الخميس، 20 نوفمبر 2014

الباب الثاني - في الحدود – الكتاب الرابع : السرقة – المبحث الأول : أركان السرقة – الركن الثاني : أن يكون المأخوذ مالاً - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة


الكتاب الرابع
السرقة

المبحث الأول
أركان السرقة

الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالاً
604- يجب أن يكون الشىء المسروق مالاً, ولا محل للسرقة فى الوقت الحاضر إلا المال, أما قبل لإبطال الرق فكان العبيد والإماء فى الشريعة محلاً للسرقة باعتبارهم مالاً من وجه يمكن التصرف فيه ككل مال, وإن كانوا من وجه آخر آدميين, وهكذا كان الشأن فى القوانين الوضعية أيضاً. أما بعد إبطال الرق فلا يمكن أن يكون الإنسان محلاً للسرقة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد, وهذا رأى فى مذهب الشيعة الزيدية, أما مالك والظاهريون فيرون أن الطفل غير المميز محل للسرقة ولو كان حراً وعلى من يأخذه عقوبة القطع كسارق المال, وهذا رأى آخر فى مذهب الشيعة الزيدية, ومع أن هؤلاء يعترفون بأن السرقة لا تقع إلا على المال فإنهم يستثنون الطفل غير المميز ويجعلون
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71.
(2) المدونة ج16 ص75.
(3) مواهب الجليل ج 6 ص 312.
(4) المغنى ج 10 ص 276, كشاف القناع ج 4 ص 85, نهاية المحتاج ج 7 ص 440.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص440, أسنى المطالب ج4 ص150.
(2/542)

خطفه فى حكم سرقة المال (1) .
605- ويشترط فى المال المسروق شروط يجب توافرها جميعاً ليقطع فيه السارق, وهذه الشروط هى:
(1) أن يكون مالاً منقولاً. ... ... (2) أن يكون مالاً متقوماً.
(3) أن يكون مالاً محرزاً. ... ... (4) أن يبلغ المال نصاباً.
606- أولاً: أن يكون مالاً منقولاً: يجب أن تقع السرقة على مال منقول لأن السرقة تقتضى نقل الشىء وإخراجه من حرزه ونقله من حيازة المجنى عليه إلى حيازة الجانى وهذا لا يمكن إلا فى المنقولات فهى بطبيعتها التى يمكن نقلها من مكان إلى آخر.
ويعتبر المال المسروق منقولاً كلما كان قابلاً للنقل، فليس من الضرورى أن يكون المال منقولاً بطبيعته بل يكفى أن يصير منقولاً بفعل الجانى أو بفعل غيره, فمن استل أخشاباً من سقف منزل أو هدم حائطاً وأخذ من أنقاضه فهو سارق لمنقول ولو أن المنزل يعتبر عقاراً؛ لأن سل الأخشاب وهدم الحائط يجعل الأخشاب والأنقاض منقولة والأرض عقار بطبيعتها فمن أخذ منها تراباً أو أحجاراً أو أخذ من جوفها فحماً أو معادن أو ما أشبه يعتبر سارقاً لمنقول (2) .
ويشترط أن يكون المنقول مادياً كالنقود والأخشاب, ويستوى أن يكون المنقول صلباً كالحديد أو سائلاً كالماء أو غازياً كغاز الاستصباح, أما الأموال المعنوية فلا يمكن أن تكون محلاً للسرقة لأنها حقوق مجردة وليست قابلة بطبيعتها للنقل من مكان لآخر سواء كانت حقوقاً شخصية أو عينية, ولا شك
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص94, 103, المحلى ج11, ص337, شرح الأزهار ج4 ص369, بدائع الصنائع ج7 ص67, أسنى المطالب ج4 ص147, نهاية المحتاج ج7 ص438, المغنى ج10 ص245.
(2) أسنى المطالب ج4 ص147, كشاف القناع ج4 ص83, شرح الزرقانى ج8 ص102, بدائع الصنائع ج7 ص68, 69.
(2/543)

أن الأوراق المثبتة لهذه الحقوق المعنوية تعتبر فى ذاتها منقولاً ومن ثم يمكن سرقتها, وتقع السرقة فى هذه الحالة على الأوراق لا على ما تضمنه من حقوق.
وليس فى الشريعة ما يمنع من أن يكون القوى الطبيعية والأشياء المباحة أصلاً محلاً للسرقة كالضوء والحرارة والبرودة والماء والهواء, والعبرة فى ذلك كله وأشباهه بإمكان احتياز الشىء والتسلط عليه, فكل من استطاع أن يحتاز شيئاً من هذه الأشياء المباحة الأصل يصبح مالكاً لها وإن كان احتياز هذه الأشياء وأمثالها والتسلط عليها يجعلها منقولاً يعاقب على سرقته ما يعاقب على سرقة أى منقول آخر, وعلى هذا فليس ثمة ما يمنع من اعتبار الكهرباء محلاً للسرقة لأن احتيازها والتسلط عليها ونقلها من مكان إلى آخر فى حيز الإمكان.
607- ثانياً: أن يكون مالاً متقوماً: بصفة مطلقة, فإن كانت قيمته نسبية فلا قطع فى سرقته والعقوبة عليه التعزير, فالخمر ولحم الخنزير مثلاً لا قيمة لهما عند المسلم ولكن لهما قيمتهما عند غير المسلم ومن ثم كانت قيمتهما نسبية لا مطلقة, وهذا النقص فى القيمة هو الذى منع من القطع لأنه شبهة ووجه الشبهة عدم المالية أو عدم التقوم, والحدود تدرأ بالشبهات, ويستوى أن يكون صاحب المال مسلماً أو غير مسلم وأن يكون السارق مسلماً أو غير مسلم؛ لأن العبرة ليست بالمالك أو السارق وإنما العبرة بتقوم المال أو عدم تقومه (1) .
وتعبير المال المتقوم هو ما يعبر به الحنفية. أما الأئمة الثلاثة فيعبرون عن هذا المعنى بعبارة المال المحترم, ويشترط الزيدية أن يكون المال مما يجوز تملكه, والظاهريون يعبرون بمثل هذا التعبير فيقولون: مال له قيمة ومال لا قيمة له (2) , وكل هذه العبارات تؤدى معنى واحداً.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص69, نهاية المحتاج ج7 ص421, أسنى المطالب ج4 ص139, شرح الزرقانى ج8 ص97, المغنى ج10 ص282, كشاف القناع ج4 ص77, شرح الأزهار ج4 ص365.
(2) المحلى ج11 ص334.
(2/544)

ويشترط أبو حنيفة فوق شرط التقوم أن يكون الشىء المسروق مما يتموله الناس ويعدونه مالاً يضنون به, لأن ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم, فإن كان مما لا يتموله الناس فهو تافه وحقير, وحجته فى ذلك حديث عائشة رضى الله عنها: "لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله فى الشىء التافه" (1) .
ويجعل أبو حنيفة التفاهة شبهة فى المال تدرأ الحد عن سارقه وتوجب التعزير بدلاً من القطع. ويترتب على رأيه هذا أن لا قطع فى التبن والحشيش والقصب والحطب وأشباهها, لأن الناس لا يتمولون هذه الأشياء عادة ولا يضنون بها لعدم عزتها وقلة خطرها ويعدون الضن بها من باب الخساسة فهذا مصدر تفاهتها, كذلك لا قطع عند أبى حنيفة فى سرقة التراب والطين والحصى واللبن والفخار وما شابهها لتفاهتها (2) .
ويعتمد أبو حنيفة على عرف الناس وعاداتهم فى بيان الشىء التافه من الشىء غير التافه, على أنه يسلم بأن الشىء التافه قد يصبح للصناعة ذا قيمة كالقصب يصنع منه النشاب, فإذا أخرجت الصناعة الشىء التافه عن تفاهته كان القطع واجباً فى سرقته (3) .
ولكن أبا يوسف من فقهاء مذهب أبى حنيفة يرى القطع فى كل مال محرز تبلغ قيمته نصاباً إلا التراب والسرجين, وفى رواية أخرى عنه: إلا فى الماء والتراب والطين والحصى والمعازف؛ لأن السارق يسرق مالاً متقوماً من حرز لا شبهة فيه. ودليل المالية والتقوم هو أولاً جواز بيع المال وشرائه, وهو ثانياً وجوب ضمان القيمة على غاصب المال, فكل ما جاز بيعه وشراؤه ووجب على غاصبه ضمانه فهو مال متقوم يقطع فيه إذا سرق من حرزه (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص67.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص67, 68, شرح فتح القدير ج4 ص226.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص232, بدائع الصنائع ج7 ص68.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص227.
(2/545)

ويرى أبو حنيفة ومعه محمد من فقهاء المذهب أن كل ما يوجد جنسه تافهاً ومباحاً فلا قطع فيه, لأن كل ما كان كذلك فلا عز له ولا خطر ولا يتموله الناس.
ولكن غيرهما من فقهاء المذهب يرون الاعتماد على التفاهة دون الإباحة لأن الذهب والفضة واللآلئ والجواهر مباحة الجنس ولا شك أن فيها القطع (1) .
ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى سرقة ميتة أو جلدها لانعدام المالية؛ أى لأنها لا تعتبر مالاً, ولا فى سرقة كلب لاختلاف العلماء فى ماليته, ولا فى أدوات الملاهى من طبل ودف ومزمار ونحوها لأن هذه الأشياء مما لا يتموله الناس عادة أو لأن فى ماليتها قصوراً لكراهة الاشتغال بها (2) .
وعند أبى حنيفة أن لا قطع فى سرقة طير ولا صيد وحشاً كان أو غيره, ولا فيما علم من الجوارح كالبازى والصقر لأن الطيور والوحوش مباحة الأصل ولا يتم إحرازها فى الناس عادة ولأنها تأتى عن طريق الاصطياد وهو مباح, فضلاً عن أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيد لمن أخذه" يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة, كذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فى الطير" (3) .
كذلك يرى أبو حنيفة أن لا قطع فيما لا يحتمل الادخار ويتسارع إليه الفساد ولا يبقى من سنة إلى سنة. فلا قطع عنده فى سرقة الطعام الرطب والبقول والفواكه الرطبة واللحم والخبز والرياحين وما أشبه, ولا قطع فى سرقة شطرنج ذهب أو فضة أو صليب أو صنم لأنه يتأول أن السارق يأخذها لكسرها, أما الدراهم التى عليها تماثيل فيقطع فيها لأنها لا تعتبر عادة فلا تأويل له فى الأخذ للمنع من العبادة (4) ؛ لأن ما لا يحتمل الادخار يقل خطره عند الناس فيعتبر تافهاً. ولا قطع عند
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص226, بدائع الصنائع ج7 ص69.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص232, بدائع الصنائع ج7 ص67.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص68, شرح فتح القدير ج4 ص227, 232.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص72, شرح فتح القدير ج4 ص230, 231.
(2/546)

أبى حنيفة فى سرقة المصحف وكتب الأحاديث واللغة والشعر لأنها تدخر للقراءة لا للتمول ويقصد منها الوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به، لكن أبا يوسف يرى القطع فى هذه جميعاً كلما بلغت نصاباً لأن الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس الأموال، أما دفاتر الحساب والدفاتر البيضاء فلا خلاف فى المذهب على أن فيها القطع إذا بلغت نصاباً لأن المقصود فيها هو الورق الأبيض (1) .
ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى سرقة ما يتبع ما لا قطع فيه كالحلية على المصحف تبلغ نصاباً، وكسرقة آنية فيها خمر وقيمة الآنية تزيد على النصاب، ولكن أبا يوسف يخالفه ويرى القطع، وهو مذهب مالك والشافعي (2) .
ولكن أبا يوسف من فقهاء المذهب يخالف أبا حنيفة ويرى القطع فيما لا يحتمل الادخار ويتسارع إليه الفساد؛ لأن السرقة وقعت على مال متقوم فى حرز لا شبهة فيه، ودليل المالية والتقوم هو جواز البيع والشراء فى المال ووجوب ضمان القيمة على غاصبه ومتلفه (3) .
ويطبق أبو حنيفة المبدأ السابق تطبيقاً واسعاً فيرى أن سرقة الثمار المعلقة فى أشجارها أو نخيلها لا قطع فيها ولو كانت محرزة بحائط أو بحافظ لأن الثمر ما دام فى شجره يتسارع إليه الفساد. فإذا قطع الثمر ووضع فى جرن ثم سرق بعد ذلك فإن كان قد استحكم جفافه ففيه القطع لأنه صار قابلاً للادخار ولا يتسارع إليه الفساد بالجفاف، وإن لم يكن استحكم جفافه فلا قطع فيه لأنه مما يتسارع إليه الفساد ولا يقبل الادخار بحالته الراهنة، ويستعين أبو حنيفة فى تأييد رأيه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع فى ثمر ولا كَثَر حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه القطع".
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص68.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص229، 231.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح فتح القدير ج4 ص227.
(2/547)

والمحصولات الزراعية كالقمح والشعير والذرة هى بمنزلة الثمر المعلق عند أبى حنيفة فلا قطع فيها حتى يؤويها الجرين ويستحكم جفافها، وهذا يتفق مع ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب بغية من ذى حاجة غير متخذ خفية فلا شىء عليه، ومن أخرج بشىء منه فعليه غرامة مثله، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" (1) .
والفاكهة اليابسة التى تبقى من سنة إلى سنة فيها القطع عند أبى حنيفة، فإن لم تكن تبقى من سنة إلى سنة فلا قطع فيها لأنها تعتبر مما لا يقبل الادخار ويتسارع إليه الفساد.
ولا يقطع أبو حنيفة فى السمك طرياً كان أو مالحاً، لأن الطرى يتسارع إليه الفساد والمالح مال تافه مباح الأصل، ولا يقطع كذلك فى اللبن لأنه يتسارع إليه الفساد ولكنه يقطع فى الخل لأنه لا يتسارع إليه الفساد، ويقطع فى الذهب والفضة والجواهر واللآلئ وفى الحبوب الجافة كلها وفى الطيب والعود والمسك وما أشبه، ويقطع فى الكتان والصوف وما أشبه، كما يقطع فى الحديد والنحاس والرصاص وما أشبه، سواء كانت آنية أو مادة خاماً. وهكذا نستطيع أن نتبين أن أبا حنيفة يعول فى عدم القطع على شيئين:
أولهما: التفاهة وعدم المالية، ويعتبر الشىء تافهاً عند أبى حنيفة إذا كان مما لا يتموله الناس كالميتة، أو كان مما لا يضن به الناس لعدم عزته وقلة خطره عندهم كالتبن والحطب، أو كان مما يتسارع إليه الفساد ولا يحتمل الادخار من سنة إلى سنة.
ثانيهما: عدم التقوم فكلما كان المال متقوماً بصفة مطلقة وغير تافه ففيه القطع، فإذا لم يكن متقوماً فلا قطع فيه كالخمر والخنزير فلا قطع فيهما لعدم التقوم (2) .
ويلاحظ أن إباحة الجنس فى ذاتها لا تمنع من القطع إذا لم يكن المال تافهاً كالذهب والفضة فكلاهما مباح الأصل ولكنه لما لم يكن تافهاً وجب فيه القطع،
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص227، 228، بدائع الصنائع ج7 ص69.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص69، 70.
(2/548)

أما إذا كان المال تافهاً كالسمك والملح فلا قطع فيه لتفاهته. فالعبرة فى القطع وعدمه بالتفاهة وليست بإباحة الجنس، وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة (1) .
ولا يرى فقهاء المذاهب الأخرى رأى أبى حنيفة فى أن التفاهة تمنع من القطع، والقاعدة العامة عندهم أن كل ما يمكن تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه يجب القطع فى سرقته (2) . ولكنهم اختلفوا فى تطبيق هذه القاعدة وسنبين فيما يلى حدود هذا الاختلاف. فمالك يرى القطع فى كل مال أياً كان ولو كان محقراً فى نظر الناس كالماء والحطب ونحو ذلك مما أصله مباح للناس لأنه متمول يجوز تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه، ويستوى بعد ذلك أن يكون مباحاً للناس أو غير مباح ما دام المجنى عليه قد حازه فى حوزه الخاص كما يستوى أن يكون معرضاً للفساد أو غير معرض (3) .
ويرى مالك القطع فى سرقة الجوارح طيوراً أو سباعاً إذا بلغت قيمة أحدها النصاب ولو كانت لا تبلغ هذه القيمة إلا لتعليمها الصيد لأن تعليم الصيد منفعة شرعية فإذا لم تكن معلمة فالقطع إذا بلغت قيمة لحم الطير وريشه النصاب، وإذا بلغت قيمة جلد السبع النصاب، ولا تراعى قيمة لحم السبع لكراهته أو للقول بحرمته، وعلى هذا فسارق جلد السبع يقطع، وسارق لحمه فقط لا يقطع (4) .
ويرى القطع فى جلد الميتة سواء كانت الميتة مما يؤكل أو لا يؤكل، ولكن بعد الدبغ وبشرط أن يزيد الدباغ فى قيمة الجلد نصاباً وإلا فلا قطع (5) .
ولا يرى مالك القطع فى الطيور المحببة كالبلبل والببغاء وأشباههما إلا إذا كان لحمها وريشها يساوى نصاباً، فإن كانت لا تساوى النصاب إلا لإجابتها فلا قطع لأن الإجابة ليست منفعة شرعية (6) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح فتح القدير ج4 ص226.
(2) بداية المجتهد ج2 ص367.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(6) شرح الزرقانى ج8 ص96.
(2/549)

ولا قطع عند مالك فى مال غير محترم كالخمر ولحم الخنزير ولو سرقها ذمى مهما بلغت قيمتها، وكأدوات الملاهى فلا قطع فيها إلا إذا بلغت قيمتها نصاباً بعد كسرها (1) .
ولا قطع فى سرقة الكلب معلماً أو غير معلم مهما بلغت قيمته لحرمة ثمنه.
ولا قطع فى الثمر المعلق عند مالك ولا فى الزرع قبل حصده فإذا جد الثمر وحصد الزرع فلا قطع فى السرقة إلا إذا وضع فى الجرين على رأى أو كدس أكواماً بعد حصده حتى يصير كالشىء الواحد.
وإذا كانت الثمار فى بستان عليه حائط وله غلق فسرق منها وهى لا تزال معلقة فى الشجر ففيها القطع على رأى ولا قطع فيها على رأى آخر، والقائلون بالقطع يحتجون بأن الثمار أصبحت فى حرز، وإذا كانت الشجرة المثمرة فى داخل الدار فالسرقة من ثمرها المعلق بلا خلاف لأن السرقة من حرز (2) .
وإذا سرق ما ليس فيه قطع حالة كونه متصلاً بما فيه القطع اعتبرت قيمة ما فيه القطع، فإذا بلغ نصاباً قطع السارق، كسرقة الخمر فى إناء من الذهب، فالخمر لا قطع فيه ولكن إناء الذهب فيه القطع إذا بلغت قيمته بدون الخمر نصاباً (3) .
ويقطع مالك فى سرقة المصحف لأنه مال مملوك ويجوز بيعه (4) . أما الشافعى فمذهبه لا يكاد يختلف شيئاً عن مذهب مالك إذ يرى القطع فى كل مال ولو كان محقراً كالحطب والحشيش والتراب، أو مباح الأصل كالصيد والطير والماء، أو معرضاً للتلف كالطعام والثمار والفاكهة.
ويرى القطع فى المصحف والكتب العلمية والأدبية النافعة المباحة فإذا لم تكن مباحة قُوِّم ورقها وجلدها فإن بلغا نصاباً قطع به السارق (5) .
ولا يقطع الشافعى فى مال غير محترم؛ أى غير متقوم، كالخمر والخنزير والكلب
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص97.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص105.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص97.
(4) المدونة ج16 ص77.
(5) أسنى المطالب ج4 ص141.
(2/550)

وجلد الميتة قبل دبغه (1) . ولا يقطع الشافعى فى الثمر المعلق حتى يؤويه الجرين فإذا آواه الجرين ففيه القطع. ويقطع الشافعى فى آلات اللهو وفى آنية الذهب والفضة إذا بلغت قيمة المسروق نصاباً بعد كسره أو إفساده (2) . وإذا سرق السارق ما لا قطع فيه متصلاً بما فيه قطع اعتبرت قيمة ما فيه القطع دون ما لا قطع فيه (3) .
والقاعدة فى مذهب أحمد أن القطع واجب فى كل مال بغض النظر عما إذا كان تافهاً أو مباح الأصل أو معرضاً للتلف، ولكنهم يستثنون من هذه القاعدة:
1- الماء: فسرقة الماء لا قطع فيه لأنه مما لا يتمول عادة؛ أى أنه لا يباع ولا يشترى فى العادة.
2- الكلأ والملح: وفيهما خلاف، فبعض فقهاء المذهب يرون القطع فيهما لأنهما مما يتمول عادة، والبعض لا يرى القطع فيهما لأنهما مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه.
3- الثلج: ويرى البعض القطع فيه لأنه يتمول عادة، ويرى البعض أنه لا قطع فيه لأنه ماء جامد قيأخذ حكم الماء.
4- التراب: وحكمه أنه إذا كانت تقل الرغبات فيه كالذى يعد للتطين والبناء فلا قطع فيه لأنه لا يتمول، وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الأرضى الذى يعد للدواء أو الغسل أو الصبغ احتمل وجهين: أحدهما: لا قطع فيه لأنه من جنس ما لا يتمول فأشبه الماء، والثانى: فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل إلى البلدان للتجارة فأشبه العود الهندى، ولكن ما يصنع من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لأنه يتمول عادة.
5- السرجين: لا قطع فيه لأنه إن كان نجساً فلا قيمة له وإن كان طاهراً
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421.
(2) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421.
(3) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421.
(2/551)

فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات فيه (1) . ويقطع الشافعى ومالك فى السرجين الطاهر وفى كل الأشياء السابقة، أما أبو حنيفة فلا يقطع فى شىء منها.
6- المصحف: يرى البعض أن لا قطع فى سرقته وهو قول أبى حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه، ويرى البعض وجوب القطع لأنه مال متقوم وهو رأى مالك والشافعى. وإذا كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصاباً وحدها، فبعض من لا يرى القطع بسرقة المصحف لا يقطع فى الحلية لأنها تابعة لما لا يقطع فى سرقته، وبعضهم يرى القطع لأنه سرق نصاباً من الحلى فوجب قطعه كما لو سرقه منفرداً، ولا خلاف فى مذهب أحمد على القطع فى سرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية (2) .
7- الثمر والكَثَر: فلا قطع فى الثمار المعلقة ولا فى سرقة الكَثَر وهو جمار النخل لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع فى ثمر ولا فى كَثَر"، وإذا أحيط البستان بسور فلا قطع فيما سرق منه لكن إذا كانت نخلة أو شجرة فى دار محرزة فسرق من ثمارها نصاباً ففيه القطع لأنها سرقة من حرز (3) .
8- سرقة المحرم وأدوات اللهو: لا قطع فى سرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء كان السارق مسلماً أو ذمياً، وأما آلات اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيها وإن بلغت قيمتها بعد كسرها نصاباً لأنها آلة للمعصية بالإجماع فلا يقطع فى سرقتها كالخمر ولأن له حقاً فى أخذها لكسرها فكان ذلك شبهة تمنع القطع، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصاباً فلا قطع فيها على رأى وفيها القطع على رأى آخر.
وإذا سرق صليباً من ذهب أو فضة فلا قطع فيه على رأى وهو متفق مع ما يراه أبو حنيفة، وفيه القطع على رأى آخر وهو مذهب مالك والشافعى، والمفروض أن تكون قيمة الصليب بعد كسرها نصاباً فإن كانت أقل من
_________
(1) المغنى ج10 ص247.
(2) المغنى ج10 ص249.
(3) المغنى ج10 ص262، 263.
(2/552)

النصاب فلا خلاف فى المذهب على عدم القطع.
وإن سرق آنية من الذهب أو الفضة قيمتها نصاب بعد الكسر ففيها القطع، وإذا اتصل ما لا قطع فيه بما فيه القطع ففى المذهب رأيان: الأول: لا قطع فيها ولو بلغ نصاباً وحده لأنه تابع لما لا قطع فيه وهو مذهب أبى حنيفة، والرأى الثانى: فيه القطع إذا بلغ نصاباً وحده وهو مذهب مالك والشافعي (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية قريب من مذهب مالك والشافعى، فعندهم أن المال المسروق يعاقب عليه بالقطع إذا كان مما يجوز للمجنى عليه تملكه فى الحال، فإذا لم يكن يجوز له أن يتملكه كالخمر والخنزير والكلب والميتة وغيرها فلا قطع فيه إذا سرقه من مسلم، أما إذا سرقه من ذمى فلا قطع إذا سرقه من بلد ليس للذمى سكناه، فإذا سرقه من بلد لهم سكناه فهناك خلاف فى القطع (2) .
ويرى الزيديون أن لا قطع فى سرقة النابت أو فى أخذه من منبته، ولا فرق بين أن يكون شجراً أو زرعاً (3) .
ومذهب الظاهريين على القطع فى سرقة المال أياً كان سواء كان تافهاً أو مباح الأصل أو معرضاً للتلف، وهم يرون القطع فى سرقة كل ثمر وكل كَثَر معلقاً كان فى شجره أو مجزوزاً أو فى جرين أو فى غير جرين، ويرون القطع فى كل طعام كان مما يفسد أو لا يفسد، ويرون القطع فى الزرع إذا أخذ من فدانه أو هو بأندره (4) .
ويرى الظاهريون القطع فى سرقة الطير كلما كان مملوكاً للمجنى عليه، وفى سرقة الصيد كلما تملكه المجنى عليه (5) .
_________
(1) المغنى ج10 ص283، 284، كشاف القناع ج4 ص78.
(2) شرح الأزهار ج4 ص365، 366.
(3) شرح الأزهار ج4 ص369.
(4) المحلى ج11 ص332.
(5) المحلى ج11 ص333، 343.
(2/553)

ويرون القطع على من سرق مصحفاً أو كتباً من كتب العلوم (1) .
ويرون القطع على من سرق صليباً أو فضة أو ذهباً ومن سرق دراهم فيها صور وأصنام إذا بلغت قيمتها نصاباً بعد الكسر (2) .
ولكن الظاهريين لا يرون القطع فى سرقة الخمر والخنزير وأما الميتة فيقطعون فيها لأن جلدها باق على ملك صاحبها يدبغه فينتفع به ويبيعه (3) ، وظاهر من هذا أن الظاهريين يرون ما يراه مالك والشافعى من قطع السارق إذا سرق ما يجب فيه القطع متصلاً بما لا يجب فيه القطع.
608- ثالثاً: أن يكون المال محرزاً: يشترط جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى أن يكون المال محرزاً لوجوب القطع فى سرقته، ولا يخالفهم فى ذلك إلا الظاهريون وطائفة من أهل الحديث حيث يرون القطع على السارق إذا سرق نصاباً ولو من غير حرز وأن اشتراط الحرز باطل بيقين لا شك فيه وشرع لما يأذن الله تعالى به (4) .
والأصل فى اشتراط الحرز عند من يشترطه ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رافع ابن خديج أنه قال: "لا قطع فى ثمر ولا كَثَر" رواه الخمسة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه بغية من ذى حاجة غير متخذ خفية فلا شىء عليه، ومن خرج بشىء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه النسائى وأبو داود، وفى رواية قال: سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجزية التى توجد فى مراتعها، قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطفه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها فى أكمامها؟ قال: "من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنةً فليس عليه شىء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ
_________
(1) المحلى ج11 ص337.
(2) المحلى ج11 ص338.
(3) المحلى ج11 ص335.
(4) المحلى ج11 ص337، بداية المجتهد ج2 ص375.
(2/554)

من ذلك ثمن المجن" رواه أحمد والنسائى، ولابن ماجه معناه وزاد النسائى فى آخره: "وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال" (1) .
ويرى جمهور الفقهاء أن رسول الله منع القطع فى الثمر المعلق وحريسة الجبل حتى إذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن, وأنه عليه السلام علق القطع بإيواء المراح والجرين؛ والمراح حرز الإبل والبقر والغنم, والجرين حرز الثمر, فدل ذلك على أن الحرز شرط فى القطع, وفوق هذا فإن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى استخفاء فلا يتحقق ركن السرقة, كذلك فإن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها قطعاً لأطماع السراق عن أموال الناس, والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر فى القلوب وغير المحرز لا خطر له فى القلوب عادة فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى صيانته بالقطع (2) .
609- ومن المتفق عليه أن الحرز نوعان:
1- حرز بالمكان أو حرز بنفسه: وهو عند مالك, أما عند أبى حنيفة فحرز المكان هو كل بقعة معدة للأحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بإذن كالدور والحوانيت والخيم والفساطيط وزرائب المواشى والأغنام, ويشترط أبو حنيفة فى الحرز بالمكان أن يكون مكاناً مبنياً سواء كان بابه مغلقاً أم مفتوحاً وسواء كان له باب أم لا, لأن البناء يقصد به الأحراز كيفما كان (3) .
ولا يشترط مالك أن يكون المرابط والزرائب والجرون والمراح مبنية أو مسورة بل تعتبر حرزاً بمجرد إعداد المكان لحفظ المال أو الاعتياد على حفظ
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص39.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص73, أسنى المطالب ج4 ص141, المغنى ج10 ص249, شرح الزرقانى ج8 ص98.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص73, شرح فتح القدير ج4 ص240, 241, 246.
(2/555)

المال فيه دون حاجة لإحاطة المكان فيه ببناء أو سور أو ما أشبه (1) .
أما عند الشافعى وأحمد فالحرز بالمكان هو كل مكان مغلق معد لحفظ المال داخل العمران كالبيوت والدكاكين والحظائر (2) .
فحرز المكان لا يكون كذلك عندهما إلا إذا توفرت فيه شروط, أولها: أن يكون فى العمران, فإن كان المكان خارج عمارة البلدة أو القرية أو منفصلاً عن مبانيها ولو ببستان فهو ليس حرزاً بالمكان. الثانى: أن يكون مغلقاً فإذا كان بابه مفتوحاً أو ليس له باب أو كان بحائطه نقب أو تهدم جزء منه فهو ليس حرزاً, ولا يشترط أن يكون المكان مبنياً بالحجارة أو اللبن بل يكفى أن يكون بحالة تتفق مع التعارف عليه وما جرت به العادة فالمسكن يبنى من الحجارة أو الطين أو الخشب والحظيرة قد تبنى من الطين أو الخشب أو القصب أو الحطب (3) .
والحرز بالمكان عند الشيعة الزيدية هو كل مكان محصن كالبيت والمربد والمراح بحيث يمنع الخارج من الدخول وإن لم يمنع الداخل من الخروج, ويكفى لاعتبار المكان محصناً أن يكون عليه جدار أو خيام أو زرب أو قصب أو بيت شعر, ويجوز أن يكون حوله خندق على رأى ويجب أن يكون له باب, فإذا كان كذلك فهو حرز بنفسه, فإذا لم يكن عليه باب فلا يكون حرزاً إلا بحارس (4) .
2- حرز بالحافظ أو حرز بغيره: هو عند أبى حنيفة كل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بلا إذن ولا يمنع منه كالمساجد والطرق, وحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ أى أنه لا يعتبر حرزاً, فإن كان هناك حافظ فهو حرز, ولهذا سمى حرزاً بغيره حيث تتوقف صيرورته حرزاً على وجود غيره وهو الحافظ (5) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص98, 100, المدونة ج16 ص79, بداية المجتهد ج2 ص375.
(2) المغنى ج10 ص250 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص81, أسنى المطالب ج4 ص141.
(3) أسنى المطالب ج4 ص141, 142, المغنى ج10 ص249, 252, كشاف القناع ج4 ص81, 82.
(4) شرح الأزهار ج4 ص370.
(5) بدائع الصنائع ج7 ص73.
(2/556)

فمن تعطلت سيارته فى الطريق العام فتركها بلا حافظ عندها فهى فى غير حرز, وإن ترك عندها ما يحفظها فهى فى مكان محرز بالحافظ. والمسجد ليس مكاناً معداً لحفظ المال ولا يتوقف الدخول فيه على إذن ما فلا يعتبر حرزاً بنفسه إلا فيما يتعلق بالأشياء اللازمة له كالحصر والقناديل وما أشبه, فمن دخل للصلاة ومعه متاع فوضعه بجواره فإن المتاع يكون محرزاً بالحافظ فإذا تركه فى المسجد فسرق فلا قطع فيه لأن المسجد ليس حرزاً بنفسه ولأن الحافظ لم يكن موجوداً وقت السرقة فلم يكن المتاع محرزاً, أما إذا سرق المتاع فى حالة وجود الحافظ فالقطع واجب فى السرقة إذا توفرت أركانها. ومن الأمثلة على ذلك حادثة صفوان فقد كان نائماً فى المسجد يتوسد رداءه فسرقه سارق فقطع الرسول يده. أما مالك والشافعى وأحمد فيرون أن الحرز بالحافظ هو كل مكان محرز بالحافظ سواء كان معداً لإحراز المال كالبيوت أو غير معد لحفظ المال كالمساجد والطرق والصحراء (1) .
ويرى أبو حنيفة أن ما يعتبر حرزاً بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزاً ولو وجد فلا عبرة لوجوده بل هو والعدم سواء, ذلك أن كل واحد من الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه فإذا سرق شخص من حرز بالمكان قطع سواء أكان ثمة حافظ أو لا وسواء كان الحرز له باب مغلق أو لا باب له, وإذا سرق من حرز بغير قطع إذا كان الحافظ قريباً منه بحيث يراه سواء كان الحافظ نائماً أم مستيقظاً لأنه يقصد الحفظ فى الحالين, ويرتب أبو حنيفة على اعتبار كل حرز بنفسه نتيجة هامة هى أن الحرز بالمكان إذا اختل - وهو لا يختل عنده إلا بالإذن للسارق فى دخول الحرز - فلا يمكن اعتباره حرزاً بالحافظ ولو كان بالحرز حافظ فعلاً (2) .
أما الأئمة الثلاثة فلا يرون اعتبار كل حرز بنفسه, ويجوز عندهم أن يكون
_________
(1) المغنى ج10 ص251, أسنى المطالب ج4 ص141, 143, شرح الزرقانى ص101, 103.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص73, 74.
(2/557)

الحرز فى وقت واحد حرزاً بالمكان وفيه حافظ فإذا اختل الحرز بالمكان كان حرزاً بالحافظ, ومثل ذلك أن يؤذن لشخص بدخول بيت فيسرق أمتعته عليه حافظ, فيقطع لأن مكان السرقة وإن لم يكن حرزاً بنفسه فهو حرز بالحافظ (1) . على أننا يجب أن نلاحظ أن الأئمة الثلاثة لا يتفقون على ما يخل بحرز المكان, فمالك يرى أن حرز المكان لا يختل إلا بالإذن للسارق بدخول الحرز, وهو رأى أبى حنيفة (2) .
والظاهر أن الشيعة الزيدية ترى رأى الشافعى وأحمد فى أن الحرز يبطل بفتح الباب وبالنقب وبالإذن (3) .
أما الشافعى وأحمد فيريان أن الإذن بالدخول والنقب وفتح الباب كل منها يخل بحرز المكان ويجعله غير حرز ما لم يكن حافظ فإنه يكون حرزاً بالحافظ (4) .
ويرى مالك وأبو حنيفة أن المكان يعتبر محرزاً بالحافظ كلما كان الشىء المسروق واقعاً تحت بصر الحافظ, ويستوى أن يكون الحافظ مستيقظاً أو نائماً لأنه وجد للحفظ ويقصده فى الحالين (5) , ولأن النائم عند متاعه يعتبر حافظاً له فى العادة, ويشترط المالكية أن يكون الحافظ مميزاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً فلا يعتبر وجوده ولا يكون الشىء محرزاً, ولا يشترط الحنفية هذا الشرط, ويستثنى المالكيون والحنفيون من هذه القاعدة سرقة الغنم فى المراعى فلا قطع على سارقها لتشتت الغنم وصعوبة حفظها أثناء الرعى على رأى المالكية, ولأن
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص102, أسنى المطالب ج4 ص143, المغنى ج10 ص251, 253.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص241.
(3) شرح الأزهار ج4 ص37, 372.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص305, 306, أسنى المطالب ج4 ص147, المغنى ج10ص298, 299.
(5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101, بدائع الصنائع ج7 ص73, حاشية ابن عابدين ج3 ص280.
(2/558)

الراعى لا يقصد الحفظ وإنما يقصد الرعى على رأى الحنفية (1) .
ومذهب الشيعة قريب من مذهب الحنفية, فهم على الرأى الراجح يعتبرون المكان محرزاً بالحافظ إذا كان ثمة حافظ سواء كان متيقظاً أو نائماً وإن كان بعضهم يشترط أن يكون يقظان (2) .
أما الشافعى فيعتبر المكان محرزاً بالحافظ كلما كان الحافظ ممن يبالى به لقوته أو لاستغاثته بغيره بحيث إذا استغاث أسمع، ويشترط فى الحافظ أن يكون مع المتاع الذى يحفظه وأن يديم ملاحظته, والمراد من إدامة الملاحظة أن لا يشتغل عنه بنوم ولا غيره مما يشغله عن الملاحظة, والمقصود الإدامة المتعارفة, فالفترات العارضة أثناء الملاحظة لا تقدح فى الإحراز على المشهور للعرف فإذا تغفل فسرق قطع فى الأصح, والمقصود من القرب أن يقع المسروق تحت بصر الملاحظ وأن يكون الشىء بحيث ينسب للملاحظ وأن يكون الملاحظ بحيث يراه السارق حتى يمتنع عن السرقة إلا بتغفله, فإن كان فى موضع لا يراه السارق اعتبر المسروق غير محرز.
وإذا كان الحارس ممن لا يبالى به لعدم قوته أو لعدم استغاثته كأن يكون فى صحراء فلا يسمع صوته أحد فلا يعتبر الشىء محرزاً, وإذا نام الحارس فلا يعتبر الشىء محرزاً إلا إذا كان يلبس الشىء المسروق كحذاء مثلاً أو عمامة, أو يتوسده كجلباب أو فراش, أو يتكئ عليه, أو يلتف فيه.
وإذا كان هناك زحام يمنع من وقوع بصر الحارس على الشىء باستمرار وفى أى وقت شاء اعتبر الشىء غير محرز (3) .
ويعتبر أحمد المكان محرزاً بالحافظ كلما وجد فيه حافظ أياً كان صغيراً أو كبيراً ضعيفاً أو قوياً, ولا يشترط فى الحافظ إلا عدم التفريط كأن ينام أو يشتغل عن الملاحظة, ويجب أن يكون بحيث يقع بصره على الشىء فإذا فرط فى
_________
(1) شرح الزقانى وحاشية السيبانى ج8 ص101, شرح فتح القدير ج4 ص246.
(2) شرح الأزهار ج4 ص370.
(3) أسنى المطالب وحاشية شهاب الرملى ج4 ص142, نهاية المحتاج ج7 ص429 وما بعدها, المهذب ج2 ص296.
(2/559)

الملاحظة فلا حرز, وكذلك إذا نام ما لم يكن متوسداً الشىء أو متكئاً عليه أو يلتف فيه أو يلبسه (1) .
ويرى الشافعى وأحمد أن الدور المنفردة عن العمران والدور التى فى البساتين والطرق والصحراء لا تعتبر حرزاً بنفسها ولو كانت حصينة, وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ إذا كان فيها أهلها أو حافظ ملاحظ سواء كانت مغلقة أو مفتوحة فإن لم يكن بها حافظ فليست حرزاً ولو كانت مغلقة, فإن كان بها حافظ نائم وهى مغلقة فهى حرز بالحافظ وإن كانت مفتوحة ليست حرزاً (2) .
وما يقال عن الدور ينطبق على كل الأمكنة المعدة لحفظ المال الخارجة عن العمران كالاصطبلات وحظائر المواشى والأغنام والأجران, فإنها لا تعتبر حرزاً بالمكان وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ (3) .
ولقد قلنا من قبل أن الشافعى وأحمد يشترطان فى الحرز بنفسه أن يكون معداً لحفظ المال دون حائط فى العادة, ويترتب على هذا التعريف أنهما يعتبران الخيام والمضارب وما أشبه أحرازاً بالحافظ لا بنفسها, وحجتهما أن العادة جرت بأن تحرز هذه الأشياء بالحافظ, وعلى هذا فإذا نصبت الخيمة وكان فيها حافظ نائم فهى محرزة به, فإن لم يكن فيها نائم وكان فى خارجها من يلاحظها فهى محرزة, وإن لم يكن فيها ولا عندها حافظ فسرق منها شىء فقد سرق من غير حرز, وهذا هو الحكم سواء ضربت الخيمة بين المساكن أو فى مكان بعيد عن العمران (4) .
أما مالك وأبو حنيفة فيعتبران الخيام أحرازاً بنفسها, فإذا ضربت الخيمة فسرق منها شىء ففيه القطع سواء كان هناك حارس أم لم يكن (5) .
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص81 وما بعدها, الإقناع ج10 ص251 وما بعدها.
(2) أسنى المطالب ج4 ص143, نهاية المحتاج ج7 ص429, المغنى ج10 ص251, كشاف القناع ج4 ص81.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص431, أسنى المطالب ج4 ص144.
(4) أسنى المطالب ج4 ص144, كشاف القناع ج4 ص81, المغنى ج10 ص251.
(5) بدائع الصنائع ج7 ص74, شرح الزرقانى ج8 ص99.
(2/560)

وعند الشيعة الزيدية أن الخيام تعتبر حرزاً بنفسها ما دامت مغطاة تحجب ما بداخلها فإذا كانت سماوية وهى التى لا سجاف لها ولا تحجب ما بداخلها فلا يكون حرزاً إلا بالحافظ (1) .
وما يراه الفقهاء فى اعتبار المكان حرزاً لنفسه ولو لم يكن به حافظ يتفق مع ما جاء به القانون المصرى من التشديد فى السرقة من البيوت المسكونة أو المعدة للسكن، فقد شددت العقوبة للسرقة من هذه الأمكنة سواء كان فيها حافظ أم لا, كذلك يتفق القانون المصرى مع ما يراه مالك وأبو حنيفة من أن الحرز لا يختل بفتح الباب أو النقب وإنما يختل بالإذن بدخول الحرز. فلو سرق شخص من بيت منقوب أو مفتوح الباب فقد سرق من بيت مسكون أو معد للسكن, ولكنه لو سرق من مسكن أذن له بدخوله فلا يعتبر التشديد فى هذه الحالة. وما يراه الشافعى وأحمد فى البيوت البعيدة عن العمران يقترب مما جاء به القانون المصرى عن البيوت والمحلات العامة فإنها لا تعتبر من المساكن إلا إذا كان يبيت بها أحد.
ويختلف الفقهاء القائلون بالحرز فى حكم سرقة نفس الحرز, فيرى أبو حنيفة فى حالة سرقة الحرز بالمكان أن سارق الحرز أو بعضه لا يقطع لأن السرقة تقتضى الإخراج من الحرز ونفس الحرز ليس فى الحرز فلا إخراج, فمن سرق باب الدار أو حجارة من حائطها لا يسرق من حرز ولو أنه يسرق نفس الحرز, ومن يسرق فسطاطاً مضروباً وهو حرز بنفسه عند أبى حنيفة لا يقطع لأنه سرق نفس الحرز ولم يسرق من الحرز, بعكس ما لو كان الفسطاط غير مضروب وبجواره شخص يحرسه فإن القطع يجب فيه لأن السرقة تكون من حرز بالحافظ (2) .
أما الأئمة الثلاثة فيرون قطع منم سرق كل الحرز أو بعضه لأن نفس الحرز يعتبر محرزاً بإقامته, فالحائط محرز ببنائه، والباب محرز بتثبيته, والفسطاط وهو
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص372.
(2) بدائع الصنائع ج4 ص74, شرح فتح القدير ج4 ص246.
(2/561)

حرز بنفسه عند مالك يحرز بإقامته, فمن سرق حجارة من الحائط أو سرق باب منزل أو سرق الفسطاط المنصوب قطع فى سرقته (1) .
أما إذا كان المال محرزاً بالحافظ فأخذ الحافظ ومعه المال كسرقة جمل نام عليه راكبه فلا قطع فيها عند الجميع لأن يد الحافظ لم تزل عن الجمل, فإذا استيقظ الحافظ بعد ذلك فالفعل اختلاس إذا أزيلت يده عن الجمل, ويعلل أبو حنيفة المسألة بتعليل آخر وهو أن الجمل محرز بالحافظ فإذا أخذا جميعاً فهو كما لو سرق أجزاء الحرز (2) .
أما إذا أنزل النائم عن الجمل فلم يستيقظ وأخذ الجمل فهى سرقة يقطع فيها عند أبى حنيفة ومالك وأحمد, ولكن الشافعيين اختلفوا فى هذه فرأى بعضهم القطع ولم يره البعض الآخر مع أن تطبيق قواعدهم يقتضى القول بالقطع (3) .
ومذهب الشيعة الزيدية يتفق مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة فهم يرون من سرق نفس الحرز لا يقطع لأنه محرز به على غيره وليس هو فى ذاته محرزاً, فمن سرق الباب لا يقطع فيه إلا إذا كان مكللاً أى مركباً من داخل بحيث يصير داخل الحرز, فإذا سرق فقد سرق من الحرز (4) .
والقائلون بالحرز متفقون على أن الحرز يبطل بالإذن بدخوله, وأن هذا الإذن قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً, إلا أنهم اختلفوا فيما يعتبر إذناً وما لا يعتبر إذناً وفيما يبطل من الحرز وما لا يبطل.
هذه هى آراء الفقهاء فى الحرز واختلافاتهم, ويمكننا أن نستظهر آراء الفقهاء ومدى اختلاف آرائهم فى التطبيقات الآتية:
إذا كان لإنسان منزل فى وسط العمران فأذن لآخر بدخول هذا المنزل فسرق منه شيئاً, فيرى أبو حنيفة أن لا قطع ولو كان فى الدار حافظ يحفظ الشىء
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص99, أسنى المطالب ج4 ص147, المغنى ج10 ص205.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص74, المغنى ج10 ص253, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101.
(3) كشاف القناع ج4 ص81, أسنى المطالب ج4 ص142, بدائع الصنائع ج7 ص73.
(4) شرح الأزهار ج4 ص370.
(2/562)

المسروق أو كان صاحب المنزل يتوسد المسروق أو ينام عليه؛ لأن الدار حرز بنفسها فلا تكون حرزاً بالحافظ وقد خرج من أن يكون حرزاً بالإذن للسارق بدخولها فالأخذ من غير حرز ولا قطع فيه (1) .
ويرى مالك أن الإذن يخرج الدار من أن تكون حرزاً بنفسها ولكنها حرزاً بالحافظ إذا كان هناك حافظ, وإذن فالسرقة من حرز بالحافظ وفيها قطع, ويستوى أن يكون الحافظ للشىء المسروق نائماً أو متيقظاً ما دام الشىء واقعاً تحت بصره (2) .
ويرى الشافعى وأحمد ما يراه مالك من أن الدار تكون حرزاً بالحافظ إذا كان هناك حافظ للشىء المسروق بشرط دوام الملاحظة, على ما بينا فيما سبق, فإن نام الحافظ فلا يعتبر حافظاً للشىء إلا إذا توسد الشىء أو التف به أو لبسه (3) .
ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع رأى مالك وإن كان بعضهم يرى رأى الشافعى وأحمد (4) , ولا خلاف بين القائلين بأن الحرز يكون حرزاً بالحافظ فى أنه لو كان الشىء المسروق بعيداً عن الحافظ ولا يقع بصره عليه فإن السرقة تكون من غير حرز, حيث إن الدار خرجت بالإذن من أن تكون حرزاً بنفسها، ولأن الشىء المسروق لم يكن محرزاً بحافظ, ويمكننا أن نقيس على المثل السابق كل حرز آخر مما يعتبر حرزاً بنفسه.
وإذا أذن إنسان لآخر بدخول منزله البعيد عن العمران, فالحكم عند أبى حنيفة لا يختلف عن الحالة السابقة لأن البيت حرز بنفسه ولا فرق عند أبى حنيفة بين أن يكون داخل العمران أو خارجه, ولأن الحرز يبطل بالإذن عند أبى حنيفة ولو كان فيه حافظ ولأن وجود الحافظ فى حرز بنفسه لا اعتبار
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص73, 74, شرح فتح القدير ج4 ص341.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص101, 104.
(3) أسنى الماطلب ج4 ص142, 147, المغنى ج10 ص250, 251.
(4) شرح الأزهار ج4 ص370.
(2/563)

له. والحكم عند مالك لا يختلف عن الحالة السابقة لأنه لا يفرق بين المنازل الداخلة فى العمران والخارجة عنه, فالبيت حرز بنفسه فى كل حال, وإذا بطل الحرز بالإذن فهو حرز بالحافظ كلما وجد الحافظ. أما عند الشافعى وأحمد فالبيت لا يعتبر أصلاً حرزاً بنفسه لبعده عن العمران, فالإذن بدخوله كعدم الإذن لا أثر له, ولا يقطع فى السرقة من مثل هذا البيت إلا إذا كان ثمة حافظ على التفصيل الذى سبق بيانه عندما تعرضنا للحافظ وللبيوت الخارجة عن العمران. والخلاصة أن البيت البعيد عن العمران لا يعتبر عند الشافعى وأحمد حرزاً بنفسه بأى حال وإنما يعتبر حرزاً بالحافظ إذا وجد الحافظ (1) .
ورأى الشيعة الزيدية فى هذه المسألة يتفق مع رأيهم فى مسألة السابقة لأنهم لا يفرقون بين ما دخل فى العمران وما خرج عنه, وإذا أذن للسارق إذناً خاصاً فى دخول الدار الكائنة فى العمران وكان فيها غرف مقفلة أو خزائن مغلقة فسرق من هذه الغرف المقفلة أو من الخزائن, فيرى أبو حنيفة أن لا قطع على السارق ما دام المكان المسروق منه جزءاً من الدار المأذون فى دخولها لأن الدار الواحدة حرز واحد, والإذن بدخول بعض الحرز هو إذن بالدخول فى الحرز, فإذا سرق من مكان مغلق فقد سرق من مكان مأذون له فى دخوله وقد بطل بالإذن أن يكون حرزاً فالسرقة من غير حرز ولو كان هناك حافظ (2) , ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع رأى أبى حنيفة (3) إلا إذا كان حافظ فيجب القطع.
وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يرى عدم القطع لأن الإذن يبطل الحرز, والثانى يرى القطع, على أن أصحاب الرأى الأول يرون القطع إذا كان ثمة حافظ (4) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص143, كشاف القناع ج4 ص81, نهاية المحتاج ج7 ص429, المغنى ج10 ص251.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص74.
(3) شرح الأزهار ج7 ص372.
(4) شرح الزرقاني, وحاشية الشيبانى ج8 ص103, 104.
(2/564)

أما الشافعى وأحمد فيريان قطع السارق ولو لم يكن هناك حافظ لأن الإذن لا يبطل الحرز فيما هو مغلق ولم يصرح للسارق بدخوله, وعلى هذا فإن الإذن إذا أبطل بعض الحرز فإنه لا يبطل البعض الآخر. ويفرق أحمد فى حالة حصول السرقة من ضيف بينما إذا كان المضيف قد منع قراه أم لا, فإن كان قد منعه قراه فسرقه بقدره فلا قطع عليه وإن لم يمنعه قراه فعليه القطع (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب مالك والشافعي (2) .
أما إذ كانت الدار خارج العمران فلا يختلف الحكم عند أبى حنيفة ومالك والشيعة الزيدية. أما عند الشافعى وأحمد فلا يقطع السارق إلا إذا كان هناك حافظ لأن الدار لا تعتبر عندهما حرزاً بنفسها وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ, وإذا كان المكان المسروق منه معداً لحفظ المال ومما يؤذن للناس بدخوله إذناً عاماً كبيت طبيب يقابل فيه مرضاه أو عالم يحضر فيه الجمهور فسرق السارق من مكان محجور عن العامة وغير مسموح بدخوله فالحكم على التفصيل السابق بيانه فى البيوت المأذون بدخولها إذناً خاصاً. إلا أنهم فى مذهب مالك يرون رأياً واحداً دون خلاف وهو قطع السارق ولو لم يكن حافظ, وينبغى أن نعلم أن ذلك هو حكم السرقة الحاصلة فى وقت الإذن فإن حصلت فى وقت غير مأذون فيه بالدخول فعقوبتها القطع حتى عند أبى حنيفة (3) .
والمحلات العامة التجارية والمحلات المعدة لحفظ المال كالمحلات التجارية والفنادق والمطاعم وما أشبه, إذا سرق منها أثناء العمل فيها أى أثناء الإذن بالدخول فلا قطع فى السرقة فى رأى أبى حنيفة ولو كان على المسروقات حارس, أما إذا كانت السرقة فى وقت غير مأذون فيه بالدخول كأن كانت بعد غلق المحل أو فى الليل ففيها القطع (4) . ويرى مالك والشافعى وأحمد القطع إذا كانت السرقة فى وقت
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص146, المغنى ج10 ص257.
(2) شرح الأزهار ج4 ص372.
(3) نفس المراجع السابقة.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص242, بدائع الصنائع ج7 ص74.
(2/565)

الإذن وكان ثمة حافظ فإذا لم يكن حافظ فلا قطع إلا إذا حصلت فى غير وقت الإذن, ويرى مالك والشافعى القطع فيما يسرق من أفنية المحلات التجارية وقت الإذن ولو لم يكن عليها حافظ خاص لأنها تحفظ عادة بأعين الجيران وملاحظتهم فتعتبر محرزة بالحافظ (1) .
ويعتبر الفقهاء الحمام من المحلات المعدة لحفظ المال فهو حرز بنفسه فإذا سرق منه وقت الإذن بالدخول فلا قطع من السرقة ولو كان هناك حافظ على رأى أبى حنيفة, وفى السرقة القطع إذا كان هناك ثمة حافظ على رأى الشافعى وأحمد, أما مالك فيرى القطع إذا دخل السارق وقت الإذن إذا دخل بقصد السرقة ولو لم يكن هناك حافظ, فإن لم يقصد السرقة ثم سرق قطع إذا كان ثمة حارس (2) .
وإذا كان المحل غير معد لحفظ المال كالمساجد فيرى أبو حنيفة أنه حرز بالحافظ ولا يكون حرزاً بنفسه حتى فيما يلزم بالضرورة لأداء الغرض الذى أنشئ من أجله المحل, فحصر المسجد وقناديله وما فيه من ثريات كهربائية أو ستائر أو بُسُط أو مصاحف كل ذلك إذا سرق فلا قطع فيه إلا إذا كان ثمة حافظ لأن المسجد لم يعد أصلاً لحفظ المال, وإذا دخل أحد المصلين المسجد وترك أمتعته دون ملاحظة فلا قطع فى سرقتها لأنها سرقت من غير حرز, أما إذا كان يلاحظها فسرقت منه ففى السرقة القطع لأأن السرقة من حرز بالحارس, ولقد حاول بعض الحنفيين أن يعلل عدم القطع فى سرقة أدوات المسجد بأنها مال موقوف لا مالك له, ولكن الرأى الراجح أن عدم القطع راجع لانعدام الحرز (3) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص143, 149, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص99, 103, 104, كشاف القناع ج4 ص81 وما بعدها.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص102, 103, أسنى المطالب ج4 ص146, 149, المغنى ج10 ص253, كشا القناع ج4 ص82, بدائع الصنائع ج7 ص74, شرح فتح القدير ج4 ص241, 242.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص276, شرح فتح القدير ج4 ص242, الزيلعى ج3 ص221, بدائع الصنائع ج7 ص74.
(2/566)

ويرى مالك أن المسجد فى أصله ليس حرزاً بنفسه ولكن بناء المسجد نفسه وأدواته المعدة للاستعمال فيه كالحصر والبسط والقناديل كل ذلك يعتبر حرزاً بنفسه, فالحائط يعتبر حرزاً بنفسه, وسقف المسجد حرزاً بنفسه, وقناديله محرزة بنفسها؛ وهكذا, فمن سرق من بناء المسجد أو أدواته المعدة للاستعمال فيه فقد سرق من حرز بنفسه. ولا يشترط أن يخرج بما سرق من باب المسجد بل يكفى أن يزيل الشىء عن مكانه؛ لأن كل شىء يعتبر حرزاً مستقلاً بنفسه, فإذا أزال البساط عن مكانه تمت السرقة دون حاجة لأن يخرج به من الباب, وإذا أزال خشبة من السقف تمت السرقة دون حاجة للخروج من الباب, وهكذا. أما الأموال التى توضع فى المسجد بصفة مؤقتة كملابس المصلين وأحذيتهم وحصير أو سجاد يحضرها أحد المصلين ليصلى عليها هو أو غيره فسرقة هذه وأمثالها لا قطع فيها لأن المسجد لم يعدّ لحفظ المال أصلاً, لكن إذا كان عليها حارس يلاحظها ففيها القطع لأن السرقة تحدث من حرز بالحافظ (1) . ويفرق بعض المالكية فى أدوات المسجد بين المثبت والمسمر منها والمشدود بعضه إلى بعض كالقناديل المسمرة المشدودة بالسلاسل والبلاط المثبت والحصر المسمرة أو المخيط بعضها فى بعض- فهذه فى سرقتها القطع, أما غير المثبت فلا قطع فيه.
وعند الشافعى أن المسجد فى أصله ليس حرزاً بنفسه (2) ولكنه يعتبر حرزاً بنفسه فيما جعل لعمارته كالبناء والسقف ولتحصينه كالأبواب والشبابيك ولزينته كالستائر والقناديل المعدة للزينة، فمن سرق شيئاً مجعولاً للعمارة أو التحصين أو الزينة فقد سرقه من حرز بالمكان. أما ما أعد لانتفاع الناس به كالحصر والبسط والمصاحف والقناديل المعدة للإضاءة فلا قطع فيها ولو كان هناك حافظ ولو أن السرقة من حرز بالحافظ؛ لأن هذه المسروقات جعلت للانتفاع العام وحق السارق فى الانتفاع بها شبهة تدرأ الحد.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8
(2) أسنى المطالب ج4 ص142, نهاية المحتاج ج7 ص428.
(2/567)

هذا إذا كان السارق له حق الانتفاع فإذا لم يكن له حق الانتفاع كذمى مثلاً أو كان المسجد خاصاً لطائفة معينة فالقطع على السارق, وكذلك يقطع السارق بسرقة أمتعة المصلين إذا كان ثمة حافظ لأن السرقة من حزر بالحافظ (1) .
وفى مذهب أحمد رأيان فى السرقة من المسجد أحدهما يتفق مع مذهب الشافعى والثانى يتفق مع مذهب أبى حنيفة (2) . وحجة أصحاب الرأى الثانى أن المسجد لا مالك له من المخلوقين وأنه معد للانتفاع العام فكان الانتفاع شبهة تدرأ الحد سواء اعتبرت السرقة من حرز بنفسه أو حرز بالحافظ.
وعند الشيعة الزيدية أن المسجد يعتبر حرزاً بنفسه لكل أدواته سواء كانت لعمارته أو تحصينه أو تزيينه أو منفعته وليس حرزاً فيما عدا ذلك إلا بالحافظ, فخادم المسجد إذا سرق متاعه فهو مسروق من غير حرز ما لم يكن حافظ, والمصلى إذا سرق متاعه فكذلك (3) . ولا يقر الظاهريون الحرز ولذلك فهم يوجبون قطع من سرق من مسجد باباً كان مغلقاً أو غير مغلق أو حصيراً أو قنديلاً أو شيئاً وضعه صاحبه هنالك ونسيه كان صاحبه معه أو لم يكن (4) .
وحكم المعابد والكنائس كحكم المساجد (5) , ويقاس عليها كل مكان لم يعد لحفظ المال كالكتاتيب والمدارس فيما عدا الأقسام الداخلية لأنها تعد لحفظ المال, وكذلك المقاهى وما أشبه.
وينبغى أن نلاحظ أن الشافعى وأحمد يفرقان بين المحلات الكائنة فى العمران وما هو كائن خارج العمران, وتطبيق هذه القاعدة على المساجد يقتضى القول بأنه لا قطع فى بناء المسجد ولا ما أعد لتحصينه أو عمارته أو زينته إذا كان المسجد خارج العمران إلا إذا كان ثمة حارس على ما سرق من المسجد (6) .
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص425, أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص140.
(2) المغنى ج10 ص254, كشاف القناع ج4 ص83.
(3) شرح الأزهار ج4 ص371.
(4) المحلى ج11 ص329.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص425.
(6) المغنى ج10 ص255.
(2/568)

وإذا كان رجل فى الفلاة أو فى الطريق ومعه حقيبة أو غرارة بها أمتعته أو كان معه سيارة تعطلت أو دابة أو أى شىء آخر وجلس عندها يحفظها فسرقت منه, فالعقوبة قطع السارق عند مالك وأبى حنيفة سواء وقعت السرقة والحافظ نائم أو متيقظ بشرط أن يغافله السارق ويسرق الشىء دون أن يراه؛ فإن رأى السارق وهو يسرق فالفعل اختلاس لا سرقة لأن الأخذ لم يكن خفية ولا قطع فى الاختلاس, أما الشافعى فيرى قطع السارق إذا كان الحافظ متيقظاً فإن نام فلا قطع إلا إذا توسد الغرارة أو نام فوقها (1) .
وإذا سرق الجانى فسطاطاً ملفوقاً وضعه المجنى عليه فى الطريق أو الفلاة وبقى عنده يحفظه فالحكم ما سبق, فإن تركه وحده دون حارس فسرق فالسرقة لا قطع فيها باتفاق لأنها سرقة من غير حرز.
وإذا ضرب الفسطاط ووضعت بداخله أمتعة فسرق منها شىء فيرى مالك وأبو حنيفة القطع فى السرقة لأن الفسطاط حرز بنفسه فإذا سرق منه شىء فهى سرقة من حرز يقطع فيها ولو لم يكن هناك حافظ, أما الشافعى وأحمد فلا يريان القطع إلا إذا كان على الفسطاط حافظ لأنه ليس حرزاً بنفسه فى رأيهما (2) .
وإذا سرق السارق نفس الفسطاط المضروب فلا قطع عليه عند أبى حنيفة لأنه سرق نفس الحرز, وسرقة الحرز عنده لا قطع فيها, وعلى السارق القطع عند مالك لأن الحرز محرز بإقامته, أما الشافعى وأحمد فيريان القطع فى سرقة الحرز كمالك ولكنهما يشترطان فى سرقة الفسطاط نفسه أن يكون هناك حافظ لأنهما لا يعتبرانه حرزاً بنفسه كما يعتبره مالك وأبو حنيفة.
ومن هذا القبيل سرقة باب الدار وبعض أجزاء حائطها, فيرى أبو حنيفة
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص74, أسنى المطالب ج4 ص141, 142, شرح الزرقانى ج8 ص101, المغنى ج10 ص251.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص99, بدائع الصنائع ج7 ص74, أسنى المطالب ج4 ص144, كشاف القناع ج4 ص81.
(2/569)

أن الباب إذا كان مركباً فهو جزء من الحرز كالحائط, فإذا سرق الباب أو بعض الحائط سارق فقد سرق نفس الحرز ونفس الحرز ليس فى الحرز فكأنه سرق من غير حرز ولا قطع فى سرقته. أما إذا كان الباب غير مركب وموضوعاً داخل الحرز فإن سرقته تكون من حرز وفيه القطع, وكذلك الحال فى بعض أجزاء الحائط لو كانت داخل الحرز بغض النظر عما إذا كان الباب مفتوحاً أو الحائط منقوباً لأن فتح الباب والنقب لا يبطل الحرز فى رأى أبى حنيفة. أما الأئمة الثلاثة فيرون أن سرقة الباب وبعض أجزاء الحائط سرقة من حرز يقطع فيه لأنها تعتبر محرزة بإقامتها وتثبيتها, فالحائط محرز بإقامته والباب محرز بتركيبه وحلقة الباب محرزة بتسميرها وهكذا. أما إذا كان الباب مخلوعاً وموجوداً داخل الحرز وكذلك بعض أجزاء الحائط ففيها القطع أيضاً عند مالك لأن الحرز لا يبطل عنده بالنقب وفتح الباب, أما عند الشافعى وأحمد فلا قطع إذا لم يكن هناك باب أو كان هناك باب وكان هناك نقب أو هدم فى الحائط ما لم يكن حافظ فإن كان حافظ ففى السرقة القطع (1) .
ولا خلاف بين الفقهاء فى أن الإنسان يعتبر حرزاً لكل ما يلبسه أو يحمله من نقود أو غيرها, أو بتعبير آخر يعتبر كل ما يلبسه الإنسان أو يحمله من نقود وغيرها محرزاً بحافظ وهو الإنسان.
فمن نشل من آخر نقوداً كانت فى جيبه أو فى ثيابه قطع بالسرقة (2) ، ويعبر عن النشال بالطراز. والنشل الذى يحدث خفية هو الذى فيه القطع أما ما يحدث والمجنى عليه منتبه له فهو اختلاس، ويستوى أن يقطع النشال ملابس المجنى عليه أو يدخل يده فيها فيأخذ النقود (3) .
_________
(1) المغنى ج10 ص255, أسنى المطالب ج4 ص140, 144, 147, شرح الزرقانى ج8 ص99, 102, 105, 106, بدائع الصنائع ج7 ص74, كشاف القناع ج4 ص81, شرح فتح القدير ج4 ص223.
(2) المدونة ج16 ص80، أسنى المطالب ج4 ص142، المغنى ج10 ص260.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص245، بدائع الصنائع ج7 ص76.
(2/570)

وإن سرق من القطار بعيراً أو حملاً لم يقطع لأنه ليس بحرز مقصود فتمكن فيه شبهة العدم لأن السائق والراكب والقائد يقصدون المسافات ونقل الأمتعة ولا يقصدون الحفظ، فإن كان مع الأحمال من يثبتها للحفظ قطع ولكن إذا شق الحمل وأخذ منه قطع لأن الجوالق فى مثل هذه الحالة حرز بنفسه لأنه معد لحفظ الأمتعة (1) .
وعند الأئمة الثلاثة كل من الراكب والسائق حافظ حرز فيقطع فى أخذ الجمل والحمل والجوالق والشق ثم الأخذ، وأما القائد فحافظ للجمل الذى بيده فقط عندنا (أى عند أبى حنيفة) ، وعندهم إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها حافظ للكل فالكل محرزة عندهم بقوده ... وإذا كانت غرارة على ظهر دابة فشقها إنسان وأخرج ما فيها من متاع قطع عند أبى حنيفة لأن الغرارة حرز لما فيها، وإن أخذها بحالها دون أن يشقها لم يقطع لأنه أخذ نفس الحرز، وكذلك إذا كانت الغرارة محملة على جمل فسرق الجمل ومعه الغرارة لأن الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ وإنما للحمل وحتى إذا ركب الجمل صاحبه فإن الغرارة لا تعتبر محرزة بحافظ لأنها حرز بنفسها فإذا أخذها السارق فقد أخذ نفس الحرز (2) ، أما إذا سرق الجمل وراكبه فلا يقطع لأن يد الحافظ لم تزل عن المسروق، ويرى أن ظهر الدابة يعتبر حرزاً للغرارة فإذا أخذ الغرارة كلها أو شقها فأخذ منها فعليه القطع، وكذلك لو سرق الدابة وعليها الغرارة ما دامت الدابة فى حرز مثلها (3) ، كأن كانت باركة فى مراح أو سائرة فى قطار (4) .
أما الشافعى وأحمد فلا يعتبران الغرارة محرزة بنفسها وتعتبر أنها محرزة بالحافظ، فإذا سرق شخص الغرارة أو شقها فأخذ منها قُطع بسرقته إذا كان هناك حافظ، وكذلك إذا سرق الجمل بما عليه إن كان ثمة حارس، فإن كان
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص246.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص74.
(3) المدونة ج16 ص79، 80.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص99، 100، 102.
(2/571)

الحافظ راكباً الجمل فلا قطع (1) ؛ لأن يد الحافظ لم تزل عن المسروقات (2) .
ومذهب الشيعة فى هذه المسألة كمذهب أحمد والشافعى لأنهم يعتبرون الجوالق حرزاً بالحارس (3) .
وإذا سرق الجانى بعيراً أو شاة أو بقرة من المرعى لم يقطع عند أبى حنيفة سواء كان الراعى معها أم لم يكن، أما إذا سرقها من المراح التى تأوى إليه فيقطع سواء كان معها حافظ أم لا؛ لأن المراح حرز بنفسه، وحجة أبى حنيفة أن المرعى لا يعتبر حرزاً بنفسه ولا يعتبر حرزاً بالحافظ ولو أن الراعى موجود لأنه يوجد للرعى لا للحراسة وإن كانت الحراسة تحدث فعلاً بوجوده بخلاف المراح فإنه أعد لحفظ المال وخصص لهذا الغرض، ويشترط أبو حنيفة لاعتبار المراح أو الحظيرة حرزاً بنفسه أن تكون مسورة وعليها باب (4) .
ويرى مالك ما يراه أبو حنيفة فى سرقة الدواب والماشية فى المرعى فلا قطع فى سرقتها مع وجود الراعى، أما إذا سرقت من المراح أو الحظيرة ففى سرقتها القطع، وإذا سرقت فيما بين المرعى والمراح مع وجود الحافظ فالبعض يرى القطع والبعض لا يراه.
والإبل المقطرة عند مالك تقطع فى سرقتها أو نازلة مجتمعة أو مقطرة (5) .
ولا يشترط عند مالك أن يكون المراح أو الحظيرة مسورة أو لها باب بل يكفى أن يعد المكان مراحاً أو موقفاً للدواب (6) .
ويرى الشافعى أن السائمة من إبل وخيل وبغال وحمير وغيرها تحرز فى المرعى بملاحظة الراعى لها بأن يراها ويبلغها صوته فإن نام عنها أو غفل عنها
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص82.
(2) المغنى ج10 ص253، أسنى المطالب ج4 ص142، 144.
(3) شرح الأزهار ج4 ص371.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص74، شرح فتح القدير ج4 ص246.
(5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101، 102.
(6) شرح الزرقانى ج8 ص100، المدونة ج16 ص79.
(2/572)

فغير محرزة، وإن استتر بعضها عنه فغير محرزة، ويرى البعض أنه يكفى أن يبلغها النظر ولو لم يبلغها الصوت، وتحرز السائمة فى المراح بالمراح المسور والمغلق بابه سواء كان السور حطباً أم قصباً أم حشيشاً أم غير ذلك بحسب العادة. فإن كان المراح مفتوحاً أو خارج العمران فحرز بحارس وتحرز الدواب السائرة بسائق لها يراها كلها أو قائد لها يراها كلها على أن يكثر الالتفات أو بقيادة بعضها وسوق البعض الآخر، فإن لم ير بعضها فهو غير محرز (1) .
ويرى أحمد ما يراه الشافعي (2) ويزيد عليه أن الإبل تحرز وهى باركة إذا عقلت وكان معها حافظ ولو نام الحافظ لأن العادة أن صاحب الإبل يعقلها إذا نام، وإن لم تعقل الإبل وكانت الإبل باركة والحافظ ينظر إليها بحيث يراها فهى محرزة، فإذا نام أو انشغل عنها فهى غير محرزة.
والثمار المعلقة فى أشجارها والزرع غير المحصود لا قطع فى سرقتها إذا سرقت وهى معلقة أى قبل الجنى والحصد، وكذلك لا قطع فيها بعد جنيها أو حصدها ما لم تنقل إلى الجرن، وهذا متفق عليه بين الفقهاء ولا يخالف فيه إلا الظاهريون حيث يرون القطع فى الثمار والزرع معلقاً أو غير معلق (3) ، ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى الثمار والزرع ولو كانت محاطة بسور أو حائط. ولكن مالكاً والشافعى وأحمد يرون قطع من سرق ثمراً من شجرة نابتة فى دار محرزة لأن السرقة تعتبر مما هو محرز بالدار. وفى مذهب مالك يرى أصحابه قطع من يسرق ثمراً من بستان مسور له غلق. والشافعيون يرون القطع فى هذه الحالة إن كان ثمة حارس كما يرون أن أشجار أفنية الدور محرزة بلا حارس.
فإذا قطع الثمر أو حصد الزرع فلا قطع فيه إلا إذا وضع فى الجرن. على
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص144، 145.
(2) المغنى ج10 ص252، كشاف القناع ج4 ص82.
(3) المحلى ج11 ص332، المهذب ج2 ص295، أسنى المطالب ج4 ص144، بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح الزرقانى ج8 ص100، 105، شرح الأزهار ج4 ص399.
(2/573)

أن بعض المالكيين يرون القطع فيما يسرق قبل النقل للجرن إذا كوم أو كدس أكداساً بعضها إلى بعض حتى يصير كالشىء الواحد، لأنه يصير فى حالة تتفق مع حالته فى الجرن. كما يرون القطع فى السرقة أثناء النقل إلى الجرن إذا كان ثمة حافظ.
وإذا وضعت الثمار والزروع فى الجرن ففى سرقتها عند مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية سواء كان هناك حافظ أم لا، ما دام الجرن داخل العمران، فإن كان الجررن خارج العمران فلا يجب القطع عند الشافعى وأحمد إلا إذا كان ثمة حارس، ويستوى أن يكون الثمر أو الزرع قد استحكم جفافه أم لا. ولكن أبا حنيفة لا يقطع فيما سرق من الجرن إلا إذا كان الثمر أو المحصول المسروق منه قد استحكم جفافه لأنه يلحق ما لم يستحكم جفافه بالتافه ولا قطع عنده فى تافه.
وإذا كان الإذن بالدخول يبطل الحرز فى حق المأذون له على الوجه الذى سبق بيانه فتطبيقاً لذلك لا يقطع الخدم فى سرقة أموال مخدوميهم، ولا الضيوف فى سرقة أموال من أضافوهم، ولا الأجير إذا سرق من موضع مأذون له فى دخوله، ويقاس على هؤلاء كل من أذن له بدخول الحرز، لأن الإذن بالدخول يخرج الموضع المأذون فى دخوله من أن يكون حرزاً. وإذا أذن لشخص بأخذ شىء من الحرز ولم يؤذن له فى دخول الحرز فدخله وأخذ الشىء المأذون فى أخذه وسرق شيئاً آخر فلا قطع عليه لأن الإذن بأخذ المتاع يتضمن الإذن بالدخول فى الحرز والإذن بدخول الحرز يبطله فى حق المأذون له، فلا يشترط إذن أن يكون الإذن بالدخول صريحاً بل يكفى أن يكون ضمنياً، ويراعى فيما سبق الخلافات التى سبق عرضها بين الفقهاء فى حالة ما إذا سرق المأذون له من محل مغلق (1) .
ويعتبر السارق مأذوناً له بدخول الحرز إذا كان له حق الانتفاع به كالمستأجر
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص74، 75، شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص103، 104، أسنى المطالب ج4 ص146، 149، المغنى ج10 ص253، 257، كشاف القناع ج4 ص84، شرح الأزهار ج4 ص372، المدونة ج16 ص72، 75.
(2/574)

والمرتهن والمستعير، فإذا سرق المستأجر مالاً لمؤجر من الدار المؤجرة، أو سرق الدائن المرتهن مالاً لمدين من العين المرهونة، أو سرق المستعير شيئاً للمعير من الدار المعارة، فلا قطع على أحدهم لأن لهم حق الانتفاع بالحرز واستعمال هذا الحق يقتضى دخول الحرز.
أما المالك للحرز فلا يعتبر مأذوناً له بدخوله إذا كان حق الانتفاع لغيره، ولذلك يقطع إذا سرق مالاً من الحرز للمنتفع، فالمؤجر إذا سرق مالاً للمستأجر من الدار المؤجرة والمدين إذا سرق مالاً للمرتهن من الدار المرهونة يقطع كل منهما بسرقته، وهذا ما يراه أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد والشيعة, ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان عدم القطع لأن الحرز ملك السارق فهناك شبهة فى إباحة الدخول والشبهة تدرأ الحد (1) . ويقطع المعير إذا سرق مالاً للمستعير من الحرز المعار, وبهذا قال الشافعى وأحمد, ولكن أبا حنيفة والشيعة الزيدية يرون أن لا قطع على المعير؛ لأن المنفعة ملك له وله الرجوع فى العارية متى شاء فيعتبر دخوله فى الحرز رجوعًا وتكون السرقة من غير حرز (2) .
ويعتبر المالك للحرز مأذونًا له بدخول الحرز إذا كان مغصوبًا منه, فمن غصب شخصًا داره ثم أحرز فيها مالاً فجاء صاحب الدار وسرق ما فيها من مال فلا تعتبر السرقة من حرز لأن الغصب لم يسلب المالك حقه فى ملكية الحرز (3) . كذلك لو كانت الدار مستأجرة أو مرتهنة أو معارة فانتهت الإجارة أو الرهن أو العارية ورفض المنتفع رد الدار أو أهمل الرد (4) مع تمكنه من ذلك, ففى هذه الحالة يكون المنتفع فى حكم الغاصب (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص75.
(2) المغنى ج 10 ص 256, أسنى المطالب ج 4 ص 138, شرح الأزهار ج4 ص372, مواهب الجليل ج6 ص307, نهاية المحتاج ج7ص434.
(3) المغنى ج10 ص257.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص435, شرح الأزهار ج4 ص372.
(5) أسنى المطالب ج7 ص75.
(2/575)

610- السرقات من الأقارب: وفى مذهب أبى حنيفة لا قطع على من سرق من ذى رحم محرم؛ لأنهم يدخل بعضهم على بعض دون إذن عادة فكان هناك إذن ضمنى بالدخول فتكون السرقة من غير حرز, فضلاً عن أن القطع بسبب السرقة يفضى إلى قطع الرحم وذلك حرام, والقاعدة أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام (1) .
أما من سرق من ذى رحم غير محرم فيقطع بسرقته؛ لأنهم لا يدخل بعضهم على بعض عادة دون استئذان فليس هناك إذن صريح ولا ضمنى بالدخول. والسرقة من محرم غير ذى رحم كالأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة مختلف عليها فى المذهب، فأبو حنيفة ومحمد يريان القطع فيها, وأبو يوسف لا يرى القطع فى حال السرقة من الأم ويقطع فيما عدا ذلك, وحجته أن الإنسان يدخل بيت أمه من الرضاع دون إذن عادة فهناك إذن ضمنى بالدخول (2) .
ومن سرق من امرأة أبيه أو زوج أمه أو حليلة ابنه أو من ابن امرأته أو أمها فلا قطع عليه إن كانت السرقة من منزل من يضاف إليه السارق من أبيه أو أمه أو ابنه أو امرأته لأنه مأذون له بالدخول فى منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزًا فى حقه. وإن سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع, وإن كان لكل واحد منهما منزل على حدة فيرى أبو حنيفة أن لا قطع, ويرى أبو يوسف ومحمد القطع, وحجة أبى حنيفة أن حق التزاور ثابت بين السارق وبين قريبه وكون المنزل لغير قريبه لا يمنع من أن له زيارة قريبه, وهذا يورث شبهة إباحة الدخول فيختل الحرز (3) .
هذا هو حكم السرقة من الأقارب فى مذهب أبى حنيفة. أما الشافعى وأحمد فعندهما أن الولد لا يُقطع بسرقة مال ولده وإن سفل, وسواء فى ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قِبَل الأب والأم؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص75.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص75. أسنى المطالب ج4 ص140, المغنى ج10 ص284, 286.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص98.
(2/576)

"أنت ومالك لأبيك", ولقوله: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه", وفى لفظ: "فكلوا من كسب أولادكم". ولا يقطع الابن عندهما بسرقة مال والده وإن علا لأن النفقة تجب من مال الأب لابنه حفظًا له فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال. فأما سائر الأقارب كالإخوة والأخوات ومن عندهم فيقطع بسرقة مالهم ويقطعون بسرقة ماله (1) .
ويرى مالك أن لا قطع على الأصول إذا سرقوا من الفروع, فلا قطع على الجد والجدة لأب أو لأم والأب والأم إذا سرقوا من أحفادهم أو أبنائهم. ولكن إذا سرق الفروع من الأصول قطعوا بسرقتهم, فلا يعفى مالك من القطع للقرابة إلا الأصول لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (2) , ويرى بعض الشيعة الزيدية رأى مالك ويرى البعض أن لا قطع على الأصول إذا سرقوا من الفروع ولا على الفروع إذا سرقوا من الأصول ولا قطع بين ذوى الأرحام المحارم (3) .
أما الظاهريون فيرون قطع الأصول إذا سرقوا من الفروع وقطع الفروع إذا سرقوا من الأصول ولا يسقطون القطع بالقرابة, ويرون أن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك" منسوخ بآيات المواريث (4) .
وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر فيرى مالك قطع السارق منهما إذا سرق مالاً محجورًا عنه أى محرزًا فى مكانه مغلقًا لا يسمح له بدخوله, فإذا سرق من مال لم يحجر عنه فلا قطع عليه, ويستوى أن يكون المال المحجور عنه فى نفس المنزل الذى يقيمان فيه أو فى غيره (5) . ويرى أبو حنيفة أن لا قطع على أحد الزوجين فى سرقة مال الآخر سواء سرق من البيت الذى يقيمان فيه أم من بيت
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص375.
(2) المحلى ج11 ص343, 347.

(3)
(4)
(5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص 100.
(2/577)

آخر؛ لأن كلاً من الزوجين مأذون له بدخول منزل صاحبه كما أنه ينتفع بماله عادة وهذا يوجب خللاً فى الحرز (1) . وفى مذهب الشافعى ثلاثة آراء, أحدها كرأى مالك, والثانى كرأى أبى حنيفة, والثالث يرى أصحابه قطع الزوج إذا سرق مالاً محجورًا عنه من مال الزوجة ولا يرى قطع الزوجة إذا سرقت ما حجر عنها من مال الزوج, وحجتهم أن للزوجة حقًا فى مال الزوج لأنه ملزم بالإنفاق عليها وليس الزوج كذلك (2) . والرأى الأول هو الراحج فى المذهب (3) . وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أبى حنيفة (4) . ومذهب الشيعة الزيدية فيه الرأيان: رأى مالك وأبى حنيفة (5) . أما الظاهريون فيرون القطع على كل واحد من الزوجين إذا سرق من مال صاحبه ما لم يبح له أخذه سواء كان محرزًا عنه أو غير محرز؛ لأن الظاهريين لا يعترفون بالحرز, أما إذا كان المأخوذ مباحًا أخذه كنفقة الزوجة أو طعامها أو كسوتها فلا قطع فيه (6) .
وهذا هو حكم السرقة بين الزوجين ما دامت السرقة قد وقعت والزوجية قائمة, ولا عبرة بالدخول, فلو حدث الطلاق قبل الدخول فلا قطع فيما يقع من سرقات بين الزوجين من وقت الزواج إلى وقت الطلاق لأن الزوجية كانت قائمة وقت السرقة, أما ما يقع بعد الطلاق ففيه القطع لأن غير المدخول بها لا عدة لها لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] , وإذا كانت السرقة فى عده الطلاق الرجعى فلا قطع أيضًا لأن الزوجية تظل قائمة حتى تنتهى العدة, أما السرقة فى عدة الطلاق البائن ففيها القطع. ولكن أبا حنيفة لا يرى القطع إذا وقعت السرقة فى عدة الطلاق البائن؛ لأن النكاح فى حال العدة قائم من وجه كما أن أثره قائم وهو العدة, وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 75.
(2) المذهب ج2 ص 299.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص 424, أسنى المطالب ج4 ص141.
(4) المغنى ج10 ص 287.
(5) شرح الأزهار ج4 ص 376.
(6) شرح الأزهار ج4 ص376.
(2/578)

أو قيام أثره يورث الشبهة والحدود تدرأ الشبهات (1) .
وإذا كانت السرقة بعد انتهاء العدة ففيها القطع بلا خلاف, وقيام الزوجية بعد السرقة لا أثر له على السرقة التى وقعت قبلها فيقطع السارق فيها, ولا يخالف فى هذا إلا الحنفية فإنهم يرون أن الزواج إذا حصل قبل الحكم فى الجريمة لم يحكم فيها بالقطع لأن الزواج مانع طرأ على الحد والمانع الطارئ عند الحنفية له حكم المانع المقارن إذا أدى لإسقاط الحد. ويرى أبو حنيفة أن الزواج إذا حصل بعد الحكم وقبل تنفيذ العقوبة لم يقطع, وحجته أن الإمضاء فى باب الحدود من تمام القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الإمضاء كالمعترضة على القضاء, وكان الطارئ على الحدود قبل الإمضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء. ولكن أبا يوسف يرى فى هذه الحالة عدم سقوط حكم القطع بالزواج لأن المانع من القطع فى حالة الزوجية هو شبهة عدم الحرز, فإذا اعتبرت الزوجية الطارئة شبهة مانعة من القطع لكان معنى ذلك اعتبار الشبهة وهى ساقطة فى باب الحدود (2) .
واختلف فى مذهب أبى حنيفة فيما إذا كان الحرز المعتبر للشيء المسروق هو حرز مثله أو حرز نوعه, فرأى البعض أن يعتبر فى الشيء حرز المثل؛ فالإسطبل مثلاً حرز الدابة والحظيرة حرز الشاة والبيوت والخزائن حرز النقود والجواهر, ورأى البعض أن ما كان حرز النوع جاز أن يكون حرزًا للأنواع كلها؛ فالإسطبل مثلاً حرز للدابة فيجوز أن يكون حرزًا للنقود أو الجواهر (3) .
ولكن الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية يرون هذه المسألة للعرف ويرون أن حرز الشيء هو ما جرت العادة بحفظه فيه وما لا يعتبر صاحبه مضيعًا, والمرجع فى تعيين ذلك للعرف, فرأيهم إذن يتفق مع الرأى الأول فى مذهب أبى حنيفة (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 76.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 76, شرح فتح القدير ج4 ص 240.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص76, شرح فتح القدير ج4 ص242.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص98, أسنى المطالب ج4 ص101, المغنى ج10 ص250, شرح الأزهار ج4 ص 270.
(2/579)

ولهذا المبحث أهمية كبرى ذلك أن القطع لا يجب إلا فى سرقة من حرز فإذا قلنا بأن الحرز حرز المثل امتنع مثلاً القطع فى سرقة الجواهر من الإصطبل أو الجرن وسرقة الأقمشة من حظيرة الشاة لأن الإصطبل والجرن والحظيرة لا يعتبر أيهم حرز لهذه الأشياء فكانت السرقة واقعة على مال غير محرز وإذا قلنا: إن حرز نوع معين هو حرز لباقى الأنواع وجب القطع فى هذه السرقات لأنها واقعة على مال محرز.
611- رابعًا: أن يبلغ المال المسروق نصابًا: الأصل فى شرط النصاب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أثر من فعله, فقد روى ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قطع فى مجن ثمنه ثلاثة دراهم أو قيمته ثلاثة دراهم على رواية, رواه الجماعة. وعن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا" رواه أحمد ومسلم والنسائى وابن ماجه, وفى رواية قال: "تقطع يد السارق فى ربع دينار" رواه البخارى والنسائى وأبو داود, وفى رواية: "تقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا" رواة البخاري, وفى رواية قال: "اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك", وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنا عشر درهمًا, رواه أحمد. وفى رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. رواة النسائى. وعن أبى هريرة
(2/580)

أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده" (1) .
وجمهور الفقهاء على اشتراط النصاب بوجوب القطع فى السرقة إلا ما روى عن الحسن البصرى وداود وما عرف عن الخوارج من وجوب القطع فى سرقة القليل والكثير, وحجتهم إطلاق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة:38] , كما استدلوا بحديث أبى هريرة: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده". ولكن جمهور الفقهاء يرون أن إطلاق الآية مقيد بأحاديث الرسول التى سبق ذكرها, ويرون أن حديث أبى هريرة أريد به تحقير شأن السارق والتنفير من السرقة (2) .
وإذا كان جمهور الفقهاء يشترط النصاب فى القطع إلا أنهم اختلفوا فى تحديد مقدار هذا النصاب, فيرى مالك أن القطع يجب فى ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب, فإذا كان المسروق من غير الذهب أو الفضة قُوم بالدراهم لا بالذهب إذا اختلفت قيمة الثلاثة دراهم مع الربع دينار ولاختلاف الصرف مثل: أن يكون الربع فى وقت درهمين ونصفًا, فإذا ساوى المسروق ثلاثة دراهم قطع وإن لم يساو ربع دينار, وإن ساوى ربع دينار ولم يساو ثلاثة دراهم لم يقطع (3) .
فالقاعدة عند مالك أن كل واحد من الذهب والفضة معتبر بنفسه, وقد روى عنه بعض البغداديين أنه ينظر فى تقديم العروض إلى الغالب فى نقود أهل البلد, فإذا كان الغالب دراهم قومت بالدراهم وإن كان الغالب الدنانير قومت بالدنانير, والمشهور هو الرأى الأول.
ويرى الشافعى أن القطع يجب فى ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب كما يرى مالك, ولكن الشافعى يرى أن الأصل فى تقويم الأشياء هو الذهب فالربع دينار أصل للدراهم ومن ثم فلا يقطع عنده إلا فيما يساوى ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار, وإذا كانت السرقة من غير الذهب قومت بالذهب (4) .
وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: أن النصاب الذى يقطع فيه هو ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما, وهذا هو مشهور مذهب مالك. الثانية: أن النصاب الذى يقطع فيه هو ربع
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص36 وما بعدها.
(2) نيل الأوطار ج7 ص36, 39, بداية المجتهد ج2 ص 373.
(3) حاشية الشيبانى ج8 ص 94.
(4) المهذب ج2 ص 294, نهاية المحتاج ص419.
(2/581)

دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الوَرِق أى الفضة, فإذا سرق السارق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع, فإذا اختلفت قيمة الربع دينار مع الثلاثة دراهم قطع إذا بلغ المسروق أقل القيمتين (1) .
ويرى أبو حنيفة أن النصاب الذى يقطع فيه هو عشرة دراهم تساوى دينارًا, فلا قطع عنده فى أقل من عشرة دراهم, وحجته ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يقطع إلا فى ثمن مجن وهو يومئذ يساوى عشرة دراهم, وفى رواية أخرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم", وعن ابن مسعود أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقطع اليد إلا فى دينار أو عشرة دراهم", وما روى عن ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقطع السارق إلا فى ثمن المجن", وكان يقوم يومئذ بعشرة دراهم.
ويرى الحنفية أن الإجماع منعقد على القطع فى عشرة دراهم, وفيما دون العشرة اختلف الفقهاء لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال فى وجوب القطع ولا يجب القطع مع الاحتمال (2) .
ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع المذهب الحنفى (3) , ويرى ابن حزم من فقهاء المذهب الظاهرى أن نصاب السرقة الذى يقطع فيه اليد هو ربع دينار إذا كان المسروق ذهبًا, فإذا كان المسروق مما سوى الذهب فالقطع إنما يجب فى سرقة ما يساوى ثمن مجن أو ترس قل? ذلك أو كَثُرَ دون تحديد, ولم يحاول ابن حزم أن يبين قيمة المجن أو الترس لما روى عن عائشة من أن يد السارق لم تكن تقطع على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى أدنى من ثمن مجن أو ترس كل واحد منهما يومئذ ذو ثمن وأن يد السارق لم تكن تقطع على عهد الرسول فى الشيء التافه.
أما إذا كانت قيمة المسروق أقل من ثمن المجن أو الترس فلا قطع فيه أصلاً لأن ذلك هو التافه (4) .
_________
(1) المغنى ج10 ص242, كشاف القناع ج4 ص78.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 77.
(3) شرح الأزهار ج4 ص 364.
(4) المحلى ج11 ص 350, 353.
(2/582)

ويلاحظ أن صاحب نيل الأوطار ذكر أن ابن حزم يرى القطع إذا كان المسروق ربع دينار من الذهب ويرى القطع فى غيره إلا فى القليل أو الكثير بحجة أن التحديد فى الذهب منصوص ولم يوجد نص فى غيره, وهذا الذى قاله مؤلف نيل الأوطار لا يتفق مع ما صرح به ابن حزم فى المحلى (1) .
وهناك آراء أخرى فى النصاب لفقهاء آخرين, لا توجب القطع إلا فى أربعة دنانير أو أربعين درهمًا, ويرى البعض القطع فى درهمين, وهناك من يرى القطع فى أربعة دراهم, ومن يراه فى ثلث دينار وهو مذهب الباقر, ومن يراه فى خمسة دراهم (2) .
وإذا كان النصاب شرطًا فى القطع فلا قطع إذا قلت قيمة المسروق عن النصاب, فإذا دخل السارق دارًا فأخرج منها أقل من النصاب فلا قطع عليه وإذا أخرج درهمًا أو ما قيمته جميعًا درهم إلى صحن الدار ثم عاد فأخرج مثله وهكذا حتى أخرج النصاب أو قيمه النصاب ثم خرج بها جميعًا من صحن الدار فأنه يقطع فيها ولو أنه أخرج النصاب إلى صحن الدار مجزءًا لأن ما حدث منه يعتبر سرقه واحده إذ الدار وصحنها حرز واحد, وما دام المسروق فى صحن الدار هو لم يخرج من الحرز, فإذا أخرجه من الصحن إلى الخارج فقد أخرجه من الحرز وتمت السرقة ما لم تكن الدار مكونة من عده بيوت مستقلة والصحن مشترك لها جميعًا, فإن الإخراج إلى الصحن يعتبر إخراجًا من الحرز ولو لم يخرج السارق بالمسروقات إلى خارج الدار إذ كل بيت مستقل يعتبر حرزًا وحده (3) .
وإذا أخرج المسروق من بيت مستقل فى الدار إلى صحنها المشترك مرة واحدة وكان يبلغ نصابًا فالحكم هو ما سبق؛ لأن السرقة تعتبر تامة بالإخراج إلى صحن الدار مع ملاحظة الفرق بين من يعتبرون بطلان الحرز بفتح الباب ومن
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص36, 39, المحلى ج11 ص 252.
(2) نيل الأوطار ج7 ص 28, 29, بداية الجتهد ج2 ص 373, 374.
(3) نيل الأوطار ج7 ص 28, 29, بدايه المجتهد ج2 ص 373, 374.
(2/583)

لا يعتبرون, فعند من يرى الإبطال أنه قطع إذا أخرج المتاع إلى صحن الدار من بيت مفتوح لأن المال ليس محرزً, فإن كان البيت مقفلاً وباب الدار مفتوح قطع لأنه أخرجه من حرزه إلى محل الضياع (1) , أما إذا أخرج المسروق من بيت مستقل فى الدار إلى صحنها المشترك أو أخرجه من الدار غير المشتركة إلى خارجها وكان الإخراج على دفعات وكل دفعه تقل عن النصاب فالحكم مختلف عند الفقهاء, وقد بسطناه بمناسبة الكلام على إبطال الحرز (2) .
وإذا دخل جماعة دارًا فأخرجوا المتاع منها دفعة واحدة إلى صحن الدار المشترك أو إلى خارج الدار فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان هناك تعاون على الإخراج أو اشتراك فيه, وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك مفصلاً, أما إذا أخرجوا المتاع مجزءًا على دفعات فتطبق عليهم قواعد الإخراج على دفعات مع قاعدة التعاون والاشتراك, وإذا سرق شخص واحد نصابًا واحدًا من حرزين مختلفين فلا قطع عليه لأنهما سرقتان مختلفتان وكل واحد من المنزلين حرز مستقل, ويشترط القطع فى كل سرقة أن يخرج عن كل حرز نصابًا كاملاً.
ولو سرق شخص نصابًا يملكه عده أشخاص قطع به ولا عبرة بعدد المجنى عليهم, وكذلك الحكم لو كان المجنى عليهم فى دار واحدة كل منهم فى بيت من بيوتها لأن الدار حرز واحد, أما إذا كانت البيوت مستقلة اعتبر كل بيت حرزًا مستقلاً ولم يقطع الجاني (3) .
ولكن بعض الشيعة الزيدية يرون القطع فى هذه الحالة إذا بلغت قيمة الجزء الذى أخرج نصابًا (4) , وإذا أخرج السارق بعض المسروقات من الحرز دون البعض الآخر وكان المسروق شيئًا واحدًا, كخشبة أو صندوق أو ما أشبه فلا قطع عليه ولو كانت قيمة ما خرج من المسروقات تزيد على النصاب لأن بعض المسروق
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص 149, المغنى ج10 ص260.
(2) راجع ص501.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص77, أسنى المطالب ج4 ص 137, 138, شرح الزرقانى ج8 ص 92, 94, المغنى ج10 ص 241.
(4) شرح الأزهار ج4 ص367.
(2/584)

لا ينفرد عن بعض, ولأنه لم يتم إخراجه (1) , ولو وجد المسروق على هذا الوجه فأخرجه فلا قطع عليه لأن المسروق بهذا الوجه لا يعتبر محرزًا, ولأنه كما يقال إنه فى الحرز يقال أنه خارج الحرز (2) .
ومن يبطلون الحرز بفتح الباب والنقب لا يعتبرون الأخذ من حرز فى هذه الحالة إذا كان الشيء خارجًا من باب أو ثقب, ويستوى أن تكون المسروقات مجتمعة أو متفرقة داخل الحرز ما دام الحرز واحدًا, والعبرة بما يخرجه السارق من الحرز فإن كان أقل من نصاب فلا قطع وإن كان أكثر من نصاب قطع به على التفصيل السابق.
وإذا نقصت قيمة المسروق بهلاك بعضه فى يد السارق بعد الخروج به من الحرز فالعبرة اتفاقًا بقيمته وقت السرقة, أما إذا كان سبب النقصان نزول السعر فقد اختلفوا فى مذهب أبى حنيفة, فيرى البعض اعتبار القيمة وقت الحكم أما الزيادة فغير معتبرة, ويرى البعض اعتبار القيمة وقت الإخراج من الحرز, كذلك اختلفوا فى المذهب إذا كانت السرقة فى بلد وضبط المسروق فى بلد آخر فيرى البعض أن العبرة بقيمة المسروق فى محل ضبطه, ويرى البعض الرجوع إلى قيمة المسروق فى محل السرقة (3) .
ويرى الأئمة الثلاثة أن العبرة بقيمة المسروق فى كل الأحوال وقت السرقة أى وقت إخراجه من الحرز لا قبل ذلك ولا بعد, فإذا كان لا يساوى نصابًا وقت الإخراج فلا قطع ولو كان سبب النقص فعل الجانى كأن أكل بعضه أو أتلفه أو أفسده ولا عبرة فى الرخص والغلاء الطارئين بعد إخراج المسروق من الحرز وتعتبر القيمة فى مكان السرقة لا فى مكان آخر (4) .
_________
(1) المغنى ج10 ص361, أسنى المطالب ج4 ص 138.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص105.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص 79.
(4) شرح الزرقاتى ج8 ص 94, المهذب ج2 ص300, المغنى ج10 ص 278, أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص 137.
(2/585)

وعند الشيعة الزيدية أن العبرة بقيمة المسروق وقت المرافقة لا وقت السرقة, فإذا سرق شيئًا وقيمته وقت السرقة عشرة دراهم ثم كانت قيمته وقت المرافقة أقل من ذلك سقط القطع, أما إذا زادت القيمة فلا عبرة بالزيادة (1) , وإذا حكم بالقطع فنزلت القيمة قبل التنفيذ فعلى رأى أبى حنيفة والشيعة يسقط القطع لأنهم يجعلون المانع الطارئ بعد الفعل فى حكم المانع المقارن ويجعلون الإمضاء من تمام القضاء.
ويرى أبو حنيفة أنه إذا اختلف المختصون فى تقويم المسروق فقدره بعضهم بأقل من النصاب وقدره بعضهم بنصاب دُرِئ القطع, وحجته فى ذلك فعل عمر حين رأى قطع سارق فقال له عثمان: إنما سرقه لا يساوى نصابًا فدرأ عنه القطع (2) . ويتفق مذهب أحمد فى هذا لأنه يرى فى حالة تعارض البينات فى القيمة أن يؤخذ بالقيمة الأقل (3) . ويرى الشافعى أن المسألة تختلف باختلاف الأساس الذى تقوم عليه شهادة المقوِّمين الذين يقوِّمون العين بالأكثر, فإن قامت على أساس القطع أخذ بهذه الشهادة وإن قامت على أساس الظن أخذ بالتقويم الأقل لتعارض البينات (4) . أما مالك فبرى أنه إذا شهد عدلان بأن قيمة المسروق نصابًا أخذ بشهادتهما ولو عارضتها شهادات أخرى, وعلة ذلك أن المبدأ عند مالك هو تقديم المثبت على النافي (5) .
ولا يشترط الشافعى أن يعلم السارق بقيمة المسروق بل يكفى أن يقصد السرقة ثم يسرق نصابًا, فإذا قصد سرقة شيء تافه فى اعتقاده فتبين أنه يزيد على نصاب قطع فيه, وإذا سرق ثوبًا لا يساوى نصابًا فوجد فى جيبه نقودًا تبلغ نصابًا قطع, وإذا قصد سرقة صندوق به نقود فوجده فارغًا والصندوق لا يساوى نصابًا لم يقطع (6) .
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص374.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص77, 79.

(3) كشاف القناع ج4 ص237.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص 420, أسنى المطالب ج4 ص137.
(5) المدونة ج16 ص90.
(6) أسنى المطالب ج4 ص137, 138, نهاية المحتاج ج7 ص420.
(2/586)

وعلى هذا أحد الرأيين فى مذهب أبى حنيفة, أما الرأى الأخر فيستوجب علم السارق بحقيقة قيمة المسروق, فإن كان يعلم بوجود النقود فى جيب الثوب قطع وإن لم يكن يعلم لم يقطع لأنه قصد سرقة الثوب فقط وهو لا يبلغ النصاب ولا قطع فيه وحده, أما لو سرق غرارة أو صندوقًا أو جرابًا به مال كثير ولو لم يكن عالمًا بحقيقة ما فى الغرارة أو الجراب أو الصندوق لأنه قصد بالسرقة المظروف لا الظرف, ويستدل على القصد بالظروف والقرائن (1) .
ويستوجب أحمد للقطع العلم بقيمة المسروق, فلو سرق منديلاً شد عليه دينار قطع إن علم بالدينار وإن لم يعلم به فلا قطع (2) .
ويرى أن الجانى يؤخذ بقصد السرقة ولا عبرة بظنه أن قيمة المسروق تقل عن نصاب إلا إذا صدق العرف فى هذا الظن, فلو م يده فى جيب شخص فأخذ منه نقودًا وهو يظنها نحاسية قطع لأن العرف لم يجر على وضع النقود النحاسية وحدها فى الجيب بل يوضع فيه كل أنواع النقود, ولو سرق ثوبًا وهو لا يساوى نصابًا فارغًا ولكن فى جيبه نقود تبلغ نصابًا قطع ولو ظن أن الثوب فارغ لأن العرف جرى على وضع النقود فى جيوب الثياب, أما إذا سرق قطعة خشب فوجدها مجوفة وفى داخلها نقودًا تبلغ نصابًا فلا قطع إذا لم تبلغ قيمة الخشبة وحدها نصابًا إذ أنه كان يعتقد وقت السرقة انه يسرق خشبة غير مجوفة وليس فيها نقود (3) .
ويحدث أن يكون بعض المسروق تابعًا لبعضه الآخر وأن يكون المسروق كله مما يقطع فيه كإناء من النحاس به حناء أو حمار عليه بردعة, كما يحدث أن يكون بعض المسروق تابعًا لبعضه وأن يكون بعضه فقط مما يقطع فيه كإناء من الذهب فيه خمر أو ككلب فيه طوق من الذهب. والأصل أن المقصود بالسرقة إذا كان مما يقطع فيه لو انفرد وبلغ نصابًا بنفسه يقطع السارق فيه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص79, 80.
(2) المغنى ج10 ص28.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(2/587)


بلا خلاف وإن لم يبلغ بنفسه نصابًا إلا بالتابع يكمل النصاب بالتابع ويقطع السارق فى سرقته, وكذلك الحكم لو كان كل منهما لا يبلغ نصابًا أو مقصودًا لذاته يكمل أحدهما بالآخر ويقطع السارق.
أما إذا كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه لو انفرد كالكلب وكان معه ما يقطع فيه كطوق الذهب فيرى مالك أن العبرة بقيمة ما فيه القطع فإذا بلغت قيمه الطوق نصابًا قطع السارق ولو كان يقصد الكلب دون الطوق (1) .
وكذلك الحكم عند الشافعي (2) . ويرى أبو حنيفة أنه إن كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه إذا انفرد لا يقطع السارق وإن كان مع المسروق المقصود غيره مما يبلغ نصابًا ما دام الغير لم يقصد بالسرقة, ويؤيد هذا الرأى محمد ولكن أبا يوسف يخالفه ويأخذ برأى مالك والشافعي (3) . وفى مذهب أحمد رأيان: الرأى الأول كرأى مالك والشافعي, والثانى كرأى أبى حنيفة (4) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق