الجانى إلا عن الجرح والنفس هدر؛ لأن الفعل أصبح قتلاً أثناء الردة، وقتل المرتد لا عقوبة عليه، ولو قتله مباشرة بعد الردة لم يكن مسئولاً عن قتله، ويرى البعض أنه لا يسأل حتى عن الجرح من باب أولى ما دام غير مسئول عن النفس (1) .
* * ** *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق