الجمعة، 21 نوفمبر 2014

الإسلام أصوله ومبادئه – خلق الكون – د. محمد بن عبدالله بن صالح السحيم

خلق الكون

هذا الكون بسمواته وأرضه ونجومه ومجراته وبحاره وأشجاره وسائر حيواناته خلقه الله سبحانه وتعالى من عدم قال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم}([1]).
وقال جل ثناؤه : {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون. وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون. وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون}([2]).
هذا الكون خلقه الله لحكم عظيمة تعجز عن الحصر، ففي كل جزء منه حكم عظيمة، وآيات باهرة، ولو تأملت أية واحدة منها لوجدت فيها عجباً، فانظر إلى عجائب صنع الله في النبات التي لا تكاد تخلو ورقة منه ولا عرق ولا ثمرة من منافع تعجز عقول البشر عن الإحاطة بها وتفاصيلها، وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الرقيقة الضئيلة الضعيفة التي لا يكاد البصر يدركها إلا بعد تحديقه، كيف تقوى على اجتذاب الماء من أسفل إلى أعلى، ثم يتنقل في تلك المجاري بحسب قبولها وسعتها، ثم تتفرق وتشعب وتدق إلى غاية لا ينالها البصر، ثم انظر إلى تكوّن حمل الشجرة ونقْلته من حال إلى حال، كتنقل أحوال الجنين المغيب عن الأبصار. بينا تراها حطباً عارياً لا كسوة عليها إذ كساها ربها وخالقها من الورق أحسن كسوة، ثم اطلع فيها حملها ضعيفاً ضئيلاً بعد أن أخرج ورقها صيانة له، وثوباً لتلك الثمرة، الضعيفة لتستجن به من الحر والبرد والآفات، ثم ساق إلى تلك الثمار رزقها وغذاها في تلك العروق والمجاري فتغذت به، كما يتغذي الطفل بلبن أمه، ثم رباها ونماها حتى استوت وكملت وتناهى إدراكها فأخرج ذلك الجنى اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء.
وأنت إذا نظرت إلى الأرض وكيف خلقت؛ رأيتها من أعظم آيات فاطرها ومبدعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد، ووسع أكنافها،ودحاها فمدها وبسطها، وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها، وكفاتاً للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا؛ فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات، ثم انظر إلى هذا الفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه، وكيف يدور على هذا العالم هذا الدوران الدائم إلى آخر الأجل على هذا الترتيب والنظام، وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد.. وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الأرض من أصناف الحيوان والنبات.
ثم تأمل خلق السماء، وأرجع البصر فيها كرة بعد كرة تراها من أعظم الآيات في علوها وسعتها وقرارها، فلا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا..
وأنت إذا نظرت إلى هذا الكون وتأليف أجزائه، ونظمها على أحسن نظام يدل على كمال قدرة خالقه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال لطفه؛ وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه، وكل ما يُحتاج إليه، فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاد وبساط وفراش مستقر للساكن، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينته أدلة للمتنقل في طرق هذه الدار، والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر المهيأة، كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له، وصنوف النبات مهيأ لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه، فمنها الركوب، ومنها الحلوب، ومنها الغذاء، ومنها اللباس، ومنها الحرس.. وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المتصرف فيه بفعله وأمره.
وأنت لو تأملت هذا الكون كله أو جزءاً من أجزائه، لوجدت فيه عجباً، ولو تمعنت فيه تمام الإمعان، وأنصفت من نفسك، وتخلصت من ربقة الهوى والتقليد؛ لأيقنت تمام اليقين أن هذا الكون مخلوق، خلقه حكيم قدير عليم، قدره أحسن تقدير، ونظّمه أحسن نظام، وأن الخالق يستحيل أن يكون اثنين؛ بل الإله واحد لا إله إلا هو، وأنه لو كان في السموات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما، واختل نظامها، وتعطلت مصالحها.
فإن أبيت إلا أن تنسب الخلق إلى غير خالقه، فما تقول في دولاب دائر على نهر قد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في مادته، ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، لكل صنف ما يليق به، ويقسم هكذا على الدوام. 
أترى هذا وقع اتفاقاً بلا صانع ولا مختار ولا مدبر؟؟ بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة،، وكل ذلك اتفاقاً من غير فاعل ولا مدبر، أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟؟ ([3]).




([1]) سورة فصلت، الآيات 9-12.
([2]) سورة الأنبياء ، الآيات 30،32. وانظر أيضاً إلى أول سورة الرعد.
([3]) هذه الفقرة تم استخلاصها من مواطن متفرقة من مفتاح دار السعادة جـ1 ص:251-269.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق