الاثنين، 24 نوفمبر 2014

جريمة الردة في التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة

الكتاب السابع
الردة

671- النصوص الواردة فى الردة: قال الله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] , وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه".
672- تعريف الردة: الردة لغة هى الرجوع, فالراجع مرتد, ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] , وتعرف الردة شرعًا بأنها الرجوع عن الإسلام أو قطع الإسلام, وكلا التعبيرين بمعنى واحد (1) .

أركان الردة
673- للردة ركنان: أولهما: الرجوع عن الإسلام, ثانيهما: القصد الجنائى.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134, حاشية ابن عابدين ج3 ص391, مواهب الجليل ج6 ص279, شرح الزرقانى ج8 ص62, نهاية المحتاج ج7 ص393, أسنى المطالب ج4 ص116, شرح الأزهار ج4 ص575, كشاف القناع ج4 ص100.
(2/706)

الركن الأول: الرجوع عن الإسلام
674- الرجوع عن الإسلام: هو ترك الإسلام؛ أى ترك التصديق به, والرجوع يكون بأحد طرق ثلاثة: بالفعل أو بالامتناع عن الفعل, وبالقول, وبالاعتقاد.
فالرجوع عن الإسلام بالفعل يحدث بإتيان أى فعل يحرمه الإسلام إذا استباح الفاعل إتيانه سواء أتاه متعمدًا أو أتاه استهزاء بالإسلام واستخفافًا أو عنادًا ومكابرة؛ كالسجود لصنم أو للشمس أو القمر أو لأى كوكب, وكإلقاء المصحف وكتب الحديث فى الأقذار أو وطأها استهزاءً بها أو استخفافًا بما جاء فيها أو عنادًا, ويكون أيضًا بإتيان المحرمات مع استحلال إتيانها كأن يزنى الزانى وهو يعتقد أن الزنا غير محرم بصفة عامة أو غير محرم عليه, وكاستحلال شرب الخمر واستحلال قتل المعصومين وسلب أموالهم, فمن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكم بين المسلمين وزالت الشبهة فى حله بالنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر, وكذلك إن استحل قتل المعصومين أو أخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل, أما إذا كان الاستحلال بتأويل كما هو حال الخوارج فأكثر الفقهاء لا يرون كفر الفاعل, وقد عرف عن الخوارج أنهم يكفِّرون كثيرًا من الصحابة والتابعين ويستحلون دماءهم وأموالهم ويعتقدون أنهم يتقربون إلى الله جل شأنه بقتلهم, ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم, وكذلك الحكم فى كل محرم استُحل بتأويل فلا يعتبر فاعله مرتدًا.
ومن الأمثلة على استحلال المحرم بالتأويل ما فعله قدامة بن مظعون فقد شرب الخمر مستحلاً لها, وكذلك فعل أبو جندل بن سهل وجماعة معه شربوا الخمر فى الشام مستحلين لها مستدلين بقول الله جل شأنه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ
(2/707)

وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة:93] , فلم يكفروا بفعلهم وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم حد الخمر باعتبارهم عاصين. ومن استحل محرمًا يجهل تحريمه فلا يعتبر مرتدًا إذا ثبت أنه يجهل التحريم ويعرف أن الفعل محرم, فإذا عاد له مستحلاً إياه فهو كافر لا شك فى كفره, أما إن أتاه غير مستحل له فهو عاصٍ لا كافر (1) .
ويعتبر راجعًا عن الإسلام من امتنع عن إتيان فعل يوجبه الإسلام إذا أنكر هذا الفعل أو جحده أو استحل عدم إتيانه؛ كأن يمتنع عن أداء الصلاة أو الزكاة أو الحج جاحدًا لها منكرًا إياها. وكذلك الامتناع عن كل ما أوجبته الشريعة وأجمع على وجوبه. ويعتبر الممتنع كافرًا إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك, فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث عهد بالإسلام أو ناشئ بغير داره أو ببادية بعيده عن الأمصار وأهل العلم, لم يحكم بكفره, ويعرَّف ذلك وتبين له أدلة وجوب ما ينكره, فإن جحد بعد ذلك كفر, أما إذا كان الجاحد ناشئًا فى الأمصار بين أهل العلم بالشريعة فإنه يكفر بمجرد الجحد, وكذلك الحكم فى مبانى الإسلام كلها ومبادئه الأولية المتفق عليها؛ لأن أدلة وجودها لا تكاد تخفى والكتاب والسنة مشحونان بأدلتها والإجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للإسلام ممتنع عن التزام أحكامه, غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته (2) .
ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع فى عصرنا الحاضر الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً منها, والأصل فى الإسلام أن الحكم بما أنزل الله واجب وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرم,
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص279, 280, شرح الزرقانى ج8 ص62, 65, نهاية المحتاج ج7 ص395, 396, أسنى المطالب ج4 ص116, 118, حاشية ابن عابدين ج3 ص391, 393, المغنى ج10 ص85, كشاف القناع ج4 ص101-103, شرح الأزهار ج4 ص575-577.
(2) نفس المراجع السابقة.
(2/708)

ونصوص القرآن صريحة وقاطعة فى هذه المسألة, فالله جل شأنه يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف:40] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] , ويقول: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] , ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] , ويقول: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] , ويقول: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] , وقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] , وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] .
ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء فى أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له طاعة, وأن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيًا كانت, ومن المتفق عليه أم من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته, فإنه يصدق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق كل بحسب حالته, فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا, ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان فى حكمه مضيعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة وإلا فهو فاسق, ومن المتفق عليه أن من رد شيئًا من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك
(2/709)

أو من جهة ترك القبول أو الامتناع عن التسليم, ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعى الزكاة واعتبروهم كفارًا خارجين عن الإسلام لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول ولم يسلم بقضائه وحكمه فليس من أهل الإيمان, قال جل شأنه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65] (1) .
ويعتبر خروجًا عن الإسلام صدور قول من الشخص هو كفر بطبيعته أو يقتضى الكفر؛ كأن يجحد الربوبية فيدعى أن ليس ثمة إله أو يجحد الوحدانية فيدعى أن لله شركاء أو يقول بأن لله صاحبة أو ولدًا, ويدعى النبوة أو يصدق مدعيها, أو ينكر الأنبياء والملائكة أو أحدهم, أو جحد القرآن أو شيئًا منه, أو جحد البعث أو أنكر الإسلام أو الشهادتين, أو أعلن براءته من الإسلام, أو قال إن الشريعة لم تجئ لتنظيم العلاقات بين الإفراد والجماعات والحاكمين والمحكومين, وأن أحكامها ليست واجبة التطبيق فى كل الأحوال وعلى كل المسائل, أو قال إن أحكام الشريعة كلها أو بعضها ليست أحكامًا دائمة وإن بعضها أو كلها موقوت بزمن معين, أو قال إن أحكام الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر وإن غيرها من أحكام القوانين الوضعية خير منها.
ويعتبر خروجًا عن الإسلام كل اعتقاد منافٍ للإسلام كالاعتقاد بقدم العالم وأن ليس له موجد, وكاعتقاد حدوث الصانع, والاعتقاد باتحاد المخلوق والخالق, أو بتناسخ الأرواح, أو باعتقاد أن القرآن من عند غير الله, أو أن محمدًا كاذب, أو أن عليًا إله أو أنه هو الرسول, وغير ذلك من الاعتقادات المنافية للقرآن والسنة, وكذلك الاعتقاد بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق فى هذا العصر أو أن
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214, أعلام الموقعين ج1 ص57, 58, تفسير المنار ج6= =ص405, روح المعانى للألوسى ج6 ص140, تفسير الطبرى ج6 ص119, تفسير القرطبى ج6 ص100, التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص196-206.
(2/710)

تطبيقها كان سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم, أو أنه لا يصلح المسلمين إلا التخلص من أحكام الشريعة والأخذ بأحكام القوانين الوضعية.
ويلاحظ أن الاعتقاد المجرد لا يعتبر ردة يعاقب عليها ما لم يتجسم فى قول أو عمل, فإذا لم يتجسم الاعتقاد الكفرى فى قول أو عمل فلا عقاب عليه, لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عفا لأمتى عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم", فإذا اعتقد المسلم اعتقادًا منافيًا للإسلام أيًا كان هذا الاعتقاد فهو لا يخرجه عن الإسلام إلا إذا أخرجه من سريرته فى قول أو عمل, فإذا لم يخرجه من سريرته فهو مسلم ظاهرًا فى حكم الدنيا, أما فى الآخرة فأمره لله فإذا أظهر اعتقاده المنافى للإسلام فى قول أو فعل وثبت ذلك عليه فقد ثبتت عليه الردة.
ويختلف الفقهاء فى ماهية السحر وفى حكم الساحر, فأما فى ماهية السحر فإنهم يسلمون للسحر أثره, ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان حقيقة أو تخيلاً فرأى البعض أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تخيل واحتجوا بقول الله جل شأنه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] , ورأى البعض أن السحر له حقيقة واحتجوا بقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} [الفلق:4] , أى السواحر, وقالوا: لو أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه, كما احتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] , وقالوا إن من المشهور بين الناس عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متواترًا لا يمكن جحده.
ومن المتفق عليه أن تعلُّم السحر وتعليمه حرام, واعتقاد إباحته كفر, ولكنهم اختلفوا فى حكم الساحر, فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الساحر
(2/711)

يكفر بتعلم السحر وبفعله سواء اعتقد تحريمه أو لم يعتقده, ويقتل بذلك دون استتابة لما روى عن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حد الساحر ضربه بالسيف", ولذلك يرى الحنفيون قتل المرأة ولو أنهم لا يرون قتل المرأة المرتدة لأن الساحر يقتل حدًا لا ردة واو أنه يكفر بسحره, والمرتد يستتاب أما فى الحد فلا استتابة إلا حيث يوجد نص, ولا نص (1) .
وهناك رواية عن أحمد بأن الساحر لا يكفر بتعلم السحر ولا بفعله, وإنما هو عاصٍ يؤدب ويستتاب (2) .
ويرى الشافعى أن الساحر لا يعتبر مرتدًا إلا إذا أتى فى سحره بقول أو فعل يكفره كالإشراك بالله والسجود للشمس أو الكواكب أو إذا استحل السحر, فإن لم يأت بشيء من الكفر الذى لا خلاف فيه فهو مسلم عاص (3) .
ولا يأخذ الشافعيون بحديث جندب ومثلهم الظاهريون لأنه حديث مرسل, ويرى ابن حزم أن الحديث روى هكذا: "حد الساحر ضربه بالسيف", وليس فيه قتله, والضربة قد تقتل وقد لا تقتل, وعنده أن الحديث غير صحيح, وإذا لم يصح الحديث وجب الرجوع للنصوص العامة وهى تحريم القتل إلا بحق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33] , وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم", فصح بالقرآن والسنة أن كل مسلم دمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن وليس فى السحر نص ثابت إلا ما روى أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات, قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والتولى يوم الزحف, وقذف المحصنات المؤمنات", فكان هذا بيانًا جليًا بأن السحر ليس من الشرك ولكنه معصية موبقة كقتل
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص408, 409, شرح فتح القدير ج4 ص408, المغنى ج10 ص113 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص279, 280.
(3) أسنى المطالب ج4 ص117.
(2/712)

النفس فارتفع الإشكال وصح أن السحر ليس كفرًا, وإذا لم يكن كفرًا فلا يصح قتل فاعله إلا إذا أتى بما هو كفر؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان, وزنًا بعد إحصان, ونفس بغير نفس" (1) .
وفى الكاهن والعراف نفس الخلاف فى الساحر. والكاهن هو الذى له رِئْى من الجن يأتيه بالأخبار, والعراف هو الذى يحدس ويتخرص, على أن الحنفيون يرون أن العراف والكاهن إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر, وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر, وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: حكمهما حكم الساحر, لقول عمر: اقتلوا كل ساحر وكاهن, والثانية: إن تاب لم يقتل, ويرى الحنفيون المتأخرون أنه لا يجب العدول عن مذهب الشافعى فى كفر الساحر والكاهن والعراف (2) .
ويرى الشيعة الزيدية أن الساحر مرتد وأن حده القتل بعد الاستتابة كالمرتد (3) .
ولا تصح الردة إلا من عاقل, فلا تصح الردة ممن لا عقل له كالمجنون ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء مباح, وكالطفل الصغير الذى لم يميز.
675- ردة المجنون وإسلام من فى حكمه: لا تصح ردة المجنون لأن العقل من شرائط الأهلية خصوصًا فى الاعتقادات, ومن المتفق عليه أن المجنون إذا ارتد فى حال جنونه فإنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك, ولو قتله قاتل عمدًا كان عليه القود, والأصل فى ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يفيق", فلا تصح ردة المجنون لأنه لا قول له, أما إذا ارتد فى حال إفاقته صحت ردته,
_________
(1) المحلى ج11 ص394.
(2) نفس المراجع السابقة, المغنى ج10 ص118, شرح الزرقانى ج8 ص62.
(3) شرح الأزهار ج4 ص379.
(2/713)

فإن ارتد صاحيًا ثم جن بعد ذلك لم يقتل حال جنونه لأنه يقتل بالإصرار على الردة بعد استتابته والمجنون لا يمكن أن يوصف بالإصرار كما أنه لا يمكن أن يستتاب, فإذا قتله قبل إفاقته أو بعدها وقبل استتابته عزر لتفويته الاستتابة الواجبة ولافتياته على السلطات العامة, ولكنه لا يسأل عن القتل, وإذا كان المجنون المقتول امرأة فلا قود على من قاتلها عند أبى حنيفة, وإنما على القاتل التعزير فقط, لأن الردة تبيح دم صاحبها, وكل جناية على المرتد هدر, ومن قتل المرأة بالردة راجع للشبهة (1) .
والقاعدة عند الشافعى وأحمد أن المجنون تنفذ عليه حال جنونه كل جريمة تثبت عليه بالبينة, وعقوبة كل جريمة ثابتة بالإقرار, وإذا كان العدول عن الإقرار لا يسقط الإقرار كالقصاص. أما إذا كانت العقوبة ثابتة بالإقرار وكان العدول عن الإقرار يسقط العقوبة كما هو الحال فى السرقة والزنا والشرب فيوقف التنفيذ حتى يفيق المجنون لاحتمال أنه إذا أفاق عدل عن إقراره فسقطت العقوبة المحكوم بها (2) .
وفى مذهب مالك يرون أن الجنون يوقف تنفيذ الحكم ويظل الحكم موقوفًا حتى يفيق المجنون, إلا إذا كانت العقوبة قصاصًا, فإنها على رأى البعض تسقط باليأس من إفاقة المجنون, وباقى الآراء ورأى أبى حنيفة تراجع فى التشريع الجنائي (3) .
676- ردة السكران وإسلامه: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن
_________
(1) المغنى ج10 ص76, 110, أسنى المطالب ج4 ص120 وما بعدها, شرح الزرقانى ج8 ص69, 70, بدائع الصنائع ج7 ص134, 135, حاشية ابن عابدين ج3 ص293, 294, شرح فتح القدير ج4 ص387, 407, شرح الأزهار ج4 ص575, المحلى ج10 ص344.
(2) أسنى المطالب ج4 ص120, المغنى ج10 ص110, التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص511,512.
(3) التشريع الجنائى ج1 ص512.
(2/714)

السكران حكمه حكم المجنون فلا يصح إسلامه ولا تصح ردته, وهم لا يصححون ردته ولا إسلامه استحسانًا, أما حكم القياس عندهم فتصحيح ردته وإسلامه لأن الأحكام مبنية على الإقرار بظاهر اللسان لا على ما فى القلب إذ هو أمر باطن فلا يوقف عليه, أما وجه الاستحسان فإن أحكام الكفر مبنية على الكفر كما أن أحكام الإيمان مبنية على الإيمان, والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب, وإنما كان الإقرار دليلاً عليهما وإقرار السكران لا يصح دليلاً, وإذا لم يصح الدليل لم يثبت المدلول عليه (1) .
ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة, فالظاهريون لا يعتبرون ردة السكران ولا أى فعل أتاه وهو سكران سواء أدخل السكر على نفسه أم أدخله عليه غيره (2) .
وفى مذهب مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية خلاف, والرأى الراجح فى هذه المذاهب أو ردة السكران لا تصلح إذا أدخل السكر على نفسه وكان عالمًا بأنه يتناول سكرًا, أما الرأى المرجوح فلا يصحح ردته لأنه زائل العقل ولأن المسألة متعلقة بالاعتقاد (3) .
ويلاحظ أن القائلين بتصحيح ردة السكران يصححون إسلامه, وأن القائلين بعدم تصحيح الردة لا يصححون إسلام السكران.
677- ردة الصبى وإسلامه: من المتفق عليه أن ردة الصبى الذى لا يعقل غير صحيحة, ولكنهم اختلفوا فى ردة الصبى الذى يعقل على الوجه الآتى:
فيرى أبو حنيفة ومحمد أن البلوغ ليس شرط للردة فتصح ردة الصبى الذى يعقل, ويرى أبو يوسف أن الصبى الذى لم يبلغ لا تصح ردته, وحجتهما أن الصبى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134, شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2) المحلى ج10 ص208, 344, المحلى ج7 ص322 وما بعدها.
(3) المغنى ج10 ص108, 110, نهاية المحتاج ج7 ص397, المهذب ج2 ص238, شرح الأزهار ج4 ص575, مواهب الجليل ج4 ص34.
(2/715)

المميز يصح إسلامه فتصح ردته؛ لأن صحة الإسلام والردة مبنية على وجود الإيمان أو الكفر حقيقة, لأن الإيمان والكفر من الأفعال الحقيقية وهما أفعال خارجة من القلب بمنزلة أفعال سائر الجوارح, والإقرار الصادر عن العقل دليل وجودهما وقد وجدها هنا, إلا أنه من وجود الكفر من الصبى العاقل لا يقتل ولكن يحبس إذ لا قتل إلا على البالغ بعد استتابته فيحبس الصبى حتى يبلغ ثم يستتاب, ويشترط أبو يوسف البلوغ لصحة الردة فلا تصح الردة عنده إلا إذا بلغ الصبى مرتدًا, وحجته أن عقل الصبى فى التصرفات الضارة المحضة ملحق بالعدم ولهذا لم يصح طلاقه وإعتاقه وتبرعاته, والردة مضرة محضة, أما الإيمان فيصح من الصبى لأنه نفع محض, ولذلك صح إسلام الصبى عند أبى يوسف ولم تصح ردته (1) .
ويتفق مذهب مالك مع رأى أبى حنيفة ومحمد.
وفى مذهب أحمد رأيان: أولهما وهو المعمول به فى المذهب: أن ردة الصبى تصح, وهذا يتفق مع رأى أبى حنيفة ومحمد, وظاهر مذهب مالك, والثانى: أن الصبى يصح إسلامه ولا تصح ردته, وهو يتفق مع رأى أبى يوسف (2) .
ويلاحظ أن الخلاف ليس له أهمية عملية من الناحية الجنائية, لأن الصبى لا يقتل سواء قيل بصحة ردته أو بعدم صحتها, إذ الغلام لا تجب عليه الحدود حتى يبلغ, فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة ووجبت عليه العقوبة بعد الاستتابة إن لم يتب, فيستوى إذن فى الحكم المرتد قبل بلوغه والمرتد وقت بلوغه, والمسلم الأصلى الذى ارتد والكافر الذى ارتد والكافر الذى أسلم صبيًا ثم ارتد (3) .
أما مذهب الشافعى فلا يصحح ردة الصبى ولا إسلامه إلا بالبلوغ, وعلى هذا الرأى زفر من أصحاب أبى حنيفة, وهو يتفق مع مذهب الظاهريين ومذهب الشيعة الزيدية, وحجة أصحاب هذا الرأى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134, 135.
(2) المغنى ج10 ص92, 92.
(3) نفس المرجع السابق.
(2/716)

عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يفيق".
وأصحاب هذا الرأى إذا كانوا لا يصححون إسلام الصبى فإنهم يعتبرونه مسلمًا حكمًا أو تبعًا, لأن الصغير يعتبر مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما ولا يأخذ حكمهما حتى البلوغ, فلو صحح إسلامه لكان مسلمًا أصلاً, فيكون هناك تناقض بين اعتباره مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما وبين اعتباره مسلمًا أصلاً, فضلاً عن أن الإسلام يلزمه أحكامًا تشوبها المضرة من حرمان الإرث والفرقة بينه وبين زوجته المشركة, وهو ليس أهلاً لما يضر به من التصرفات (1) .
وخلاصة ما سبق أن الفقهاء على ثلاثة آراء فى ردة الصبى العاقل وإسلامه, فبعضهم لا يصحح إسلام الصبى المميز - أى الذى يعقل - ولا ردته, وبعضهم يصحح إسلامه ولا يصحح ردته, وبعضهم يصحح إسلامه وردته معًا, وهذا فى الصبى المميز أى الذى يعقل, أما الصبى الذى لا يعقل فلا يصح له إسلام ولا رده اتفاقًا, وإن كان محكومًا له بالإسلام تبعًا لأبويه, والفقهاء الذين يصححون إسلام الصبى الذى يعقل يشترطون لصحة إسلامه شرطين:
أولهما: أن يعقل الإسلام ومعناه, وأن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن محمدًا عنده ورسوله, وهذا الشرط لا خلاف عليه لأن الطفل الذى لا يعقل لا يتحقق عنده اعتقاد الإسلام.
ثانيهما: أن يكون عمره عشر سنوات, وهو شرط غير متفق عليه.
وأكثر من يصححون إسلام الصبى لم يشترطوا ذلك ولم يحددوا له حدًا من السنين, وحجة من يشترطون عشر سنوات أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب الصبيان على الصلاة لعشر, وهذا هو مذهب الحنابلة, على أن هناك رواية عن احمد بتصحيح إسلام الصبى إذا بلغ سبع سنوات لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص120, 123, 194, نهاية المحتاج ج7 ص397, شرح فتح القدير ج4 ص404, المغنى ج10 ص88, المحلى ج10 ص218, 344, وج7 ص322 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص575.
(2/717)

"مروهم بالصلاة لسبع", فدل ذلك على صحة عباداتهم فيكون حدًا لصحة إسلامهم, وبعض الفقهاء يرى تصحيح إسلام الصبى إذا بلغ خمس سنوات, وحجته أن عليًا أسلم فى هذا السن (1) .
ويعتبر ولد المرتد مسلمًا إذا حُمل به فى الإسلام سواء كان المرتد الأب أو الأم أو هما معًا, فإن بلغ أولاد المرتد فثبتوا على إسلامهم فهم مسلمون, وإن بلغوا كافرين فهم مرتدون, لهم حكم المرتدين, أما من حُمل به بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه من أبوين كافرين؛ سواء حمل به فى دار الإسلام أو فى دار الحرب (2) .
والقاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعة الزيدية أنه إذا أسلم أحد الأبوين كان أولاده الصغار مسلمين تبعًا له, يستوى فى ذلك أن يكون المسلم الأب أو الأم, ولكن مالكًا يرى أن الصغار يتبعون فى الإسلام الأب فقط, فإذا أسلم الأب تبعه أولاده, وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن الولد يتبع أباه ولا يتبع أمه (3) .
678- ردة المكره وإسلامه: ومن أُكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر أو بعمل مكفِّر لم يصر كافرًا, وهذا متفق عليه فى المذاهب الأربعة, وعليه مذهب الشيعة الزيدية ومذهب الظاهريين, وشهادة ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [النحل:106] , ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان, وما استكرهوا
_________
(1) المغنى ج10 ص89, 90, شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص62, بدائع الصنائع ج7 ص139, أسنى المطالب ج4 ص123, المغنى ج10 ص93, كشاف القناع ج4 ص109, شرح الأزهار ج4 ص580, 581.
(3) المغنى ج10 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص66, مواهب الجليل ج6 ص284, المحلى ص322, ونفس المراجع السابقة.
(2/718)

عليه", والإكراه على الإسلام مما لا يجوز إكراهه كالذمى والمستأمن لا يجعل المكرَه مسلمًا حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعًا مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه, فإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار, وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله, ولا إكراه على الإسلام (1) .
* * *
الركن الثانى: القصد الجنائي
679- ويشترط لوجود جريمة الردة أن يتعمد الجانى إتيان الفعل أو القول الكفرى وهو يعلم بأنه فعل أو قول كفرى, فمن أتى فعلاً يؤدى للكفر وهو لا يعلم معناه, ومن قال كلمة الكفر وهو لا يعلم معناها, فلا يكفر, ومن حكى كفرًا سمعه وهو لا يعتقده لم يكفر. وكذلك من جرى على لسانه الكفر سبقًا من غير قصد لشدة فرج أو وهن أو غير ذلك, كقول من أراد أن يقول: اللهم أنت ربى وأنا عبدك, فقال: أنت عبدى وأنا ربك.
ويشترط الشافعى أن يقصد الجانى أن يكفر, فلا يكتفى أن يتعمد إتيان الفعل أو القول الكفرى, بل يجب أن ينوى الكفر مع قصد الفعل, وحجته حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات", فإذا لم ينو الكفر فلا كفر (2) .
وعلى هذا الرأى مذهب الظاهريين لأنهم يشترطون النية (3) فى كل الأعمال, وحجتهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى", فالصحيح عندهم أن كل عمل بلا نية فهو باطل لا يعتد به.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص68, مواهب الجليل ج6 ص282, بدائع الصنائع ج7 ص134, 178, شرح فتح القدير ج4 ص406, المهذب ج2 ص238, نهاية المحتاج ج7 ص379, أسنى المطالب ج4 ص121, المغنى ج10 ص104, المحلى ج8 ص329, شرح القدير ج4 ص577.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص394.
(3) المحلى ج10 ص200, 205.
(2/719)

وعند مالك وأبى حنيفة والشافعى يكفى لاعتبار الشخص مرتدًا أن يتعمد إتيان الفعل والقول الكفرى ولو لم ينو الكفر, ما دام جاء بالفعل بقصد الاستخفاف أو التحقير أو العناد أو الاستهزاء (1) , وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (2) .
ويرى أبو حنيفة وأحمد أن فعل الهازل وقوله كفر, فمن تكلم بلفظ كفرى أو أتى بفعل كفرى وهو مختار يعتبر كافرًا ولو لم يقصد معنى الفعل أو القول ما دام أنه عارف لمعناه؛ لأن التصديق وإن كان موجودًا حقيقة إلا أنه زائل حكمًا, لأن الشارع جعل بعض المعاصى أمارة على عدم وجوده, كما لو سجد لصنم فإنه يكفر وإن كان مصدقًا لأن ذلك فى حكم التكذيب (3) .
* * *
عقوبات الردة
680- للردة عقوبات تختلف باختلاف ظروف الجريمة, منها ما هو عقوبة أصلية, ومنها ما هو عقوبة بدلية, ومنها ما هو عقوبة تبعية.
أولاً: العقوبة الأصلية
681- عقوبة الردة الأصلية هى القتل حدًا: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه".
والقتل عقوبة عامة لكل مرتد سواء كان رجلاً أو امرأة, شابًا أو شيخًا, ولكن أبا حنيفة يرى أن لا تقتل المرأة بالردة ولكنها تجبر على الإسلام, وإجبارها
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص62, 63, 70 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص100, 101, حاشية ابن عابدين ج3 ص392.
(2) شرح الأزهار ج4 ص575, 577.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص392, كشاف القناع ج4 ص100, شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2/720)

على الإسلام يكون بأن تحبس وتخرج كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الإسلام, فإن أسلمت وإلا حبست, وهكذا إلى أن تسلم أو تموت (1) .
والمذاهب الأخرى على خلاف مذهب أبى حنيفة لا تفرق بين الرجل والمرأة, وتعاقب المرتدة بالقتل كما تعاقب المرتد (2) .
وحجة أبى حنيفة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل المرأة الكافرة, فإذا كانت المرأة لا تقتل بالكفر الأصلى فأولى أن لا تقتل بالكفر الطارئ.
وحجة بقية الفقهاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه", وقال: "لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة", ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المرأة مقصود به الكافرة الأصلية, ولا يصح أن يقاس على الكفر الأصلى الكفر الطارئ؛ لأن الرجال والنساء يقرون على الكفر الأصلى ولا يقرون على الكفر الطارئ (3) .
ويرى أبو حنيفة أيضًا أن لا يقتل الصبى المميز بالردة فى أربع حالات: الأولى: إذا كان إسلامه تبعًا لأبويه وبلغ مرتدًا, ففى القياس يقتل وفى الاستحسان لا يقتل, لأن إسلامه لما ثبت تبعًا لغيره صار شبهة فى إسقاط القتل عنه وإن بلغ مرتدًا. الثانية: إذا أسلم فى صغره ثم بلغ مرتدًا, ففى القياس يقتل وفى الاستحسان لا يقتل لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء فى صحة إسلامه. الثالثة: إذا ارتد فى صغره. الرابعة: اللقيط فى دار الإسلام فإنه محكوم بإسلامه تبعًا للدار كما لو كان مولودًا بين مسلمين.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص135.
(2) مواهب الجليل ج6 ص281, نهاية المحتاج ج7 ص299, المغنى ج10 ص74, المحلى ج11 ص227, شرح الأزهار ج4 ص578.
(3) المغنى ج10 ص74, 578.
(2/721)

والصبى المميز إذا لم يقتل فى هذه الحالات الأربع فإنه يجبر على الإسلام كما تجبر المرأة على الإسلام بالحبس والتعزير (1) .
والقاعدة عند مالك أن الصبى المميز يقتل بالردة إذا بلغ مرتدًا ولكنه يستثنى من ذلك:
1- الصبى المراهق حين إسلام أبيه.
2- الصبى الذى ترك لأمه الكافرة سواء ترك مميزًا أو غير مميز إذا غفل عنه حتى أرهق؛ أى قارب البلوغ؛ كابن ثلاث عشرة سنة.
فهذان إذا بلغ أحدهما كافرًا فلا يقتل بكفره وإنما يجبر على الإسلام بالتعزير (2) .
أما بقية المذاهب فترى قتل الصبى المرتد إذا بلغ مرتدًا شأنه فى ذلك شأن الرجل والمرأة (3) .
682- الاستتابة: القاعدة الأصلية أن المرتد لا يقتل إلا بعد أن يستتاب, فإن لم يتب يقتل, ويرى بعض الفقهاء أن الاستتابة واجبة, وهو مذهب مالك والشيعة الزيدية, وهو الرأى الراجح فى مذهبى الشافعى وأحمد, وهناك رأى فى مذهب الشيعة الزيدية أن الاستتابة مستحبة, وهو رأى مرجوح (4) .
ويرى أبو حنيفة أن الاستتابة مستحبة لا واجبة, لأن الدعوة قد بلغت المرتد فانتفى بذلك الوجوب, وإنما يعرض عليه الإسلام استحبابًا فلعله يسلم, وهذا القول رأى الشافعى وأحمد, ويرى الظاهريون أن الاستتابة ليست واجبة ولا ممنوعة (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص406, 407, بدائع الصنائع ج7 ص135.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص66, 70, مواهب الجليل ج6 ص281, 284.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص400, المغنى ج10 ص92, المحلى ج7 ص322, وج11 ص227, شرح الأزهار ج4 ص580, 581.
(4) شرح الأزهار ج4 ص379, 380.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص65, نهاية المحتاج ج7 ص398, المهذب ج2 ص238, المغنى ج10 ص76, شرح الأزهار ج4 ص579, المحلى ج11 ص197.
(2/722)

683- مدة الاستتابة: مذهب مالك على أن الاستتابة مدتها ثلاثة أيام بلياليها من يوم ثبوت الكفر على المرتد, لا من يوم الكفر ولا من يوم الرفع أى التبليغ.
ولا يحسب اليوم إن سبقه الفجر ولا تلفق الأيام الثلاثة, والمقصود بذلك الاحتياط لعظم الدماء, ولا يجوز أن يمنع عنه الماء ولا الطعام ولا يعذب, فإن تاب لا يقتل وإلا قتل بعد غروب شمس اليوم الثالث (1) .
ويرى أبو حنيفة أن المدة متروكة لتقدير الإمام , فإن طمع فى توبة المرتد أو سأله هو التأجيل أجَّله ثلاثة أيام, وإن لم يطمع فى توبته ولم يسأله هو التأجيل قتله من ساعته (2) .
وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما: أن الاستتابة مدتها ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة يمكن فيها الارتياد والنظر, والرأى الثانى: أن يقتل فى الحال إذا استتب فلم يتب, وهو الرأى الراجح فى المذهب (3) .
ومذهب أحمد على أن مدة الاستتابة ثلاثة أيام مع حبس المرتد فيها (4) .
ولا يحدد الظاهريون مدة الاستتابة, ويرون قتل المرتد فى الحال إذا لم يتب (5) , ولكن الشيعة الزيدية يحددون مدة الاستتابة بثلاثة أيام (6) .
والأصل فى ذلك كله ما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قدم إليه رجل من جيش المسلمين فقال: هل عندكم من مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ قال: نعم رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه, فقال عمر رضى الله عنه: ماذا فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه, فقال عمر رضى الله عنه: هلا طفيتم عليه بيتًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص135.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص398, 399.
(4) المغنى ج10 ص78, كشاف القناع ج4 ص104.
(5) المحلى ج11 ص192.
(6) الروض النضير ج4 ص324, شرح الأزهار ج4 ص379, 380.
(2/723)

واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى, اللهم إنى لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني, كذلك روى عن على رضى الله عنه أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثًا, وبهذا يتمسك من قال بوجوب الاستتابة أو استحبابها وبمدة الأيام الثلاثة.
684- كيفية التوبة: تكون التوبة بالنطق بالشهادتين, وبإقرار المرتد بما أنكره, وبراءته من كل دين يخالف دين الإسلام, فمن ادعى وجود إلهين أو أنكر رسالة محمد, يكتفى أن يأتى بالشهادتين, وإن كان الكفر بإنكار شيء آخر كمن خصص رسالة محمد بالعرب أو جحد فرضًا أو تحريمًا فيلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر, وهكذا تختلف حقيقة التوبة بحسب الفعل أو قول الكفر.
685- من لا يستتاب: وإذا كانت القاعدة هى استتابة المرتد بغض النظر عما إذا كانت الاستتابة واجبة أو مستحبة فإن مالكًا يمنع استتابة ثلاثة:
1- الساحر إذا أتى من السحر ما يعتبر كفرًا: فإنه لا يستتاب ويقتل, وإذا تاب لم تقبل توبته إلا أن يجئ بنفسه مبلغًا عن سحره وتائبًا منه, ذلك أن حكم الساحر فى المذهب كحكم الزنديق (1) .
2- الزنديق: وهو من يظهر الإسلام ويسر الكفر, فإذا ثبت عليه الكفر لم يستتب ويقتل ولو أظهر توبته, لأن إظهار التوبة لا يخرجه عما يبديه من عادته ومذهبه, فإن التقَّة عند الخوف عين الزندقة, أما إذا جاء بنفسه مقرًا بزندقته ومعلنًا توبته دون أن يظهر عليه فتقبل توبته (2) .
3- من سب نبيًا أو مَلَكًا أو عرض به أو لعنه أو عابه أو قذفه أو استخف بحقه وما أشبه: فإنه يقتل ولا يستتاب, ولا تقبل منه التوبة لو أعلنها ولو جاء تائبًا قبل أن يطلع عليه, لأن القتل فى هذه الحالة حد خاص وإن كان يدخل تحت الردة (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص279.
(2) مواهب الجليل ج6 ص282.
(3) مواهب الجليل ج6 ص285, 286, شرح الأزهار ج8 ص70, 71.
(2/724)

فالمرتد يقتل حدًا لا كفرًا عالى مشهور قول مالك, ولهذا لا تقبل توبته ولا تنفعه استتابه, على أن هناك من يرى فعله ردة, وفى هذه الحالة يستتاب فإن تاب نُكِّل أى عُزِّر (1) .
أما المعتاد على الردة فيستتاب ولو تكررت ردته ما دامت ردته ليست من الأنواع الثلاثة السابقة.
ومذهب الشافعى يختلف عن مذهب مالك تمام الاختلاف, فالشافعيون يرون الاستتابة ويقبلون التوبة من الساحر والزنديق, ولو كان زنديقًا لا يتناهى خبثه فى عقيدته, لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] , ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" أى النطق بالشهادتين (2) .
على أن هناك رأيًا مرجوحًا فى المذهب بعدم قبول توبة الزنديق (3) .
وتقبل توبة من سب النبى - صلى الله عليه وسلم - أو سب نبيًا غيره, ويستتاب, وهو الرأى الراجح فى المذهب, وهناك رأيان آخران: أحدهما: أنه يقتل حدًا إذا سب النبى أو قذفه؛ لأن القتل حد قذف النبى أو سبه, وحد القذف لا يسقط بالتوبة, والثانى: أنه يعاقب على القذف بالجلد ثمانين جلده ويعزر على السب (4) .
وفى مذهب أحمد:
1- لا تقبل توبة الزنديق: لأن الله تعالى يقول: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة:160] , والزنديق لا يظهر منه ما يتبين به رجوعه وتوبته؛ لأن الزنديق لا يظهر منه بالتوبة خلاف ما كان عليه؛ فإنه كان ينفى الكفر عن نفسه قبل ذلك, وقلبه لا يطلع عليه فلا يكون لما قاله حكم, لأن الظاهر من حاله أنه يستدفع القتل بإظهار التوبة.
2- كذلك لا تقبل توبة من تكررت ردته: لقوله
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص282.
(2) أسنى المطالب ج4 ص122, المهذب ج2 ص229.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص399.
(4) أسنى المطالب ج4 ص122, نهاية المحتاج ج7 ص399.
(2/725)

تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137] , وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران:90] , كذلك فإن تكرار الردة دليل على فساد العقيدة وقلة المبالاة بالدين.
3 - ولا تقبل توبة من سب الله ورسوله أو تنقيصه: لأن ذلك دليل على فساد العقيدة واستخفافه بالله تعالى ورسوله, ولقوله جل شأنه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65, 66] .
4- ولا تقبل توبة الساحر الذى يكفر بسحره: لوجهين: أولهما: لما روى عن جندب بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" فسماه حدًا, والحد لا يسقط بالتوبة. وثانيهما: أنه إذا لم يكن حد فلا طريق إلى معرفة إخلاصه فى توبته لأنه يضمر السحر ولا يجهر به فيكون إظهار الإسلام خوفًا من القتل (1) .
وهناك رواية أخرى عن أحمد يرى الأخذ بها بعض فقهاء المذهب وهى قبول توبة المرتد واستتابته مها كان كفره؛ أى سواء كان زنديقًا أو ساحرًا أو معتاد الردة.. إلخ, وهذا الرأى يتفق مع مذهب الشافعي (2) .
ومذهب أبى حنيفة على عدم قبول توبة كل من:
1 - الساحر: لما روى عن الرسول من أن حد الساحر ضربه بالسيف, ولكن الكثير من فقهاء الحنفية يفضلون مذهب الشافعى فى هذه المسألة, ويلاحظ أن القائلين بقتل الساحر يرون قتل الساحرة؛ لأن القتل حد لا يستتاب فيه.
2 - الزنديق: والرأى فى توبته هو ما يرونه فى مذهب مالك, على أن هناك رأيًا آخر يقول بقبول توبته (3) .
3 - سب الرسل والملائكة والاستهزاء بهم: وفى المذهب رأيان: أحدهما: يرى القتل حدًا فلا تقبل التوبة (4) .
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص105, 106.
(2) المغنى ج10 ص78, 113, 115, 116, 118.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص408, 409.
(4) حاشية ابن عابدين ج3 ص400 وما بعدها
(2/726)

والثانى: يرى أنه مرتد يقتل للردة فتقبل توبته (1) .
4 - من تكررت ردته: فلا تقبل توبته (2) .
ومذهب الظاهريين كمذهب الشافعي (3) .
وكذلك مذهب الشيعة الزيدية فإنهم يستتيبون كل مرتد ويقبلون منه التوبة أيًا كان وجه الكفر, أى سواء كان للسحر أو الزندقة أو غير ذلك (4) .
686 - ما يترتب على التوبة: يترتب على حدوث التوبة ممن تقبل توبته أن يسقط القتل عنه بالتوبة فيعود معصوم الدم كما كان قبل الردة فإذا قتله شخص ما أُقيد به لأنه قتل نفسًا معصومة, أما قبل ذلك فيكون المرتد مهدر الدم من وقت الردة فإذا قتله شخص ما لم يعتبر قاتلاً وإنما يعزر فقط لافتياته على السلطات العامة لا لأنه قاتل إذ أنه قتل شخصًا مهدر الدم مباح القتل بل يعتبر قتله فرضًا على كل مسلم, ويستوى أن يكون القتل حاصلاً قبل الاستتابة أو بعدها ما دام قد حدث قبل التوبة فعلاً ممن تقبل توبته لأنه يقتل فى الحالين على ردته, وكل جناية على المرتد هدر لأن الردة تسقط عصمة المرتد. وإذا كان أبو حنيفة لا يرى قتل المرأة ولا الصبيان الذين بلغوا مرتدين, وإذا كان مالك لا يرى قتل بعض الصبيان؛ فإنهما معًا يريان أن من قتل امرأة مرتدة أو صبيًا مرتدًا قبل التوبة فأن القاتل لا يعتبر مسئولاً عن جريمة القتل لأنه قتل شخصًا مهدر الدم وإنما يسأل باعتباره مفتاتًا على السلطات العامة (5) .
* * *
ثانيًا: العقوبة البديلة

687- العقوبة البديلة للردة تكون فى حالتين:
الأولى: إذا سقطت العقوبة الأصلية بالتوبة استبدل بها القاضى عقوبة تعزيرية
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص401, 402.
(2) حاشية ابن عابدين ج3 ص412.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص387.
(4) شرح الأزهار ج4 ص379, 380.
(5) مواهب الجليل ج6 ص281, 288, أسنى المطالب ج4 ص122, كشاف القناع ج4 ص104, شرح فتح القدير ج4 ص387, 388, 404.
(2/727)

مناسبة لحال الجاني, كالجلد أو الحبس أو الغرامة أو التوبيخ, ويصح أن يكون الحبس محدد المدة, وأن لا يكون محدد المدة, فيحبس المرتد إلى غير أمد حتى يظهر صلاحه.
ويميل الفقهاء إلى تشديد العقوبة على من تكررت ردته (وهذا عند من يقبلون توبة المعتاد على الردة) , كما يميل بعض الفقهاء إلى إعفاء الجانى من العقاب من أول ردة إلا إذا كان سابًا لرسول الله أو ساحرًا (1) .
الثانية: إذا سقطت العقوبة الأصلية لشبهة, كما أسقطها أبو حنيفة عن المرأة والصبي, وكما أسقطها مالك عن بعض الصبيان, ففى هذه الحالة تحبس المرأة والصبى إلى أمد ويجبر كلاهما على الإسلام, ويجوز أن يصحب الحبس عقوبة أخرى, ويستمر الحبس حتى يسلم المرتد.
* * *
ثالثًا: العقوبة التبعية
688- العقوبه التبعية هى التى تصيب المرتد على نوعين:
أولهما: مصادرة مال المرتد.
ثانيهما: نقص أهلية المرتد للتصرف.
689- (1) مصادرة مال المرتد: يرى مالك والشافعى وأحمد أن مال المرتد إذا مات أو قتل يكون مشيعًا ولا يرثه أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم, ويستثنى مالك من هذه القاعدة مال الزنديق والمنافق فيرى أن ميراثه لورثته من المسلمين لأن المنافقين على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - ورثهم أبناؤهم المسلمون لما ماتوا (2) .
والرأى الراجح فى المذاهب الثلاثة أن الردة لا تزيل الملك عن المرتد ولا تمنعه من تملك أموال أخرى بعد الردة بأسباب التمليك المشروعة وإنما توقف الردة ملك المرتد من وقت ردته فإن أسلم ثبت له ملكه وإن مات مرتدًا أو قتل بردته كان ماله فيئًا.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص282, شرح فتح القدير ج4 ص387, نهاية المحتاج ج7 ص401, أسنى المطالب ج4 ص122, المغنى ج10 ص113, كشاف القناع ج4 ص106.
(2) مواهب الجليل ج6 ص281, 282, أسنى المطالب ج4 ص123, كشاف القناع ج4 ص104, المغنى ج10 ص81.
(2/728)

أما فى مذهب أبى حنيفة فالمال المكتسب حال الإسلام يرثه الورثة المسلمون إذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وقضى باللحاق أو المال المكتسب حال الردة فيراه أبو حنيفة فيئًا, ويراه أبو يوسف ومحمد ميراثًا, ولا خلاف فى المذهب أن مال المرتد الموجود فى دار الحرب سواء اكتسبه قبل الردة أو بعدها فهو فئ إذا ظُهر عليه (1) .
والفرق بين مذهب أبى حنيفة والمذاهب الأخرى يرجع إلى الخلاف على تفسير ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث الكافر المسلم, ولا المسلم الكافر", فالمذاهب الثلاثة لا تجعل مال المرتد لورثته لأنه كافر وهم مسلمون, وأبو حنيفة وأصحابه يتأولون فيقولون إن مال المرتد مال مسلم لأن الردة كالموت فى إزالة سبب الملك, فإذا ارتد شخص فإن الردة تعتبر بالنسبة لماله موتًا فهو مسلم قد مات فيرثه ورثته المسلمون.
ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة ورأى أبى يوسف ومحمد (2) , ويرى مذهب الظاهريون أن مال المرتد لورثته الكفار إن كان له ورثة, فلا هو فئ ولا هو ميراث لورثته المسلمين (3) .
ويعتبر أبو حنيفة لحاق المرتد بدار الحرب فى حكم موته إذا قضى القاضى بلحاقه لأن اللحاق بدار الحرب بمنزله الموت فى حق زوال ملكه عن أمواله المتروكة فى دار الإسلام؛ لأن زوال الملك عن المال بالموت حقيقة لكونه مالاً فاضلاً عن حاجته لانتهاء حاجته بالموت وعجزه عن الانتفاع به, وقد وجد هذا المعنى فى اللحاق, لأن المال الذى فى دار الإسلام خرج من أن يكون منتفعًا به فى حقه لعجزه عن الانتفاع به, فكان فى حكم المال الفاضل عن حاجته, لعجزه عن قضاء حاجته به, فكان اللحاق بمنزلة الموت فى كونه مزيلاً للملك (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص138.
(2) شرح الأزهار ج4 ص578.
(3) المحلى ج11 ص197, 198.
(4) بدائع الصنائع ج4 ص84.
(2/729)

وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (1) , أما المذاهب الأخرى فلا تعتبر اللحاق بدار الحرب فى حكم الموت.
690- (2) نقص أهلية المرتد للتصرف: لا تؤثر الردة على أهلية المرتد للتملك, فيجوز أن يتملك بالهبة, وباستئجار نفسه, وبالصيد, وبالشراء مثلاً, ولكنه لا يتملك بالميراث ما دام فى دار الإسلام, لاختلاف الدين لأنه لا يقر على ردته, ولكن الردة تؤثر على أهلية المرتد للتصرف فى ماله, سواء كان المال مكتسبًا قبل الردة أو بعدها, فتصرفاته لا تكون نافذة, وإنما توقف تصرفاته, فإن أسلم نفذت, وإن مات على ردته كانت تصرفاته باطلة لأنها تمس أموالاً بها حق الغير. وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى وأحمد, إلا أن مذهب الشافعى يبطل التصرفات التى لا تحتمل الإيقاف كالبيع فإنه من القعود النافذة ما لم يكن معلقًا على شرط, وكذلك الهبة والرهن وما أشبه. على أن فى هذه المذاهب الثلاثة رأى مرجوح يرى أصحابة بطلان تصرفات المرتد بطلانًا مطلقًا, وهذا على أساس النظرية القائلة بأن الردة تزيل الملك ولا توقفه, فإذا أزالت الردة الملك عن المرتد فتصرف كان التصرف باطلاً لصدوره من غير مالك (2) .
وفى مذهب أبى حنيفة خلاف, فيرى أبو حنيفة أن تصرفات المرتد موقوفة, فإن أسلم جازت هذه التصرفات, وإن مات على ردته أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت كل تصرفاته, وأساس نظريته أن الردة توقف ملك المرتد. أما عند أبى يوسف ومحمد فملك المرتد لا يزول بالردة ولا يوقف وإنما يزول الملك بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب, وعلى هذا فإن تصرفات المرتد عندهما جائزة كما تجوز من المسلم, ولكنهما اختلفا فى مدر جواز هذه التصرفات, فرأى
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص578.
(2) مواهب الجليل ج6 ص281, 282, 284, شرح الزرقانى ج8 ص66, 68, نهاية المحتاج ج7 ص401, أسنى المطالب ج4 ص123, المغنى ج10 ص83, كشاف القناع ج4 ص108.
(2/730)

محمد أن تصرفات المرتد جائزة جواز تصرفات المريض مرض الموت, لأن المرتد على شرف التلف لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت, ويرى أبو يوسف أن تصرفات المرتد جائزة جواز تصرفات الصحيح لأن اختيار الإسلام بيده فيمكنه الرجوع إلى الإسلام فيتخلص من القتل, والمريض لا يمكنه دفع المرض, فأَنَّى يتشابهان؟ (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية كرأى أبى حنيفة, إلا أنهم يجعلون التصرفات فى القُرَب لغوًا كالوقف والصدقة والنذر إلا المعتق, فإذا لم تتناول التصرفات القرب فهى موقوفة فإن أسلم نفذت وإلا بطلت (2) .
* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق