السبت، 15 نوفمبر 2014

إثبات الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة


إثبات الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين


من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
الجزء الثاني
الدكتور عبد القادر عودة 

420- اختلف الفقهاء فى تحديد الأدلة التى تثبت عن طريقها الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين، فرأى جمهور الفقهاء أن هذه الجنايات لا تثبت إلا عن طرق ثلاث هى:
(1) الإقرار. ... ... (2) الشهادة. ... ... (3) القسامة.
ورأى بعض الفقهاء أنها تثبت أيضًا عن طريق قرائن الأحوال، وعلى هذا تكون طرق إثبات هذه الجناية أربع طرق هى:
(1) الإقرار. ... (2) الشهادة. ... (3) القسامة. ... (4) قرائن الأحوال.
وسنتكلم عن هذه الطرق واحدة بعد أخرى.
الإقرار
421- الإقرار لغة: هو الإثبات، من قر الشئ يقر قرارًا إذا ثبت. وشرعًا: الإخبار عن حق أو الاعتراف به. والأصل فى الإقرار: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وفسرت شهادة المرء على نفسه بالإقرار وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ} إلى قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أى: فليقر بالحق، وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:102] ، وقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، إلى آيات أخرى.
وأما السنة: فما روى أن ماعزًا أقر بالزنا فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الغامدية، وفى قضية العسيف قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار لأنه إخبار ينفى التهمة والريبة عن المقر، ولأن العاقل لا يكذب على نفسه كذبًا يضر بها، ولهذا كان الإقرار أكد من الشهادة وكان حجة فى حق المقر يوجب عليه الحد والقصاص والتعزير كما يوجب عليه الحقوق المالية.
(2/303)

422- والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غير كما يرى جمهور الفقهاء، فإذا اعترف بكر بأنه قتل زيدًا وأن عليًا شاركه جريمة القتل، فإن هذا الاعتراف يكون حجة قاصرة على بكر فقط ما دام على ينكره، فإذا سلم به على فإنه يؤاخذ لا باعتراف بكر وإنما باعترافه هو، وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو داود عن سهل بن معد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (1) . ولكن الإقرار يمكن أن يتعدى إلى غير المقدر عند من يرون الإثبات بقرائن الأحوال، إذا أمكن اعتبار إقرار المقر قرينة على غير المقر.
423- ويشترط فى الإقرار المثبت للجناية أن يكون مبينًا مفصلاً قاطعًا فى ارتكاب الجانى الجناية، أما الاعتراف المجمل الذى يمكن أن يفسر على أكثر من وجه فلا تثبت به الجناية، فمن أقر مثلاً بقتل شخص لا يمكن اعتباره مسئولاً جنائيًا إذا فصل اعترافه عن كيفية القتل وأداته، فقد يكون المعترف طلب من القتيل أن يؤدى عملاً أو يذهب إلى مكان معين فقتل فيه، فاعتقد أنه تسبب فى قتله واعترف بالقتل على هذا الأساس، ويجب أن يبين إن كان القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ؛ لأن لكل نوع من أنواع القتل أركانًا وعقوبات خاصة، ويجب أن يبين ظروف التل وسببه فقد يكون القتل وقع استعمالاً لحق أو أداء لواجب ولا مسئولية فى مثل هذه الحالة، فالإقرار الذى يؤخذ به الجانى هو الإقرار المفصل المثبت لارتكاب الجريمة ثبوتًا لا شك فيه.
424- والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه، فسأل - صلى الله عليه وسلم - هل به جنون أو هو
_________
(1) فتح القدير ج4 ص158 , المغنى ج10 ص168.
(2/304)

شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسر عن الزنا فقال له: "لعلك قبلت أو غمزت" وفى رواية: "هل صاحبتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال: نعم" وفى حديث ابن عباس: "أنكتها؟ قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال نعم. قال: كما يغيب المرود فى المُكْحُلة والرشاء فى البئر؟: نعم قال: تدرى ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم". فدل جميع ذلك على أنه يجب الاستفصال والتبين (1) .
ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر من عاقل مختار.
425- إقرار زائل العقل: إذا أقر بجريمة من فقد عقله لأى سبب كشرب دواء أو شرب مسكر أو نوم أو إغماء أو جنون، فإن إقراره لا يعتبر إقرارًا صحيحًا ولا يؤاخذ به ولكن لو أعاد المقر إقراره بعد زوال حالة الإغماء أو النوم وبعد زوال أثر السكر أو أثر الدواء وبعد زوال الجنون، فإنه يؤاخذ بإقراره الجديد لأنه صدر صحيحًا (2) .
ويتفق أبو حنيفة والشافعى مع مالك وأحمد فيما سبق إلا فى شرب الدواء والمسكر، فيرى أبو حنيفة أن إقرار السكران بطريق محظور هو إقرار صحيح، وأن السكران يؤخذ بإقراره إذا أقر وهو سكران إلا فى الحدود الخالصة حقًا لله، والقتل ليس منها، وكذلك الجناية على ما دون النفس وعلى الجنين (3) ؛ لأن عقوبتها القصاص أو الدية وهى من حقوق الأفراد. أما إذا كان السكر
_________
(1) سبل السلام ج4 ص 7 , 8.
(2) المغنى ج5 ص271 وما بعدها وج10 ص170 , 171 , مواهب الجليل ج4 ص43.
(3) حاشية الطهطاوى ج3 ص328 , 346 , حاشية ابن عابدين ج4 ص621.
(2/305)

بطريق غير محظور فلا يؤخذ السكران بإقراره فى كل الأحوال إلا إذا أعاد الإقرار بعد زوال سكره.
ويرى الشافعى أن من شرب دواء مزيلاً للعقل بغير حاجة ومن شرب مسكرًا عالمًا بأنه مسكر يؤخذ بإقراره فى كل الأحوال، لأنه شرب ما يعلم أنه يزيل عقله فوجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه لينزجر (1) ، فإذا دعت الحاجة لشرب الدواء المزيل للعقل أو شرب المسكر وهو يعلم أنه مسكر، فإنه لا يؤخذ بإقراره إلا إذا أقر ثانية بعد زوال سكره.
426- ومن المتفق عليه أن المسكر لا يشترط فيه أن يكون خمرًا، فيصح أن يكون أى مادة مسكرة أو مخدرة ما دامت تؤدى إلى غيبة العقل، ولهذا يعرف الفقهاء السكر بأنه غيبة العقل من تناول الخمر أو ما يشبه الخمر.
ويعتبر الإنسان سكران إذا فقد عقله فلم يعد يعقل قليلاً ولا كثيرًا ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وهذا هو رأى أبى حنيفة (2) ، ويرى محمد وأبو يوسف أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان وحجتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران وهذا الرأى يتفق مع الرأى الراجح فى كل من المذهب المالكى والشافعى والحنبلى (3) .
427- إقرار المكرَه: قبل أن نعرف حكم إقرار المكره ينبغى أن نعرف شيئًا عن الإكراه.
تعريف الإكراه: يعرف الإكراه بأنه فعل يفعله الإنسان بغيره
_________
(1) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283 , 284.
(2) بدائع الصنائع ج5 ص118.
(3) المغنى ج10 ص335 , أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص284.
(2/306)

فيزول رضاه أو يفسد اختياره (1) . ويعرف بأنه ما يفعل بالإنسان مما يضر أو يؤلمه (2) .
ويرى البعض أن حد الإكراه هو أن يهدد المكرَه قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يُؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أُكره عليه وغلبت على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكرهه عليه (3) .
والإكراه فى الشريعة على نوعين: نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار، وهو ما خفيف فيه تلف النفس، ويسمى إكراهًا تامًا أو إكراهًا ملجئًا. ونوع يعدم الرضاء أو يفسده ولكنه لا يؤثر على الاختيار، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس والقيد والضرب الذى لا يخشى منه التلف ويسمى إكراهًا ناقصًا أو إكراهًا غير ملجئ (4) .
والإكراه التام يؤثر فيما يقتضى الرضاء والاختيار معًا كارتكاب الجرائم، فمن أكره على جريمة قتل مثلاً ينبغى أن يكون الإكراه الواقع عليه بحيث يعدم رضاه ويفسد اختياره، أما الإكراه الناقص فلا يؤثر إلا على التصرفات التى تحتاج إلى الرضاء كالإقرار والبيع والإجارة وما أشبه.
428- ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد - ورأيهم مرجوح - أن الإكراه يقتضى شيئًا من العذاب مثل الضرب والخنق وعصر الساق وما أشبه وأن التوعد بالعذاب لا يكون إكراهًا.
ويستدلون على ذلك بقصة عمار بن ياسر حين أخذه الكفار فأرادوه على الشرك بالله فأبى عليهم فلما غطوه فى الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم إلى ما طلبوا، فانتهى إليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكى فجعل يسمح الدموع من عينيه ويقول: "أخذك المشركون فغطوك فى الماء وأمروك
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص79.
(2) مواهب الجليل ج4 ص45.
(3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص282.
(4) البحر الرائق ج8 ص80.
(2/307)

أن تشرك بالله ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم" ويستدلون بما قاله عمر رضى الله عنه: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته فهؤلاء يرون أن الإكراه يستلزم فعلاً ماديًا يقع على المكرَه فيحمله على إتيان ما أكره عليه، فإن لم يكن الإكراه ماديًا وسابقًا على الفعل الذى يأتيه المكرَه فلا يعتبر الفاعل مكرهًا فى رأيهم (1) .
429- ويرى أصحاب الرأى الراجح فى مذهب أحمد ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى من أن الوعيد بمفرده إكراه، وأن الإكراه لا يكون غالبًا إلا بالوعيد بالتعذيب أو بالقتل أو بالضرب أو بغير ذلك، أما ما مضى من العقوبة فإنه لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى منه شيئًا بعد وقوعه، إنما الخشية والخوف مما يهدد به، فإذا وقع الفعل المهدد به انتهت الخشية وذهب الخوف، فالذى يندفع إذن بإتيان الفعل المكرَه عليه وهو ما يتوعد به من العقوبة أو التعذيب لا ما وقع منها فعلاً (2) .
وعلى هذا فالإكراه يصح أن يكون ماديًا ويصح أن يكون معنويًا، والإكراه المادى هو ما كان التهديد والوعيد فيه واقعًا، أما الإكراه المعنوى فهو ما كان الوعيد والتهديد فيه منتظر الوقوع.
شروط الإكراه: يشترط لوجود الإكراه توفر الشروط الآتية، فإن لم تتوفر فلا يعتبر الإكراه قائمًا ولا يعتبر المقر مكرهًا:
430- أولاً: أن يكون الوعيد مما يستضر به بحيث يعدم الرضاء أو يفسده: كالضرب والحبس والقيد والتجويع، فإذا لم يكن لتنفيذ الوعيد أثر على الرضاء انتفى وجود الإكراه، وتقدير الوعيد الذى يستضر به مسألة موضوعية تختلف باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها، فقد يكون الشئ إكراهًا
_________
(1) المغنى ج8 ص260 , الشرح الكبير ج8 ص243.
(2) المغنى ج8 ص261 , البحر الرائق ج8 ص80 , أسنى المطالب ج3 ص282 , 283 , مواهب الجليل ج3 ص45 , 46.
(2/308)

فى حق شخص دون آخر وفى سبب دون آخر، فبعض الأشخاص قد لا يتضرر من الضرب عدة أسواط، والبعض قد يتضرر من ضربة سوط واحد، بل قد يتضرر من صفعة أو فرك أذن، والبعض قد يرحب بمكثه فى السجن أمدًا طويلاً والبعض قد يضره ضررًا كبيرًا بقاؤه فى السجن ليلة واحدة.
ويعتبر الوعيد إكراهًا إذا وجه لنفس المكره، وهذا متفق عليه، فإذا وجه لغيره فهناك اختلاف؛ فيرى المالكية أن الوعيد إكراه ولو وقع على أجنبى (1) . ويرى بعض الحنفية أن الوعيد ليس إكراهًا إذا وقع على غير المكره، ولكن بعضهم يرى أنه إكراه إذا وقع على الولد أو الوالد أو على ذى رحم محرم، وهذا يتفق مع رأى الشافعية (2) ، ويرى الحنابلة أن الوعيد إكراه إذا وقع على الابن أو الأب (3) .
وليس من الضرورى أن يكون الإكراه بالوعيد بالإيذاء المادى، بل يكفى لوجود الإكراه الوعيد بالمنع من استعمال الحقوق، فمن يمنع زوجته من زيارة أهلها إلا إذا أقرت بجريمة، ومن يمنع ابنته من الزفاف أو الذهاب إلى دار الزوجية إلا إذا اعترفت بجريمة فإنه يحملها على الإقرار كرهًا (4) .
كذلك من يمنع عن آخر طعامه أو شرابه حتى يقر بجريمة فإنه يعتبر مكرهًا فى إقراره. وأمر صاحب السلطان يعتبر فى ذاته إكراهًا دون حاجة إلى اقترانه بالوعيد أو التهديد، وأمر غيره إكراهًا إلا إذا كان المأمور يعلم أنه إن لم يطع وقعت عليه وسائل الإكراه (5) .
وأمر الزوج لزوجته فى حكم أمر السلطان إن كانت تخشى الأذى إذا لم
_________
(1) مواهب الجليل ج4 ص45.
(2) حاشية ابن عابدين ج5 ص110 , أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج3 ص283.
(3) الإقناع ج4 ص4.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص120.
(5) حاشية ابن عابدين ج5 ص112.
(2/309)

تطعه فإن أطاعته وهى لا تخشى أذى إذا لم تطعه فلا يعتبر الأمر إكراهًا (1) .
والوعيد بإتلاف المال إكراه عند مالك والشافعى إذا لم يكن المال يسيرًا، فإن كان المال يسيرًا فلا إكراه. وتقدير ما إذا كان المال يسيرًا أو غير يسير يرجع فيه إلى الشخص نفسه ومقدار ثروته، فقد يكون المال يسيرًا بالنسبة لشخص وغير يسير بالنسبة لآخر (2) .
والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن الوعيد بإتلاف المال ليس إكراهًا ولو كان إتلاف المال يلحق ضررًا جسيمًا بصاحبه؛ لأن محل الإكراه الأشخاص لا الأموال. ولكن بعض فقهاء الحنفية يرون الوعيد بإتلاف المال إكراهًا، وأصحاب هذا الرأى يختلفون فيما بينهم، فيشترط بعضهم أن يكون الوعيد بإتلاف كل المال ليكون إكراهًا، والبعض لا يشترط إتلاف كل المال ويكفى لاعتبار الإكراه قائمًا أن يكون الوعيد بإتلاف جزء من المال يستضر بإتلافه (3) .
ويجب أن يكون الوعيد بفعل محذور أى غير مشروع، فإن كان الفعل المهدد به مشروعًا فلا يعتبر الإكراه قائمًا، فمن كان محكومًا عليه بالجلد أو الحبس فهدد بتنفيذ العقوبة عليه إن لم يرتكب جريمة فارتكبها فعليه عقوبتها ولا يعتبر أنه كان فى حالة إكراه لأن الفعل الذى هدد به مشروع (4) .
431- ثانيًا: أن يكون الوعيد بأمر حال يوشك أن يقع إن لم يستجب المكره: فإن كان الوعيد بأمر غير حالًّ فليس ثمة إكراه لأن المكرَه لديه من الوقت ما يسمح له بحماية نفسه فيلجأ للسلطات العامة أو يهرب من المكره،
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120.
(2) مواهب الجليل ج4 ص45 , أسنى المطالب ج3 ص283 , الإقناع ج4 ص4.
(3) البحر الرائق ج8 ص82 , بدائع الصنائع ج7 ص176 وما بعدها , حاشية ابن عابدين ج5 ص110 , 121.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , أسنى المطلب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص260.
(2/310)

ولأنه ليس فى الوعيد غير الحال ما يحمله على المسارعة بتلبية طلب المكره ويرجع فى تقدير ما إذا كان الوعيد حالاً أو غير حالًّ إلى ظروف المكره وإلى ظنه الغالب المبنى على أسباب معقولة، ويعتبر الوعيد حالاً كلما عجز المكره عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره إلى غير ذلك من أنواع الدفع (1) .
وإذا كان الوعيد بأمر آجل فإنه لا يعتبر إكراهًا كقوله: لأضربنك غدًا إن لم تقر بكذا أو تفعل كذا. ولكن الأذرعى من فقهاء الشافعية يرى أن فى النفس من هذه المسالة شيئًا وأنه إذا غلب على ظن المقر إيقاع ما هدد به لو لم يفعل فإنه يعتبر مكرهًا ولاسيما إذا عرف أن من عادة المهدد إيقاع ذلك الوعيد (2) .
432- ثالثًا: أن يكون المكره قادرًا على تحقيق وعيده: لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة فإن لم يكن المكره قادرًا على فعل ما هدد به فلا إكراه، ولا يشترط فى المكره أن يكون ذا سلطان كحاكم أو موظف؛ لأن العبرة بالقدرة على الفعل المهدد به لا بصفة المكره (3) .
433- رابعًا: أن يغلب على ظن المكرهَ أنه إذا لم يجب إلى ما دعى إليه تحقق ما أوعد به: فإن كان يعتقد أن المكره غير جاد فيما أوعد به أو كان يستطيع أن يتفادى الوعيد بأى طريقة كانت ثم أتى الفعل بعد ذلك فإنه لا يعتبر مكرهًا، ويجب أن يكون ظن المكره مبنيًا على أسباب معقولة (4) .
432- حكم إقرار المكرَه: وإذا توفر الإكراه على الوجه السابق وأقر المكره على نفسه بجريمة فإن إقراره يكون باطلاً ولا يؤخذ به لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتى
_________
(1) أسنى المطالب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص261 , حاشية ابن عابدين ج5 ص109.
(2) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283.
(3) حاشية ابن عابدين ج5 ص109 , المغنى ج8 ص261 , أسنى المطالب ج3 ص282.
(4) أسنى المطالب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص261 , حاشية ابن عابدين ج5 ص109.
(2/311)

الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولأنه قول أكره عليه بغير حق، والأصل أن العاقل لا يتهم بقصد الإضرار بنفسه، فإذا أقر مختارًا قُبل إقراره لانتفاء التهمة ولوجود الداعى إلى الصدق، ولكن إذا اُكره الشخص على الإقرار فأقر فإنه يغلب على الظن أنه قصد بإقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق فلم يقبل إقراره، فإذا أقر بقتل أو قطع أو سرقة أو غير ذلك تحت تأثير الإكراه لم يجب عليه بإقراره عقاب (1) لاحتمال كذب الإقرار ومما يؤثر فى هذا الباب قول عمر رضى الله عنه: "ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته" أو على حسب ما يرويه البعض: "ليس الرجل على نفسه بأمين إن جوَّعت أو خوَّفت أو أوثقت"، ومما يؤثر عن شريح أنه كان يقول: "القيد كره، والسجن كره، والوعيد والضرب كره" (2) ، ويؤثر عن ابن شهاب أنه قال فى رجل اعترف بعد جلده: ليس عليه حد (3) .
وإذا أقر فى حال الإكراه بغير ما أكره مثل أن يكره على الإقرار بجريمة ما فيقر بأخرى فإقراره فيما يتعلق بهذه الجريمة الأخرى صحيح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء دون إكراه (4) .
أما إقراره بالجريمة التى أكره على الإقرار بها فهو إقرار باطل لا يؤخذ به، إلا أن يقر ثانية بالجريمة بعد إخلاء سبيله وهو مختار غير مكره فإنه يؤخذ بإقراره الجديد (5) .
435- والإقرار الصادر تحت تأثير الإكراه باطل ولو قامت الدلائل على صحته، كأن يرشد السارق عن المسروقات أو القاتل عن جثة القتيل، فإذا
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , البحر الرائءق ج8 ص80 , المغنى ج10 ص172 , ج5 ص272 , 373 , أسنى المطالب ج2 ص290 وما بعدها , مواهب الجليل ج4 ص44 , 45.
(2) المبسوط للسرسخى ج9 ص185.
(3) المغنى ج10 ص172.
(4) المغنى ج5 ص273.
(5) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , بدائع الصنائع ج7 ص189.
(2/312)

استمر على إقراره بعد أن أصبح فى أمن من الإكراه اعتبر استمراره إقرارًا جديدًا، وهذا متفق عليه إلا من القائلين فى مذهب مالك بصحة إقرار المكره، وما يؤثر فى هذا الباب أن الحسن بن زياد الفقيه الحنفى قال بجواز ضرب السارق حتى يقر، ضربًا لا يقطع اللحم ولا يبين العظم، وأفتى مرة بهذا ثم ندم وأتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب السارق حتى أقر بالمال المسروق وجاء به، ومع ذلك فقد خرج المحسن بن زياد وهو يقول: ما رأيت جورًا أشبه بالحق من هذا (1) .
436- ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أنه إذا ضرب ليقر فهذا إكراه، أما إذا ضرب ليصدق فى القضية فأقر حال الضرب أو بعده فإقراره صحيح ولا يعتبر مكرهًا، لأن المكره من أكره على شئ واحد وهو هنا إنما ضرب ليصدق ولا ينحصر الصدق فى الإقرار، ولكن أصحاب هذا الرأى يكرهون مع هذا أن يلزم المقر بإقراره إلا بعد أن يراجع ويقر ثانيًا من غير أن يضرب أو يهدد. ويؤخذ على أصحاب هذا الرأى تمسكهم بالإقرار الثانى مع أن هذا الإقرار الثانى فيه نظر إذا غلبت على ظنه أنه إذا أنكر أعيد ضربه، والرأى الراجح فى المذهب هو عدم قبول الإقرارين لأنهما صادران من مكره (2) .
437- ومن ادعى الإكراه لا تقبل دعواه لمجرد ادعائه؛ لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن تكون هناك قرينة على صحة الادعاء، كالقيد والحبس والقبض والوضع تحت الحراسة، فى مثل هذه الحالات تقبل دعوى الإكراه ولمن يدعيه أن يثبته، ويستوى فى هذه الحال أن يكون القبض والحبس والقيد بحق أو بغير حق، كحالة الحبس الاحتياطى، وكحالة القبض بغير حق (3) .
_________
(1) المبسوط للسرخسى ج9 ص180.
(2) أ
سنى المطالب ج2 ص290 , 291.
(3) أسنى المطالب ج2 ص299 , المغنى ج5 ص273.
(2/313)

وإذا أكره حاكم أو قاض شخصًا ليقر بجريمة عقوبتها القتل أو القطع كالقتل والسرقة فأقر بها وقتل أو قطعت يده اقتص ممن أكرهه (1) .
438- رجوع المقر عن إقراره: وإذا كان الإقرار صادرًا من غير إكراه فعدل عنه المقر، قُبل منه الرجوع عن إقراره فيما كان حقًا لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطه، فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التى لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل منه الرجوع عن إقراره بها، وهذه القاعدة متفق عليها، فإذا أقر بزنا ثم عدل عن إقراره لم يؤخذ بإقراره لأن الزنا متعلق بحقوق الله تعالى التى تدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطها، أما إذا أقر بقتل أو جرح أو قطع أو إسقاط جنين، فإنه يؤاخذ بإقراره ولو عدل عنه لأن الجنايات الواقعة على النفس وما دونها وعلى الجنين كلها متعلقة بحقوق الآدميين ولو أن بعضها يعاقب عليه بالقصاص، ولو أن القصاص مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات (2) . لكن إذا ثبت أن الإقرار مكذوب فلا يؤاخذ المقر بإقراره سواء عدل عنه أو لم يعدل، وسواء كان متعلقًا بحقوق الله تعالى أو بحقوق الآدميين.
وعدول المقر عن إقراره لا أثر له أيًا كان نوع الجريمة التى أقر بها ما دامت الجريمة ثابتة قَبل المقر بغير الإقرار، كأن تكون ثابتة بشهادة الشهود.
* * *
الشهادة
439- الشهادة هى الطريق المعتاد لإثبات الجرائم: وأغلب الجرائم تثبت عن طريق الشهادة وأقلها يثبت بغير الشهادة من طرق الإثبات، ولهذا كان للشهادة كطريق من طرق الإثبات أهمية كبرى فى إثبات الجرائم.
والأصل فى الشهادة الكتاب والسنة:
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , بدائع الصنائع ج7 ص189 , 190.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص107 , بدتئع الصنائع ج7 ص232 , 233 , حاشية الطهطاوى ج3 ص346 , أسنى المطالب ج4 ص150 , المغنى ج2 ص288.
(2/314)

الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2] ، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] .
وأما السنة: فما روى وائل بن حجر قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحضرمى: يا رسول الله هذا غلبنى على أرض لى، فقال الكندى: هى أرضى وفى يدى فليس له فيها حق، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - للحضرمى: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه" (1) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته" (2) .
ويفرق الفقهاء فى إثبات القتل والجراح بين الجرائم التى توجب عقوبة بدنية كالقصاص أو الجلد والحبس أو غيرهما من العقوبات البدنية التعزيرية وبين الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية والغرامة.
440- الجرائم التى توجب عقوبة بدنية: العقوبة البدنية إما أن تكون القصاص وإما أن تكون عقوبة تعزيرية.
إثبات الجرائم الموجبة للقصاص: يشترط الفقهاء فى إثبات الجرائم الموجبة للقصاص بالشهادة أن يشهد بالجريمة رجلان عدلان، ولا يقبل الفقهاء فى إثبات هذا النوع من الجرائم شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة شاهد ويمين المجنى عليه، وذلك لأن القصاص إراقة دم عقوبة على جناية فيحتاط له لدرئه باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود، وهذا هو رأى جمهور الفقهاء (3) .
ويرى الأوزاعى والزهرى أن الجريمة التى توجب القصاص تثبت بما تثبت به الأموال، فيكفى فى إثباتها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ويؤيد الشوكانى هذا الرأى (4) .
_________
(1) المغنى ج12 ص2.
(2) نيل الأوطار ج6 ص310.
(3) مواهب الجليل ج6 ص275 , حاشية الطهطاوى ج3 ص220 , أسنى المطالب ج4 ص105 , المغنى ج7 ص41.
(4) نيل الأوطار ج6 ص311.
(2/315)

441- ومن يشترط الشاهدين فيما يوجب القصاص لا يفرق بين القصاص فى النفس والقصاص فيما دون النفس، ويوجب فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص مطلقًا شهادة رجلين عدلين، إلا مالكًا فإنه لا يوجب شهادة العدلين إلا فى القصاص فى النفس فقط، أما إذا كان القصاص فيما دون النفس فيجيز مالك إثبات الجريمة الموجبة للقصاص بشاهد واحد ويمين المجنى عليه، ولا يقيس مالك الجراح بالأموال وإنما هو مبدأ أخذ به لأنه استحسنه، وقد سئل ابن القاسم فى هذا فقيل له: لم قال مالك ذلك فى جراح العمد وليست بمال؟ قال: قد كلمت مالكًا فى ذلك فقال: إنه شئ استحسناه، وما سمعت فيه شئيًا (1) .
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك جواز شهادة المرأتين ويمين المدعى فى جراح العمد، ولا يرى البعض ذلك (2) .
والشاهدان اللذان تثبت بشهادتهما الجريمة الموجبة للقصاص ليس أحدهما المجنى عليه، فإذا كان شاهد واحد والمجنى عليه لم يكمل نصاب الشهادة لأن المجنى عليه يعتبر مدعيًا لا شاهدًا وأقواله تصلح لَوْثًا أى قرينة ولكنها لا تقوم مقام الشهادة.
أما فى حالة إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس بشاهد ويمين المجنى عليه تبعًا لرأى مالك فإن الجريمة تثبت بشهادة الشاهد الواحد ولا يعتبر المجنى عليه شاهدًا ثانيًا ولو أنه يؤدى اليمين لأنه لا يسأل كشاهد، وإنما يحلف اليمين على صحة شهادة الشاهد، فاليمين مقصود بها تقوية شهادة الشاهد.
وهناك من الفقهاء من لا يشترط نصابًا معينًا فى الشهود فيكفى عنده لإثبات الجريمة الموجبة للقصاص أن يشهد بها شاهد واحد إذا رجح القاضى صدق شهادته (3) ، والذين يشترطون شهادة رجلين فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص275 , شرح الزرقانى ج8 ص59.
(2) تبصرة الحكام ج1 ص241.
(3) الطرق الحكمية ص66 - 78 , طرق الإثبات الشرعية ص181.
(2/316)

لا يجيزون إثبات الجريمة بأقل من ذلك ولو عفا المجنى عليه أو وليه عن القصاص إلى الدية وهى مال، وما يوجب المال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة رجل ويمين المدعي؛ على التفصيل الذى سنذكره فيما بعد، وحجتهم أن الواجب بالجناية أصلاً هو القصاص لا الدية وإنما وجبت الدية بالعفو أو الصلح والعفو والصلح كلاهما حق ثابت للمجنى عليه أو وليه، أما طريقة الإثبات فليست من حقه بل هى حق الجماعة، وهذا لا يؤدى العفو أو الصلح فى العمد إلى جواز الإثبات بما يثبت به المال، وفضلاً عن ذلك فإنه يجب أن يثبت للمجنى عليه حق القصاص قبل كل شئ حتى يثبت له العفو أو الصلح عن هذا الحق (1) .
442- الجرائم التى توجب تعزيرا بدنيًا: إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى مع القصاص فيشترط فى إثباتها ما يشترط فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص، وقد بينا ما يشترطه الفقهاء على اختلاف وجهات نظرهم.
أما إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى دون القصاص فيرى الشافعى وأحمد أن الجريمة لا تثبت إلا بما تثبت به الجريمة الموجبة للقصاص أى بشهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبات البدنية خطيرة فيجب الاحتياط فيها بقدر الإمكان فلا تثبت بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين وشهادة رجل ويمين المجنى عليه (2) .
443- والأصل عند مالك أن العقوبات البدنية لا تكون إلا بشهادة رجلين ولكنه أجاز فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس أن تثبت بشهادة رجل واحد ويمين المجنى عليه، وأوجب على الجانى فى الوقت نفسه عقوبة التعزير مع عقوبة القصاص (3) .
ومعنى هذا أن عقوبة التعزير البدنية تثبت والجريمة الموجبة لها بشاهد ويمين المدعى، ويمكن القول بأن القصاص أشد من التعزير فإذا تبتت الجريمة الموجبة
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص105 , المغنى ج10 ص42.
(2) أسنى المطالب ج4 ص360 , الإقناع ج4 ص445.
(3) مواهب الجليل ج6 ص247.
(2/317)

للقصاص بشاهد ويمين فأولى أن تثبت بذلك الجريمة الموجبة للتعزير. كما يمكن القول بأنه إذا ثبتت الجريمة الموجبة للتعزير البدنى فى الجراح بشاهد ويمين فإن كل جريمة أخرى موجبة للتعزير البدنى يصح أن تثبت بشاهد ويمين قياسًا على هذا. ويرى بعض المالكية التعزير فى بعض الجرائم بشهادة شاهد واحد دون يمين (1) .
444- والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن العقوبات البدنية لا تثبت بأقل من شاهدين عدلين ولكنهم يجيزون فى التعزير أن يكون أحد الشاهدين هو المجنى عليه ويقبلون فيه شهادة رجل وامرأتين على خلاف بين أبى حنيفة وصاحبيه، بل يرون أنه يكفى للتعزير شهادة شاهد وأحد عدل (2) ، أو شهادة المدعى وحده مع نكول الجانى عن اليمين (3) ، والنكول ليس إلا قرينة تقوى شهادة المجنى عليه الذى لا يعتبر فى الأصل شاهدًا تبعًا لقواعد الشريعة كذلك يجيزون إثبات جرائم التعزير بالشهادة على الشهادة بل يكتفون فى التعزير بعلم القاضى (4) .
445- إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة مالية: تثبت الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية أو الغرامة بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى، وكل ما شرع فيه اليمين والشاهد يثبت بشهادة الشاهد ونكول المدعى عليه (5) ، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أنها شهادة عكس ما يقصد به المال والمال يثبت على هذا الوجه فوجب أن تقبل هذه الشهادة فى كل قتل أو جرح موجب للمال كما يقبل فى البيع والإجازة، ولا تقاس الشهادة فى الجناية الموجبة للمال بالشهادة فى الجناية الموجبة للقصاص؛ لأن القصاص عقوبة يحتاط لإسقاطها ودرئها فاحتيط فى الشهادة على أسبابها (6) .
_________
(1) تبصرة الحكام ج1 ص260 , 261.
(2) حاشية ابن عابدين ج3 ص258 , 259.
(3) شرح فتح القدير ج3 ص213.
(4) حاشية ابن عابدين ج3 ص258 , 260.
(5) المغنى ج12 ص12.
(6) المغنى ج10 ص42 , أسنى المطالب ج4 ص105 , الإقناع ج4 ص246.
(2/318)

ويرى بعض الحنابلة أن الجناية سواء أوجبت القصاص أو غير القصاص لا تثبت بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل واحد ويمين المدعى، وإنما تثبت بشهادة رجلين كما يثبت القصاص والحدود، فلا معنى للتفرقة بين جنايتين ومن نوع تقعان على آدمى (1) .
ويرى المالكيون أن الجرائم التى توجب عقوبة مالية تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى أو شهادة امرأتين ويمين المدعى (2) .
446- ويختلف رأى الشافعى وأحمد عن رأى مالك فى أن مالكًا يجيز شهادة المرأتين واليمين ولا يجيزها الشافعى وأحمد. وحجة مالك أن المرأتين أقيمتا مقام الرجل فى الأموال فيقاما مقامه فيما يوجب المال من الجرائم. وحجة الشافعى وأحمد أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة، وأن شهادة المرأتين ضعيفة فقويت بشهادة الرجل معهما، واليمين ضعيفة فلو شهدت المرأتان مع اليمين لضم ضعيف إلى ضعيف (3) .
447- ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن ما يوجب المال يثبت بشهادة رجلين أو بشهادة رجل وامرأتين ولا يثبت بشاهد ويمين ولا بامرأتين ويمين (4) ، وحجتهم أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص والزيادة فى النص نسخ، ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" فحصر اليمين فى جانب المدعى عليه كما حصر البينة فى جانب المدعى. ويرد على الحنفيين بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد الواحد واليمين وأن الزيادة فى النص ليست نسخًا وإنما هى تعزير له، وأن الحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه وأن الآية واردة فى شهادة التحمل لا فى شهادة الأداء ولذا قال تعالى:
_________
(1) المغنى ج10 ص42 , المغنى ج12 ص9.
(2) تبصرة الحكام ج1 ص241.
(3) المغنى ج12 ص13.
(4) حاشية ابن عابدين ج4 ص515 , 516 , حاشية الطهطاوى ج3 ص221.
(2/319)

{أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فالنزاع فى الأداء لا فى التحمل.
والحديث الذى يتمسك به الحنفية ضعيف وليس هو للحصر، بدليل أن اليمين تشرع فى حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها، وفى حق الأمناء لظهور خياناتهم، وفى حق الملاعن، وفى القسامة وغير ذلك (1) .
ولقد شرعت اليمين من جانب المدعى عليه حيث لم يترجح جانب المدعى بشئ إلا مجرد الادعاء، ففى هذه الحالة يكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوته بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب هذا الأصل، فإذا ترجع جانب المدعى بلَوْث أو نكول أو شهادة شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة إذن فى جانب أقوى المتداعين (2) .
ويلاحظ أن الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية مالية تثبت عند الحنفية بما تثبت به الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية بدنية، فلا فرق فى إثبات الجرائم التعزيرية ولو تنوعت عقوباتها واختلفت.
ويلاحظ أيضًا أن الحنفيين يتشددون فى إثبات الجرائم الموجبة للحدود والقصاص والعقوبات المالية غير التعزيرية بينما يتساهلون فى إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة تعزيرية، بل إنهم يتساهلون فى إثبات هذا النوع من الجرائم أكثر مما يتساهلون فى إثبات العقود المالية المحضة، ولعل مرجع ذلك التساهل إلى أن الجرائم التعزيرية هى أكثر الجرائم وقوعًا والعقوبات التعزيرية هى أكثر العقوبات تطبيقًا، فوجب التساهل فى إثبات هذه الجرائم حرصًا على مصلحة الجماعة وصيانة لنظامها.
448- ويرى ابن القيم أن الجرائم الموجبة للعقوبات المالية تثبت بشهادة شاهد واحد دون يمين كلما وثق به القاضى (3) .
ويجيز الفقهاء عامة شهادة الرجل الواحد أو المرأة الواحدة للضرورة ويقبلون مثل
_________
(1) المغنى ج12 ص10 , 11.
(2) الطرق الحكمية ص66 , 75.
(3) الطرق الحكيمة ص66 , 88.
(2/320)


هذه الشهادة فى إثبات نفس الجريمة كشهادة المعلم على الجرائم التى تقع بين الصبيان وكشهادة المرأة على جريمة وقعت فى حمام ويقبلون شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة كذلك فى إثبات أثر الجريمة ونتائجها كشهادة الطبيب أو الداية على أن الضرب أحدث جرحًا داخليًا بالرحم، وكشهادة الطبيب بأن الضرب أو الجرح نشأ عنه فقد منفعة عضو من الأعضاء.
ويقبل الفقهاء شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة للضرورة سواء كانت الجريمة مما يوجب عقوبة بدنية كالقصاص أو عقوبة مالية كالدية (1) .
449- ولا تثبت الجريمة بالشهادة إلا مع زوال الشبهة وانتفاء الشك: فيجب أن تكون الشهادة مثبتة للجريمة بصفة قاطعة، فإذا لم تكن كذلك بطلت الشهادة ما لم يكن بعض الشهادة متيقنًا ففى هذه الحالة يثبت القدر المتيقن، فمن شهد بأنه رأى جماعة يضربون شخصًا قطع ذراعه أثناء الحادث ولم يشهد بمن قطع الذراع فلا يثبت قطع الذراع ضد أحدهم ولكن يثبت الضرب عليهم لأنه القدر المتيقن أى المقطوع به فى أقوال الشاهد. ومما يؤثر فى هذا الباب أن شريحًا شهد عنده رجل بالقتل فقال: أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات، فقال له شريح: فمات منه؟ فأعاد الرجل قوله الأول فقال له شريح: قم فلا شهادة لك (2) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق