الأربعاء، 13 مايو 2015

كتاب الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام – باب العتق وما يتصل به

[بَابُ الْعِتْقِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ]
بَابُ الْعِتْقِ (تَعْرِيفُهُ) وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ الْعِتْقِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ ابْنُ عَرَفَةَ هُوَ رَفْعُ مِلْكٍ حَقِيقِيٍّ لَا بِسِبَاءٍ مُحَرَّمٍ عَنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ، فَقَوْلُهُ رَفْعُ مِلْكٍ الرَّفْعُ هُوَ إزَالَةُ أَمْرٍ مُتَقَرِّرٍ ثُبُوتُهُ، وَأَخْرَجَ بِالْمِلْكِ رَفْعَ غَيْرِ الْمِلْكِ كَرَفْعِ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ، وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ حَقِيقِيٍّ اسْتِحْقَاقَ عَبْدٍ بِحُرِّيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِحُرِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا حَقِيقَةً ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَقَوْلُهُ لَا بِسِبَاءٍ مُحَرَّمٍ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ بِغَيْرِ سِبَاءٍ لَا بِسِبَاءٍ، وَأَخْرَجَ بِهِ فِدَاءَ الْمُسْلِمِ مِنْ حَرْبِيٍّ سَبَاهُ، وَكَذَلِكَ مِمَّنْ صَارَ لَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ، وَقَوْلُهُ عَنْ آدَمِيٍّ مُتَعَلِّقٌ بِرَفْعُ (قَالَ الرَّصَّاعُ) قَالَ الشَّيْخُ الْأَبِيُّ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ: لَا يُقَالُ: الْحَدُّ غَيْرُ مَانِعٍ لِصِدْقِهِ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ وَهِبَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ إنَّمَا هِيَ نَقْلُ مِلْكٍ لَا رَفْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ ذَهَابَهُ وَنَقْلُهُ يَقْتَضِي وُجُودَهُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَحَلِّهِ وَالْبَيْعُ وَمَا شَابَهَهُ مِنْ الثَّانِي لَا مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالْآدَمِيِّ: الْجِنْسُ فَيَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَوَصَفَهُ بِحَيٍّ؛ لِيُخْرِجَ بِهِ مَنْ ارْتَفَعَ الْمِلْكُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ. انْتَهَى بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ.
وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِمَا يَتَّصِلُ بِالْعِتْقِ اخْتِلَافُ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ فِي قَدْرِ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَجِنْسِهِ وَأَجَلِهِ وَعَدَمِ لُزُومِ رَهْنٍ أَوْ حَمِيلٍ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعِتْقُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْوَصَاةِ ... وَبِالْكِتَابَةِ وَبِالْبَتَاتِ
وَلَيْسَ فِي التَّدْبِيرِ وَالتَّبْتِيلِ ... إلَى الرُّجُوعِ بُعْدٌ مِنْ سَبِيلِ
وَالْعِتْقُ بِالْمَالِ هُوَ الْمُكَاتَبَهْ ... وَمَالَهُ بِالْجَبْرِ مِنْ مُطَالَبَهْ
أَخْبَرَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ التَّدْبِيرُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِمَوْتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ كَقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ دَبَّرْتُكَ أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِالتَّدْبِيرِ، أَوْ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي لَا يُغَيِّرُ عَنْ حَالَةٍ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَيُّ التَّدْبِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ فَقَالَ: إيجَابٌ يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ، وَفِيهِ قُلْت: لَهُ أَرَأَيْت إنْ قَالَ رَجُلٌ فِي صِحَّتِهِ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ أَمُوتُ، فَقَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ؟ فَقَالَ: يُسْأَلُ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ وَجْهَ الْوَصِيَّةِ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ التَّدْبِيرَ مُنِعَ
(2/197)

مِنْ بَيْعِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَهِيَ وَصِيَّةٌ أَبَدًا حَتَّى يُرِيدَ التَّدْبِيرَ.
(قَالَ سَحْنُونٌ) : وَكَانَ أَشْهَبُ يَقُولُ: إذَا قَالَ: مِثْلَ هَذَا فِي صِحَّتِهِ فِي غَيْرِ إحْدَاثِ وَصِيَّةٍ بِسَفَرٍ، فَهُوَ تَدْبِيرٌ (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَأَمَّا إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِي هَذَا، فَوَصِيَّةٌ لَا تَدْبِيرٌ (التَّوْضِيحُ) ، وَإِنَّمَا كَانَتْ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ إنْ لَمْ يَمُتْ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ التَّدْبِيرِ إذْ التَّدْبِيرُ لَا رُجُوعَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ، لَهُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: أَنَّ ذَلِكَ تَدْبِيرًا. اهـ.
نَقَلَ مَا قَبْلَهُ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي لِيَوْمٍ أَوْ لِشَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَيَلْحَقُهُ الدَّيْنُ قَالُوا: وَهَذَا وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ التَّدْبِيرَ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى الْمَوْتِ قَرِينَةٌ فِي إرَادَةِ الْوَصِيَّةِ. اهـ.
وَقَالَ قَبْلَهُ أَيْضًا: لَمَّا ذَكَرَ صِيَغَ التَّدْبِيرِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ مَا نَصُّهُ نَعَمْ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ الصِّيَغِ إلَى الْوَصِيَّةِ بِالْقَرِينَةِ كَقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي مَا لَمْ أُغَيِّرْ ذَلِكَ وَأَرْجِعْ عَنْهُ، أَوْ أَفْسَخْهُ، كَمَا أَنَّ صَرِيحَ الْوَصِيَّةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّدْبِيرِ انْتَقَلَ إلَى حُكْمِهِ، كَقَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ، لَا يُغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ أَوْ لَا مَرْجِعَ لِي فِيهِ، فَهَذَا لَهُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهِ الْعِتْقِ الْعِتْقُ بِالْوَصِيَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَالْوَصَاةُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ الْوَصِيَّةُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ: وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: إنْ قَدَّرَ اللَّهُ بِمَوْتِي فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ أَوْ أَعْتِقُوهُ أَوْ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي أَوْ سَفَرِي هَذَا، أَوْ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَنَحْوُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْعِتْقُ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ يُعْطِيهِ الْعَبْدُ مَوْقُوفًا عِتْقُهُ عَلَى أَدَائِهِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّاظِمُ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ: وَالْعِتْقُ بِالْمَالِ هُوَ الْمُكَاتَبَةُ.
(قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : سُمِّيَتْ كِتَابَةً مَصْدَرُ كَتَبَ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ لِمَوْلَاهُ ثَمَنُهُ، وَيَكْتُبُ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ الْعِتْقَ، ثُمَّ قَالَ: وَخُصَّ الْعَبْدُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ السَّيِّدِ، وَهُوَ الَّذِي يُكَاتِبُ عَبْدَهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْعِتْقُ النَّاجِزُ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْبَتَاتِ كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُعْتَقٌ (ابْنُ الْحَاجِبِ) الصِّيغَةُ الصَّرِيحُ كَالتَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ وَفَكِّ الرَّقَبَةِ، (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ إرَادَةِ الْعِتْقِ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ، وَمَنْ عَجِبَ مِنْ عَمَلِ عَبْدِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ أَوْ قَالَ لَهُ: تَعَالَ يَا حُرُّ وَلَمْ يُرِدْ الْحُرِّيَّةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّك تَعْصِينِي، فَأَنْتَ فِي مَعْصِيَتِك إيَّايَ كَالْحُرِّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْفُتْيَا، وَلَا فِي الْقَضَاءِ. اهـ.
ثُمَّ أَخْبَرَ الْبَيْتُ الثَّانِي أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّدْبِيرِ أَوْ التَّبْتِيلِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ الْبَيْتُ الْأَوَّلُ بِالْبَتَاتِ، ثُمَّ نَدِمَ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ
(2/198)

فِي ذَلِكَ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ، وَمَا عَقَدَهُ فِيهِ لَازِمٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ حَتَّى لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ، وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا نَقَلَهُ السَّبْتَانِيُّ فِي شَرْحِ التِّلْمِسَانِيَّة وَنَصُّهُ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي وَصَايَا الْمُقَدِّمَاتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ عِدَةٌ وَلِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا إنْ شَاءَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَقَالَ فِي الْمُدَبَّرِ: مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ أَوَجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِعَبْدِهِ إلَى أَجَلٍ آتٍ لَا مَحَالَةَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ بِقَوْلٍ وَلَا بِفِعْلٍ كَالْعِتْقِ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاحْتِمَالُ الثُّلُثِ لَهُ بِعَقْدِ السَّيِّدِ الْعِتْقُ لَهُ، كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ لَمْ يَعْقِدْ السَّيِّدُ لَهُ عَقْدَ عِتْقٍ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَالْعِتْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْمُوصَى إلَيْهِ، فَهُوَ كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ فُلَانًا أَوْ يَهَبُهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مَا لَمْ يَعْقِدْ الْوَكِيلُ مَا أَمَرَ بِهِ. اهـ.
وَقَوْلُهُ: وَالْعِتْقُ بِالْمَالِ هُوَ الْمُكَاتَبَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَالَهُ بِالْجَبْرِ مِنْ مُطَالَبَهْ، فَأَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلَا لِلْعَبْدِ أَنْ يُجْبِرَ سَيِّدَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ بِرِضَاهُمَا مَعًا فَمَا نَافِيَةٌ، وَضَمِيرُ لَهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا بِاللُّزُومِ، وَإِذًا الْعِتْقُ يَسْتَلْزِمُ مُعْتَقًا وَمُعْتِقًا، وَمِنْ: زَائِدَةٌ بَعْدَ النَّفْيِ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ وَمُطَالَبَهْ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَهُ وَبِالْجَبْرِ يَتَعَلَّقُ بِمُطَالَبَهْ أَيْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِالْجَبْرِ عَلَى الْكِتَابَةِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى السَّيِّدِ، فَلَا يُجْبَرُ الْعَبْدُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. اهـ.
وَبَعَّدَ كَوْنَهَا غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَى السَّيِّدِ فَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقِيلَ: مُبَاحَةٌ حَكَاهُ ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ بِإِيجَابِهَا لِلْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وَقَوْلُهُ: وَلَا يُجْبَرُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا عَلَى الْأَصَحِّ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَمُقَابِلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْبَغَ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ.
وَمُعْتِقٌ لِلْجُزْءِ مِنْ عَبْدٍ لَهُ ... مُطَالَبٌ بِالْحُكْمِ أَنْ يُكَمِّلَهُ
وَحَظُّ مَنْ شَارَكَهُ يُقَوَّمُ ... عَلَيْهِ فِي الْيُسْرِ وَعِتْقًا يَلْزَمُ
اشْتَمَلَ الْبَيْتُ الْأَوَّلُ: عَلَى مَنْ لَهُ عَبْدٌ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ فَأَعْتَقَ جُزْءًا مِنْهُ كَثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ، وَكَذَا إنْ أَعْتَقَ عُضْوًا مِنْهُ كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ يَسْرِي لِبَاقِيهِ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ، فَالْجُزْءُ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ ظَاهِرٌ فِي الْجُزْءِ الْمُشَاعِ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَلَا يَبْعُدُ شُمُولُهُ لِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، وَهَلْ تَتَوَقَّفُ السِّرَايَةُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ؟ وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ النَّاظِمِ أَوْ لَا تَتَوَقَّفُ، وَيَكُونُ جَمِيعُهُ حُرًّا بِنَفْسِ عِتْقِ الْجُزْءِ قَوْلَانِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَمَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا أَوْ عُضْوًا مِنْ عَبْدِهِ سَرَى وَفِي وُقُوفِ الْعِتْقِ عَلَى الْحُكْمِ رِوَايَتَانِ (التَّوْضِيحُ) ، قَوْلُهُ: سَرَى عِتْقٌ عَلَيْهِ جَمِيعِهِ، وَالرِّوَايَةُ بِوُقُوفِ السِّرَايَةِ عَلَى الْحُكْمِ.
قَالَ: اللَّخْمِيُّ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى نَقَلَهَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، ثُمَّ بَحَثَ فِي التَّوْضِيحِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَوَقُّفِ السِّرَايَةِ عَلَى الْحُكْمِ لَا سِرَايَةَ، وَأَجَابَ بِأَنَّ السِّرَايَةَ حَاصِلَةٌ عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ عَدَمُ افْتِقَارِهَا لِلْحُكْمِ اُنْظُرْهُ إنْ شِئْت، وَاشْتَمَلَ الْبَيْتُ الثَّانِي عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْ عَبْدٍ كَنِصْفٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَأَعْتَقَ جُزْأَهُ الَّذِي يَمْلِكُ، فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ
(2/199)

نَصِيبُ شَرِيكِهِ يَدْفَعُ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّصِيبِ لِلشَّرِيكِ، وَيُعْتَقُ جَمِيعُهُ وَلِتَقْوِيمِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ شُرُوطٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: فِي الْيُسْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ مِنْ الشُّرُوطِ الْآتِيَةِ وَيُسْرُهُ بِأَنْ تَفْضُلَ لَهُ الْقِيمَةُ عَنْ قُوتِهِ الْأَيَّامَ وَكِسْوَةِ ظَهْرٍ كَالْمَدِينِ، وَيُبَاعُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلُهُ وَشَوَارِبِيَّتُهُ، وَالْمَرِيضُ فَقِيرٌ إلَّا فِي الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِالْبَعْضِ سَرَى الْعِتْقُ فِي ذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ كَوْنِهِ مُوسِرًا أَنْ يَدْفَعَ الْقِيمَةَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَلَا يُعْتَقُ إلَّا بَعْدَ التَّقْوِيمِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ عَلَى أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ عِتْقُ الْجُزْءِ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ فَلَوْ وَرِثَ جُزْءًا مِنْ قَرِيبِهِ لَمْ يَسْرِ، وَلَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ سَرَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبْتَدِي لِتَبْعِيضِ الْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حُرًّا لَمْ يُقَوَّمْ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَالتَّقْوِيمُ عَلَى الْأَوَّلِ، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ مُسْلِمًا أَوْ الْعَبْدُ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ، فَلَا تَقْوِيمَ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ ذَكَرهَا ابْنُ الْحَاجِبِ، وَتَبِعَهُ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَرَاجِعْهَا فِي التَّوْضِيحِ إنْ شِئْتَ.
(فَرْعٌ) قَدْ يَجْتَمِعُ الْمَسْأَلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْبَيْتَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَنْ لَهُ نِصْفُ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَ رُبْعَهُ، فَيُكَمَّلُ عَلَيْهِ الرُّبْعُ الْآخَرُ، وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ النِّصْفُ الَّذِي لِشَرِيكِهِ.
وَعِتْقُ مَنْ سَيِّدُهُ يُمَثِّلُ ... بِهِ إذَا مَا شَانَهُ يُبَتِّلُ
أَشَارَ بِالْبَيْتِ لِمَسْأَلَةِ قَوْلِهِ فِي الرِّسَالَةِ: وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ مُثْلَةً بَيِّنَةً مِنْ قَطْعِ جَارِحَةٍ وَنَحْوِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمَنْ مَثَّلَ بِرَقِيقَةٍ عَمْدًا مُثْلَةَ شَيْنٍ عَتَقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَطْعُ الْأُنْمُلَةِ وَالظُّفْرِ، وَشَقُّ الْأُذُنِ شَيْنٌ، وَوَسْمُ وَجْهِهِ بِالنَّارِ شَيْنٌ، وَفِي ذِرَاعِهِ وَشِبْهِهِ لَيْسَ بِشَيْنٍ، وَفِي وَشْمِ وَجْهِهِ بِغَيْرِ النَّارِ قَوْلَانِ، وَقَلْعُ الْأَسْنَانِ، وَسَحْلُهَا أَيْ بَرْدُهَا شَيْنٌ، وَفِي السِّنِّ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ، وَحَلْقُ رَأْسِ الْأَمَةِ، وَلِحْيَةِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِشَيْنٍ إلَّا فِي التَّاجِرِ الْمُحْتَرَمِ وَالْأَمَةِ الرَّفِيعَةِ، اُنْظُرْ التَّوْضِيحَ.
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ سَحْنُونٌ قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ أَرَأَيْت إنْ أَحْرَقَ رَجُلٌ جَسَدَ عَبْدِهِ بِالنَّارِ فَقَالَ: هَذِهِ مُثْلَةٌ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْذِيبِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ كَوَاهُ عَلَى وَجْهِ الْعِلَاجِ لِلْعَبْدِ، فَلَا عِتْقَ لَهُ.
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ امْرَأَةٍ كَوَتْ فَرْجَ جَارِيَتِهَا بِالنَّارِ؟ فَقَالَ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْذِيبِ لَهَا، فَانْتَشَرَ وَسَاءَ مَنْظَرُهُ أُعْتِقَتْ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَيْبَسْ، وَيَقْبُحْ مَنْظَرُهُ فَلَا عِتْقَ لَهَا.
(قَالَ سَحْنُونٌ) : وَمَنْ مَثَّلَ بِأُمِّ وَلَدِهِ أُعْتِقَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَثَّلَ بِعَبْدٍ لِأُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مَثَّلَ بِعَبْدِ عَبْدِهِ أُعْتِقَا عَلَيْهِ. قُلْت لَهُ: فَإِنْ مَثَّلَ بِمُكَاتَبِهِ، مِثْلُ أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ يَقْطَعَ يَدَهُ قَالَ: يُنْظَرُ إلَى جُرْحِهِ أَنْ لَوْ جَرَحَهُ أَجْنَبِيٌّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْجُرْحِ وَالْكِتَابَةِ سَوَاءً أُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْكِتَابَةِ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْكِتَابَةِ أُعْتِقَ الْعَبْدُ.
(قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) : وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ مُكَاتَبِهِ كَانَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُثْلَةً فَاسِدَةً يَضْمَنُهُ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ.
(قَالَ مَالِكٌ) : وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ أُعْتِقَ عَلَيْهِ (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) : وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ أُعْتِقَ وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ لِوَلَدِهِ إنْ كَانَ مَلِيًّا؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، وَهُوَ مَلِيٌّ جَازَ عِتْقُهُ فِيهِمْ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُمْ، وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ امْرَأَتِهِ عُوقِبَ وَضَمِنَ مَا نَقَصَ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُثْلَةً فَاسِدَةً، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُمْ، وَيُعْتَقُونَ عَلَيْهِ. اهـ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَمْدِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعِقَابِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلَاجُ أَوْ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحِهِ مِثْلُ أَنْ يَحْذِفَ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ، فَيَبِينَ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ عُضْوٌ، فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ اللَّخْمِيِّ.
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ مَالِكٌ وَمَا أَصَابَ بِهِ الْمَرْءَ عَبْدَهُ عَلَى غَيْرِ تَعَمُّدٍ مِثْلُ أَنْ يَضْرِبَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ فَيَفْقَأُ عَيْنَهُ أَوْ يَكْسِرَ يَدَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْقَطْعِ وَالشَّلَلِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ. اهـ.
وَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ الَّذِي مَثَّلَ بِعَبْدِهِ رَشِيدًا لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، أَمَّا إنْ كَانَ سَفِيهًا، فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَفِي مُثْلَةِ السَّفِيهِ قَوْلَانِ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: عَلَيْهِ عِتْقٌ عِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ وَأَصْبَغَ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَانْظُرْ ابْنَ الْحَاجِبِ وَالتَّوْضِيحَ عَلَى مُثْلَةِ الزَّوْجَةِ لِعَبْدِهَا وَالْعَبْدِ وَالْمِدْيَانِ بِعَبْدَيْهِمَا وَقَوْلُ النَّاظِمِ عِتْقُ هُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ وَمَنْ: وَاقِعَةٌ
(2/200)

عَلَى الْعَبْدِ، وَيُمَثِّلُ بِتَشْدِيدِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنْ الْمُثْلَةِ، وَهِيَ الْعُقُوبَةُ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَمَا بَعْدَ إذَا زَائِدَةٌ وَيُبَتِّلُ: خَبَرُ عِتْقُ.
(تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ) : لَمْ يُقَيِّدْ النَّاظِمُ الْمُمَثِّلَ بِعَبْدِهِ بِكَوْنِهِ رَشِيدًا مُتَعَمِّدًا، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ. (الثَّانِي) : قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ خَوَاصُّ الْعِتْقِ السِّرَايَةُ وَالْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمُثْلَةُ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ وَالْقُرْعَةُ وَالْوَلَاءُ (التَّوْضِيحُ) الْخَاصَّةُ الْوَصْفُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَاهِيَّةِ. اهـ.
فَالسِّرَايَةُ فِيمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ أَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا لَا يَمْلِكُ مِنْ الْعَبْدِ سَوَاءٌ، وَتَقَدَّمَ هَذَانِ فِي الْبَيْتَيْنِ قَبْل هَذَا الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ النَّاظِمُ، وَقَالَ فِي الرِّسَالَةِ، وَمَنْ مَلَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَ وَلَدِهِ أَوْ إحْدَى بَنَاتِهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ أَخَاهُ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ أَوْ لَهُمَا: عَتَقَ عَلَيْهِ وَالْمُثْلَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْقُرْعَةُ، فَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ، وَلَيْسَ الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ خَاصَّةً بِالْعِتْقِ، بَلْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْعَةُ تَأْتِي فِي قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ، وَالْقِسْمَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ. اهـ. وَالْقُرْعَةُ فِي الْعِتْقِ هِيَ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا دَفْعَةً فِي مَرَضِهِ أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ ثُلُثِهِمْ أَوْ أَوْصَى بِعَدَدٍ سَمَّاهُ وَعَبِيدُهُ أَكْثَرُ وَالْوَلَاءُ لَا إشْكَالَ إنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْعِتْقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَرْعٌ) رَوَى سَحْنُونٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَطْلُقُ بِمُثْلَةِ الْعِتْقِ طَلْقَةً بَائِنَةً مَخَافَةَ أَنْ يَعُودَ، وَقِيلَ ثَلَاثًا، وَقِيلَ: لَا تَطْلُقُ اُنْظُرْ التَّوْضِيحَ.
وَمَنْ بِمَالٍ عِتْقُهُ مُنَجَّمِ ... يَكُونُ عَبْدًا مَعْ بَقَاءِ دِرْهَمِ
يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عَلَى مَالٍ مُنَجَّمٍ أَيْ يَدْفَعُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهُوَ الْمُكَاتَبُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ حُرًّا حَتَّى يَدْفَعَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ قِنًّا، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ حَتَّى يَدْفَعَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ (، وَقَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ دِرْهَمٌ. اهـ. وَمَنْ: مَوْصُولٌ مُبْتَدَأٌ وَصِلَتُهُ عِتْقُهُ بِمَالٍ، وَمُنَجَّمِ: صِفَةُ مَالٍ، وَجُمْلَةُ يَكُونُ عَبْدًا خَبَرُ مَنْ.
وَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ فِي مَالٍ حَصَلْ ... الْخُلْفُ فِي جِنْسٍ وَقَدْرٍ وَأَجَلْ
يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُكَاتَبُ وَسَيِّدُهُ، فَادَّعَى الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ دَفَعَ لِلسَّيِّدِ الْكِتَابَةَ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْكِتَابَةِ وَعَدَمِهَا، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي، وَلَيْسَ هَذَا الْفَرْعُ الثَّانِي فِي كَلَامِ النَّاظِمِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَالِ الْمُكَاتَبِ بِهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ أَوْ فِي الْأَجَلِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ الثَّلَاثَةَ أَوْجُهٍ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَفِي قَدْرِهِ، وَفِي حُلُولِهِ، وَفِي عَدَمِ حُلُولِهِ، هَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ أَوْ قَوْلُ الْعَبْدِ؟ (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَإِذَا تَنَازَعَا فِي الْكِتَابَةِ وَالْأَدَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ (التَّوْضِيحُ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ السَّيِّدَ كَاتَبَهُ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ أَوْ ادَّعَى الْمُكَاتَبُ دَفْعَ الْكِتَابَةِ، وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْكِتَابَةِ وَالْأَدَاءِ
(2/201)

وَلَا يَمِينَ عَلَى السَّيِّد فِي الْأُولَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُكَاتَبُ، وَعَتَقَ. اهـ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَحْلِفْ السَّيِّدُ فِي إنْكَارِهِ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ، فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَيَثْبُتُ الْأَدَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ عَتَقَ بِهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِهَا أَوْ جِنْسِهَا أَوْ أَجَلِهَا، فَفِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُكَاتَبِ أَوْ السَّيِّدِ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ.
(التَّوْضِيحُ) ، أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقَدْرِ، فَكَمَا إذَا قَالَ السَّيِّدُ: بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُكَاتَبُ: بِتِسْعِمِائَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ، فَكَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: بِثِيَابٍ وَقَالَ الْآخَرُ: بِخِلَافِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَجَلِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ؛ لَأَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي حُلُولِهِ. اهـ.
بِاخْتِصَارٍ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْأَدَاءِ لَا الْقَدْرِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ، وَقَوْلُ النَّاظِمِ فِي مَالٍ حَصَلْ، حَصَلْ صِفَةُ مَالٍ أَيْ حَصَلَ بِيَدِ السَّيِّدِ لِقَبْضِهِ إيَّاهُ بِزَعْمِ الْعَبْدِ.
وَحُكْمُهُ كَالْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ ... وَمَنْعُ رَهْنٍ وَضَمَانٍ اُقْتُفِيَ
اشْتَمَلَ الْبَيْتُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ:
(الْأُولَى) : أَنَّ حُكْمَ الْمُكَاتَبِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ كَالْحُرِّ قَالَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَقُولُ: وَالْمُكَاتَبُ، وَإِنْ كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ كَالْحُرِّ، فَهُوَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَالْعَبْدِ، فَفِي الْمُقَرَّبِ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ فِي شَهَادَتِهِ، وَفِي حَدٍّ إنْ أَصَابَهُ، وَلَا يَرِثُ الْمُكَاتَبُ وَلَدَهُ الْحُرَّ إنْ كَانَ لَهُ، وَلَا غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ وَسَيِّدُهُ أَوْلَى بِمِيرَاثِهِ. اهـ.
(ابْنُ عَرَفَةَ) تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ كَالْحُرِّ إلَّا فِي إخْرَاجِ مَالٍ لَا عَنْ عِوَضٍ (وَفِي مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ) ، وَلِلْمُكَاتَبِ بِلَا إذْنٍ بَيْعٌ وَشِرَاءٌ وَمُشَارَكَةٌ وَمُقَارَضَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ وَاسْتِخْلَافُ عَاقِدٍ لِأَمَتِهِ وَإِسْلَامِهَا أَوْ فِدَائِهَا، إنْ جُنَّتْ بِالنَّظَرِ، وَسَفَرٌ لَا يَحِلُّ فِيهِ نَجْمٌ، وَإِقْرَارٌ فِي رَقَبَتِهِ وَإِسْقَاطُ شُفْعَتِهِ لَا عِتْقَ، وَإِنْ قَرِيبًا وَهِبَةٌ وَصَدَقَةٌ وَتَزْوِيجٌ وَإِقْرَارٌ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ وَسَفَرٌ بَعِيدٍ، إلَّا بِإِذْنٍ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي الْبَيْتِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَهْنٌ أَوْ ضَمَانٌ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَهُ، وَيَرْتَهِنَ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِ مُكَاتَبَةٍ، فَيَكُونَ كَالْحَمَالَةِ وَالْحَمَالَةُ لَا تَجُوزُ فِي الْكِتَابَةِ (ابْنُ وَهْبٍ) قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ تَحَمَّلَ لَهُ رَجُلٌ بِالْكِتَابَةِ إنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ عَجَزَ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْكِتَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فَيَتَحَمَّلُ السَّيِّدُ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يُخَلِّصْ السَّيِّدُ الْغُرَمَاءَ بِالْكِتَابَةِ.
وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، كَانَتْ دُيُونُ النَّاسِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَدْخُلُونَ مَعَ سَيِّدِهِ فِي رَقَبَتِهِ انْتَهَى. ابْنُ شَاسٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَضْمُونِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا أَوْ مَآلُهُ إلَى ذَلِكَ، فَلَا تَصِحُّ الْحَمَالَةُ بِالْكِتَابَةِ إذْ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا تَئُولُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا عَجَزَ رُقَّ؛ وَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ ا. هـ.
(الْمَوَّاقُ) قِيلَ: ثَمَانِيَةٌ لَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ بِهَا الْكِتَابَةُ وَالصَّرْفُ وَالْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ وَالْبَيْعُ بِعَيْنِهِ وَعَمَلُ أَجِيرٍ يَعْمَلُ بِنَفَقَتِهِ وَحَمُولَةُ دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا. اهـ. (قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ) : وَقَدْ كُنْت قُلْت فِي هَذِهِ النَّظَائِرِ:
وَامْنَعْ ضَمَانًا فِي ثَمَانٍ فَاعْلَمْ ... حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ قِصَاصٌ فِي دَمِ
صَرْفٌ كِتَابَةٌ وَفِيمَا عَيَّنَا ... مَبِيعًا أَوْ حَمْلًا وَصُنْعًا فَافْطِنَا.

[بَابُ فِي الرُّشْدِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالْحَجْرِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ وَالدَّيْنِ وَالْفَلَسِ]
ِ جَمَعَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيْنَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ ثُمَّ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ بِالْفُصُولِ وَبَدَأَ بِبَيَانِ الرُّشْدِ فَقَالَ
الرُّشْدُ حِفْظُ الْمَالِ مَعَ حُسْنِ النَّظَرْ ... وَبَعْضُهُمْ لَهُ الصَّلَاحُ مُعْتَبَرْ
يَعْنِي أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّشْدِ هِيَ حِفْظُ الْمَالِ مَعَ حُسْنِ النَّظَرِ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ
(2/202)

ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ زَادَ فِيهَا صَلَاحَ الْحَالِ أَيْضًا فَهِيَ عِنْدَهُ حِفْظُ الْمَالِ وَحُسْنُ النَّظَرِ فِيهِ وَصَلَاحُ الْحَالِ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) الرُّشْدُ هُوَ حِفْظُ الْمَالِ وَحُسْنُ النَّظَرِ فِيهِ وَاخْتُلِفَ هَلْ مِنْ شَرْطِهِ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ الْمَدَنِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الرُّشْدُ هُوَ صِحَّةُ الْعَقْلِ وَصَلَاحُ الدِّينِ وَتَثْمِيرُ الْمَالِ وَحِفْظُهُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا أَثْمَرَ مَالَهُ وَحَاطَهُ اسْتَوْجَبَ اسْمَ الرُّشْدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْضِيِّ الْحَالِ وَبِذَلِكَ الْحُكْمُ. اهـ.
مِنْ الشَّارِحِ وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ آخِرَ الْبَابِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ حَيْثُ قَالَ:
وَصَالِحٌ لَيْسَ يُجِيدُ النَّظَرَا ... فِي الْمَالِ إنْ خِيفَ الضَّيَاعُ حُجِرَا
وَشَارِبُ الْخَمْرِ إذَا مَا ثَمَّرَا ... لِمَا يَلِي مِنْ مَالِهِ لَنْ يُحْجَرَا
وَلَازِمٌ لَهُ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ لَهُ الصَّلَاحُ بِمَعْنَى مَعَ وَقَدْ حَكَاهُ فِي الْمُغْنِي عَنْ بَعْضِهِمْ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ يَعُودُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ وَحُسْنِ النَّظَرِ فِيهِ.
وَالِابْنُ مَا دَامَ صَغِيرًا لِلْأَبِ ... إلَى الْبُلُوغِ حَجْرُهُ فِيمَا اُجْتُبِيَ
إنْ ظَهَرَ الرُّشْدُ وَلَا قَوْلَ لِأَبْ ... وَبَالِغٌ بِالْعَكْسِ حَجْرَهُ وَجَبْ
كَذَاك مَنْ أَبُوهُ حَجْرًا جَدَّدَا ... عَلَيْهِ فِي فَوْرِ الْبُلُوغِ مُشْهِدَا
وَبَالِغٌ وَحَالُهُ قَدْ جُهِلَا ... عَلَى الرَّشَادِ حَمْلُهُ وَقِيلَ لَا
وَإِنْ يَمُتْ أَبٌ وَقَدْ وَصَّى عَلَى ... مُسْتَوْجِبٍ حَجْرًا مَضَى مَا فَعَلَا
تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَفِيمَا بَعْدَهَا عَلَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَلَدُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَيَصِيرُ رَشِيدًا لَا حَجْرَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَدْ وَصَّى عَلَيْهِ أَوْ تَرَكَهُ مُهْمَلًا فَأَخْبَرَ أَنَّ الِابْنَ مَا دَامَ صَغِيرًا غَيْرَ بَالِغٍ وَأَبُوهُ حَيٌّ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ لِأَبِيهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ فَإِذَا بَلَغَ نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ ظَهَرَ رُشْدُهُ خَرَجَ مِنْ الْوِلَايَةِ وَلَا قَوْلَ لِأَبِيهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ ظَهَرَ سَفَهُهُ وَجَبَ اسْتِمْرَارُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْحَجْرُ إذَا جَدَّدَ أَبُوهُ عَلَيْهِ الْحَجْرَ فِي فَوْرِ الْبُلُوغِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا إنْ بَلَغَ مَجْهُولَ الْحَالِ بِحَيْثُ لَمْ يُتَبَيَّنْ رُشْدُهُ وَلَا سَفَهُهُ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الرَّشَادِ أَوْ عَلَى السَّفَهِ قَوْلَانِ وَكَذَا يَسْتَمِرُّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ أَبُوهُ وَكَانَ قَدْ أَوْصَى عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ أَمَّا الِابْنُ فَهُوَ فِي وِلَايَةِ أَبِيهِ مَا دَامَ صَغِيرًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ فَإِذَا بَلَغَ فَلَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الرُّشْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ السَّفَهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْلَمُ رُشْدُهُ مِنْ سَفَهِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْلُومَ الرُّشْدِ فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ الْوِلَايَةِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا بِبُلُوغِهِ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ رُشْدِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالسَّفَهِ فَلَا يُخْرِجُهُ الِاحْتِلَامُ مِنْ وِلَايَةِ أَبِيهِ وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ
(2/203)

وَأَمَّا إنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْلَمُ رُشْدُهُ مِنْ سَفَهِهِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السَّفَهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ، وَهُوَ نَصُّ رِوَايَةِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ قَالَ فِيهَا: وَلَيْسَ الِاحْتِلَامُ بِاَلَّذِي يُخْرِجُهُ مِنْ وِلَايَةِ أَبِيهِ حَتَّى يُعْرَفَ حَالُهُ وَيَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى صَلَاحِ أَمْرِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّشْدِ حَتَّى يَثْبُتَ سَفَهُهُ وَيَخْرُجُ بِالِاحْتِلَامِ مِنْ وِلَايَةِ أَبِيهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ سَفَهُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ رُشْدُهُ. رَوَى ذَلِكَ زِيَادٌ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِهِ إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ أَنَّهُ أَرَادَ بِنَفْسِهِ لَا بِمَالِهِ كَمَا تَأَوَّلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ.
(وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) وَأَمَّا إذَا ذَهَبَ الْأَبُ إلَى تَسْفِيهِ ابْنِهِ الْبَالِغِ عِنْدَ حَدَاثَةِ بُلُوغِهِ جَازَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَهُوَ صَغِيرٌ وَأَوْصَى بِهِ إلَى أَحَدٍ أَوْ قَدَّمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ وِلَايَةِ مَنْ هُوَ وَصِيُّ أَبِيهِ أَوْ مُقَدَّمُ السُّلْطَانِ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْهَا الْوَصِيُّ أَوْ السُّلْطَانُ إنْ كَانَ الْوَصِيُّ هُوَ مُقَدَّمًا مِنْ قِبَلِهِ وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ، وَإِنْ عُلِمَ رُشْدُهُ مَا لَمْ يُطْلَقْ مِنْ الْحَجْرِ. اهـ
وَقِيلَ: إنَّ مَعَ الْوَصِيِّ كَحَالِهِ مَعَ الْأَبِ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ وِلَايَتِهِ إذَا عُرِفَ رُشْدُهُ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنَّمَا الْأَوْصِيَاءُ بِسَبَبِ الْآبَاءِ فَلَا يَكُونُونَ أَشَدَّ حَالًا مِنْهُمْ وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ ثُبُوتُهَا إذَا عُلِمَ الرُّشْدُ وَلَا بِسُقُوطِهَا إذَا عُلِمَ السَّفَهُ وَقَدْ رَوَى أَيْضًا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَى زُونَانُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَلَا تَجُوزُ أَفْعَالُهُ حَتَّى يُطْلَقَ مِنْهَا، وَإِنْ ظَهَرَ رُشْدُهُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ وَكِبَارِ أَصْحَابِهِ مِنْ ابْنِ سَلْمُونٍ وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ لِابْنِ رُشْدٍ وَقَدْ اشْتَمَلَتْ أَبْيَاتُ النَّاظِمِ الْخَمْسَةُ عَلَى حَالِ الِابْنِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا أَوْصَى عَلَيْهِ يَأْتِي لِلنَّاظِمِ الْكَلَامُ عَلَيْهِ إذَا تَرَكَهُ مُهْمَلًا.
وَقَوْلُهُ آخِرَ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ فِيمَا اُجْتُبِيَ أَيْ اُخْتِيرَ وَانْظُرْ هَلْ ثَمَّ قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ مُجْتَبًى أَوْ لَا وَقَوْلُهُ وَلَا قَوْلَ لِأَبٍ أَيْ إذَا أَرَادَ رَدَّ أَفْعَالِهِ وَقَدْ ظَهَرَ رُشْدُهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَوَّلَ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فَتَقَدَّمَ قَرِيبًا وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مُشْهِدًا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى تَجْدِيدَ الْحَجْرِ عَلَى وَلَدِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِإِشْهَادٍ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَفُهِمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ وَصَّى عَلَى مُسْتَوْجِبٍ حَجْرًا أَيْ عَلَى مَنْ كَانَ وَقْتَ الْإِيصَاءِ عَلَيْهِ فِي حَجْرِ أَبِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَظُهُورِ رُشْدِهِ فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ الْإِيصَاءِ وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ وِلَايَةِ أَبِيهِ إذْ ذَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَكْتَفِي الْوَصِيُّ بِالْإِشْهَادِ ... إذَا رَأَى مَخَايِلَ الرَّشَادِ
يَعْنِي: أَنَّ الْوَصِيَّ أَيْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إذَا رَأَى مِنْ الْمَحْجُورِ مَخَايِلَ الرَّشَادِ مِنْ صَلَاحِ الْحَالِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ وَأَرَادَ تَرْشِيدَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَشَّدَهُ وَأَطْلَقَهُ مِنْ ثِقَافِ الْحَجْرِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِأَحَدٍ يَعْنِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى رَشَادِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ قَالَ فِي (الْمُقَدِّمَاتِ) وَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ فَإِطْلَاقُهُ جَائِزٌ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ
(2/204)

قَوْلِهِ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ رُشْدُهُ. رَوَى ذَلِكَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ. اهـ.
(قَالَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) مَا حَاصِلُهُ إنَّمَا حَمَلْنَا كَلَامَ النَّاظِمِ عَلَى وَصِيِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ النَّاظِمِ قَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ يَلِيهِ فِي وَصِيِّ الْأَبِ وَكَلَامَهُ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ هَذَا فِي مُقَدَّمِ الْقَاضِي أَوْ فِي وَصِيِّ الْأَبِ إذَا لَمْ يَرَ مَخَايِلَ الرَّشَادِ وَنَازَعَ فِي التَّرْشِيدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَّقَ تَرْشِيدَهُ عَلَى إثْبَاتِ مُوجِبِ التَّرْشِيدِ فَلَوْ حُمِلَ كَلَامُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ عَلَى شُمُولِ الْوَصِيِّ الْأَبَ حَيْثُ يَرَى مَخَايِلَ الرَّشَادِ وَلِمُقَدَّمِ الْقَاضِي كَذَلِكَ لَنَاقَضَ كَلَامُهُ هُنَا مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ، وَفِي الْبَيْتِ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ مُوجِبِ التَّرْشِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ مُطْلَقًا يَجِبْ ... إثْبَاتُ مُوجِبٍ لِتَرْشِيدٍ طُلِبْ
وَيَسْقُطُ الْإِعْذَارُ فِي التَّرْشِيدِ ... حَيْثُ وَصِيُّهُ مِنْ الشُّهُودِ
يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْ الْمَحْجُورِ وَهُوَ التَّرْشِيدُ إثْبَاتُ مُوجِبِ التَّرْشِيدِ وَهُوَ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ بِرُشْدِهِ وَحُسْنِ حَالِهِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخْدَعُ فِي بَيْعٍ وَلَا ابْتِيَاعٍ وَمِمَّنْ يَجِبُ أَنْ يُرَشَّدَ وَيُطْلَقَ مِنْ ثِقَافِ الْحَجْرِ وَهَذَا فِي وَصِيِّ الْأَبِ إذَا لَمْ يَرَ مَخَايِلَ الرَّشَادِ فِي التَّرْشِيدِ وَفِي مُقَدَّمِ الْقَاضِي وَبِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَسَّرَ الشَّارِحُ الْإِطْلَاقَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ وَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ إذَا رَأَى مَخَايِلَ الرَّشَادِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَيْتَيْنِ قَبْلَ هَذَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِإِثْبَاتِ مُوجِبِ التَّرْشِيدِ، وَأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ. وَحَيْثُ اُحْتِيجَ إلَى إثْبَاتِ الرُّشْدِ فَيَسْتَكْثِرُ مِنْ الشُّهُودِ كَمَا يَأْتِي لِلنَّاظِمِ حَيْثُ قَالَ:
وَالشَّأْنُ الْإِكْثَارُ مِنْ الشُّهُودِ ... فِي عَقْدَيْ التَّسْفِيهِ وَالتَّرْشِيدِ
(قَالَ فِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) وَفِي الْكَافِي لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إذَا بَلَغَ الْمَحْجُورُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنْ طَلَبَ تَرْشِيدَ نَفْسِهِ سُمِعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ فَإِذَا شُهِدَ لَهُ شَهَادَةً فِيهَا بَعْضُ الِاسْتِفَاضَةِ بِالرُّشْدِ وَحُسْنِ النَّظَرِ وَالضَّبْطِ لِمَالِهِ أُطْلِقَ مِنْ الْوِلَايَةِ وَجَازَ أَمْرُهُ وَفِعْلُهُ فَانْظُرْهُ وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مِمَّنْ يُقِرُّ لِلْيَتِيمِ بِالرَّشَادِ كَانَ أَقْرَبَ لَهُ وَأَسْهَلَ عَلَيْهِ وَأَقْرَبَ لِأَمْرِهِ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِالرُّشْدِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ لِشَهَادَتِهِ بِرُشْدِهِ.
قَالَ (الشَّارِحُ) وَقَدْ دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ بِقُوَّتِهِ أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْذَرَ لَهُ فِيمَا ثَبَتَ لِمَحْجُورِهِ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِرْعَاءِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ قِيلَ إنَّ الْأَحْوَطَ فِي وَقْتِنَا هَذَا أَنْ يُعْذَرَ إلَى الْوَصِيِّ حَتَّى تَحْصُلَ مِنْ التَّرْشِيدِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَيْهِ لَمَا بَعُدَ لِمَا حَدَثَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنْ شُهُودِ التَّرْشِيدِ إذَا ظَهَرَ فِي الْخَارِجِ مَا يُنَاقِضُهَا فَإِذَا حَضَرَ الْوَصِيُّ وَوَافَقَ ارْتَفَعَ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ. اهـ.
وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِالْبَيْتِ الثَّانِي إلَى قَوْلِ الْمُتَيْطِيِّ فَإِنْ شُهِدَ لَهُ بِالرَّشَادِ اسْتَغْنَيْت عَنْ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ إلَخْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/205)

وَالْبَالِغُ الْمَوْصُوفُ بِالْإِهْمَالِ ... مُعْتَبَرٌ بِوَصْفِهِ فِي الْحَالِ
فَظَاهِرُ الرُّشْدِ يَجُوزُ فِعْلُهُ ... وَفِعْلُ ذِي السَّفَهِ رَدٌّ كُلُّهُ
وَذَاكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ... مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لَهُ مُلَائِمِ
وَمَالِكٌ يُجِيزُ كُلَّ مَا صَدَرْ ... بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ
وَعَنْ مُطَرِّفٍ أَتَى مَنْ اتَّصَلْ ... سَفَهُهُ فَلَا يَجُوزُ مَا فَعَلٌ
وَإِنْ يَكُنْ سُفِّهَ بَعْدَ الرُّشْدِ ... فَفِعْلُهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ رَدِّ
مَا لَمْ يَبِعْ مِنْ خَادِعٍ فَيُمْنَعُ ... وَبِاَلَّذِي أَفَاتَهُ لَا يُتْبَعُ
وَمُعْلِنُ السَّفَهِ رَدَّ ابْنُ الْفَرَجْ ... أَفْعَالَهُ وَالْعَكْسُ فِي الْعَكْسِ انْدَرَجْ
وَفِعْلُ مَنْ يُجْهَلُ بِالْإِطْلَاقِ ... حَالَتُهُ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ
وَيَجْعَلُ الْقَاضِي بِكُلِّ حَالِ ... عَلَى السَّفِيهِ حَاجِرًا فِي الْمَالِ.
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْأَقْوَالَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي حُكْمِ الْبَالِغِ الْمُهْمَلِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى فَرْعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْمَحْجُورِ وَالسَّفِيهِ حَاجِرًا يَحْجُرُهُ خَوْفَ ذَهَابِ مَالِهِ وَاعْتُمِدَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يُوصِ بِهِ إلَى أَحَدٍ وَلَا قَدَّمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَصِيًّا وَلَا نَاظِرًا فَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: إلَخْ. إلَّا أَنَّ النَّاظِمَ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي تَرْتِيبِهَا مَا سَمَحَ لَهُ بِهِ النَّظْمُ.
(الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) : عَلَى تَرْتِيبِ النَّظْمِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِ يَوْمَ بَيْعِهِ وَابْتِيَاعِهِ فَإِنْ كَانَ رَشِيدًا جَازَتْ أَفْعَالُهُ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِلَ سَفَهُهُ أَوْ لَا يَتَّصِلَ. اهـ.
وَبَيَانُ هَذَا التَّفْصِيلِ يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَإِلَى قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ إلَخْ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ
مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لَهُ مُلَائِمٍ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُعْتَبَرٌ فِي الْحَالِ أَيْ فِي حَالِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَتَصَرُّفِهِ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَظَاهِرُ الرُّشْدِ إلَخْ.
(الْقَوْلُ الثَّانِي) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَوْلُ مَالِكٍ وَكِبَارِ أَصْحَابِهِ إنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ جَائِزَةٌ نَافِذَةٌ رَشِيدًا كَانَ أَوْ سَفِيهًا مُعْلِنًا بِالسَّفَهِ أَوْ غَيْرَ مُعْلِنٍ اتَّصَلَ سَفَهُهُ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ أَوْ سَفِهَ بَعْدَ أَنْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ
وَمَالِكٌ يُجِيزُ كُلَّ مَا صَدَرْ ... بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ
(الْقَوْلُ الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ إنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّصِلَ السَّفَهِ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ.
وَأَمَّا إنْ سَفِهَ بَعْدَ أَنْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ فَأَفْعَالُهُ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ وَلَازِمَةٌ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ بَيْعَ سَفَهٍ وَخَدِيعَةً بَيِّنَةً مِثْل أَنْ يَبِيعَ ثَمَنَ أَلْفِ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يُتْبَعُ بِالثَّمَنِ إنْ أَفْسَدَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِالسَّفَهِ أَوْ غَيْرَ مُعْلِنٍ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ وَعَنْ مُطَرِّفٍ الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةَ.
قَالَ (الشَّارِحُ) اقْتَصَرَ الشَّيْخُ عَلَى النِّسْبَةِ لِمُطَرِّفٍ دُونَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ اخْتِصَارًا وَكَثِيرًا مَا يَتَّفِقُ قَوْلُهُمَا حَتَّى عَبَّرَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهُمَا بِالْأَخَوَيْنِ. اهـ.
(قُلْتُ) وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُ فِي جُمْلَةِ أَبْيَاتٍ
كَذَا مُطَرِّفٌ وَنَجْلُ الْمَاجِشُونْ ... حَلَّاهُمَا بِالْأَخَوَيْنِ النَّاقِلُونْ
(الْقَوْلُ الرَّابِعُ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ قَالَ أَصْبَغُ إنَّهُ إنْ كَانَ مُعْلِنًا بِالسَّفَهِ فَأَفْعَالُهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْلِنًا بِالسَّفَهِ فَأَفْعَالُهُ جَائِزَةٌ. اهـ.
وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ
وَمُعْلِنُ السَّفَهِ رَدَّ ابْنُ الْفَرَجْ ... أَفْعَالَهُ وَالْعَكْسُ فِي الْعَكْسِ انْدَرَجْ
وَمُرَادُهُ بِالْعَكْسِ أَنَّ مُعْلِنَ الرُّشْدِ أَفْعَالُهُ مَاضِيَةٌ لَا تُرَدُّ وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَفِعْلُ مَنْ يَجْهَلُ بِالْإِطْلَاقِ الْبَيْتَيْنِ إلَى قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ وَاتَّفَقَ جَمِيعُهُمْ أَنَّ أَفْعَالَهُ جَائِزَةٌ لَا يُرَدُّ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنْ جُهِلَتْ حَالُهُ وَلَمْ يُعْلَمْ بِسَفَهٍ وَلَا بِرُشْدٍ وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ سَفَهُهُ وَخُشِيَ ذَهَابُ مَالِهِ. اهـ. وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ فِي جَوَازِ أَفْعَالِ مَجْهُولِ الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِعِوَضٍ أَوْ تَبَرُّعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/206)

وَإِنْ تَكُنْ بِنْتٌ وَحَاضَتْ وَالْأَبُ ... حَيٌّ فَلَيْسَ الْحَجَرُ عَنْهَا يَذْهَبُ
إلَّا إذَا مَا نُكِحَتْ ثُمَّ مَضَى ... سَبْعَةُ أَعْوَامٍ وَذَا بِهِ الْقَضَا
مَا لَمْ يُجَدَّدْ حَجْرُهَا إثْرَ الْبِنَا ... أَوْ سَلِمَ الرُّشْدُ إذَا تُبُيِّنَا
وَحَجْرُ مَنْ وَصَّى عَلَيْهَا يَنْسَحِبْ ... حَتَّى يَزُولَ حُكْمُهُ بِمَا يَجِبْ
وَالْعَمَلُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ مَاضِي ... وَمِثْلُهُ حَجْرُ وَصِيِّ الْقَاضِي
وَإِنْ تَكُنْ ظَاهِرَةَ الْإِهْمَالِ ... فَإِنَّهَا مَرْدُودَةُ الْأَفْعَالِ
إلَّا مَعَ الْوُصُولِ لِلتَّعْنِيسِ ... أَوْ مُكْثِ عَامٍ إثْرَ التَّعْرِيسِ
وَقِيلَ بَلْ أَفْعَالُهَا تُسَوَّغُ ... إنْ هِيَ حَالَةَ الْمَحِيضِ تَبْلُغُ
وَالسِّنُّ فِي التَّعْنِيسِ مِنْ خَمْسِينَا ... فِيمَا بِهِ الْحُكْمُ إلَى السِّتِّينَا
لَمَّا قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الذَّكَرُ مِنْ الْحَجْرِ أَتْبَعَهُ بِالْكَلَامِ بِمَا تَخْرُجُ بِهِ الْأُنْثَى إذَا بَلَغَتْ فِي حَيَاةِ أَبِيهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ أَوْصَى عَلَيْهَا أَوْ تَرَكَهَا مُهْمَلَةً وَلَمْ يُقَدِّمْ الْقَاضِي عَلَيْهَا أَحَدًا أَوْ قَدَّمَ، فَأُخْبِرَ أَنَّ الْبِنْتَ إذَا كَانَ أَبُوهَا حَيًّا فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ فِي حِجْرِهِ وَتَحْتَ وِلَايَةِ نَظَرِهِ وَلَا يَزُولُ عَنْهَا الْحَجْرُ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ.
(الْأَوَّلُ) أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا وَتَمْكُثَ سَبْعَةَ أَعْوَامٍ فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَبِهَذَا الْقَوْلِ الْقَضَاءُ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَمَانِيَةٍ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) عَنْ ابْنِ رُشْدٍ وَهَذَا الْقَوْلُ يُعْزَى إلَى ابْنِ الْقَاسِمِ وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ عِنْدَنَا ثُمَّ قَالَ:
الْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَوْ الْمُدَوَّنَةِ وَفِي الْوَاضِحَةِ مِنْ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ إنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ وِلَايَةِ أَبِيهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا وَيَعْرِفَ حَالَهَا وَيَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى صَلَاحِ أَمْرِهَا فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا إذَا عُلِمَ رُشْدُهَا وَظَهَرَ حَالُهَا جَازَتْ أَفْعَالُهَا وَخَرَجَتْ مِنْ وِلَايَةِ أَبِيهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقُرْبِ بِنَاءِ زَوْجِهَا عَلَيْهَا اهـ وَعَلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ وَزِيدَ فِي الْأُنْثَى دُخُولُ زَوْجٍ وَشَهَادَةُ الْعُدُولِ عَلَى صَلَاحِ حَالِهَا وَإِلَى اسْتِمْرَارِ الْحَجْرِ عَلَى ذَاتِ الْأَبِ إلَى مُضِيِّ سَبْعَةِ أَعْوَامٍ بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِالْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: وَخُرُوجُهَا مِنْ الْحَجْرِ بِمُضِيِّ مَا ذُكِرَ، مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُجَدَّدْ عَلَيْهَا الْحَجْرُ إثْرَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا يَعْنِي وَأُخْرَى قَبْلَهُ فَإِنْ جَدَّدَهُ عَلَيْهَا فَلَا تَخْرُجُ إلَّا بِالتَّرْشِيدِ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
مَا لَمْ يُجَدَّدْ حَجْرُهَا إثْرَ الْبِنَا
(الْأَمْرُ الثَّانِي) مِمَّا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْوِلَايَةِ التَّرْشِيدُ فَإِذَا ظَهَرَ صَلَاحُ حَالِهَا وَتَبَيَّنَ وَسَلَّمَهُ الْأَبُ وَوَافَقَ عَلَيْهِ وَرَشَّدَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ الْحَجْرِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَوْ سَلَّمَ الرُّشْدَ إذَا تَبَيَّنَّا فَقَوْلُهُ أَوْ سَلِمَ الرُّشْدُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ نُكِحَتْ ثُمَّ انْتَقَلَ لِلْكَلَامِ عَلَى الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا وَأَوْصَى عَلَيْهَا أَوْ تَرَكَهَا مُهْمَلَةً وَقَدَّمَ عَلَيْهَا الْقَاضِي مُقَدَّمًا فَقَالَ
وَحَجْرُ مَنْ وَصَّى عَلَيْهَا يَنْسَحِبْ
الْبَيْتَيْنِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْبِنْتَ إذَا مَاتَ أَبُوهَا وَكَانَ قَدْ أَوْصَى عَلَيْهَا فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ وَلَكِنْ قَدَّمَ الْقَاضِي عَلَيْهَا مُقَدَّمًا فَإِنَّ الْحَجْرَ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِالتَّرْشِيدِ وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي بِقَوْلِهِ بِمَا يَجِبُ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَمَلُ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَأَمَّا الْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ ذَاتُ الْوَصِيِّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ السُّلْطَانِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْوِلَايَةِ إنْ تَزَوَّجَتْ أَوْ عَنَسَتْ أَوْ ظَهَرَ رُشْدُهَا إلَّا بِالطَّلَاقِ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَشْهُورِ الْمَعْمُولِ بِهِ فِي الْيَتِيمِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَالِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ وَحُكْمُهَا فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ اهـ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى الْمُهْمَلَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهَا الْقَاضِي فَقَالَ
وَإِنْ تَكُنْ ظَاهِرَةَ الْإِهْمَالِ
(2/207)

الْأَبْيَاتُ الثَّلَاثَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي الْمُهْمَلَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهَا الْقَاضِي مُقَدِّمًا قَوْلَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) أَنَّ أَفْعَالَهَا مَرْدُودَةٌ إلَّا إذَا بَلَغَتْ سِنَّ التَّعْنِيسِ أَوْ مَرَّ لَهَا عَامٌ إثْرَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا فَإِنْ وُجِدَ هَذَيْنِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَتَمْضِي أَفْعَالُهَا (الْقَوْلُ الثَّانِي) أَنَّهَا إنْ بَلَغَتْ مَضَتْ أَفْعَالُهَا وَخَرَجَتْ مِنْ الْوِلَايَةِ بِالْبُلُوغِ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَأَمَّا الْبِكْرُ الْيَتِيمَةِ الَّتِي لَا وَصِيَّ عَلَيْهَا مِنْ أَبٍ وَلَا سُلْطَانٍ فَاخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَفْعَالَهَا جَائِزَةٌ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَقَوْلُ غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَرِوَايَةُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّانِي أَنَّ أَفْعَالَهَا مَرْدُودَةٌ مَا لَمْ تَعْنِسْ اهـ.
ثُمَّ بَيَّنَ سِنَّ التَّعْنِيسِ بِقَوْلِهِ وَالسِّنُّ فِي التَّعْنِيسِ الْبَيْتَ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ التَّعْنِيسِ فِي هَذِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: ثَلَاثُونَ.
وَقِيلَ: أَقَلُّ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: مِنْ الْخَمْسِينَ إلَى السِّتِّينَ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ
وَحَيْثُ رَشَّدَ الْوَصِيُّ مَنْ حُجْر ... وِلَايَةُ النِّكَاحِ تَبْقَى بِالنَّظَرْ
يَعْنِي: أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا رَشَّدَ مَحْجُورَتَهُ فَإِنَّهُ يَبْقَى لَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ عَلَى مُقْتَضَى نَظَرِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ كَمَا يَأْتِي (قَالَ الشَّارِحُ) فَكَمَا أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ حَجْرِ الْأَبِ لَا يَقْطَعُ عَنْهَا نَظَرَهُ فِي الْوِلَايَةِ فَكَذَلِكَ خُرُوجُهَا مِنْ حَجْرِ الْوَصِيِّ الَّذِي هُوَ بِسَبَبِهِ لَا يَقْطَعُ عَنْهَا نَظَرَهُ فِي الْوِلَايَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ فَكَذَلِكَ يَتَقَدَّمُ عَلَى وَصِيِّهِ وَفِي طُرَرِ (ابْنِ عَاتٍ) اُنْظُرْ إذَا رَشَّدَ الْوَصِيُّ مَحْجُورَتَهُ هَلْ تَسْقُطُ الْوِلَايَةُ عَنْهَا أَمْ لَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أَذْكُرُ فِي ذَلِكَ نَصَّ رِوَايَةٍ وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ النَّظَرُ أَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ لَا تَسْقُطُ بِتَمْلِيكِهَا إيَّاهَا مِنْ نَفْسِهَا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهَا بِإِقَامَةِ الْأَبِ إيَّاهُ لَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ وِلَايَتُهُ عَنْهَا إلَّا بِمَا كَانَتْ تَسْقُطُ بِهِ وِلَايَةُ الْأَبِ عَنْهَا وَالْأَبُ لَوْ رَشَّدَهَا لَمْ تَسْقُطْ بِذَلِكَ وِلَايَتُهُ عَنْهَا فَكَذَلِكَ هُوَ فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ اهـ ثُمَّ بَحَثَ الشَّارِحُ مَعَ ابْنِ رُشْدٍ فِي قَوْلِهِ لَا أَذْكُرُ فِي ذَلِكَ نَصَّ رِوَايَةٍ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ وَذَلِكَ فِي شَرْحِ قَوْلِ النَّاظِمِ فِي النِّكَاحِ
وَإِنْ يُرَشِّدْهَا الْوَصِيُّ مَا أَبِي ... فِيهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ كَالْأَبِ.
وَلَيْسَ لِلْمَحْجُورِ مِنْ تَخَلُّصِ ... إلَّا بِتَرْشِيدٍ إذَا مَاتَ الْوَصِيّ
وَبَعْضُهُمْ قَدْ قَالَ بِالسَّرَاحِ ... فِي حَقِّ مَنْ يُعْرَفُ بِالصَّلَاحِ
يَعْنِي: أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَبَقِيَ مَنْ كَانَ فِي حَجْرِهِ مُهْمَلًا وَلَمْ يُوصِ بِهِ إلَى أَحَدٍ وَلَا قَدَّمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَحَدًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْوِلَايَةِ إلَّا بِالتَّرْشِيدِ وَقِيلَ يَخْرُجُ مِنْهَا بِمَوْتِ وَصِيِّهِ إذَا كَانَ حَسَنَ النَّظَرِ صَالِحَ الْأَحْوَالِ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) : وَاخْتُلِفَ فِي الَّذِي يَمُوتُ وَصِيُّهُ وَلَمْ يُوصِ بِهِ إلَى أَحَدٍ وَلَا قَدَّمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَصِيًّا، فَقِيلَ: إنَّهُ إنْ كَانَ حَسَنَ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مَعْرُوفًا بِالرُّشْدِ
(2/208)

فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ.
وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّفَهِ فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاَلَّذِي جَرَتْ بِهِ الْفَتْوَى وَعَلَيْهِ الشُّيُوخُ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حُكْمُ مَنْ كَانَ وَصِيُّهُ بَاقِيًا حَتَّى يَظْهَرَ رُشْدُهُ وَيُحْكَمَ بِتَرْشِيدِهِ اهـ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ جَارِيَانِ عَلَى قَوْلَيْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ فَمَالِكٌ يُرَاعِي الْوِلَايَةَ وَالْأَصْلُ انْسِحَابُهَا حَتَّى يَرْشُدَ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي النَّظْمِ وَابْنُ الْقَاسِمِ يُرَاعِي حَالَ الْمَحْجُورِ مِنْ صَلَاحٍ أَوْ سَفَهٍ وَلَا عِبْرَةَ عِنْدَهُ بِالْوِلَايَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَقَدْ قُلْتُ فِي ذَلِكَ لِيُحْفَظَ
وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ الْحَجْرَ فَقَطْ ... وَنَجْلُ قَاسِمٍ لِحَالٍ قَدْ فَرَطْ
قُلْتُ: إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ أَوْ الْوِلَايَةِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمَوْتِ الْوَصِيِّ كَمَا فَرَضَهُ النَّاظِمُ، بَلْ الْقَوْلَانِ فِي حَيَاةِ الْوَصِيِّ أَوْ مَوْتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ الشَّارِحُ عَنْ ابْنِ لُبٍّ أَنَّ الْمُهْمَلَةَ بِمَوْتِ وَصِيِّهَا إذْ طَالَتْ الْمُدَّةُ وَتَصَرَّفَتْ تَصَرُّفَ الرَّشِيدِ بِطُولِ الْمُدَّةِ فَهِيَ عَلَى حُكْمِ الرُّشْدِ فِي أَفْعَالِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي أَفْعَالِ الْمُهْمَلِ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ:
وَالشَّأْنُ الْإِكْثَارُ مِنْ الشُّهُودِ ... فِي عَقْدَيْ التَّسْفِيهِ وَالتَّرْشِيدِ
وَلَيْسَ يَكْفِي فِيهِمَا الْعَدْلَانِ ... وَفِي مَرَدِّ الرُّشْدِ يَكْفِيَانِ
يَعْنِي: أَنَّ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمُوَثَّقِينَ الْإِكْثَارُ مِنْ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ بِالتَّسْفِيهِ أَوْ التَّرْشِيدِ وَأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالْعَدْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ يُكْتَفَى بِهِمَا فِي الْحَجْرِ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ النَّاظِمُ بِمَرَدِّ الرُّشْدِ أَيْ بِرَدِّهِ وَدَفْعِهِ.
وَالتَّسْفِيهُ: الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ سَفِيهٌ مُبَذِّرٌ غَيْرُ حَافِظٍ لِمَالِهِ. وَيَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ أَنْ يُضْرَبَ عَلَى يَدِهِ وَيُمْنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ سَفَهَهُ إنَّمَا ثَبَتَ الْآنَ وَالشَّهَادَةُ بِالْحَجْرِ الَّتِي يَكْفِي فِيهَا عَدْلَانِ لِلشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ فِي وِلَايَةِ مَضْرُوبٍ عَلَى يَدِهِ وَقْتَ الشَّهَادَةِ وَفِيمَا قَبْلَهَا وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا رَدُّ أَفْعَالِهِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ
(2/209)

بِالتَّرْشِيدِ فَهِيَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ حَافِظٌ لِمَالِهِ حَسَنُ النَّظَرِ صَالِحُ الْحَالِ وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا إطْلَاقُهُ مِنْ ثِقَافِ الْحَجْرِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ وَمُضِيُّ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ رُشْدَهُ إنَّمَا ثَبَتَ الْآنَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَلَسْت عَلَى يَقِينٍ فِيهِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ الشَّارِحُ) : وَجْهُ عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْعَدْلَيْنِ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّسْفِيهِ أَوْ بِالتَّرْشِيدِ لَيْسَتْ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الشَّاهِدُ بِهَا بَدِيهَةً وَإِنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ مِنْ جُزْئِيَّاتٍ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَشْهُودِ بِهِ ضِمْنًا فَلِذَلِكَ اُسْتُكْثِرَ فِيهَا مِنْ الشُّهُودِ لِيَحْصُلَ نَوْعُ اسْتِفَاضَةٍ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي تَتَعَدَّدُ بِهَا الشَّهَادَةُ، فَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الشُّهُودِ فِي عَقْدِ التَّرْشِيدِ الْعُدُولِ وَغَيْرِهِمْ لِتَظْهَرَ اسْتِفَاضَةُ رُشْدِهِ وَلَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ شَاهِدَانِ كَمَا يُجْزِئُ فِي الْحُقُوقِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الشُّهُودِ فِي وَثِيقَةِ التَّسْفِيهِ اهـ.
وَلَفْظُ الْإِكْثَارِ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ يُقْرَأُ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ لِلسَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهِيَ لَامُ أَلْ لِلْوَزْنِ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ: وَالشَّأْنُ، قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي بَيَانِ اصْطِلَاحِ ابْنِ الْحَاجِبِ: قَوْلُهُ وَالشَّأْنُ وَقَعَتْ فِي الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّأْنُ قَسْمُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمُرَادُهُ عَمَلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَلُ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَقِيلَ مُرَادُهُ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ مَعْنَاهُمَا الْعَمَلُ. اهـ. وَالْمُرَادُ فِي النَّظْمِ مَا قَالَهُ ابْنُ بَشِيرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجَازَ لِلْوَصِيِّ فِيمَنْ حَجَرَا ... إعْطَاءُ بَعْضِ مَالِهِ مُخْتَبِرَا
يَعْنِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ لِمَحْجُورِهِ بَعْضَ مَالِهِ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ تَصَرُّفَهُ وَلَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا رَأَى عَلَيْهِ مَخَايِلَ الصَّلَاحِ وَالرَّشَادِ الَّتِي تُوجِبُ عِنْدَهُ إطْلَاقَهُ مِنْ الْحَجْرِ فَيَخْتَبِرُهُ لِتَحْصُلَ لَهُ الثِّقَةُ بِمَا يَبْدُو لَهُ مِنْ السَّدَادِ فِي تَصَرُّفِهِ فَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ الْوَصِيُّ إلَى يَتِيمِهِ بَعْضَ مَالِهِ لِيَخْتَبِرَهُ إذَا رَأَى مِنْهُ اسْتِقَامَةً وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا، فَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْ الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. اهـ. زَادَ ابْنُ سَلْمُونٍ بَعْدَ قَوْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ مِثْلُهُ لِلِاخْتِبَارِ لِشِدَّةِ سَفَهِهِ فَيَضْمَنُ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي وَثِيقَةِ الدَّفْعِ لِلْمَحْجُورِ مِمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّ الْيَتِيمَ مِمَّنْ يَصْلُحُ اخْتِبَارُهُ (الْمَوَّاقُ) اُنْظُرْ بَقِيَ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] قَالَ (ابْنُ شَاسٍ) : الِابْتِلَاءُ لِلرُّشْدِ مَطْلُوبٌ، وَفِي كَوْنِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَالْبَغْدَادِيُّونَ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ أَبْيَنُ لِلْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ (الْمُتَيْطِيُّ) لِلْوَصِيِّ أَنْ يَدْفَعَ لِلْيَتِيمِ بَعْضَ مَالِهِ يَخْتَبِرُهُ بِهِ كَالسِّتِّينَ دِينَارًا وَلَا يُكْثِرُ جِدًّا إنْ رَأَى اسْتِقَامَتَهُ فَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ (ابْنُ حَبِيبٍ) وَالْوَصِيُّ مُصَدَّقٌ فِيمَا دَفَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَكُلُّ مَا أَتْلَفَهُ الْمَحْجُورُ ... فَغُرْمُهُ فِي مَالِهِ الْمَشْهُورُ
إلَّا لِمَنْ طَوْعًا إلَيْهِ صَرَفَهْ ... وَفِي سِوَى مَصْلَحَةٍ قَدْ أَتْلَفَهْ
وَفِعْلُهُ بِعِوَضٍ لَا يُرْتَضَى ... وَإِنْ أَجَازَهُ وَصِيُّهُ مَضَى
وَفِي التَّبَرُّعَاتِ قَدْ جَرَى الْعَمَلْ ... بِمَنْعِهِ وَلَا يُجَازُ إنْ فَعَلٌ
تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ عَلَى الْمَحْجُورِ إذَا فَوَّتَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ هَلْ يَضْمَنُهُ أَمْ لَا كَانَ التَّفْوِيتُ بِإِفْسَادٍ أَوْ إتْلَافٍ أَوْ كَانَ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فَوَّتَهُ بِإِتْلَافِهِ وَإِفْسَادِهِ كَالْحَرْقِ وَالْكَسْرِ وَالْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا أُتْبِعَ بِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إذَا سَلَّطَهُ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِاخْتِيَارِهِ وَصَيَّرَهُ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ أَمَّا إنْ عَدَا عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُهُ صَرَفَهُ فِي مَصْلَحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ رَبُّهُ وَصَرَفَهُ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْرَمُهُ أَيْضًا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلِينَ.
وَأَمَّا مَا أَتْلَفَهُ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي ابْتِدَاءً فَإِذَا وَقَعَ وَنَزَلَ تَوَقَّفَ إمْضَاؤُهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَصِيِّ فَإِنْ أَمْضَاهُ مَضَى وَإِنْ رَدَّهُ رُدَّ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ وَأَمَّا مَا أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنْ هِبَةٍ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُضْرَبُ عَلَى يَدَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ خَوْفَ إتْلَافِ مَالِهِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ إجَازَةُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُوءُ نَظَرٍ فَإِنْ أَجَازَهُ لَمْ يَجُزْ، وَيَغْرَمُهُ إنْ فَاتَ
(2/210)

وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الرَّابِعِ قَالَ فِي سَمَاعِ عِيسَى قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَالُهُ كَحَالِ الصَّبِيِّ إنْ كَسَرَ جَرَّةً أَوْ أَحْرَقَ شَيْئًا أَوْ أَفْسَدَ فَهُوَ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا أُتْبِعَ بِهِ دَيْنًا.
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ سَحْنُونٌ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ بَعَثَ يَتِيمًا لَهُ فِي طَلَبِ عَبْدٍ آبِقٍ فَأَدْرَكَهُ وَبَاعَهُ وَأَتْلَفَ ثَمَنَهُ فَقَامَ صَاحِبُهُ فِيهِ فَقَالَ يَأْخُذُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغُلَامِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَتْلَفَ وَلَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ. فَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَفَلَا يَكُونُ هَذَا مِثْلَ مَا فَسَدَ أَوْ كَسَرَ قَالَ: لَا.
وَفِي أُصُولِ الْفُتْيَا: وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ مِمَّا يَرَى الْوَلِيُّ إجَازَتَهُ فِي أُصُولٍ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا يَكُونُ لِمَنْ عَاقَدَ الصَّبِيَّ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ إذَا أَجَازَهُ الْوَلِيُّ وَمَا بَاعَهُ الصَّبِيُّ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَمَرْدُودٌ إلَى مَالِ الصَّبِيِّ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا دُفِعَ مِنْ الثَّمَنِ إلَى الصَّبِيِّ لَا فِي ذِمَّةِ الصَّبِيِّ وَلَا فِي مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ إنَّمَا أَنْفَقَ ذَلِكَ الثَّمَنَ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَيَلْزَمُ الْوَلَدَ رَدُّ ذَلِكَ الثَّمَنِ (وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ) : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمَحِيضَ مِنْ النِّسَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مَالِهِ مَعْرُوفٌ مِنْ هِبَةٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا عَطِيَّةٍ وَلَا عِتْقٍ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ إنْ كَانَ ذَا أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ.
وَإِنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ فَعَلَ مَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ أَوْ الشِّرَاءَ مِمَّا يَخْرُجُ عَلَى عِوَضٍ وَلَا يَقْتَصِرُ فِي مَعْرُوفٍ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى نَظَرِ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ لَهُ وَلِيٌّ فَإِنْ رَآهُ سَدَادًا أَوْ غِبْطَةً أَجَازَهُ وَأَنْفَذَهُ، وَإِنْ رَآهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ رَدَّهُ وَأَبْطَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ قَدَّمَ السُّلْطَانُ مَنْ يَنْظُرُ لَهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَلِيَ أَمْرَهُ كَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ فِي إجَازَةِ إنْفَاذِ ذَلِكَ وَرَدِّهِ، (قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) وَيَلْزَمُهُ مَا أَفْسَدَهُ أَوْ كَسَرَ فِي مَالِهِ مِمَّا لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَفْسَدَ أَوْ كَسَرَ مِمَّا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ:
إلَّا لِمَنْ إلَيْهِ طَوْعًا صَرَفَهْ ... وَفِي سِوَى مَصْلَحَةٍ قَدْ أَتْلَفَهْ
أَنَّ الْمَحْجُورَ لَا يَغْرَمُ مَا اسْتَعَارَ إذَا ادَّعَى تَلَفَهُ لِأَنَّ رَبَّهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ طَوْعًا وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَصْلَحَةٍ لَهُ وَلَمْ أَقِفْ الْآنَ فِيهِ عَلَى نَصٍّ.
وَظَاهِرُ السَّفَهِ جَازَ الْحُلُمَا ... مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ فِيهِ خُلْفٌ عُلِمَا
جَوَازُ فِعْلِهِ بِأَمْرٍ لَازِمِ ... لِمَالِكٍ وَالْمَنْعُ لِابْنِ الْقَاسِمِ
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ قَوْلِهِ قَبْلُ:
وَالْبَالِغُ الْمَوْصُوفُ بِالْإِهْمَالِ ... مُعْتَبَرٌ بِوَصْفِهِ فِي الْحَالِ
فَظَاهِرُ الرُّشْدِ يَجُوزُ فِعْلُهُ ... وَفِعْلُ ذِي السَّفَهِ رَدٌّ كُلُّهُ
وَذَاكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ... مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لَهُ مُلَائِمِ
وَمَالِكٌ يُجِيزُ كُلَّ مَا صَدَرْ ... بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ
وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْحَجَرِ مَحْمُولٌ إلَخْ. وَقَوْلُهُ هُنَا جَوَازُ فِعْلِهِ. الْبَيْتَ هُوَ بَيَانٌ لِلْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَيْتِ قَبْلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
فَظَاهِرُ الرُّشْدِ يَجُوزُ فِعْلُهُ
تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ هُنَا وَظَاهِرُ السَّفَهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ الْبَالِغُ الْمُهْمَلُ فَابْنُ الْقَاسِمِ يُرَاعِي حَالَتَهُ فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ ظَاهِرِ الرُّشْدِ وَظَاهِرِ السَّفَهِ وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ الْحَجْرَ. وَالْفَرْضُ أَنْ لَا حَجْرَ فَأَجَازَ فِعْلَهُ.
وَبِاَلَّذِي عَلَى صَغِيرٍ مُهْمَلِ ... يُقْضَى إذَا صَحَّ بِمُوجِبٍ جَلِيّ
وَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ كَالْغَائِبِ ... إلَى بُلُوغِهِ بِحُكْمٍ وَاجِبِ
وَيَدْفَعُ الْوَصِيُّ كُلَّ مَا يَجِبْ ... مِنْ مَالِ مَنْ فِي حَجْرِهِ مَهْمَا طُلِبْ
يَعْنِي: أَنَّ الصَّغِيرَ الْمُهْمَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ بِمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ إذَا كَانَ مُوجِبُ ذَلِكَ صَحِيحًا جَلِيًّا ظَاهِرًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى حُجَّتِهِ إذَا بَلَغَ كَالْغَائِبِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ ثُمَّ يَقْدُمُ فَيَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَيْعِ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ لِلْمَحْجُورِ وَصِيٌّ فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ مَا وَجَبَ عَلَى مَحْجُورِهِ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ الْمَذْكُورِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ وَبِاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِيُقْضَى
(2/211)

وَعَلَى صَغِيرٍ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ صِلَةُ الَّذِي أَيْ ثَبَتَ أَوْ وَجَبَ عَلَى صَغِيرٍ ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْإِهْمَالِ، وَفَاعِلُ صَحَّ يَعُودُ عَلَى مَا وَجَبَ عَلَى الصَّغِيرِ وَبِمُوجِبٍ يَتَعَلَّقُ بِصَحَّ، وَالْمُرَادُ بِالْمُوجِبِ الْبَيِّنَةُ (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ الْمُدَّعَى فِيهَا بَيْنَ صَغِيرٍ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْقَاضِي لِهَذَا الصَّغِيرِ مَنْ يَقُومُ بِحُجَّتِهِ (قَالَ الشَّارِحُ) لَازِمُ قَوْلِهِ فِي الْمُقَرَّبِ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْقَاضِي إلَخْ كَوْنُهُ تُرْجَى لَهُ الْحُجَّةُ إذَا مَلَكَ أَمْرَ نَفْسِهِ وَعَنْ هَذَا الْمَعْنَى عَبَّرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ كَالْغَائِبِ الْبَيْتَ.
وفِي الْمَشْهُورِ ... مُنْسَحِبٌ عَلَى بَنِي الْمَحْجُورِ
وَيَعْقِدُ النِّكَاحَ لِلْإِمَاءِ ... وَالنَّصُّ فِي عَقْدِ الْبَنَاتِ جَائِي
وَعَقْدُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ جَارِ ... بِجَعْلِهِ فِي الْبِكْرِ كَالْإِجْبَارِ
يَعْنِي: أَنَّ الْوَصِيَّ عَلَى الْمَحْجُورِ يَكُونُ وَصِيًّا أَيْضًا عَلَى أَوْلَادِ ذَلِكَ الْمَحْجُورِ وَيَنْسَحِبُ نَظَرُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ وَمُقَابِلُهُ أَنَّهُ لَا يَنْسَحِبُ وَلَا يَكُونُ لِوَصِيِّ أَبِيهِمْ عَلَيْهِمْ نَظَرٌ، وَعَلَى الِانْسِحَابِ فَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ عَلَى إمَاءِ مَحْجُورِهِ وَبَنَاتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَ الْمُوصِي لَهُ الْإِجْبَارَ فَقَوْلُهُ جَارٍ بِجَعْلِهِ فِي الْبِكْرِ كَالْإِجْبَارِ يَعْنِي إنْ عَقَدَ الْوَصِيُّ نِكَاحَ الْأَبْكَارِ مِنْ بَنَاتِ مَحْجُورِهِ جَبْرًا قَبْلَ بُلُوغِهِنَّ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجْبَارِ الْحَاصِلِ بِجَعْلِ الْمُوصِي ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ فِي أَبْكَارِ بَنَاتِهِ فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ كَانَ لَهُ جَبْرُ بَنَاتِ الْمَحْجُورِ كَمَا يُجْبِرُ بَنَاتِ الْوَصِيِّ هَذَا مُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الْإِمَاءِ وَالْبَنَاتِ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَحْجُورُ لَا عَلَى الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ بَنِي، أَيْ: وَيَعْقِدُ الْوَصِيُّ نِكَاحَ إمَائِهِ وَنِكَاحَ بَنَاتِهِ.
فَفِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ: اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الرَّجُلِ إذَا كَانَ وَصِيًّا عَلَى سَفِيهٍ فَوُلِدَ لِلسَّفِيهِ وَلَدٌ فَهَلْ لِلْمُوصِي أَنْ يَنْظُرَ عَلَى ابْنِ السَّفِيهِ كَمَا يَنْظُرُ عَلَى الْوَلَدِ أَمْ لَا، فَذَهَبَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ بَقِيِّ بْنِ زَرْبٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ وَخَالَفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ الْقَطَّانِ فِي ذَلِكَ وَقَالَا: إنَّهُ يَنْظُرُ عَلَيْهِ كَمَا عَلَى أَبِيهِ، قَالَا: وَالْقَضَاءُ عِنْدَنَا بِذَلِكَ. اهـ.
وَفِي مُفِيدِ (ابْنِ هِشَامٍ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: وَقَدْ جَاءَتْ الرِّوَايَةُ مَنْصُوصَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْوَصِيَّ يُنْكِحُ بَنَاتَ مَحْجُورِهِ يُرِيدُهُ فِي الْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ الْبَالِغَاتِ وَالثَّيِّبَاتِ اللَّائِي لَمْ يَمْلِكْنَ أُمُورَ أَنْفُسِهِنَّ.
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ رَآهُ وَصِيًّا عَلَيْهِنَّ بِكَوْنِهِ وَصِيًّا عَلَى آبَائِهِنَّ وَهُوَ دَلِيلُ مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ النُّذُورِ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ: إنَّ الْوَصِيَّ لَا يَكُونُ وَصِيًّا عَلَى بَنَاتِ مَحْجُورِهِ إلَّا بِتَقْدِيمِ السُّلْطَانِ فَعَلَى هَذَا لَا يُزَوِّجُ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ وَأَمَّا أُمُّهُ فَلَيْسَ لَهَا بِوَلِيٍّ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَالْوَصِيُّ يُزَوِّجُ إمَاءَ مَحْجُورِهِ بِلَا خِلَافٍ وَيُزَوِّجُ بَنَاتِهِ اللَّائِي لَمْ يَمْلِكْنَ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ وَلَا يُزَوِّجُ بَنَاتِهِ اللَّائِي قَدْ مَلَكْنَ أَنْفُسَهُنَّ وَلَا أَخَوَاتِهِ وَلَا قَرَابَاتِهِ فَإِنْ فَعَلَ مَضَى عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(أَقُولُ) النَّصُّ الَّذِي ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَاءَ فِي عَقْدِ الْبَنَاتِ هُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهَا جَاءَتْ مَنْصُوصَةً عَنْ مَالِكٍ وَفِي وَثَائِقِ (ابْنِ فَتْحُونٍ) أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مَوْلَيَاتِ الْمُوصِي وَأَخَوَاتِهِ وَسَائِرَ بَنَاتِهِ وَذِي قَرَابَتِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَتْ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا إلَى الْمُوصِي ثَيِّبَاتٍ كُنَّ أَوْ أَبْكَارًا وَيَنْزِلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَنْزِلَتَهُ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَلِي الذُّكُورَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُمْ وَيُنْفِذُ عَلَيْهِمْ مَا يُنْظَرُونَ فِيهِ وَيُنْفِذُونَهُ بَعْدَ رُشْدِهِمْ وَإِنْكَاحُ وَلِيَّتِهِمْ أَحَقُّ مَا يَنْظُرُ لَهُمْ فِيهِ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الْإِنَاثِ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنَاثَ لَيْسَ إلَيْهِنَّ الْإِنْكَاحُ بَعْدَ الرُّشْدِ فَافْتَرَقَا لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِثْلُ هَذَا ذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ
(2/212)

فِي أَحْكَامِهِ. اهـ.
(قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ بِفَضْلِهِ) سَمِعْتُ مِنْ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَامَةِ الْحَافِظِ الْمُتَفَنِّنِ الْخَطِيبِ الْبَلِيغِ أَبِي الْعَبَّاسِ سَيِّدِي أَحْمَدَ الْمُقْرِي التِّلْمِسَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَبْرَ مَا مَرَّ فِي حَالِ قِرَاءَةِ مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ قَالَ يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي انْسِحَابِ نَظَرِ الْوَصِيِّ عَلَى أَوْلَادِ مَحْجُورِهِ مَحِلُّهَا فِي حَيَاةِ الْمَحْجُورِ وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّفِقَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ نَظَرٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ عَلَيْهِمْ إنَّمَا كَانَ بِحَسَبِ التَّبَعِ لِأَبِيهِمْ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الْمَتْبُوعُ عُدِمَ التَّابِعُ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْفِقْهِ مِنْهَا مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَمَاتَ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالَهُ فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا يَجُوزُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَازَالَ بِيَدِهِ، فَأَمَّا الْآنَ فَلَا يُبَاعُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِهِ مُنْفَرِدًا وَكَذَلِكَ النَّخْلُ وَالْأَرْضُ إذَا بَاعَهُمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ زَرْعَ الْأَرْضِ أَوْ ثَمَرَ النَّخْلِ فَاعْلَمْهُ.
وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أُخَرُ ذُكِرَتْ فِي مَحَلِّهَا وَقَدْ قُلْتُ فِي ذَلِكَ فِي تَكْمِيلِ الْمَنْهَجِ الْمُسَمَّى بِبُسْتَانِ فِكْرِ الْمَنْهَجِ فِي تَكْمِيلِ الْمَنْهَجِ:
وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالتَّبَعِ ... فَشَرْطُهُ بَقَاءُ مَتْبُوعٍ فَعِ
كَبَيْعِ خِلْفَةٍ وَمَالُ الْقِنِّ ... وَالزَّرْعُ وَالثِّمَارُ مِنْ ذَا الْفَنِّ
خِدْمَةُ أُمِّ وَلَدٍ إذَا حَرُمْ ... عَلَيْهِ وَطْؤُهَا لِذِي الْأَصْلِ تُضَمْ
وَشَيْخُنَا الْمُقْرِي قَاسَ نَظَرَا ... أَوْلَادَ مَحْجُورٍ لَهُ مَوْتٌ عَرَى
لَمْ يَبْقَ لِلْوَصِيِّ عَلَيْهِمْ مِنْ نَظَرْ ... لِفَقْدِ مَتْبُوعٍ كَمَا قَبْلُ غَبَرْ.

قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
وَالنَّقْلُ لِلْإِيصَاءِ غَيْرُ مُعْمَلٍ ... إلَّا لِعُذْرٍ أَوْ حُلُولِ أَجَلٍ
وَلَا يُرَدُّ الْعَقْدُ بَعْدَ أَنْ قَبِلْ ... إنْ مَاتَ مُوصٍ وَلِعُذْرٍ يَنْعَزِلْ
وَلَا رُجُوعَ إنْ أَبَى تَقَدُّمَهْ ... مِنْ بَعْدِ أَنْ مَاتَ الَّذِي قَدْ قَدَّمَهْ
اشْتَمَلَتْ الْأَبْيَاتُ الثَّلَاثَةُ عَلَى مَسَائِلَ، كُلُّ بَيْتٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَالْمُنَاسِبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَأْخِيرُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى نَقْلِ الْإِيصَاءِ الْكَائِنِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَلُزُومِهِ فَيُؤَخَّرُ عَنْ الْبَيْتَيْنِ بَعْدَهُ الْمُشْتَمِلَيْنِ عَلَى مَا يَلْزَمُ بِهِ الْإِيصَاءُ، وَمَا لَا يَلْزَمُ. (فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) أَنَّ الْوَصِيَّ الَّذِي لَزِمَهُ حُكْمُ الْإِيصَاءِ لِقَبُولِهِ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي إذَا أَرَادَ عَزْلَ نَفْسِهِ عَنْ الْإِيصَاءِ وَجَعْلِهِ لِغَيْرِهِ فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا لِعُذْرٍ حَصَلَ لَهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ النَّظَرُ فِي الْإِيصَاءِ الْمَذْكُورِ كَاخْتِلَالِ عَقْلٍ وَنَحْوِهِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَكَذَا لَهُ هُوَ أَنْ يُسْنِدَ الْإِيصَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى غَيْرِهِ قَالَ فِي (الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) فَإِنْ ذَهَبَ الْوَصِيُّ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يُفَوِّضَ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنْظُرُ بِأَمْرِهِ.
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَلِلْوَصِيِّ إذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا جَعَلَ الْمُوصِي إلَيْهِ إلَى مَنْ شَاءَ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالنَّظَرِ وَيَكُونُ وَصِيُّ الْوَصِيِّ كَالْوَصِيِّ. اهـ. (وَفِي مَجَالِسِ الْقَاضِي الْمِكْنَاسِيِّ مَا نَصُّهُ) فَإِنْ أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَنْحَلَّ عَنْ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لِغَيْرِ عُذْرٍ ثَبَتَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ . قُلْت: فَرَّقَ ابْنُ عَاتٍ بَيْنَ قَبُولِ الْوَصِيِّ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبُولُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَلَا يُحِلُّهُ الْقَاضِي إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عُذْرٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَبُولُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعْفِيَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ. اهـ.
(وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) إذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ الْإِيصَاءَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ قَبْلَهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى قَبُولِهِ إلَى مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا رُجُوعَ لَهُ بَعْدُ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ عُذْرٌ انْعَزَلَ.
(وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) إذَا امْتَنَعَ الْوَصِيُّ مِنْ قَبُولِ الْإِيصَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ بَدَا لَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَقْبَلَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَإِلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: لَا بَعْدَهُمَا، أَيْ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ قَبُولُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إلَى مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ كَانَ قَبُولُهُ بَعْدَهُ ثُمَّ قَالَ، وَإِنْ أَبَى الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا قَبُولَ لَهُ بَعْدُ قَالَ فِي (الْمُقَرَّبِ) قَالَ
(2/213)

ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ وَصِيَّةَ مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ لَزِمَتْهُ وَفِي كِتَابِ (ابْنِ يُونُسَ) قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَلَا رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
(وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ) وَإِذَا أَوْصَى رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ وَقَبِلَ الْمُوصَى إلَيْهِ ذَلِكَ ثُمَّ نَدِمَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ أَقَالَهُ الْمُوصِي جَازَتْ إقَالَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُقِلْهُ أُلْزِمَ النَّظَرَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إنْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ بِالْقَبُولِ عَلَى نَفْسِهِ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ إنْ كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَقْبُولٌ، (وَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ) وَإِذَا أَبَى مِنْ قَبُولِهَا فِي حَيَاتِهِ وَأَبَى مِنْهَا أَيْضًا بَعْدَ مَمَاتِهِ ثُمَّ أَرَادَ قَبُولَهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ السُّلْطَانُ لِحُسْنِ نَظَرِهِ. اهـ.
(ابْنُ رُشْدٍ) وَلِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ بَعْدَ الْقَبُولِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي (ابْنُ عَرَفَةَ) ظَاهِرُ الْمَعُونَةِ خِلَافُ هَذَا وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَلَا رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (أَشْهَبُ) لَوْ قَبِلَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ جَاءَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَهُمْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ. انْتَهَى عَلَى نَقْلِ الْمَوَّاقِ.
(فَرْعٌ) الْوَصِيَّانِ الْمُشْتَرِكَانِ فِي الْإِيصَاءِ هَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُوصِيَ بِمَا جُعِلَ إلَيْهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ أَوْ لَا ثَالِثُهَا لِشَرِيكِهِ فِي الْإِيصَاءِ لَا لِغَيْرِهِ وَعَلَى الثَّانِي ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ وَلَا لِأَحَدِهِمَا إيصَاءٌ اُنْظُرْ الشَّارِحَ وَالْمَوَّاقَ.
وَكُلُّ مَنْ قُدِّمَ مِنْ قَاضٍ فَلَا ... يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ بَدَلَا
كَذَاك لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَزِلَا ... إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ إنْ قَبِلَا
أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَا يَجُوزُ لِمُقَدَّمِ الْقَاضِي عَلَى النَّظَرِ لِلْيَتِيمِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمَا جُعِلَ إلَيْهِ أَحَدًا غَيْرَ حَيٍّ أَوْ مَاتَ وَلَا أَنْ يُوصِيَ إلَى أَحَدٍ وَهُوَ خِلَافُ وَصِيِّ الْأَبِ قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُوَثَّقِينَ (قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِحُضُورِ أَعْيَانِ الْقُضَاةِ الْمُقَدَّمِينَ لَهُمْ، وَأَمَّا الْأَبُ فَقَدْ فَاتَتْ عَيْنُهُ فَوَصِيُّهُ بِمَنْزِلَتِهِ وَفِيهَا أَيْضًا وَإِذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ التَّقْدِيمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَلَّ عَنْ ذَلِكَ إلَّا لِعُذْرٍ يَتَبَيَّنُ لِلْقَاضِي يُوجِبُ حِلَّهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ لِلْأَبِ. اهـ. فَقَوْلُهُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُ بَدَلًا يَشْتَمِلُ التَّوْكِيلَ فِي الْحَيَاةِ وَالْإِيصَاءَ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَقُدِّمَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَيَجْعَلَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ يَعُودُ عَلَى مَنْ قَدَّمَ، وَبَدَلَا: مَفْعُولٌ بِيَجْعَلَ، وَضَمِيرٌ مِنْهُ يَعُودُ عَلَى قَدَّمَ أَيْضًا.
أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي إلَى قَوْلِ الْمُتَيْطِيِّ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ فِي الرَّجُلِ يُوَكِّلُهُ السُّلْطَانُ عَلَى النَّظَرِ لِلْيَتِيمِ فَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْعَزِلَ عَنْ ذَلِكَ عُزِلَ ذَلِكَ السُّلْطَانُ أَوْ لَمْ يُعْزَلْ إلَّا أَنْ يُلْزِمَهُ السُّلْطَانُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَيُوَلِّي غَيْرَهُ لِحُسْنِ نَظَرِهِ. اهـ.
وَصَالِحٌ لَيْسَ يُجِيدُ النَّظَرَا ... فِي الْمَالِ إنْ خِيفَ الضَّيَاعُ حُجِرَا
وَشَارِبُ الْخَمْرِ إذَا مَا ثَمَّرَا ... لِمَا يَلِي مِنْ مَالِهِ لَنْ يُحْجَرَا
يَعْنِي أَنَّ الصَّالِحَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ النَّظَرَ فِي مَالِهِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ إنْ خِيفَ عَلَى مَالِهِ الضَّيَاعُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ إذَا كَانَ يَشْمَلُ مَا يَلِي مِنْ مَالِهِ وَيُنَمِّيه فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ مَعْصِيَتِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فَكَلَامُ
(2/214)

النَّاظِمِ فِيمَنْ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ يَسْتَأْنِفُ حَجْرَهُ، وَالثَّانِي يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ (قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّة) وَإِذَا كَانَ الْيَتِيمُ فَاسِقًا وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ نَاظِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لِمَالِهِ وَجَبَ إطْلَاقُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ فِي دِينِهِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي أَحْوَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ نَاظِرًا فِي مَالِهِ لَمْ يَجِبْ إطْلَاقُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ.
وَمَنْ كَانَ بِحَالِ تَبْذِيرٍ وَضَعْفِ نَظَرٍ فِي مَالِهِ مِمَّنْ لَمْ يُوَلَّ عَلَيْهِ وَكَانَ صَالِحًا فِي دِينِهِ وَجَبَ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ حَسَنَ النَّظَرِ فِي مَالِهِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ إنَّمَا هُوَ لِضَبْطِ الْمَالِ لَا لِفَسَادِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ فَسَادَ أَحْوَالِ الرَّجُلِ لَا تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ وَإِذَا بَذَّرَ مَالَهُ وَأَتْلَفَهُ صَارَ عَالَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَجَعَتْ نَفَقَتُهُ إلَى بَيْتِ مَالِهِمْ فَوَصَلَ بِتَبْذِيرِهِ إلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ فَلِهَذَا ضُرِبَ عَلَى يَدَيْهِ وَبِهَذَا الْفُتْيَا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. اهـ.
وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِ الْمُتَيْطِيِّ وَمَنْ كَانَ بِحَالِ تَبْذِيرٍ وَضَعْفِ نَظَرٍ إلَخْ، وَبِالْبَيْتِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَخْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ: حُجِرَا، وَقَوْلِهِ فِي الثَّانِي: لَنْ يُحْجَرَا إذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ لَا حَجْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَاسْتَغْنَى النَّاظِمُ بِهَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ عَنْ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُمَا فِي كَلَامِ الْمُتَيْطِيِّ وَهُمَا إطْلَاقُ مَنْ يُجِيدُ النَّظَرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْضِيِّ الْحَالِ وَاسْتِصْحَابُ الْحَجْرِ عَلَى مَنْ لَا يُجِيدُ النَّظَرَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدَمُ إجَادَةِ النَّظَرِ فِي الْمَالِ مِنْ الصَّالِحِ مُوجِبًا لِاسْتِئْنَافِ حَجْرِهِ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِاسْتِدَامَتِهِ وَإِذَا كَانَ تَثْمِيرُ الْمَالِ حَتَّى مِنْ غَيْرِ مَرْضِيِّ الْحَالِ مَانِعًا مِنْ ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِصْحَابِهِ مِنْ بَابِ لَا فَارِقَ قَالَهُ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَلِلْوَصِيِّ جَائِزٌ أَنْ يَتَّجِرَا ... لَكِنَّهُ يَضْمَنُ مَهْمَا غَرَّرَا
يَعْنِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَلَا يُغَرِّرَ بِهِ فَإِنْ فَعَلَ وَهَلَكَ ضَمِنَهُ قَالَ الْقَلْشَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الرِّسَالَةِ وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتَامَى وَيُزَوِّجَ إمَاءَهُمْ يَعْنِي أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لَهُمْ وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِمْ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ قِرَاضًا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ فَقِيلَ: الرِّبْحُ لَهُمْ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الرِّبْحُ لَهُ وَعَلَيْهِ الْخَسَارَةُ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَلِيًّا فَالرِّبْحُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالرِّبْحُ لِلْأَيْتَامِ. اهـ.
وَفِي طُرَرِ (ابْنِ عَاتٍ) رَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُفْتِينَ أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا كَانَ أَخًا لِلْيَتَامَى وَكَانَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا فَتَجَرَ بِهِ فَالرِّبْحُ لَهُ، قَالَ حَسَنٌ أَنْ يُوَاسِيَ مِنْهُ الْيَتَامَى وَفِي (الْمُقَرَّبِ) فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مُزَيْنٍ قَالَ وَسَأَلْتُ عِيسَى عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلْهَا الزَّكَاةُ، يَعْنِي: أَنْ يُقَارِضَ بِمَالِ الْيَتَامَى أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ أَوْ يَبْضَعَ مَعَهُمْ فَتَكُونُ زَكَاةُ الْمَالِ مِنْ رِبْحِهِ قَالَ وَيُكْرَهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قِرَاضًا لِنَفْسِهِ قَالَ يَحْيَى: قُلْتُ: لَهُ، فَإِنْ فَعَلَ قَالَ: إنْ أَخَذَهُ عَلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ وَلَمْ يَغُشَّ الْيَتِيمَ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ ذَهَبَ الْمَالُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. اهـ. وَجَائِزٌ مُبْتَدَأٌ، وَلِلْوَصِيِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَنْ يَتَّجِرَ فِي مَحَلِّ رَفْعِ فَاعِلٍ بِجَائِزٍ، وَمُتَعَلِّقُ يَتَّجِرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ بِمَالِ الْيَتِيمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَرْعٌ) فِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ: لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ لِلْوَصِيِّ أُجْرَةً عَلَى نَظَرِهِ اهـ.
وَعِنْدَمَا يَأْنُسُ رُشْدَ مَنْ حُجْر ... يُطْلِقُهُ وَمَالَهُ لَهُ يَذَرْ
وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَصَدَّى ... أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ لَأَنْ تَعَدَّى
يَعْنِي: أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا آنَسَ وَأَبْصَرَ وَرَأَى مِنْ مَحْجُورِهِ الرُّشْدَ وَحُسْنَ الْحَالِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ وَيُطْلِقَهُ مِنْ ثِقَافِ الْحَجْرِ وَيُعْطِيَهُ مَالَهُ وَيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَضَاعَ الْمَالُ ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ بِعَدَمِ تَرْشِيدِ الْمَحْجُورِ الْمَذْكُورِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى
(2/215)

{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] (وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) الْمُشَاوِرُ فَإِنْ عَلِمَ الْوَصِيُّ بِرُشْدِهِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالَهُ وَتَلِفَ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ سَوَاءٌ تَلِفَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي حَبْسِ مَالِهِ ظَالِمٌ لَهُ وَغَاصِبٌ لِمَالِ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِتَرْشِيدِهِ وَقْتَ تَلَفِ مَالِهِ ضَمِنَهُ الْوَصِيُّ. اهـ. وَفَاعِلُ يَأْنَسُ الْوَصِيُّ أَيْ يُبْصِرَ، وَمَالَهُ مَفْعُولُ يَذَرَ أَيْ: يَتْرُكُ لَهُ مَالَهُ

[فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا]
(ابْنُ عَرَفَةَ) الْوَصِيَّةُ: عَقْدٌ يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ عَاقِدِهِ لَزِمَ بِمَوْتِهِ أَوْ نِيَابَةً عَنْهُ بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: الْوَصِيَّةُ أَيْ: فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَا الْفُرَّاضِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ خَاصَّةٌ بِمَا يُوجِبُ الْحَقَّ فِي الثُّلُثِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ جِنْسٌ لِلْوَصِيَّةِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ عُقُودٌ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ عَاقِدِهِ أَخْرَجَ بِهِ مَا يُوجِبُ حَقًّا فِي رَأْسِ مَالِهِ مِمَّا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي صِحَّتِهِ قَوْلُهُ يَلْزَمُ بِمَوْتِهِ هُوَ صِفَةٌ لِعَقْدٍ أَخْرَجَ بِهِ الْمَرْأَةَ إذَا وَهَبَتْ أَوْ الْتَزَمَتْ ثُلُثَ مَالِهَا وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ مَنْ الْتَزَمَ ثُلُثَ مَالِهِ لِشَخْصٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْمَوْتِ قَوْلُهُ: أَوْ نِيَابَةً عَنْهُ بَعْدَهُ، نِيَابَةً: عَطْفٌ عَلَى حَقًّا، وَالْمَعْنَى أَوْ يُوجِبُ نِيَابَةً عَنْ عَاقِدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَدْخُلُ الْإِيصَاءُ بِالنِّيَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ (الرَّصَّاع) فَإِنْ قُلْتَ: إذَا أَوْصَى أَوْ الْتَزَمَ عَدَمَ الرُّجُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ قُلْتُ فِيهِ خِلَافٌ وَالْحَدُّ لِلْأَعَمِّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِّ أَعَمُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ الذَّاتِ أَوْ الْعِتْقِ.
فِي ثُلُثِ الْمَالِ فَأَدْنَى فِي الْمَرَضْ ... أَوْ صِحَّةٍ وَصِيَّةٌ لَا تُعْتَرَضْ
حَتَّى مِنْ السَّفِيهِ وَالصَّغِيرِ ... إنْ عَقَلَ الْقُرْبَةَ فِي الْأُمُورِ
وَالْعَبْدُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ مُطْلَقَا ... وَهْيَ مِنْ الْكَافِرِ لَيْسَتْ تُتَّقَى
يَعْنِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ وَلَا يَعْتَرِضُهَا مُعْتَرِضٌ أَيْ لَا يَرُدُّهَا زَادَ إذَا كَانَتْ فِي ثُلُثِ الْمَالِ فَأَدْنَى كَانَ الْمُوصِي صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا رَشِيدًا كَانَ أَوْ سَفِيهًا بَالِغًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا إذَا عَقَلَ الْقُرْبَةَ وَالطَّاعَةَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا لَكِنْ بِشَرْطِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا تَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ قِنًّا كَانَ أَوْ فِيهِ شَائِبَةُ رِقٍّ وَهُوَ الَّذِي عُنِيَ بِالْإِطْلَاقِ فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ مِنْ الْعَبْدِ قَالَ فِي (الْمُقَرَّبِ) :.
قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ جَازَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ، وَفِيهِ أَيْضًا وَصِيَّةُ الْأَحْمَقِ وَالسَّفِيهِ وَالْمُصَابِ الَّذِي يُفِيقُ أَحْيَانًا جَائِزَةٌ إذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ الْوَصِيَّةَ قَالَ (مَالِكٌ) وَالصَّبِيُّ إذَا أَوْصَى وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ فَوَصِيَّتُهُ أَيْضًا جَائِزَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا اخْتِلَاطٌ وَفِي (الْمَنْهَجِ السَّالِكِ) الْوَصِيَّةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ (وَفِيهِ أَيْضًا) وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ وَالصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ الَّذِي يَعْقِلُ وُجُوهَ الْقُرَبِ وَفِي (الْجَوَاهِرِ) وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ كُلِّ حُرٍّ مُمَيِّزٍ مَالِكٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَتَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ إذْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُمَيِّزِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ وَجْهَ الْقُرَبِ وَأَصَابَ وَجْهَ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا اخْتِلَاطٌ، وَالْكَافِرُ تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِمُسْلِمٍ
(2/216)

وَهْيَ لِمَنْ تُمْلَكُ مِنْهُ يَصِحْ ... حَتَّى لِحَمْلٍ وَاضِحٍ أَوْ لَمْ يَضِحْ
لَكِنَّهَا تَبْطُلُ إنْ لَمْ يَسْتَهِلْ ... وَلِلْعَبِيدِ دُونَ إذْنٍ تَسْتَقِلْ
لَمَّا ذَكَرَ فِي الْبَيْتَيْنِ قَبْلَ هَذَيْنِ وَصْفَ الْمُوصِي تَكَلَّمَ هُنَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ حَتَّى لِلْحَمْلِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ، أَوْ لِحَمْلٍ يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْآنَ ظَاهِرًا فَإِنْ وُلِدَ وَاسْتَهَلَّ صَارِخًا صَحَّتْ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ بَطَلَتْ وَرَجَعَتْ مِيرَاثًا، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبِيدِ دُونَ إذْنِ سَادَتِهِمْ (وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ) وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمِلْكُ فَلَوْ أَوْصَى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ فَانْفَصَلَ حَيًّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ أَسْقَطَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَلَوْ أَوْصَى لِحَمْلٍ سَيَكُونُ صَحَّ وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ قَالَ: إنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ وَيَكُونُ ثَمَّ الْمُوصَى بِهِ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ إلَى أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي الْقَبُولِ إلَى إذْنِ سَيِّدِهِ وَفِي (الْمُقَرَّبِ) إذْ الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ فِيهَا سَوَاءٌ وَإِنْ أَوْصَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. (فَرْعٌ) وَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
وَهْيَ بِمَا يُمْلَكُ حَتَّى الثَّمَرِ ... وَالدَّيْنِ وَالْحَمْلِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ
تَكَلَّمَ فِي الْبَيْتِ عَلَى الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِتَقَدُّمِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ فَذَكَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَمْلُوكٍ حَتَّى الثَّمَرِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ وَالدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَالْحَمْلِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْغَرَرُ فِيهِ جَائِزٌ قَالَ فِي (الْجَوَاهِرِ) وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ مَمْلُوكٍ يَقْبَلُ النَّقْلَ وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا أَوْ عَيْنًا بَلْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلَا كَوْنُهُ مَعْلُومًا وَلَا مَقْدُورًا عَلَيْهِ بَلْ تَصِحُّ بِالْحَمْلِ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَصِحُّ بِالْمَغْصُوبِ وَالْمَجَاهِيلِ وَلَا كَوْنُهُ مُعَيَّنًا إذْ تَصِحُّ بِأَحَدِ الْعَبِيدِ وَلَا تَصِحُّ بِمَا لَا تَمْلِكُهُ كَالْخَمْرِ.
(2/217)

وَامْتَنَعَتْ لِوَارِثٍ إلَّا مَتَى ... إنْفَاذُ بَاقِي الْوَارِثِينَ ثَبَتَا
يَعْنِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَمْنُوعَةٌ إلَّا إذَا أَجَازَهَا بَاقِي الْوَرَثَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» قَالَ فِي (الْمَنْهَجِ السَّالِكِ) وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَهِيَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ جَائِزَةٌ (وَفِي الْجَوَاهِرِ) وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَتَقِفُ عَلَى إجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ فَإِنْ رَدُّوهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا وَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ ثُمَّ اُخْتُلِفَ بَعْدَ تَنْفِيذِهَا بِإِجَازَتِهَا هَلْ ذَلِكَ تَنْفِيذٌ بِفِعْلِ الْمُوصِي أَوْ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ أَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ وَرَأَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ. اهـ. وَتَعْبِيرُ النَّاظِمِ بِامْتَنَعَتْ كَعِبَارَةِ الْمَنْهَجِ السَّالِكِ فَلَا تَجُوزُ بِخِلَافِ عِبَارَةِ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ بِتَصِحُّ وَعَلَى أَنَّ إجَازَةَ الْوَرَثَةِ تُنَفَّذُ لَا تَفْتَقِرُ لِحَوْزٍ وَتَفْتَقِرُ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ.
(فَرْعٌ) مَنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَاتُّهِمَ أَنْ يَكُونَ اتَّفَقَ مَعَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْوَصِيَّةَ وَيَدْفَعَهَا لِبَعْضِ وَرَثَةِ الْمُوصِي وَأَنَّ ذَلِكَ تَحَيُّلٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَحْلِفُ وَيَبْرَأُ مِنْ التُّهْمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ تُعْطَ لَهُ الْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ اُنْظُرْ أَوَائِلَ نَوَازِلِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمِعْيَارِ.
وَلِلَّذِي أَوْصَى ارْتِجَاعُ مَا يَرَى ... مِنْ غَيْرِ مَا بَتَّلَ أَوْ مَا دُبِّرَا
يَعْنِي أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ عَنْ وَصِيَّتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ إلَّا مَا بَتَّلَ عِتْقُهُ أَوْ عَطِيَّتُهُ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ لِخَبَرِ «إنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» وَإِلَّا مَا دَبَّرَهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ رُجُوعٌ.
قَالَ فِي (الرِّسَالَةِ) وَلِلرَّجُلِ الرُّجُوعُ فِي وَصِيَّتِهِ مِنْ عِتْقٍ وَغَيْرِهِ قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَوْصَى فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ بِعِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَهُ وَيَصْنَعَ فِيهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَمُوتَ وَلَهُ أَنْ يَطْرَحَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ وَيُبَدِّلَ غَيْرَهَا قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا بَتَّلَ وَمِنْ الْمَجْمُوعَةِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمَنْ صَدَّرَ وَصِيَّتَهُ وَكَتَبَ فِيهَا: إنَّ فُلَانًا حُرٌّ وَفُلَانٌ حُرٌّ قَالَ إذَا أَجْرَاهَا مَجْرَى الْوَصِيَّةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا.
قَالَ (ابْنُ الْقَاسِمِ) وَإِنْ كَتَبَ فِي أَمَتِهِ إنَّهَا مُدَبَّرَةٌ إنْ لَمْ أُحْدِثْ فِيهَا حَدَثًا فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ وَإِنْ قَالَ عَبْدِي مُدَبَّرٌ بَعْد مَوْتِي فَهُوَ كَالْوَصِيَّةِ وَقَالَ عَنْهُ مُحَمَّدٌ إنْ قَالَ إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَعَبْدِي مُدَبَّرٌ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ.
وَفِي الْمَعُونَةِ: الْوَصِيَّةُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا تُنَفَّذُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَلَهُ
(2/218)

الرُّجُوعُ فِيمَا شَاءَ مِنْهَا إلَّا التَّدْبِيرَ وَلِأَنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمُبَتَّلُ فِي الْمَرَضِ. اهـ وَرَاجِعْ أَوَّلَ التَّدْبِيرِ فَفِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْ التَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَدْ أَطَالَ الشَّارِحُ هُنَا بِالْكَلَامِ عَلَى تَبْدِئَةِ بَعْضِ الْوَصَايَا عَلَى بَعْضٍ فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْتَ. (تَنْبِيهٌ) فِي اسْتِثْنَاءِ النَّاظِمِ مَا أَبْتَلَهُ أَوْ دَبَّرَهُ مَا لَا يَخْفَى إذْ لَيْسَا مِنْ الْوَصِيَّةِ
وَفِي الَّذِي عَلِمَ مُوصٍ تُجْعَلُ ... وَدَيْنُ مَنْ عَنْ الْيَمِينِ يَنْكُلُ
يَعْنِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تُؤْخَذُ وَتَخْرُجُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي عَلِمَ بِهِ الْمُوصِي سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ وَلَا تَخْرُجُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَكَذَلِكَ تَخْرُجُ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُوصِي إذَا نَكَلَ طَالِبُهُ عَنْ يَمِينِ الْقَضَاءِ أَوْ عَنْهَا وَعَنْ يَمِينِ النِّصَابِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِذَا بَطَل وَرَجَعَ لِلْوَرَثَةِ فَيُجْمَعُ لِبَقِيَّةِ مَالِهِ وَتَخْرُجُ الْوَصَايَا مِنْ الْمَجْمُوعِ قَالَ (الشَّارِحُ) لِأَنَّ مَحْمَلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ وَقَدْ كَانَ الْمُوصِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَفِي الْمُقَرَّبِ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ يَوْمَ أَوْصَى ثُمَّ أَفَادَ مَالًا فَمَاتَ فَإِنْ عَلِمَ الْمَيِّتُ بِمَا أَفَادَ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ أَوْصَى وَلَهُ مَالٌ ثُمَّ نَفَذَ مَالُهُ ثُمَّ أَفَادَ مَالًا بَعْدَهُ وَمَاتَ فَوَصِيَّتُهُ تَدْخُلُ فِيمَا أَفَادَ إذَا عَلِمَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَقَرَّ وَصِيَّتَهُ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كُلِّ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَهُ مَالٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِثْلُ الْمِيرَاثِ يَكُونُ لَهُ بِأَرْضٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَمَاتَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَا تَدْخُلُ فِيهِ الْوَصَايَا لَا عِتْقٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مَا أَوْصَى وَسَوَاءٌ فِي هَذَا عَلِمَ بِهِ فِي مَرَضِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَرَضِهِ فَإِنَّ الْوَصَايَا تَدْخُلُ فِيهِ إذَا عَلِمَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَمِنْ (طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ ابْنُ زَرْبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ بَطَلَ وَكَانَتْ الْوَصَايَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ مَالِهِ وَرَجَعَ الدَّيْنُ مِيرَاثًا وَلَمْ تَدْخُلْ وَصَايَا فِيهِ وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِمَنْ يَجِبُ إقْرَارُهُ لَهُ بِهِ فَكُلِّفَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الْقَضَاءِ فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْوَصَايَا تَدْخُلُ فِيهِ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَهُ ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ مُغِيثٍ. اهـ. وَإِلَى قَوْلِهِ فِي الطُّرَرِ وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِمَنْ يَجِبُ إلَخْ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
وَدَيْنُ مَنْ عَنْ الْيَمِينِ يَنْكُلُ
(وَفِي ابْنِ الْحَاجِبِ) وَلَا مَدْخَلَ لِلْوَصِيَّةِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنْ إرْثٍ وَلَا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ وَلَوْ فِي مَرَضِهِ مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ أَوْصَى بِهِ لِوَارِثٍ وَلَوْ رُدَّ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَرَضِ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ تَعْمِيرٍ وَحَبْسٍ أَيْ فَالْوَصَايَا تَدْخُلُ فِيهِ. وَفِي الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ إنْ اشْتَهَرَ مَوْتُهُمَا ثُمَّ ظَهَرَتْ السَّلَامَةُ قَوْلَانِ كَغَرَقِ السَّفِينَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ خَلِيلٍ وَفِي سَفِينَةٍ أَوْ عَبْدٍ شُهِرَ تَلَفُهُمَا ثُمَّ ظَهَرَتْ السَّلَامَةُ قَوْلَانِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ أَوْ أَوْصَى بِهِ لِوَارِثٍ.
(قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَسَمَحَ لَهُ) وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْأُولَى: رَجُلٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ أَوْصَى بِثُلُثِهِ يُقْسَمُ أَثْلَاثًا لِأَوْلَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ ثُلُثُ الثُّلُثِ الْمَذْكُورِ فَمَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْأَوْلَادِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ أَنْ يُولَد لَهُ فَرَجَعَ نَصِيبُهُ وَهُوَ ثُلُثُ الثُّلُثِ لِلْوَرَثَةِ وَتَزَايَدَ لِلْوَلَدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ أَوْلَادٌ فَهَلْ يَدْخُلُونَ فِيمَا رَجَعَ لِلْوَرَثَةِ أَمْ لَا.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) رَجُلٌ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ وَتَرَكَ الْوَلَدُ أَوْلَادًا فَأَنْزَلَهُمْ جَدُّهُمْ مَنْزِلَةَ أَبِيهِمْ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا يَرِثُهُ أَبُوهُمْ
(2/219)

وَلِلرَّجُلِ الْمَذْكُورِ حِينَئِذٍ عَرْصَةٌ تُسَاوِي ثَمَنًا مُعْتَبَرًا ثُمَّ بَعْدَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ حَبَسَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ الْعَرْصَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ وَعَقِبِهِمْ وَهُوَ إذْ ذَاكَ سَاكِنٌ بِمِصْرِيَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ مَاتَ الْمُحْبِسُ الْمَذْكُورُ فَاسْتَظْهَرَ بَاقِي وَرَثَتِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّحْبِيسِ الْمَذْكُورِ سَاكِنًا فِيهَا إلَى أَنْ مَاتَ عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْهُ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ الْمَذْكُورَةِ وَفَسَخَ الْحَبْسَ الْمَذْكُورَ وَصَارَتْ الْعَرْصَةُ مِلْكًا تُبَاعُ وَتُشْتَرَى فَهَلْ يَدْخُلُ الْأَحْفَادُ الْمُنَزَّلُونَ مَنْزِلَةَ أَبِيهِمْ فِي الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمْ لَا لِكَوْنِ التَّنْزِيلِ وَصِيَّةً وَالْوَصِيَّةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا عَلِمَهُ الْمُوصِي وَرُجُوعُ الْعَرْصَةِ مِلْكًا كَمَالٍ حَدَثَ لِلْمُوصِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَصَايَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ أَوَّلَ نَوَازِلِ الْوَصَايَا وَأَحْكَامِ الْمَحَاجِيرِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي سَعِيدٍ عُثْمَانَ بْنِ مَنْظُورٍ وَنَصُّهُ وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَلْ يَدْخُلُ الْمُوصَى لَهُمْ فِيمَا بَطَلَ وَفَسَدَ مِنْ الْهِبَاتِ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: تَأَمَّلْتُ - حَفِظَ اللَّهُ أُخُوَّتَكُمْ - السُّؤَالَ الْوَاقِعَ فِي قَضِيَّةِ بَنِي رِزْقٍ وَأَحْضَرْتُ أَهْلَ الشُّورَى فَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْمُوصَى لَهُمْ بِالثُّلُثِ فِيمَا فَسَدَ مِنْ الْهِبَةِ يَجْرِي فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُمْ الدُّخُولَ لِأَنَّ بَقَاءَ الْمَوْهُوبِ تَحْتَ يَدِ الْوَاهِبِ حَتَّى مَاتَ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُمْ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ الْوَاهِبِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدُ حَتَّى مَاتَ فَدَخَلَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ كَمَا دَخَلَتْ فِي سَائِرِ مُمْتَلَكَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَدَمُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْهِبَةِ إنَّمَا حَصَلَ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الْمَوْهُوبُ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ حَدَثَ لِلْمُوصِي بَعْدَ وَفَاتِهِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَمْ يَقْصِدْهُ بِالْوَصِيَّةِ إذْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ نَقَلَهُمَا صَاحِبُ الْبَيَانِ فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَلَمْ تُحَزْ عَنْهُ حَتَّى تُوُفِّيَ وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالثُّلُثِ وَعَلَّلَ الدُّخُولَ بِعَدَمِ الْحَوْزِ لِلْمُتَصَدِّقِ بِهِ وَعَدَمُهُ بِأَنَّ الْإِبْطَالَ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ بَعْدَ إبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَوْتِ كَمَالٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُوصِي.
وَكَذَلِكَ نَقَلَ ابْنُ حَارِثٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا الْخِلَافَ وَزَادَ اللَّخْمِيُّ فَنَقَلَ اخْتِلَافًا فِي دُخُولِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُوصِي مِنْ مَالِهِ فِي وَصِيَّتِهِ وَلِمَا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى وُجُودِ الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّدَقَةِ الَّتِي لَمْ تُحَزْ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهَا عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ افْتَرَقُوا فِي الِاخْتِيَارِ فَمِنْهُمْ مِنْ اخْتَارَ الدُّخُولَ وَمِنْهُمْ مِنْ اخْتَارَ عَدَمَهُ وَتَأَكَّدَ عِنْدِي الْقَوْلُ بِالدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِمَا أَشَرْتُمْ إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الْوَاهِبِ كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى تِلْكَ الْأَمْلَاكِ الْمَوْهُوبَةِ يَسْتَغِلُّهَا وَيَمْنَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُمْ مِنْهَا حَتَّى تُوُفِّيَ وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا يُوهِنُ الْهِبَةَ وَيُصَيِّرُهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ. انْتَهَى مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي دُخُولِ الْمُوصَى لَهُمْ فِيمَا بَطَلَ مِنْ الْهِبَاتِ يَجْرِي فِيمَا بَطَلَ مِنْ الْمُحْبَسَاتِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِجَامِعِ اخْتِلَالِ شَرْطِهِمَا وَهُوَ الْحَوْزُ وَاخْتِلَالُهُ إمَّا حِسًّا وَحُكْمًا كَمَا إذَا بَقِيَ الشَّيْءُ بِيَدِ وَاهِبِهِ أَوْ مُحْبِسِهِ حَتَّى مَاتَ وَإِمَّا حُكْمًا فَقَطْ كَمَا إذَا حِيزَ مُدَّةً لَا تَكْفِي فِي الْحَوْزِ فَهُوَ كَالْعَدَمِ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَلَمْ أَقِفْ فِيهَا الْآنَ عَلَى نَصٍّ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الدُّخُولِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِبْطَالَ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ كَمَالٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا يُجْرَى فِي هَذِهِ مَا عَلَّلُوا بِهِ الدُّخُولَ مِنْ عَدَمِ الْحَوْزِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَا تَفْتَقِرُ لِحَوْزٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَصُحِّحَتْ لِوَلَدِ الْأَوْلَادِ ... وَالْأَبُ لِلْمِيرَاثِ بِالْمِرْصَادِ
يَعْنِي أَنَّهَا تَصِحُّ لِوَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَنْ وُجُودِ الْوَلَدِ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ:
وَالْأَبُ لِلْمِيرَاثِ بِالْمِرْصَادِ
أَيْ: يَرْصُدُ مِيرَاثَ أَبِيهِ الْمُوصِي وَيَرْتَقِبُهُ (ابْنُ يُونُسَ) قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ وَلَدِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانُوا غَيْرَ وَرَثَةٍ اهـ.
(وَاعْلَمْ) أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ اتَّسَعَ فِيهَا الْكَلَامُ وَاخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأَفْهَامُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا مَجْمُوعَةً فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ كُتُبِ الْأَحْكَامِ، فَجَمَعْت مِنْهَا مَا حَضَرَنِي وَالْتَقَطْت مِنْهَا مَا وَسِعَنِي وَهَذَّبْته وَرَتَّبْته فَسَرَّنِي فَأَقُولُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَالتُّكْلَانُ
(2/220)

لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا حَضَرَنِي مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ.
(الْأَوَّلُ) : إذَا قَالَ الْمُوصِي: أَوْصَيْتُ لِوَلَدِ وَلَدِي لِمَنْ يُزَادُ أَوْ يُولَدُ لِوَلَدِي فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ تَشْمَلُ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي مِنْ الْأَحْفَادِ وَمَنْ عَسَى أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ وَإِنْ قَالَ: لِوَلَدِ وَلَدِهِ وَلَمْ يَقُلْ وَلِمَنْ يُزَادُ أَوْ يُولَدُ لِوَلَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلَدٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا يَشْمَلُ الْإِيصَاءُ كُلَّ مَنْ يُولَدُ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَفِيدٌ وَاحِدٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ أَوْ أَكْثَرُ فَهَلْ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَوْجُودِ مِنْهُمْ إذْ ذَاكَ أَوْ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَلِمَنْ سَيُوجَدُ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْمِزْجَادِيُّ اُنْظُرْ الْمِعْيَارَ.
(الثَّانِي) إذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَصِيَّةِ لَفْظُ تَحْبِيسٍ وَلَا صَدَقَةٍ فَتُحْمَلُ عَلَى التَّمَالُكِ لِلْمُوصَى لَهُمْ وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ مِلْكٍ عَلَى السَّوَاءِ لَا يُؤْثَرُ فِيهِ فَقِيرٌ عَلَى غَنِيٍّ، نَقَلَهُ فِي الْمِعْيَارِ أَيْضًا عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ النُّورِ الْعِمْرَانِيِّ.
(الثَّالِثُ) إنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَصْلًا فَذَلِكَ الْمُرَادُ لِيَبْقَى أَصْلُهُ وَيَنْتَفِعَ بِغَلَّتِهِ الْمُوصَى لَهُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا اُشْتُرِيَ بِهِ أَصْلٌ وَكَذَا إنْ كَانَ عَرَضًا بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِهِ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَصْلِ مُعَرَّضٌ لِلضَّيَاعِ. وَقِيلَ: يُتَّجَرُ بِهِ لِمَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ، وَجَمَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: إنْ كَانَ كَثِيرًا يَكْفِي لِشِرَاءِ أَصْلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ اُشْتُرِيَ وَإِلَّا اُتُّجِرَ بِهِ، وَإِذَا وُجِدَتْ غَلَّةٌ فَهَلْ تُقْسَمُ عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَحْفَادِ فَإِنْ ازْدَادَ غَيْرُهُمْ دَخَلَ مَعَهُمْ أَوْ تُوُقِّفَ إلَى أَنْ تَنْقَطِعَ وِلَادَةُ أَوْلَادِ الصُّلْبِ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ لِلشُّيُوخِ اُنْظُرْ أَوَائِلَ نَوَازِلِ الْأَحْبَاسِ مِنْ الْمِعْيَارِ أَيْضًا.
(الرَّابِعُ) مَا يُوجَدُ مِنْ الْغَلَّةِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِوَلَدِ الصُّلْبِ أَفْتَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِأَنَّ الْغَلَّةَ إذْ ذَاكَ لِلْوَرَثَةِ إلَى أَنْ يُوجَدَ أَحَدُ الْأَحْفَادِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَلْوَانَ بِأَنَّهَا تُوقَفُ لِلْمُوصَى لَهُ إلَى أَنْ يُوجَدَ.
(الْخَامِسُ) إذَا قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: نِصْفُهَا لِأَوْلَادِ زَيْدٍ وَنِصْفُهَا لِأَوْلَادِ عَمْرٍو أَوْ: ثُلُثُهَا لِأَوْلَادِ زَيْدٍ وَثُلُثُهَا لِأَوْلَادِ عَمْرٍو وَثُلُثُهَا لِأَوْلَادِ بَكْرٍ قُسِمَتْ الْغَلَّةُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِأَوْلَادِ زَيْدٍ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ وَنِصْفُهَا لِوَلَدِ عَمْرٍو كَذَلِكَ، وَتُقْسَمُ أَثْلَاثًا فِي الْمِثَالِ الثَّانِي: ثُلُثٌ لِأَوْلَادِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَحَظُّهُ لِمَنْ بَقِيَ لَا لِوَارِثِهِ فَإِنْ كَانَ لِفَرِيقٍ أَوْ أَكْثَرَ أَرْبَعَةٌ مَثَلًا مِنْ الْوَلَدِ فَمَاتَ وَاحِدٌ قَسَمُوا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ ازْدَادَ وَاحِدٌ قَسَمُوا عَلَى خَمْسٍ وَهَكَذَا فَإِنْ ازْدَادَ وَلَدٌ عِنْدَ فَرِيقٍ أُعْطِيَ مِنْ غَلَّةٍ تُسْتَقْبَلُ لَا مِمَّا قُسِمَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ.
وَيُقْسَمُ نَصِيبُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى أَوْلَادِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ الْغَنِيُّ كَالْفَقِيرِ وَالذَّكَرُ كَالْأُنْثَى إلَّا بِنَصٍّ مِنْ الْمُوصِي وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْغَلَّةَ لِمَنْ وُجِدَ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَإِنَّ الْغَلَّةَ كُلَّهَا تُوقَفُ إلَى أَنْ تَنْقَطِعَ وِلَادَةُ أَبِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ فَتُقْسَمُ عَلَى الْحَيِّ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِ وَيَحْيَا الْمَيِّتُ بِالذِّكْرِ وَيُقْسَمُ مَنَابُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ الْقَوْلَ بِقَسْمِ الْغَلَّةِ عَلَى مَنْ حَضَرَ قَائِلًا إنَّهُ ظَاهِرُ قَصْدِ الْمُوصِي وَأَمَّا إنْ أَجَّلَ فِي وَصِيَّتِهِ وَقَالَ ثُلُثِي لِأَوْلَادِ وَلَدِي فُلَانٍ وَوَلَدِي فُلَانٍ وَوَلَدِي فُلَانٍ فَإِنَّ الْغَلَّةَ تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْأَحْفَادِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِمَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلَادِ وَيُجْرَى فِي قِسْمَتِهَا عَلَى مَنْ وُجِدَ أَوْ إيقَافُهَا إلَى انْقِطَاعِ وِلَادَةِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ، الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ، وَيُجْرَى أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ انْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ بِمَوْتِ وَاحِدٍ أَوْ وِلَادَتِهِ لَكِنْ لَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ أَوْ ازْدَادَ لَهُ فَقَطْ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْوَجْهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْأَحْفَادِ.
(السَّادِسُ) لَا يُبَاعُ الْأَصْلُ الْمُوصَى بِهِ أَوْ الْمُشْتَرَى بِالْعَيْنِ أَوْ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ الْمُوصَى بِهِمَا حَتَّى تَنْقَطِعَ وِلَادَةُ أَوْلَادِ الصُّلْبِ اتِّفَاقًا فَإِذَا بِيعَ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا أَوْ لَمْ يُبَعْ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْأَصْلُ مِلْكًا لِلْأَخِيرِ مِنْ الْأَحْفَادِ وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِطَاعِ وِلَادَةِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ إنَّمَا لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْغَلَّةِ فَقَطْ أَوْ هُوَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْأَحْفَادِ فَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ كَالْغَلَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِيقَافِهَا قَوْلَانِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ أُخَرُ يَطُولُ بِنَا ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ.
وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْ أَطْرَافِ الْمَسْأَلَةِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ آخِرَ نَظْمِنَا الْمُسَمَّى بُسْتَانُ فِكْرِ الْمُهَجِ فِي تَذْيِيلِ الْمَنْهَجِ فِيمَا يَقْرَبُ مِنْ خَمْسِينَ بَيْتًا، وَرَاجِعْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي شَرْحِ النَّظْمِ الْمَذْكُورِ الْمُسَمَّى بِالرَّوْضِ الْمُبْهِجِ فِي شَرْحِ تَكْمِيلِ الْمَنْهَجِ نَفَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْجَمِيعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَإِنْ أَبٌ مِنْ مَالِهِ قَدْ أَنْفَقَا ... عَلَى ابْنِهِ فِي حَجْرِهِ تَرَفَّقَا
فَجَائِزٌ رُجُوعُهُ فِي الْحَالِ ... عَلَيْهِ مِنْ حِينِ اكْتِسَابِ الْمَالِ
(2/221)

تَكَلَّمَ فِي الْبَيْتَيْنِ عَلَى مَا إذَا أَنْفَقَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَبْيَاتِ بَعْدَهُمَا عَلَى مَا إذَا أَنْفَقَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَطَالَبَ بَقِيَّةُ وَرَثَةِ الْأَبِ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ.
قَوْلُهُ: وَإِنْ أَبٌ إلَخْ، يَعْنِي: الْأَبُ إذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ الَّذِي فِي حَجْرِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ مِنْ وَقْتِ كَسْبِهِ وَمِلْكِهِ الْمَالَ فَمَا بَعْدَهُ، وَأَمَّا مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ وَالِابْنُ مُعْدِمٌ لَا مَالَ عِنْدَهُ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ فِيهِ رُجُوعٌ أَمَّا عَدَمُ رُجُوعِهِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ قَبْلَ كَسْبِهِ لِلْمَالِ فَظَاهِرُهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ حِينَئِذٍ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ.
وَقَالَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَةُ وَلَدِهِ الذُّكُورِ حَتَّى يَحْتَلِمُوا وَالْإِنَاثِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلصَّبِيِّ كَسْبٌ يَسْتَغْنِي بِهِ أَوْ مَالٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ. اهـ.
(وَفِي الْقَلْشَانِيِّ مَا نَصُّهُ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الرِّوَايَاتُ وَاضِحَةٌ بِعَدَمِ اتِّبَاعِ الْأَبِ وَلَدَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَنَحْوُهُ فِي ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْمُخْتَصَرِ وَغَيْرِهِمَا وَقَيَّدَ ابْنُ الْحَاجِبِ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِمَا إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَمَّا الْعَبْدُ وَمَنْ فِيهِ شَائِبَةُ رِقٍّ فَلَا نَفَقَةَ لِوَلَدِهِ عَلَيْهِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَكَذَلِكَ لَا نَفَقَةَ أَيْضًا لِلْوَلَدِ الرَّقِيقِ عَلَى أَبِيهِ. اهـ. يَعْنِي وَإِنَّمَا نَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَأَمَّا رُجُوعُ الْأَبِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْوَلَدِ بَعْدَ اكْتِسَابِهِ الْمَالَ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَمَّا الْأَبُ إذَا أَنْفَقَ عَلَى وَلَدِهِ وَلَهُ مَالُ عَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ ثُمَّ قَالَ حَاسِبُوهُ حُوسِبَ بِذَلِكَ. اهـ.
نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ (وَفِي شَرْحِ الْقَلْشَانِيِّ مَا نَصُّهُ) : وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى صَغِيرٍ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ حِينَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ فَيُرْجَعُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. اهـ. قَوْلُهُ: وَإِنْ أَبٌ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ أَنْفَقَ وَقَيَّدْنَا الِابْنَ بِالصَّغِيرِ كَمَا قَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي حَجْرِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَالِغًا لَرَجَعَ عَلَيْهِ، مَلِيًّا كَانَ الِابْنُ أَوْ مُعْدَمًا، وَتَرَفُّقًا أَيْ: رِفْقًا بِهِ كَأَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَلَعَلَّ التَّرَفُّقَ رَاجِعٌ لِكَوْنِهِ فِي حَجْرِهِ إذْ لَوْ رَدَدْنَاهُ إلَى الْإِنْفَاقِ لَكَانَ نَصًّا فِي عَدَمِ قَصْدِ الرُّجُوعِ.
وَإِنْ يَمُتْ وَالْمَالُ عَيْنٌ بَاقِ ... وَطَالَبَ الْوَارِثُ بِالْإِنْفَاقِ
فَمَا لَهُمْ إلَيْهِ مِنْ سَبِيلِ ... وَهُوَ لِلِابْنِ دُونَ مَا تَعْلِيلِ
إلَّا إذَا أَوْصَى عَلَى الْحِسَابِ ... وَقَيَّدَ الْإِنْفَاقَ بِالْكِتَابِ
وَإِنْ يَكُنْ عَرْضًا وَكَانَ عِنْدَهُ ... فَلَهُمْ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَهُ
إلَّا إذَا مَا قَالَ لَا تُحَاسِبُوا ... وَتَرَكَ الْكَتْبَ فَلَنْ يُطَالِبُوا
وَكَالْعُرُوضِ الْحَيَوَانُ مُطْلَقَا ... فِيهِ الرُّجُوعُ بِاَلَّذِي قَدْ أَنْفَقَا
وَإِنْ يَكُنْ عَيْنًا وَرَسْمًا أَصْدَرَا ... بِأَنَّهُ ذِمَّتَهُ قَدْ عَمَّرَا
فَمَا تَحَاسُبٌ بِمُسْتَحَقِّ ... وَهُوَ كَالْحَاضِرِ دُونَ فَرْقِ
وَإِنْ يَكُنْ فِي مَالِهِ قَدْ أَدْخَلَهْ ... مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ بِذَاكَ أَعْمَلَهْ
مَعْ عِلْمِ أَصْلِهِ فَهَهُنَا يَجِبْ ... رُجُوعُ وَارِثٍ بِإِنْفَاقٍ طُلِبْ
(2/222)

يَعْنِي إذَا أَنَفَقَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ وَلِلِابْنِ وَقْتَ إنْفَاقِ أَبِيهِ عَلَيْهِ مَالٌ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ الْمُنْفِقُ فَطَالَبَ بَقِيَّةُ وَرَثَةِ الْأَبِ الِابْنَ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ فَلَا يَخْلُو مَالُ الِابْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا وَفِي كُلٍّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُوجَدَ مَالُ الِابْنِ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ أَمْ لَا فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ فَإِنْ كَانَ مَالُ الِابْنِ عَيْنًا وَوُجِدَ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ فَلَا يُحَاسَبُ الِابْنُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْوَالِدِ مَالَ وَلَدِهِ الْعَيْنَ مَعَ عَدَمِ كَتْبِ النَّفَقَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَبَرُّعِهِ عَلَيْهِ بِهَا لِسُهُولَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْعَيْنِ لَوْ كَانَ قَصَدَ الْمُحَاسَبَةَ فَإِنْ أَوْصَى الْأَبُ بِمُحَاسَبَةِ الِابْنِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ.
وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ فَلَا إشْكَالَ فِي مُحَاسَبَتِهِ بِهَا لِأَنَّ كَتْبَ النَّفَقَةِ عَلَى الِابْنِ تَصْرِيحٌ بِعِمَارَةِ ذِمَّتِهِ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ وَهِيَ وُجُودُ الْمَالِ الْعَيْنِ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى نَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَمُتْ وَالْمَالُ عَيْنٌ بَاقِ
الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ، فَفَاعِلُ يَمُتْ يَعُودُ عَلَى الْأَبِ، وَجُمْلَةُ وَالْمَالُ عَيْنٌ بَاقِ: حَالِيَّةٌ، وَبَاقٍ: صِفَةُ عَيْنٍ أَيْ مَوْجُودٌ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ وَالْوَارِثُ فَاعِلُ طَالَبَ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَيْ: الِابْنُ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ وَجَمَعَ ضَمِيرَ لَهُمْ الْعَائِدَ عَلَى الْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ مَصْدُوقِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْوَارِثِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ، وَضَمِيرُ إلَيْهِ وَضَمِيرُ هُوَ لِلِابْنِ يَعُودَانِ عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اسْمُ الْمَفْعُولِ أَيْ: الْمَالُ الْمُنْفَقُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مِنْ كَوْنِ مَالِ الِابْنِ عَيْنًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ فَلَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ الْأَبُ بِعِمَارَةِ ذِمَّةِ نَفْسِهِ بِمَالِ وَلَدِهِ فَلَا يُحَاسَبُ الِابْنُ بِالنَّفَقَةِ أَيْضًا لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ حِسًّا وَقَدْ قَدَّمَ أَنَّهُ إنْ وُجِدَ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يُحَاسَبْ الِابْنُ إلَّا إذَا أَوْصَى بِالْمُحَاسَبَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ عَيْنًا وَرَسْمًا أَصْدَرَا
الْبَيْتَيْنِ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ مَالُ الِابْنِ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ وَلَا أَشْهَدَ بِعِمَارَةِ ذِمَّتِهِ وَلَكِنْ عُلِمَ أَصْلُ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي ذِمَّةِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادِ الْأَبِ بِذَلِكَ بِلَا بَيِّنَةٍ مَثَلًا فَإِنَّ الِابْنَ يُحَاسَبُ بِالنَّفَقَةِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الْوَارِثُ بِهَا وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ فِي مَالِهِ قَدْ أَدْخَلَهْ
الْبَيْتَيْنِ، فَاسْمُ يَكُنْ يَعُودُ عَلَى الْأَبِ وَمَفْعُولُ أَدْخَلَهُ يَعُودُ عَلَى مَالِ الِابْنِ الْعَيْنِ وَجُمْلَةُ أَعْمَلَهُ صِفَةُ إشْهَادٍ، وَجُمْلَةُ طُلِبَ صِفَةُ إنْفَاقٍ أَيْ: طُلِبَ مِنْ الِابْنِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِيمَا إذَا كَانَ مَالُ الِابْنِ عَيْنًا إنْ وُجِدَ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يُحَاسَبْ إلَّا إذَا أَوْصَى بِالْحِسَابِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَإِنْ عَمَّرَ بِهِ الْأَبُ ذِمَّتَهُ لَمْ يُحَاسَبْ الِابْنُ وَإِنْ لَمْ يُعَمِّرْهَا حُوسِبَ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَالُ الِابْنِ عَرَضًا كَأَنْ تَتْرُكَ أُمُّهُ أَثَاثًا وَلِبَاسًا وَفِرَاشًا فَيُوجَدُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ فَلِلْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ عَلَى الْوَلَدِ بِالنَّفَقَةِ إلَّا إذَا أَوْصَى وَقَالَ لَا تُحَاسِبُوهُ وَلَمْ يَكْتُبْ نَفَقَتَهُ فَلَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ مُحَاسَبَتِهِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يُوصِ فَيُحَاسَبُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَيْنِ إذَا وُجِدَتْ لَا يُحَاسَبُ وَبَيْنَ الْعَرَضِ فَيُحَاسَبُ أَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ الْعَيْنِ سَهْلَةٌ لَا كُلْفَةَ فِيهَا فَتَرْكُ الْأَخْذِ مِنْهَا دَلِيلُ إرَادَةِ التَّبَرُّعِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَرَضُ إذْ فِي بَيْعِهِ كُلْفَةٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْضُ النَّاسِ يَأْنَفُونَ مِنْ الْبَيْعِ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ كُلْفَةٌ فَلَا دَلِيلَ فِي بَقَائِهِ عَلَى إرَادَةِ التَّبَرُّعِ وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ عَرْضًا وَكَانَ عِنْدَهُ
الْبَيْتَيْنِ وَكَذَا إنْ كَانَ مَالُ الِابْنِ حَيَوَانًا سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا كَالرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ عَاقِلٍ كَالْأَنْعَامِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الِابْنَ يُحَاسَبُ بِالنَّفَقَةِ أَيْضًا إلَّا إذَا أَوْصَى بِعَدَمِ مُحَاسَبَتِهِ وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَيْهِ نَفَقَةً فَلَا يُحَاسَبُ إذْ ذَاكَ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَكَالْعُرُوضِ الْحَيَوَانُ مُطْلَقَا ... فِيهِ الرُّجُوعُ بِاَلَّذِي قَدْ أَنْفَقَا
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ النَّاظِمُ حُكْمَ مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ الْعَرَضُ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ وَلَمْ يَشْهَدْ بِعِمَارَةِ ذِمَّتِهِ بِثَمَنِهِ، وَالْحُكْمُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الِابْنَ يُحَاسَبُ بِالنَّفَقَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى مِمَّا إذَا وُجِدَ، وَانْظُرْ هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يُحْمَلَ. قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَكُنْ فِي مَالِهِ قَدْ أَدْخَلَهْ
عَلَى الْعَيْنِ وَالْعَرَضِ مَعًا فَيَكُونُ النَّاظِمُ اسْتَوْفَى الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي تَقْسِيمِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ الْأَبُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ وَدَخَلَ بِيَدِهِ.

وَأَمَّا مَا كَانَ لِلِابْنِ مِنْ مَالٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْأَبُ وَلَا دَخَلَ بِيَدِهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ
وَغَيْرُ مَقْبُوضٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ... كَالْعَرْضِ فِي الرُّجُوعِ بِالْإِنْفَاقِ
يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى ابْنِهِ وَكَانَ لِلِابْنِ إذْ ذَاكَ مَالٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ الْأَبُ وَلَا دَخَلَ يَدَهُ حَتَّى
(2/223)

مَاتَ الْأَبُ فَإِنَّ الِابْنَ يُحَاسَبُ بِالنَّفَقَةِ كَمَا إذَا كَانَ مَالُهُ عَرَضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُحَاسَبُ إلَّا إذَا أَوْصَى بِعَدَمِ مُحَاسَبَتِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمَالُ الَّذِي لَمْ يَقْبِضْهُ الْأَبُ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْإِطْلَاقِ.
وَمَوْتُ الِابْنِ حُكْمُهُ كَمَوْتِ لَابْ ... وَقِيلَ فِي يُسْرِ أَبٍ حَلِفٌ وَجَبْ
لَمَّا قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى مَوْتِ الْأَبِ تَكَلَّمَ هُنَا عَلَى مَوْتِ الِابْنِ فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُتَقَدِّمَ فِي مُحَاسَبَةِ الِابْنِ وَعَدَمِ مُحَاسَبَتِهِ يَجْرِي هُنَا أَيْضًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَمَوْتِ الْأَبِ، أَيْ: يَنْظُرُ إلَى مَالِ الِابْنِ فَإِمَّا عَيْنٌ أَوْ عَرَضٌ وَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ أَوْ لَا، أَجْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ مُوسِرًا فَلَا نَفَقَةَ لَهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ إلَّا إذَا حَلَفَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْآبَاءِ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى بُنَيِّهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ.
قَالَ فِي (الْمُقَرَّبِ) قَالَ مُحَمَّدٌ وَلِمَالِكٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَدُهُ وَقَدْ كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَتَقُومُ جَدَّتُهُ أَوْ أُمُّهُ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ الْأَبُ قَدْ أَنْفَقْتُ عَلَيْهِ فِي كَذَا وَكَذَا أَيَرَى عَلَيْهِ يَمِينًا فَقَالَ إنْ كَانَ رَجُلًا مُقِلًّا مَأْمُونًا فَلَا أَرَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا غَيْرَ مَأْمُونٍ أَرَى أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّ جُلَّ الْآبَاءِ يُنْفِقُونَ عَلَى أَبْنَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ اهـ.
وَيُقْرَأُ لَفْظُ الْأَبِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ (قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ) وَإِذْ فَرَغْنَا مِنْ حَلِّ أَلْفَاظِ النَّظْمِ فَلْنَرْجِعْ إلَى نَقْلِ مَا وَقَفْت عَلَيْهِ الْآنَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الشَّارِحَ لَمْ يَنْقُلْ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَاَلَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ الْآنَ مَا فِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ وَنَصُّهُ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَلَهُ مَالٌ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ هَلْ يُحَاسَبُ الِابْنُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَالُ الِابْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا بِيَدِ الْأَبِ، وَالثَّانِيَ: أَنْ يَكُونَ عَرَضًا قَائِمًا فِي يَدِهِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ إلَى يَدِهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا وَأُلْفِيَ عَلَى حَالِهِ فِي تَرِكَتِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كَتَبَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكْتُبْهَا فَإِنْ كَانَ كَتَبَهَا عَلَيْهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ أَوْصَى وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا بِعَيْنِهِ أُلْفِيَ فِي تَرِكَتِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كَتَبَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكْتُبْهَا فَإِنْ كَتَبَهَا حُوسِبَ بِهَا الِابْنُ وَإِنْ أَوْصَى أَنْ لَا يُحَاسَبَ بِهَا؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ أَنْ لَا يُحَاسَبَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْهِ حُوسِبَ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ أَوْصَى أَنْ لَا يُحَاسَبَ بِهَا.
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَالَ وَحَصَلَ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّ الِابْنَ يُحَاسَبُ كَتَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ أَوْ لَمْ يَكْتُبْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ كَتَبَ لِابْنِهِ بِذَلِكَ ذِكْرَ حَقٍّ وَأَشْهَدَ لَهُ بِهِ فَلَا يُحَاسَبُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ قَبَضَ الْمَالَ وَلَا صَارَ بِيَدِهِ بَعْدُ فَسَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا هِيَ بِمَنْزِلَةِ إذَا كَانَ عَرَضًا بِيَدِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِ الْأَبِ وَمَوْتِ الِابْنِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ مُحَاسَبَتِهِ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ اُنْظُرْهُ فِي ع. ع مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ فَتْحُونٍ فِي وَثَائِقِهِ: إنَّهُ إذَا كَانَ لِلِابْنِ مَالٌ وَأَنْفَقَ الْأَبُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَأَبْقَى مَالَ ابْنِهِ عَلَى حَالِهِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، وَأَرَادَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ مُحَاسَبَتَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقُولَ الْأَبُ عِنْدَ مَوْتِهِ حَاسِبُوهُ أَوْ يَقُولَ لَا تُحَاسِبُوهُ أَوْ يَسْكُتَ فَأَمَّا إنْ قَالَ حَاسِبُوهُ أَوْ قَالَ لَا تُحَاسِبُوهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا قَالَ وَأَمَّا إنْ سَكَتَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كَتَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكْتُبْهُ فَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ شَيْئًا فَلَا يُحَاسَبُ الِابْنُ وَإِنْ كَتَبَ فَإِنْ كَانَ مَالُ الِابْنِ عَيْنًا لَمْ يُحَاسَبْ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَرَضًا حَاسَبُوهُ بِذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ. اهـ.
وَنَقَلَ الْحَطَّابُ كَلَامَ ابْنِ فَتْحُونٍ هَذَا وَزَادَ فِيهِ إثْرَ قَوْلِهِ: وَإِنْ قَالَ لَا تُحَاسِبُوهُ فَكَذَلِكَ مَا نَصُّهُ وَلَا يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ لِأَنَّ الْآبَاءَ يُنْفِقُونَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ. اهـ. وَزَادَ أَيْضًا إثْرَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كَتَبَ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا فَلَا يُحَاسَبُ أَيْضًا مَا نَصُّهُ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْفَقَ مِنْهُ وَيُحْمَلُ كَتْبُهُ عَلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ قَالَ قَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ. اهـ. فَانْظُرْهَا فِي الْحَطَّابِ أَوْ فِي مَحَلِّهَا الْمَذْكُورِ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ وَتَأَمَّلْ هَذَا النَّقْلَ مَعَ نَقْلِ النَّاظِمِ هَلْ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ أَمْ لَا إنْ كَانَ مَعَك سَعَةٌ فِي الْوَقْتِ وَنَقَلَ الْحَطَّابُ أَيْضًا عَنْ نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي وَصِيٍّ عَلَى يَتِيمَةٍ أَشْهَدَ عِنْدَ مَوْتِهِ
(2/224)

أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَلَمْ يُوصِ هُوَ أَنَّ عَلَيْهَا شَيْئًا فَمَاتَ فَطَلَبَتْ الْيَتِيمَةُ الْمَثَاقِيلَ فَادَّعَى الْوَرَثَةُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا نَفَقَةً وَأَثْبَتُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَضَانَتِهِ مُدَّةَ نَظَرِهِ فَهَلْ لَهُ مُحَاسَبَتُهَا أَمْ لَا.
(فَأَجَابَ) إشْهَادُ الْوَصِيِّ لَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ بِالْعِشْرِينِ مِثْقَالًا يُوجِبُهَا لَهَا وَيُبْطِلُ دَعْوَى الْوَرَثَةِ عَلَيْهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا أَثْبَتُوهُ وَلَا يُحَاسِبُونَهَا بِشَيْءٍ. اهـ

[فَصْلٌ فِي الْإِقْرَارِ]
ِ الْإِقْرَارُ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِرَافُ وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ بَدِيهِيٌّ وَأَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ حَقًّا عَلَى قَائِلِهِ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَإِنَّ تَصَوُّرَ مَاهِيَّتِهِ الْعُرْفِيَّةِ لَيْسَ ضَرُورِيًّا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِهِ يُتَرَدَّدُ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ أَمْ لَا؟ كَمَا إذَا قَالَ أَقِرَّ عَنِّي بِمِائَةٍ هَلْ هُوَ إقْرَارٌ أَوْ وَكَالَةٌ فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ ضَرُورِيَّ التَّصَوُّرِ لَمَا وَقْعَ الشَّكِّ فِي تَصَوُّرِ فَرْدٍ مِنْ مَصْدُوقَاتِهِ وَعَلَى أَنَّهُ نَظَرِيٌّ فَيُعَرَّفُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ بِلَفْظِهِ أَوْ لَفْظِ نَائِبِهِ فَقَوْلُهُ: خَبَرُ جِنْسٌ يُخْرِجُ الْإِنْشَاءَاتِ كَبِعْت وَاشْتَرَيْت وَنُطْقَ الْكَافِرِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ أَخْرَجَ بِهِ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: الصَّلَاةُ وَاجِبَهُ فَذَلِكَ خَبَرٌ أَوْجَبَ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى مُخْبِرِهِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَطْ وَإِذَا قَالَ فِي ذِمَّتِي دِينَارٌ فَهُوَ خَبَرٌ أَوْجَبَ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى الْمُخْبِرِ وَحْدَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَطْ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ زَيْدٌ زَانٍ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ حُكْمًا عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمَ مَا اقْتَضَاهُ الصِّدْقُ لِأَنَّ الَّذِي اقْتَضَاهُ الصِّدْقُ جَلْدُ مِائَةٍ عَلَى غَيْرِهِ انْتَهَى مِنْ الرَّصَّاع بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ وَلَمْ يُشْرَحْ قَوْلُهُ بِلَفْظِهِ أَوْ لَفْظِ نَائِبِهِ وَلَعَلَّهُ زَادَ لَفْظَ نَائِبِهِ لِيَدْخُلَ أَقَرَّ عَنِّي بِمِائَةٍ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ لَا وَكَالَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَالِكٌ لِأَمْرِهِ أَقَرَّ فِي ... صِحَّتِهِ لِأَجْنَبِيٍّ اُقْتُفِيَ
وَمَا لِوَارِثٍ فَفِيهِ اُخْتُلِفَا ... وَمُنْفِذٌ لَهُ لِتُهْمَةٍ نَفَى
وَرَأْسَ مَتْرُوكِ الْمُقِرِّ أَلْزَمَا ... وَهُوَ بِهِ فِي فَلَسٍ كَالْغُرَمَا
اعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَعَنْ ذَلِكَ عَبَّرَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ وَمَالِكٍ لِأَمْرِهِ فَلَفْظُ مَالِكٍ هُنَا اسْمُ فَاعِلٍ لَا عَلَمٌ عَلَى إمَامِ الْمَذْهَبِ وَأُخْرِجَ بِذَلِكَ إقْرَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُبَذِّرِ وَالْمُفْلِسِ وَالْعَبْدِ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ.
وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ رَدُّ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمَالِيَّةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ تَارَةً يَكُونُ فِي صِحَّةِ الْمُقِرِّ وَتَارَةً فِي مَرَضِهِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ وَالْمُقَرُّ لَهُ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ وَارِثٍ فَإِنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ نَافِذٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَعَنْ إعْمَالِهِ عَبَّرَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: اُقْتُفِيَ أَيْ اُتُّبِعَ إقْرَارُهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ لِوَارِثٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَافِذٌ مَعْمُولٌ بِهِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ
وَمَا لِوَارِثٍ فَفِيهِ اُخْتُلِفَا
ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ
وَمُنْفِذٌ لَهُ لِتُهْمَةٍ نَفَى
وَرَأْسَ مَتْرُوكِ الْبَيْتَ إلَّا أَنَّ مَنْ قَالَ بِإِعْمَالِ الْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ لِلْوَارِثِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لَمْ يَرَ فِي إقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ تُهْمَةً بَلْ نَفَى التُّهْمَةَ فِي ذَلِكَ وَأَلْزَمَ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَجَعَلَهُ كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ يُحَاصَصُ بِهِ الْغُرَمَاءُ فِي الْفَلَسِ قَالَ الشَّارِحُ وَبِهَذَا الْقَوْلِ الْعَمَلُ. اهـ.
وَقَالَ قَبْلَهُ ابْنُ رُشْدٍ لَا يُحَاصَصُ بِهِ
(2/225)

الْغُرَمَاءُ عَلَى قَوْلِ ابْن الْقَاسِمِ إلَّا مَعَ الدُّيُونِ الَّتِي اسْتَدَانَهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَأَمَّا الْقَدِيمَةُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَلَا اهـ.
وَمِنْ قَوْلِهِ:
وَمُنْفِذٌ لَهُ لِتُهْمَةٍ نَفَى
يُفْهَمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنَفِّذْهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ رَأَى أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ الْوَارِثِ تُهْمَةً وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ (قَالَ فِي الْكَافِي) كُلُّ بَالِغٍ حُرٍّ جَائِزِ الْفِعْلِ رَشِيدٍ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي كُلِّ مَا يُقِرُّ بِهِ فِي صِحَّتِهِ وَالْأَجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ فِي الْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَفِي ابْنِ سَلْمُونٍ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَافِذٌ يَأْخُذُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي الْمَوْتِ.
وَيُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءُ فِي الْفَلَسِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءُ فِي الْفَلَسِ وَلَا يَأْخُذُهُ مِنْ التَّرِكَةِ فِي الْمَوْتِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءُ فِي الْفَلَسِ وَلَا يَأْخُذُهُ مِنْ التَّرِكَةِ فِي الْمَوْتِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ لِلتُّهْمَةِ عِنْدَهُمْ. اهـ.
فَقَوْلُهُ: أَقَرَّ: صِفَةٌ لِمَالِكٍ، وَلِأَجْنَبِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَمَا أَقَرَّ بِهِ لِوَارِثٍ وَمُنْفِذٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَنْفَذَ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ نَفَى لِتُهْمَةٍ: خَبَرُهُ وَضَمِيرُ فِيهِ يَعُودُ عَلَى مَا وَضَمِيرُ لَهُ لِلْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَأَلْزَمَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُنْفِذِ عُطِفَ عَلَى نَفَى، وَرَأْسَ: مَفْعُولُ أَلْزَمَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَلْزَمَ الْمُنْفِذُ لِلْإِقْرَارِ الدَّيْنَ الْمُقَرَّ بِهِ رَأْسَ مَالِ الْمُقِرِّ وَضَمِيرُ وَهُوَ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَبِهِ لِلْإِقْرَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ النَّاظِمُ الْمُقَرَّ بِهِ وَهُوَ إمَّا دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ غَالِبًا فِي هَذَا الْبَابِ وَإِمَّا قِرَاضٌ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ.
وَإِنْ يَكُنْ لِأَجْنَبِيٍّ فِي الْمَرَضْ ... غَيْرُ صَدِيقٍ فَهُوَ نَافِذُ الْغَرَضْ
وَلِصَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ لَا يَرِثْ ... يَبْطُلُ مِمَّنْ بِكَلَالَةٍ وُرِثْ
وَقِيلَ بَلْ يَمْضِي بِكُلِّ حَالِ ... وَعِنْدَ مَا يُؤْخَذُ بِالْإِبْطَالِ
قِيلَ بِإِطْلَاقٍ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ ... يَمْضِي مِنْ الثُّلْثِ بِحُكْمٍ جَازِمِ
لَمَّا قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ بِقِسْمَيْهِ أَعْنِي لِلْأَجْنَبِيِّ وَالْوَارِثِ شَرَعَ الْآنَ فِي الْكَلَامِ فِي الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ فَتَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ عَلَى الْقَرَارِ فِي الْمَرَضِ إمَّا لِأَجْنَبِيٍّ غَيْرِ صَدِيقٍ أَوْ لِصَدِيقٍ مُلَاطِفٍ أَوْ لِقَرِيبٍ غَيْرِ وَارِثٍ وَتَكَلَّمَ فِيمَا بَعْدَهَا عَلَى الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْمَرَضِ إنْ كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ غَيْرِ صَدِيقٍ فَإِنَّهُ نَافِذٌ مَعْمُولٌ بِهِ عَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَظَاهِرُهُ وُرِثَ الْمُقِرُّ كَلَالَةً أَوْ لَا وَهُوَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.
وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ لِصَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ لَا يَرِثُ فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إنْ وُرِثَ الْمُقِرُّ كَلَالَةً لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَلَدَ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَ وَلَا أَبًا وَلَا جَدًّا وَإِنْ عَلَا فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ وَإِنْ وُرِثَ غَيْرَ كَلَالَةٍ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ وُرِثَ كَلَالَةً أَوْ لَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِكُلِّ حَالٍ وَإِذَا قُلْنَا بِإِبْطَالِهِ إنْ وُرِثَ كَلَالَةً فَقِيلَ يَبْطُلُ مُطْلَقًا فَلَا يُؤْخَذُ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا مِنْ الثُّلُثِ وَقِيلَ يَمْضِي مِنْ الثُّلُثِ لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (ابْنُ رُشْدٍ) وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِصَدِيقٍ مُلَاطِفٍ أَوْ لِقَرِيبٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَقِيلَ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ إلَّا إنْ وَرِثَهُ وَلَدٌ وَالْقَوْلَانِ قَائِمَانِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ. اهـ.
مِنْ الْمَوَّاقِ وَمِثْلُهُ فِي التَّوْضِيحِ وَزَادَ قَوْلًا ثَالِثًا إنْ وُرِثَ بِوَلَدٍ جَازَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ وُرِثَ بِكَلَالَةٍ فَمِنْ الثُّلُثِ وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِغَيْرِ وَارِثٍ كَإِقْرَارِ الصَّحِيحِ وَانْظُرْ إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ لِصَدِيقٍ مُلَاطِفٍ وَكَانَ يُورَثُ كَلَالَةً فَإِنَّ التُّهْمَةَ حَاصِلَةٌ وَعَلَى أَصْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ يَعُودُ إقْرَارُهُ وَصِيَّةً فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ يَبْطُلُ
(2/226)

جُمْلَةً فَلَا يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا غَيْرِهِ. اهـ. (قَالَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) سُئِلَ شَيْخُنَا قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ سِرَاجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَجُلٍ كَفَلَ يَتِيمًا فَأَشْهَدَ لَهُ فِي صِحَّتِهِ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَفِي مَرَضِهِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا فِضِّيَّةً عَلَى أُجْرَةٍ لَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَنَازَعَ وَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ فَأَجَابَ أَمَّا الْعَشَرَةُ فَتَجِبُ لَهُ وَأَمَّا الْخَمْسُونَ مِثْقَالًا فَإِنْ كَانَتْ قَدْرَ أُجْرَتِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ فَتَجِبُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ فِي إجَارَتِهِ كَانَ قَدْرُ الْإِجَارَةِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَالزَّائِدُ فِي ثُلُثِهِ قَالَهُ ابْنُ سِرَاجٍ.
قَالَ الشَّارِحُ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الزَّائِدِ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ أُجْرَةٍ مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْ فِي أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَبْطُلُ جُمْلَةً بَلْ يَمْضِي مِنْ الثُّلُثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُنْ أَيْ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُ صَدِيقٍ صِفَةٌ لِأَجْنَبِيٍّ وَلِصَدِيقٍ عَطْفٌ عَلَى لِأَجْنَبِيٍّ، وَقَوْلُهُ: وَعِنْدَمَا يُؤْخَذُ بِالْإِبْطَالِ أَيْ إذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِإِبْطَالِ الْإِقْرَارِ لِلصَّدِيقِ فِي حَقِّ مَنْ وُرِثَ كَلَالَةً فَقِيلَ يَبْطُلُ مُطْلَقًا مِنْ ثُلُثٍ وَرَأْسٍ وَقِيلَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَحَيْثُمَا الْإِقْرَارُ فِيهِ لِلْوَلَدْ ... مَعْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَرَدْ
مَعَ ظُهُورِ سَبَبِ الْإِقْرَارِ ... فَإِنْ يَكُنْ ذَاكَ عَنْ اخْتِيَارِ
فَذُو عُقُوقٍ وَانْحِرَافٍ يُحْكَمُ ... لَهُ بِهِ وَذُو الْبُرُورِ يُحْرَمُ
تَكَلَّمَ مِنْ هُنَا لِمَا بَعْدُ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ لِلْوَارِثِ وَبَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِلْوَلَدِ مَعَ غَيْرِهِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْإِقْرَارِ لِلزَّوْجَةِ وَثَلَّثَ بِالْإِقْرَارِ لِوَارِثٍ غَيْرِهِمَا فَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِوَلَدِهِ مَعَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ لِلْإِقْرَارِ سَبَبٌ كَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَاتَتْ أُمُّهُ أَوْ لَهُ أَصْلٌ فَيَشْهَدُ لَهُ بِمَالٍ مِنْ مِيرَاثِ أُمِّهِ أَوْ غَلَّةِ أَصْلِهِ وَيَشْهَدُ مَعَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ فَالْإِقْرَارُ نَافِذٌ عَامِلٌ لَهُمَا مَعًا وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْإِقْرَارِ سَبَبٌ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ
فَإِنْ يَكُنْ ذَاكَ عَنْ اخْتِيَارٍ
نُظِرَ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْمُقَرُّ لَهُ عَاقًّا لِوَالِدِهِ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ بَارًّا لِوَالِدِهِ فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ لِلتُّهْمَةِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ التَّوْلِيجَ لِهَذَا الْبَارِّ وَالْحِرْمَانَ لِذَلِكَ الْعَاقِّ قَالَ فِي (الْمُقَرَّبِ) .
قُلْتُ فَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِابْنِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ فِي مَرَضِهِ وَلَهُ بَنُونَ سِوَى الَّذِي أَقَرَّ لَهُ وَمَالُهُ يَضِيقُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ قَالَ يَتَحَاصَصُ ابْنُهُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيمَا تَرَكَ فَمَا صَارَ لِلِابْنِ دَخَلَ مَعَهُ فِيهِ الْوَرَثَةُ إنْ شَاءُوا وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِابْنِهِ وَعَلَيْهِ دُيُونُ بَنِيهِ. اهـ.
وَحَاصِلُهُ بُطْلَانُ الْإِقْرَارِ لِلْوَلَدِ وَلَعَلَّهُ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لِلْإِقْرَارِ سَبَبٌ وَفِي الْمُفِيدِ فَإِنْ أَقَرَّ لِأَحَدِ بَنِيهِ دُونَ غَيْرِهِ اُعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ لِلْعَاقِّ دُونَ الْبَارِّ فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ وَلَوْ أَقَرَّ لِلْبَارِّ لَمْ يَجُزْ. اهـ. وَلَمْ يَنْقُلْ الشَّارِحُ فِقْهًا لِقَوْلِهِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَرَدٍّ مَعَ ظُهُورِ سَبَبِ الْإِقْرَارِ وَوَجْهُ مَا فِي النَّظْمِ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/227)

وَإِنْ يَكُنْ لِزَوْجَةٍ بِهَا شُغِفْ ... فَالْمَنْعُ وَالْعَكْسُ بِعَكْسٍ يَتَّصِفْ
وَإِنْ جَهِلْنَا عِنْدَ ذَاكَ حَالَهْ ... فَالْمَنْعُ مِمَّنْ إرْثُهُ كَلَالَهْ
وَمَعَ وَاحِدٍ مِنْ الذُّكُورِ ... فِي كُلِّ حَالٍ لَيْسَ بِالْمَحْظُورِ
كَذَاكَ مَعْ تَعَدُّدٍ فِيهِمْ ذَكَرْ ... مَا مِنْهُمْ ذُو كِبَرٍ وَذُو صِغَرْ
وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ ذَاكَ مُطْلَقَا ... قِيلَ مُسَوَّغٌ وَقِيلَ مُتَّقَى
يَعْنِي: أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِلزَّوْجَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مَعَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا وَمَشْغُوفًا بِحُبِّهَا فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَبْغَضُهَا فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهَا وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ مَعَهَا وَفِيهِ حِينَئِذٍ تَفْصِيلٌ إنْ وُرِثَ كَلَالَةً لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ لَهَا.
وَإِنْ تَرَكَ ذَكَرًا وَاحِدًا صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهَا صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَمْ كَبِيرًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إنْ كَانَ الْأَوْلَادُ مُتَعَدِّدِينَ، وَفِيهِمْ ذَكَرٌ سَوَاءٌ كَانُوا كِبَارًا أَوْ صِغَارًا وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ
مَا مِنْهُمْ ذُو كِبَرٍ وَذُو صِغَرْ
فَمَا نَافِيَةٌ أَيْ مَا مِنْهُمْ كَبِيرٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَا صَغِيرٌ يُخْتَصُّ بِهِ بَلْ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ بِأَنْ لَمْ يَتْرُكْ ذَكَرًا بَلْ تَرَكَ بِنْتًا أَوْ بَنَاتٍ سَوَاءٌ كُنَّ صِغَارًا كُلُّهُنَّ أَوْ كِبَارًا كُلُّهُنَّ أَوْ بَعْضُهُنَّ صِغَارًا وَبَعْضُهُنَّ كِبَارًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَفِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَهَا قَوْلَانِ وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ ذَاكَ الْبَيْتِ (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) وَفِي إقْرَارِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بِدَيْنٍ فِي الْمَرَضِ تَفْصِيلٌ.
وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ فِيهِ عِنْدِي عَلَى مِنْهَاجِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ عُلِمَ مِنْهُ مَيْلٌ إلَيْهَا وَصَبَابَةٌ بِهَا فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا إلَّا أَنْ تُجِيزَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِنْ عُلِمَ مِنْهُ الْبُغْضُ فِيهَا وَالشَّنَآنُ لَهَا فَإِقْرَارُهُ لَهَا جَائِزٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ جُهِلَ حَالُهُ مَعَهَا فِي الْمَيْلِ إلَيْهَا أَوْ الْبُغْضِ لَهَا فَلَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُورَثَ بِكَلَالَةٍ أَوْ يُورَثَ بِوَلَدٍ فَإِنْ وُرِثَ بِكَلَالَةٍ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا وَإِنْ وُرِثَ بِوَلَدٍ فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونُوا إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَيَخْرُجُ ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إقْرَارَهُ جَائِزٌ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي إقْرَارِهِ لِبَعْضِ الْعَصَبَةِ إذَا تَرَكَ ابْنَهُ وَعَصَبَةً فَإِنْ كُنَّ صِغَارًا مِنْهَا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ لَهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ذَكَرًا وَكَانَ وَاحِدًا فَإِقْرَارُهُ لَهَا جَائِزٌ صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا.
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلَدُ عَدَدًا وَفِيهِمْ ذَكَرٌ فَإِقْرَارُهُ لَهَا جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ صَغِيرًا مِنْهَا وَبَعْضُهُمْ كَبِيرًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ عَدَدًا فِيهِمْ ذُكُورٌ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا. اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ وَلَدًا فَفِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ لِلزَّوْجَةِ الَّتِي جُهِلَ حَالُهُ مَعَهَا قَوْلَانِ: إلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ اثْنَانِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهَا فِيهِمَا وَهُمَا إذَا تَرَكَ ذَكَرًا وَاحِدًا أَوْ تَرَكَ أَوْلَادًا وَفِيهِمْ ذَكَرٌ أَيْ الْجِنْسُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَإِلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَشَارَ النَّاظِمَ بِقَوْلِهِ
وَمَعَ وَاحِدٍ مِنْ الذُّكُورِ
الْبَيْتَيْنِ وَاثْنَانِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهَا فِيهِمَا وَهُمَا إذَا تَرَكَ إنَاثًا صِغَارًا مِنْهَا أَوْ تَرَكَ ذُكُورًا وَبَعْضُهُمْ صَغِيرًا مِنْهَا وَبَعْضُهُمْ كَبِيرًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِ النَّاظِمُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ زَادَ النَّاظِمُ إثْرَ قَوْلِهِ
مَا مِنْهُمْ ذُو صِغَرٍ وَذُو كِبَرْ
بَيْتًا وَهُوَ
إلَّا إذَا مَا كَانَ مِنْهَا الْأَصْغَرُ ... وَكَانَ مِنْ أُمٍّ سِوَاهَا الْأَكْبَرُ
وَزَادَ أَيْضًا إثْرَ قَوْلِهِ:
قِيلَ مُسَوَّغٌ. وَقِيلَ مُتَّقًى
بَيْتًا وَهُوَ:
إلَّا إذَا كُنَّ صِغَارًا جَمْعَا ... مِنْهَا فَحُكْمُ ذَاكَ أَنْ يَمْتَنِعَا
لَكَانَ قَدْ وَفَّى بِكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَمَا عَدَا هَذِهِ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ وَهُوَ انْفِرَادُ الْإِنَاثِ وَاحِدَةً أَوْ مُتَعَدِّدَةً أَدْرَجَهُ النَّاظِمُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ ذَاكَ، الْبَيْتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَقُولَ بَدَلَ الشَّطْرِ الثَّانِي مِنْهُ
وَكَانَ مِنْهَا أَوْ سِوَاهَا الْأَكْبَرُ
وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ كَمَا
(2/228)

نَقَلَهُ الشَّارِحُ وَلَفْظُهُ وَإِنْ جُهِلَ حَالُهُ مَعَهَا سَقَطَ إقْرَارُهُ لَهَا إنْ وُرِثَ بِكَلَالَةٍ.
وَإِنْ وُرِثَ بِوَلَدٍ غَيْرِ ذَكَرٍ مَعَ عَصَبَةٍ فَسَوَاءٌ كُنَّ وَاحِدَةً أَوْ عَدَدًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا مِنْ غَيْرِهَا أَوْ كِبَارًا مِنْهَا يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ إقْرَارَهُ لِزَوْجَتِهِ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي إقْرَارِهِ لِبَعْضِ الْعَصَبَةِ إذَا تَرَكَ ابْنَةً وَعَصَبَةً وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا وَاحِدًا جَازَ إقْرَارُهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذُكُورًا عَدَدًا جَازَ إقْرَارُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ صَغِيرًا مِنْهَا وَبَعْضُهُمْ كَبِيرًا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَيَجُوزُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ.
وَإِنْ يَكُنْ لِوَارِثٍ غَيْرِهِمَا ... مَعْ وَلَدٍ فَفِي الْأَصَحِّ لَزِمَا
وَدُونَهُ لِمَالِكٍ قَوْلَانِ ... بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ مَرْوِيَّانِ
يَعْنِي إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ غَيْرِ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ لِتَقَدُّمِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ لِلْمَرِيضِ وَلَدٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَقَوْلَانِ الْأَصَحُّ مِنْهُمَا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ لَازِمٌ قَالَ الشَّارِحُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ كَإِقْرَارِهِ لِأُمِّهِ مَعَ وُجُودِ وَلَدٍ أَوْ لِأُخْتِهِ مَعَ وُجُودِ بِنْتٍ أَوْ بَنَاتٍ وَمُقَابِلُهُ لَا يَصِحُّ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ وَلَدٌ فَقَوْلَانِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَبُطْلَانِهِ وَكَأَنَّهُمَا عِنْدَهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَشَمَلَ قَوْلُهُ وَدُونَهُ ثَلَاثَ صُوَرٍ الْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ الْمُسَاوِي لِغَيْرِ الْمُقَرِّ لَهُ كَإِقْرَارِهِ لِأَحَدِ إخْوَتِهِ أَوْ بَنِي عَمِّهِ وَالْإِقْرَارُ لِلْأَقْرَبِ كَإِقْرَارِهِ لِلْأُمِّ مَعَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ وَالْإِقْرَارُ لِلْأَبْعَدِ كَالْإِخْوَةِ أَوْ الْعَصَبَةِ مَعَ وُجُودِ الْأُمِّ أَمَّا الْإِقْرَارُ لِوَارِثٍ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ الْقَاضِي يَعْنِي ابْنَ زَرْبٍ مَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ أَوْ صَدِيقٍ مُلَاطِفٍ وَلَهُ ابْنَةٌ لَمْ يُنَفَّذْ إقْرَارُهُ وَالِابْنَةُ كَالْعَصَبَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَوْ مَكَانَهَا ابْنٌ نُفِّذَ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ كَلَالَةً فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُحْسِنٍ وَغَيْرُهُ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِابْنَةَ كَالِابْنِ فَقَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ مَذْهَبِي أَنَّ الِابْنَةَ كَالْعَصَبَةِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ فِيهَا اخْتِلَافًا. اهـ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ لِوَارِثٍ حَيْثُ لَا وَلَدَ فَلَمْ يَنْقُلْ الشَّارِحُ عَلَيْهِ فِقْهًا. وَاقْتَصَرَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ إنْ أَقَرَّ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ أَقْرَبَ فَقَالَ عَاطِفًا عَلَى مَا يَصِحُّ فِيهِ الْإِقْرَارُ وَمَرِيضٍ إنْ وَرِثَهُ وَلَدٌ لِأَبْعَدَ، وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ إنْ وَرِثَهُ وَلَدٌ بَلْ وَرِثَهُ وَلَدٌ أَوَّلًا وَحَاجَتُنَا هُنَا حَيْثُ لَمْ يَرِثْهُ وَلَدٌ وَاقْتَصَرَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ إنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ مُسَاوٍ أَوْ أَقْرَبَ فَقَالَ لَا الْمُسَاوِي وَالْأَقْرَبُ.
وَحَالَةُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ سَوَا ... وَالْقَبْضُ لِلدَّيْنِ مَعَ الدَّيْنِ اسْتَوَى
اشْتَمَلَ الْبَيْتُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ إقْرَارَ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا بِدَيْنٍ فِي حَالِ مَرَضِهَا هُوَ كَإِقْرَارِهِ لَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ لِزَوْجَةٍ بِهَا شُغِفْ
إلَخْ، وَالثَّانِيَةُ: إقْرَارُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا قَالَ الشَّارِحُ فِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ إنَّ فِي إقْرَارِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَا تَقَدَّمَ فِي إقْرَارِهِ لَهَا مِنْ الْحَالَاتِ الثَّلَاثَةِ.
وَفِي (الْمُقَرَّبِ) قُلْتُ فَإِنْ قَالَتْ امْرَأَةٌ فِي مَرَضِهَا قَدْ قَبَضْتُ مِنْ زَوْجِي مُؤَخَّرَ صَدَاقِي أَيُقْبَلُ قَوْلُهَا قَالَ لَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ مُحَمَّدٌ وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ عِنْدَ مَوْتِهَا قَبَضْتُ صَدَاقِي مِنْ زَوْجِي فَقَالَ: أَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا وَلَدَ لَهَا وَمِثْلُهَا يُتَّهَمُ فَلَا يَجُوزُ قَوْلُهَا، وَأَمَّا الَّتِي لَهَا أَوْلَادٌ كِبَارٌ وَلَعَلَّهَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا غَيْرُ الْحَسَنِ فَهَذِهِ لَا تُتَّهَمُ وَفِي (الْمُقَرَّبِ أَيْضًا) قُلْتُ فَمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ قَبَضَ دَيْنَهُ مِنْ فُلَانٍ إنْ كَانَ وَارِثًا أَوْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُولِجَ ذَلِكَ إلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُتَّهَمْ قُبِلَ. اهـ.
وَمُشْهِدٌ فِي مَوْطِنَيْنِ بِعَدَدْ ... لِطَالِبٍ يُنْكِرُ أَنَّهُ اتَّحَدْ
لَهُمْ بِهِ قَوْلَانِ وَالْيَمِينُ ... عَلَى كِلَيْهِمَا لَهُ تَعْيِينُ
مَا لَمْ يَكُنْ ذَاكَ بِرَسْمَيْنِ ثَبَتْ ... فَمَا ادَّعَاهُ مُشْهِدٌ لَا يُلْتَفَتْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَشْهَدَ نَفْسَهُ أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ مِائَةً مَثَلًا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَشْهَدَ مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ مِائَةً
(2/229)

لِذَلِكَ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ وَادَّعَى الْمُشْهِدُ الْمَذْكُورُ أَنَّ جَمِيعَ الْحَقِّ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ كَرَّرَ الْإِشْهَادَ بِهَا زِيَادَةً فِي التَّوَثُّقِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَادَّعَى الرَّجُلُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَّ عَلَيْهِ مِائَتَيْنِ وَأَنْكَرَ اتِّحَادَ الْمَشْهُودِ بِهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَقَالَ هُمَا حَقَّانِ؛ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُشْهِدِ، وَهُوَ الْمِدْيَانُ إنَّ جَمِيعَ الْحَقِّ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى ذَلِكَ. الْقَوْلِ الثَّانِي: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْحَقِّ إنَّهُ مِائَتَانِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا هَذَا إذَا كَانَ الْإِشْهَادُ بِغَيْرِ رَسْمٍ أَوْ بِرَسْمٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِرَسْمَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ إنَّهُ مِائَتَانِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ حِينَئِذٍ لِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْهِدُ مِنْ أَنَّهُ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ (قَالَ فِي الْمُفِيدِ) وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ وَأَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ بِمِائَةٍ وَأَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَيْنِ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ هِيَ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَالَ الطَّالِبُ هِيَ مِائَتَانِ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي غَيْرِ كِتَابٍ بِذِكْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ وَاحِدٌ يُؤْخَذُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي قَوْلِ سَحْنُونٍ وَفِي وَقَوْلِ غَيْرِهِ يُؤْخَذُ بِمِائَتَيْنِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَذَكَرَ سَحْنُونٌ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ اضْطِرَابٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَفِي الْمُفِيدِ أَيْضًا) قَالَ عِيسَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالصُّلْحِ لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ رَجُلًا أَشْهَدَهُمَا يَوْمَ السَّبْتِ بِمِائَةِ دِينَارٍ لِرَجُلٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمَا يَوْمَ الْأَحَدِ بِمِائَةِ دِينَارٍ لِذَلِكَ الرَّجِلِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِمِائَةِ دِينَارٍ لِذَلِكَ الرَّجُلِ إنْ أَقَرَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَاتِهِمْ وَزَعَمَ أَنَّهَا مِائَةٌ وَاحِدَةٌ أَشْهَدَ بِهَا يَوْمًا بَعْدَ آخَرَ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَصُدِّقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَهُمْ فِي صُكُوكٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ يَكُونَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ رَجُلَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَحْلِفُ طَالِبُ الْحَقِّ مَعَ ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ اثْنَانِ شَهِدَا أَنَّهُ سَلَّفَهُ إيَّاهَا بِحَضْرَتِهِمَا وَقَبَضَهَا لِنَفْسِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْ شَهِدَ آخَرَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِيَوْمٍ آخَرَ أَوْ شَهِدُوا كُلُّهُمْ أَنَّهَا مِنْ بَيْعٍ وَسَمَّى كُلُّ رَجُلَيْنِ سِلْعَةً غَيْرَ الْأُخْرَى فَيُعْرَفُ بِذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ، وَإِلَّا فَبِبَيِّنَةٍ وَتَكُونُ مِائَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا فِي رَسْمِ نَقْدِهَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَأَقَرَّ لَهُ، وَادَّعَى الْقَضَاءَ فَأَتَى بِشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ خَمْسِينَ وَبِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ خَمْسِينَ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَقِّ هِيَ خَمْسُونَ وَاحِدَةً قَبَضْتُهَا مِنْ الْمِائَةِ وَأَشْهَدْتُ لَهُ بِذَلِكَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هِيَ خَمْسُونَ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَهُمْ فِي بَرَاءَتَيْنِ. اهـ. قَالَ الشَّارِحُ مَا زَادَهُ ابْنُ هِشَامٍ مِمَّا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْحَقِّ كَاتِّحَادِ الشُّهُودِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ إنَّمَا هِيَ أَمْثِلَةٌ اكْتَفَى النَّاظِمُ عَنْهَا بِتَعَدُّدِ الرَّسْمَيْنِ إذْ فِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْحَقَّيْنِ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُ النَّاظِمِ
مَا لَمْ يَكُنْ ذَاكَ بِرَسْمَيْنِ ثَبَتْ
ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ تَقْيِيدًا لِمَحَلِّ الْخِلَافِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْحَقُّ بِغَيْرِ رَسْمٍ أَوْ بِرَسْمٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ مَعَ تَعَدُّدِ الرَّسْمِ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَأَنَّ الْحَقَّ مِائَتَانِ مَثَلًا وَنَقَلَ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ عَنْ أَصَبْغَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَفْظُهُ بَعْدَ مَا نَقَلَ الْخِلَافُ: هَلْ يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ مِائَتَانِ مَثَلًا قَالَ أَيْ أَصَبْغُ: وَأَنَا أَرَى إنْ كَانَ لَهُ كُتُبٌ فَهِيَ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا إنْ تَقَارَبَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُشْهِدَ هُنَا وَيَقُومَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُشْهِدُ آخَرِينَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَلَوْ تَعَدَّدَ الرَّسْمُ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ النَّاظِمُ
مَا لَمْ يَكُنْ ذَاكَ بِرَسْمَيْنِ ثَبَتْ
الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ بِرَسْمَيْنِ صَادِقٌ بِمَا ثَبَتَ بِرَسْمٍ وَاحِدٍ أَوْ بِغَيْرِ رَسْمٍ بَلْ بِالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْبَغَ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا.
(فَرْعٌ) إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لِرَجُلٍ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةٍ يَوْمَ كَذَا وَآخَرُ بِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ مِنْ الْغَدِ بِمِائَةٍ وَثَالِثٌ أَقَرَّ لَهُ مِنْ الْغَدِ بِمِائَةٍ فَعَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُلَفَّقُ يَحْلِفُ الطَّالِبُ مَعَ كُلِّ شَاهِدٍ وَيَسْتَحِقُّ ثَلَاثَمِائَةٍ وَعَلَى أَنَّهَا تُلَفَّقُ فَيَأْخُذُ مِائَةً وَاحِدَةً لِاجْتِمَاعِ الشُّهُودِ عَلَيْهَا بِتَلْفِيقِ الشَّهَادَةِ وَيَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ مَا لَهُ عَلَيْهِ إلَّا مِائَةٌ وَاحِدَةٌ أُشْهِدَ لَهُ بِهَا شَاهِدٌ بَعْدَ شَاهِدٍ وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا، اُنْظُرْ شِفَاءَ الْغَلِيلِ.
(فَرْعٌ مُنَاسِبٌ لِمَا الْكَلَامُ فِيهِ) إذَا أَقَرَّ بِمِائَةٍ فِي مَوْطِنٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِمِائَتَيْنِ أَوْ أَقَرَّ أَوَّلًا بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بِمِائَةٍ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَالَ مُحَمَّدٌ
(2/230)

تَلْزَمُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَالَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ اضْطِرَابُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذَا وَآخِرُ قَوْلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقِرُّ مَا ذَاكَ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِائَتَانِ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ سَحْنُونٍ وَنَقَلَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ التَّفْرِقَةَ فَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَقَلِّ أَوَّلًا صُدِّقَ الْمُقِرُّ أَنَّ الْأَقَلَّ دَخَلَ فِي الْأَكْثَرِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَكْثَرِ أَوَّلًا فَهُمَا مَالَانِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إذَا تَقَدَّمَ الْأَقَلُّ ثُمَّ زَادُوا عَلَيْهِ جَمَعُوهُ مَعَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ الْأَكْثَرُ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَبِمِائَةٍ وَبِمِائَتَيْنِ فِي مَوْطِنَيْنِ، ثَالِثُهَا: إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَوَّلًا لَزِمَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ قَالَ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الشَّيْخِ وَبِمِائَتَيْنِ الْأَكْثَرُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي وَثِيقَتَيْنِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ ثُمَّ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمِائَتَانِ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّهُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ فِي تَكْرَارِ الْوَصَايَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا مُشَابَهَةٌ بِمَسْأَلَةِ مَنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى مِائَةٍ وَشَاهِدَانِ عَلَى مِائَتَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُمِلَ فِي التَّوْضِيحِ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا وَآخِرُ قَوْلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقِرُّ مَا ذَاكَ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِائَتَانِ قَالَ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ سَحْنُونٍ.
(فَرْعٌ) فِي كِتَابِ السَّلَمِ الثَّانِي مِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَكِتَابِ الشَّهَادَاتِ مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَشَاهِدًا بِخَمْسِينَ فَإِنْ شَاءَ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْمِائَةِ وَقُضِيَ لَهُ بِهَا وَإِلَّا أَخَذَ خَمْسِينَ بِغَيْرِ يَمِينٍ فَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ حَقًّا إلَّا فِي أَكْثَرِ الْإِقْرَارَيْنِ أَوْ فِي أَقَلِّهِمَا لَا فِي مَجْمُوعِهِمَا هَذَا ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقَرَوِيِّينَ هَذَا إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ وَادَّعَى الطَّالِبُ الْمَالَ حَلَفَ مَعَ كُلِّ شَاهِدٍ وَأَخَذَ مِائَةً وَخَمْسِينَ. انْتَهَى مِنْ شِفَاءِ الْغَلِيلِ.
وَمَنْ أَقَرَّ مَثَلًا بِتِسْعَهْ ... وَصَحَّ أَنْ دَفَعَ مِنْهَا السَّبْعَهْ
ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدِ ذَا بِبَيِّنَهْ ... بِقَبْضِ دِينَارَيْنِ مِنْهُ مُعْلِنَهْ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنْ الْخَصْمُ ادَّعَى ... دُخُولَ دِينَارَيْهِ فِيمَا انْدَفَعَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّ عَلَيْهِ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا ثُمَّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهَا سَبْعَةً ثُمَّ أَتَى الْمَدِينُ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ دَفَعَ لِغَرِيمِهِ دِينَارَيْنِ فَادَّعَى الْمَدِينُ أَنَّهَا الْبَاقِيَةُ عَلَيْهِ مِنْ التِّسْعَةِ أَنَّهُ خَلَّصَ مَا عَلَيْهِ وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّ الدِّينَارَيْنِ مِنْ السَّبْعَةِ الْمَدْفُوعَةِ أَوَّلًا وَدَاخِلَةٌ فِيهَا وَأَنَّهُ بَقِيَ لَهُ دِينَارَانِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْل الْمَدِينِ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي السَّبْعَةِ وَأَنَّهُ خَلَّصَ دَيْنَهُ كُلَّهُ وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي غَالِبِ مِنْ قِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ قَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) .
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِشُهُودٍ ثُمَّ أَقَرَّ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهَا تِسْعَةً، وَأَقَامَ الْمَطْلُوبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَضَاهُ ثَلَاثَةً فَقَالَ الطَّالِبُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ التِّسْعَةِ فَقَالَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ إنَّهَا مِنْ غَيْرِ التِّسْعَةِ وَيَبْرَأُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ كُلِّهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَثْبَتَ عَلَى رَجُلٍ سِتَّةَ دَنَانِيرَ فَأَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ ثَلَاثَةً وَأَقَامَ الْمَطْلُوبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَضَاهُ ثَلَاثَةً فَزَعَمَ الطَّالِبُ أَنَّهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهَا وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: بَلْ هِيَ سِوَاهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَبْرَأُ مِنْ السِّتَّةِ كُلِّهَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ أَصَبْغَ فَقَالَ لِي مِثْلَهُ. اهـ.
(تَنْبِيهٌ) تَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُنْتَخَبِ وَمِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ مَثَلًا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَرْضُ مِثَالٍ فَقَطْ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ مَا أَشْبَهُهُ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُ النَّاظِمِ ثُمَّ أَتَى أَيْ الْمُقِرُّ بِالتِّسْعَةِ وَمِنْ بَعْدِ ذَا أَيْ مِنْ بَعْدِ دَفْعِ السَّبْعَةِ وَبِبَيِّنَةٍ يَتَعَلَّقُ بِأَتَى وَمُعْلِنَهْ صِفَةٌ لِبَيِّنَهْ، وَبِقَبْضِ يَتَعَلَّقُ بِمُعْلِنَهْ، وَمِنْهُ يَتَعَلَّقُ بِقَبْضِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَدِينِ، وَضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِدَفْعِ الدِّينَارَيْنِ وَهُوَ الْمَدِينُ وَالْمُرَادُ بِالْخَصْمِ صَاحِبُ الْمَالِ.
(2/231)

وَبَيْعُ مَنْ حَابَى مِنْ الْمَرْدُودِ ... إنْ ثَبَتَ التَّوْلِيجُ بِالشُّهُودِ
إمَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِشْهَادِ ... لَهُمْ بِهِ فِي وَقْتِ الِانْعِقَادِ
وَمَعْ ثُبُوتِ مَيْلِ بَائِعِ لِمَنْ ... مِنْهُ اشْتَرَى يَحْلِفُ فِي دَفْعِ الثَّمَنْ
تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي عَقَدَهُ النَّاظِمُ لِمَسَائِلَ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمُحَابَاةَ الْبَيْعُ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ بِكَثِيرٍ لِقَصْدِ نَفْعِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَوْ الشِّرَاءِ بِأَكْثَرَ كَذَلِكَ لِقَصْدِ نَفْعِ الْبَائِعِ، وَأَنَّ مَا نَقَصَ عَنْ الْقِيمَةِ فِي الْبَيْعِ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا فِي الشِّرَاءِ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ نَفْعُ مَنْ ذُكِرَ بَلْ وَقَعَ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ فَهُوَ الْغَبْنُ.
وَأَمَّا التَّوْلِيجُ فَهُوَ هِبَةٌ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ لِإِسْقَاطِ كُلْفَةِ الْحَوْزِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَغْرَاضِ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَقَدْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِجَامِعِ أَنَّ الزَّائِدَ فِي الْمُحَابَاةِ عَلَى الْقِيمَةِ تَوْلِيجٌ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَوْ الْمُتَعَيِّنَ أَنَّ مَقْصُودَ النَّاظِمِ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى التَّوْلِيجِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ: وَبَيْعُ مَنْ حَابَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ إنْ ثَبَتَ التَّوْلِيجُ وَلَمْ يَقُلْ إنْ ثَبَتَتْ الْمُحَابَاةُ وَلَوْ قَالَ
وَبَيْعُ تَوْلِيجٍ مِنْ الْمَرْدُودِ
لَكَانَ أَنْسَبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَدُلُّ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَابَاةِ وَالتَّوْلِيجِ مَا نَقَلَ ابْنُ سَلْمُونٍ فِي الْفَصْلِ الَّذِي عَقَدَهُ لِأَحْكَامِ التَّصْيِيرِ، وَلَفْظُهُ فَإِنْ صَيَّرَهُ فِي ثَابِتٍ أَوْ بَاعَ مِنْهُ بِثَمَنِ قَبْضِهِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةٌ وَغَبْنٌ بَطَلَ بِاتِّفَاقٍ قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ سُئِلَ مَالِكٌ فِيمَنْ وَلَّى ابْنَهُ حَائِطًا اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ يَسِيرٍ وَثَمَنُهُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجَوِّزَهُ لَهُ الْأَبُ.
وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الَّذِي يَبِيعُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ الْأَرْضَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةً فَقَالَ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْأَبِ حَتَّى مَاتَ فَأُرَاهَا مَوْرُوثَةً وَلَا أَرَى لِلْوَلَدِ إلَّا الْعَشَرَةَ. اهـ.
فَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ صَيَّرَهُ فِي حَقٍّ ثَابِتٍ وَإِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بَاعَ مِنْهُ بِثَمَنِ قَبْضِهِ إلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةٌ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ وُجُودِ الْعِوَضِ إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْمُصَيَّرِ أَكْثَرُ مِنْ الدَّيْنِ الْمُصَيَّرِ فِيهِ أَوْ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْبَيْعِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ بَائِعُهُ فَلِذَلِكَ قَالَ وَكَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ فَأَطْلَقَ الْمُحَابَاةَ عَلَى مَا فِيهِ عِوَضٌ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُسَاوٍ لِعِوَضِهِ وَانْظُرْ أَيْضًا إلَى قَوْلِهِ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِعَشَرَةٍ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةً فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي وُجُودِ عِوَضٍ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ مَعَ كَوْنِ الْأَرْضِ تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ إثْرَ مَا تَقَدَّمَ مُتَّصِلًا بِهِ مَا نَصُّهُ:
وَسُئِلَ الْفُقَهَاءُ بِقُرْطُبَةَ فِي رَجُلٍ بَاعَ مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجِهِ نِصْفَ دَارٍ لَهُ فِي صِحَّتِهِ وَأَشْهَدَ بِالْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَقَامَ أَخُوهُ وَأَثْبَتَ عَقْدًا أَنَّ أَخَاهُ لَمْ يَزَلْ سَاكِنًا فِي الدَّارِ إلَى أَنْ مَاتَ وَبِعَدَاوَةِ الْأَخِ لَهُ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أُوَرِّثُهُ شَيْئًا فَأَجَابَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ إذَا ثَبَتَ سُكْنَاهُ لَهَا فَذَلِكَ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الثَّمَنِ إذْ لَيْسَ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَإِنَّمَا قَصْدُ هِبَةِ الدَّارِ لِإِسْقَاطِ الْحِيَازَةِ.
وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِّ مَا عَقَدَهُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا نَافِذٍ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّكْنَى مُبْطِلٌ لَهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَتَضَمَّنْ مُعَايَنَةَ الْقَبْضِ لِلثَّمَنِ وَذَلِكَ مِمَّا يُسْتَرَابُ فِيهِ وَيُظَنُّ فِيهِ الْقَصْدُ إلَى التَّوْلِيجِ وَالْخُدْعَةِ، وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْقَاسِمِ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ إنِّي بِعْتُ مَنْزِلِي هَذَا مِنْ امْرَأَتِي أَوْ ابْنِي أَوْ ابْنَتِي بِمَالٍ عَظِيمٍ وَلَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْ الشُّهُودِ الثَّمَنَ وَلَمْ يَزَلْ بِيَدِ الْبَائِعِ إلَى أَنْ مَاتَ فَقَالَ لَا يَجُوزُ هَذَا لَيْسَ بَيْعًا وَإِنَّمَا هُوَ تَوْلِيجٌ وَخُدْعَةٌ وَوَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ وَكَذَلِكَ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ تَوْلِيجًا بِالشَّهَادَةِ فَيَبْطُلُ بِاتِّفَاقٍ.
وَكَيْفِيَّةُ ثُبُوتِ التَّوْلِيجِ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ تَوَسَّطْنَا الْعَقْدَ وَاتَّفَقَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا عَقَدَاهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصْيِيرِ سُمْعَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ أَوْ يَقُولُوا أَقَرَّ لَنَا بِذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ. اهـ.
اُنْظُرْ كَيْفَ سَمَّى مَا لَا عِوَضَ فِيهِ تَوْلِيجًا فِي جَوَابِ ابْنِ الْحَاجِّ وَجَوَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ التَّوْلِيجِ حَيْثُ قَالَ الشُّهُودُ إنَّ مَا عَقَدَاهُ مِنْ الْبَيْعِ أَوْ التَّصْيِيرِ سُمْعَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمَقْصُودُ تَمْلِيكُ الْمُشْتَرِي فِي الصُّورَةِ لِلشَّيْءِ الْمَبِيعِ وَالْمُصَيَّرِ إمَّا مَجَّانًا فِي التَّوْلِيجِ أَوْ بِبَعْضِ الثَّمَنِ فِي الْمُحَابَاةِ فَذَلِكَ أَعْطَوْهُ حُكْمَ التَّبَرُّعِ، وَأَنَّهُ إنْ حِيزَ صَحَّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُحَزْ بَطَل وَرُدَّ لَهُ ثَمَنُهُ فِي الْمُحَابَاةِ.
قَوْلُهُ: وَبَيْعُ مَنْ حَابَى إلَخْ يَعْنِي أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَوْلِيجٌ كَمَا تَقَدَّمَتْ أَمْثِلَتُهُ فِي قَوْلِ ابْنِ سَلْمُونٍ وَسُئِلَ الْفُقَهَاءُ بِقُرْطُبَةَ إلَخْ إذَا ثَبَتَ وَصَحَّ كَوْنُهُ تَوْلِيجًا لَا بَيْعًا حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يُفْسَخُ وَيُرَدُّ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَثُبُوتُ ذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ تَوَسَّطْنَا الْعَقْدَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي عَقَدَاهُ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا هُوَ سُمْعَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ
(2/232)

الثَّانِي: أَنْ يَقُولُوا أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَنَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولُوا أَشْهَدَنَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَذَا نَقَلَ الشَّارِحُ عَنْ طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي، وَأَشَارَ النَّاظِمُ لِلْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ التَّوْلِيجُ بِقَوْلِهِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ أَيْ مِنْ الْمُشْتَرِي وَأَشَارَ لِلْوَجْهِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ أَوْ الْإِشْهَادِ لَهُمْ بِهِ وَاللَّامُ فِي لَهُمْ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ عَلَيْهِمْ وَضَمِيرُ بِهِ لِلتَّوْلِيجِ وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِهِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِشْهَادِ بِمَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَلَامُ لَهُمْ زَائِدَةٌ يَعْنِي أَوْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِالتَّوْلِيجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ:
وَمَعْ ثُبُوتِ مَيْلِ بَائِعٍ لِمَنْ ... مِنْهُ اشْتَرَى يَحْلِفُ فِي دَفْعِ الثَّمَنْ
يَعْنِي: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْبَيْعِ تَوْلِيجًا وَثَبَتَ مَيْلُ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْيَمِينُ أَنَّهُ اشْتَرَى شِرَاءً صَحِيحًا وَدَفَعَ الثَّمَنَ فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَبْطُلْ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ تَوْلِيجٌ أَوْ مُحَابَاةٌ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَهُ ابْنُ سَلْمُونٍ وَلَا يُقَالُ إنَّ تَسْمِيَةَ مَا دُفِعَ فِيهِ ثَمَنٌ تَوْلِيجًا هُوَ مِنْ إطْلَاقِ التَّوْلِيجِ عَلَى الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ بِزَعْمِ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمِدْيَانِ]
ِ
وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إمَّا مُوسِرُ ... فَمَطْلُهُ ظُلْمٌ وَلَا يُؤَخَّرُ
أَوْ مُعْسِرٌ قَضَاؤُهُ إضْرَارُ ... فَيَنْبَغِي فِي شَأْنِهِ الْإِنْظَارُ
أَوْ مُعْدِمٌ وَقَدْ أَبَانَ مَعْذِرَهْ ... فَوَاجِبٌ إنْظَارُهُ لِمَيْسَرَهْ
أَوْ مَنْ عَلَى الْأَمْوَالِ قَدْ تَقَعَّدَا ... فَالضَّرْبُ وَالسِّجْنُ عَلَيْهِ سَرْمَدَا
وَلَا الْتِفَاتَ عِنْدَ ذَا لِلْبَيِّنَهْ ... لِمَا ادَّعَى مِنْ عُدُمٍ وَبَيَّنَهْ
وَإِنْ أَتَى بِضَامِنٍ فَبِالْأَدَا ... حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ قَعَدَا
قَسَّمَ النَّاظِمُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ الْغَرِيمَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ الْمُوسِرُ الْغَنِيُّ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّ مَطْلَهُ ظُلْمٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» الثَّانِي: الْمُعْسِرُ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْدِمٍ لَكِنْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ أَضْرَارٌ كَمَنْ عِنْدَهُ أُصُولٌ أَوْ عُرُوضٌ وَلَا نَاضَّ عِنْدَهُ يُؤَدِّي مِنْهُ الدَّيْنَ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ وَإِنْظَارُهُ إلَى تَمَكُّنِهِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ لِقَوْلِ مَوْلَانَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا وَوَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» وَمَطْلُهُ مَعَ كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا غَيْرَ مُقَصِّرٍ وَلَا مُتَرَاخٍ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّهُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ كَانَ الشُّيُوخُ بِقُرْطُبَةَ يُفْتُونَ بِتَأْخِيرِهِ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ، وَلَا يُوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ عُرُوضِهِ وَعَقَارِهِ فِي الْحَالِ وَعَلَى ذَلِكَ تَدُلُّ الرِّوَايَاتُ. اهـ.
الثَّالِثُ: الْمُعْسِرُ الْمُعْدِمُ وَعَدَمُهُ ثَابِتٌ وَعَلَيْهِ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَبَانَ مَعْذِرَهْ وَتَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يُوسِرَ وَاجِبٌ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، الرَّابِعُ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَتَقَعَّدَ عَلَيْهَا وَادَّعَى الْعُدْمَ وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَجْهُولُ الْحَالِ إثْرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَالْمُنَاسِبُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَأْخِيرُ هَذَا الْقِسْمِ إلَى أَنْ يُذْكَرَ مَعَ أَقْسَامِ الْمِدْيَانِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَعَادَ النَّاظِمُ ذِكْرَهُ آخِرَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ حَيْثُ قَالَ:
وَحَبْسُ مَنْ غَابَ عَلَى الْمَالِ إلَى ... أَدَائِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُعْتَقَلَا
وَسَيَأْتِي قِسْمٌ سَادِسٌ: وَهُوَ الضَّعِيفُ التَّجْرِ الْقَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إذَا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَ أَمْوَالَ النَّاسِ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ.
وَرَوَى سَحْنُونٌ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالدِّرَّةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَلَيْسَ قَوْلُنَا هَذَا بِخِلَافٍ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ يَضْرِبُ الْإِمَامُ الْخَصْمَ عَلَى اللَّدَدِ وَأَيُّ لَدَدٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا فَالْقَضَاءُ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقْعُدُونَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَيَرْضَوْنَ بِالسِّجْنِ وَيَسْتَخِفُّونَهُ لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَسْتَضْمِنُوهَا هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي لَا تَصِحُّ مُخَالَفَتُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(2/233)

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ. اهـ.
وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ أَيْضًا وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ لِتَقَعُّدِهِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يُنْجِيهِ مِنْ السِّجْنِ وَالضَّرْبِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ إلَّا حَمِيلٌ غَارِمٌ وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ. اهـ. وَإِلَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِالْبَيْتِ الْأَخِيرِ فَقَوْلُهُ: فَبِالْأَدَا أَيْ إنْ أَتَى بِضَامِنٍ فَيَكُونُ بِالْمَالِ لَا بِالْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ:
حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ قَعَدَا
هُوَ غَايَةٌ لِقَوْلِهِ
فَالضَّرْبُ وَالسِّجْنُ عَلَيْهِ أَبَدًا
وَقَوْلُهُ: وَلَا الْتِفَاتَ عِنْدَ ذَا أَيْ عِنْدَ تَقَعُّدِهِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَيَدَّعِي ذَهَابَهَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُرِقَ مَالُهُ وَلَا احْتَرَقَ بَيْتُهُ وَلَا نَزَلَتْ بِهِ مُصِيبَةٌ فَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْعَدَمِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَمُبَيِّنَةٌ صِفَةٌ لِبَيِّنَةٍ وَلِمَا ادَّعَى يَتَعَلَّقُ بِمُبَيِّنَةٍ. (فَرْعٌ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ مَنْ ثَبَتَ فَقْرُهُ وَعُلِمَ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يُسْجَنُ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ أَدَبًا لَهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ وَلَدُهُ وَمَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ. اهـ نَقَلَهُ عَنْ اللَّخْمِيِّ.
وَحَيْثُمَا يُجْهَلُ حَالُ مَنْ طُلِبْ ... وَقُصِدَ اخْتِبَارُهُ بِمَا يَجِبْ
فَحَبْسُهُ مِقْدَارَ نِصْفِ شَهْرِ ... إنْ يَكُنْ الدَّيْنُ يَسِيرَ الْقَدْرِ
وَالْحَبْسُ فِي تَوَسُّطٍ شَهْرَانِ ... وَضِعْفُ ذَيْنِ فِي الْخَطِيرِ الشَّانِ
وَحَيْثُ جَاءَ قَبْلُ بِالْحَمِيلِ ... بِالْوَجْهِ مَا لِلسِّجْنِ مِنْ سَبِيلِ
لَمَّا قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي عُلِمَ حَالُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا غَيْرَ مُعْدِمٍ أَوْ مُعْدِمًا أَتْبَعَهُ بِالْكَلَامِ عَلَى الْمَدِينِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ مَلَاؤُهُ مِنْ عَدَمِهِ وَقَسَّمَهُ إلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَجْهُولُ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةٍ لَحِقَتْهُ وَبِهِ بَدَأَ فَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا قُصِدَ اخْتِبَارُهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ وَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُ حَبْسِهِ بِاخْتِلَافِ كَثْرَةِ الدَّيْنِ وَقِلَّتِهِ فَيُحْبَسُ مِقْدَارَ نِصْفِ شَهْرٍ إنْ كَانَ الدَّيْنُ يَسِيرًا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ كَالدُّرَيْهِمَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ الْمَالَ الْخَطِيرَ جِدًّا فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِلِاخْتِبَارِ شَهْرَيْنِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا جِدًّا وَهُوَ الَّذِي كَنَّى عَنْهُ بِالْخَطِيرِ الشَّأْنِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِلِاخْتِبَارِ أَيْضًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنَحْوَهُمَا ضِعْفَ مَا قَبْلُهُ يَلِيهِ هَذَا كُلُّهُ إنْ لَمْ يَأْتِ الْمَدِينُ الْمَذْكُورُ بِحَمِيلٍ بِوَجْهِهِ فَإِنْ أَتَى بِهِ لَمْ يُسْجَنْ وَاخْتُبِرَ حَالُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْجُونٍ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ مَا يُوجِبُ سَجْنًا سُجِنَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ فَهُوَ مِمَّنْ يَنْبَغِي إنْظَارُهُ.
فَقَوْلُهُ: وَحَيْثُ جَاءَ قَبْلَ سَجْنِهِ وَلَيْسَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْيِينِ مُدَّةِ حَبْسِهِ أَمْرًا لَازِمًا لَا يُتَعَدَّى بَلْ هُوَ مِمَّا وُكِّلَ لِاجْتِهَادِ الْقَاضِي فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْآجَالِ الْمَوْكُولَةِ لِاجْتِهَادِ الْقُضَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ مَجْهُولِ الْحَالِ مَنْ لَحِقَتْهُ تُهْمَةٌ إمَّا بِكَوْنِهِ أَخْفَى مَالَهُ قَصْدًا لِحِرْمَانِ غُرَمَائِهِ وَإِمَّا بِكَوْنِهِ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَزَعَمَ تَلَفَهَا وَيَأْتِي حُكْمُهُ وَهُوَ السِّجْنُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ
وَالْحَبْسُ لِلْمُلِدِّ وَالْمُتَّهَمِ
الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَحَبْسُ الْمِدْيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهِ أَحَدُهَا: حَبْسُ تَلَوُّمٍ وَاخْتِبَارٍ فِيمَنْ جُهِلَ حَالُهُ، وَالثَّانِي: مَنْ أَلَدَّ وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ أَخْفَى مَالًا وَغَيَّبَهُ.
وَالثَّالِثُ: حَبْسُ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَتَقَعَّدَ عَلَيْهَا وَادَّعَى الْعُدْمَ فَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ جَرَى عَلَيْهِ سَبَبٌ أَذْهَبَ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَأَمَّا حَبْسُ التَّلَوُّمِ وَالِاخْتِبَارِ فِي الْمَجْهُولِ الْحَالِ فَبِقَدْرِ مَا يَسْتَوِي أَمْرُهُ وَيُكْشَفُ عَنْ حَالِهِ.
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّيْنِ فِيمَا رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فَيُحْبَسُ فِي الدُّرَيْهِمَاتِ الْيَسِيرَةِ قَدْرَ نِصْفِ شَهْرٍ وَفِي الْكَثِيرِ مِنْ الْمَالِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفِي الْوَسَطِ شَهْرَيْنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْجَنُ عَلَى وَجْهِ اخْتِبَارِ حَالِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ الَّذِي يُسْجَنُ مِنْ أَجْلِهِ وَأَمَّا حَبْسُ مَنْ أَلَدَّ وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ أَخْفَى مَالًا وَغَيَّبَهُ فَإِنَّهُ يُسْجَنُ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يُثْبِتَ عُدْمَهُ فَيَحْلِفُ وَيُسَرَّحُ.
قَالَ (الشَّارِحُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَاخْتَصَرْتُ نَقْلَهُ هُنَا قُلْتُ وَكَذَلِكَ فَعَلْنَا نَحْنُ قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فَإِنْ سَأَلَ الْمَحْبُوسُ لِلتَّلَوُّمِ وَالِاخْتِبَارِ أَنْ يُعْطَى حَمِيلًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ وَلَا يُحْبَسُ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ يُحْبَسُ أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ حَمِيلٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ إنْ كَانَ بِالْوَجْهِ أَوْ بِالْمَالِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ بِالْوَجْهِ دُونَ الْمَالِ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ يُرِيدُ حَمِيلًا بِإِحْضَارِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَجِبُ سِجْنُهُ فِيهَا لِاخْتِبَارِ حَالِهِ فَإِذَا أَحْضَرَهُ عِنْدَمَا بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ وَحُبِسَ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ مَالًا حَتَّى يُؤَدِّيَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مَالٌ
(2/234)

أُطْلِقَ بَعْدَ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ الْحَمِيلُ غَرِمَ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدِيمٌ مِنْ أَجْلِ الْيَمِينِ اللَّازِمَةِ لَهُ. اهـ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ الْمَحْبُوسِينَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَالثَّانِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
وَالْحَبْسُ لِلْمُلِدِّ وَالْمُتَّهَمِ
الْبَيْتَيْنِ، وَالثَّالِثُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
أَوْ مَنْ عَلَى الْأَمْوَالِ قَدْ تَقَعَّدَا
الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةَ، وَيَأْتِي زِيَادَةٌ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ الثَّلَاثَةُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُؤَدِّ مَا عَلَيْهِ قَعَدَا سُجِنَ إلَى أَنْ يَمُوتَ فِي قَوْلِهِ:
وَحَبْسُ مَنْ غَابَ عَلَى الْمَالِ إلَى ... أَدَائِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُعْتَقَلَا.
وَسِلْعَةُ الْمِدْيَانِ رَهْنًا تُجْعَلُ ... وَبَيْعُهَا عَلَيْهِ لَا يُعَجَّلُ
وَحَقُّهُ مَعَ ذَاكَ أَنْ يُؤَخَّرَا ... بِحَسَبِ الْمَالِ لِمَا الْقَاضِي يَرَى
أَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ إلَى قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ إنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَلَهُ سِلْعَةٌ يُمْكِنُ بَيْعُهَا بِسُرْعَةٍ فَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَنْ تُبَاعَ وَطَلَبَ صَاحِبُهَا أَنْ لَا تَفُوتَ عَلَيْهِ وَتُوضَعَ رَهْنًا وَيُؤَجَّلَ أَيَّامًا يَنْظُرُ فِي الدَّيْنِ فَقَالَ إنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَجْعَلَ السِّلْعَةَ رَهْنًا وَيُؤَجَّلَ فِي إحْضَارِ الْمَالِ بِقَدْرِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ وَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْحُكْمُ وَمَضَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ اهـ.
قَالَ الشَّارِحُ يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنِ سِلْعَةٍ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يُنْقَدَ ثَمَنُهَا يُضَيِّقُ فِي اقْتِضَائِهِ عَلَى مُبْتَاعِهَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ بَائِعُهَا مِنْ الْمُتَرَدِّدِينَ لِجَلْبِ تِلْكَ السِّلْعَةِ فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا إنْ فُسِخَ لِمُبْتَاعِهَا فِي التَّقَاضِي. اهـ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْمِدْيَانِ وَهُوَ الْمُعْسِرُ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْدِمٍ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ:
أَوْ مُعْسِرٌ قَضَاؤُهُ إضْرَارُ ... فَيَنْبَغِي فِي شَأْنِهِ الْإِنْظَارُ
وَقَوْلُهُ هُنَا: مَعَ ذَاكَ، أَيْ: مَعَ جَعْلِ سِلْعَتِهِ رَهْنًا، وَبِحَسَبِ، وَلِمَا يَتَعَلَّقَانِ بِيُؤَخَّرَا، وَجُمْلَةُ يَرَى صِلَةُ مَا.
وَالْحَبْسُ لِلْمُلِدِّ وَالْمُتَّهَمِ ... إلَى الْأَدَاءِ أَوْ ثُبُوتِ الْعَدَمِ
وَلَيْسَ يُنْجِيهِ مِنْ اعْتِقَالِ ... إلَّا حَمِيلٌ غَارِمٌ لِلْمَالِ
وَحَبْسُ مَنْ غَابَ عَلَى الْمَالِ إلَى ... أَدَائِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُعْتَقَلَا
تَقَدَّمَ أَنَّ حَبْسَ الْمِدْيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا ذُكِرَ هُنَا وَهُوَ حَبْسُ مَنْ أَلَدَّ وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ أَخْفَى مَالًا وَغَيَّبَهُ وَتَقَدَّمَ عَنْ الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلُ مَا ذُكِرَ هُنَا، وَأَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَثْبُتَ عَدَمُهُ فَيَحْلِفُ وَيُسَرَّحُ زَادَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَإِنْ سَأَلَ الْمَحْبُوسُ لِلَّدَدِ وَالتُّهْمَةِ أَنْ يُعْطِيَ حَمِيلًا بِوَجْهِهِ إلَى أَنْ يَثْبُتَ عُدْمُهُ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّضْيِيقَ بِالسِّجْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِلتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ لَهُ رَجَاءَ أَنْ يُؤَدِّيَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يُسْجَنَ أَعْطَى حَمِيلًا غَارِمًا لَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْغُرْمَ إثْبَاتُهُ لِلْغَرِيمِ الْمَطْلُوبِ الْعُدْمَ. اهـ. وَقَوْلُ النَّاظِمِ: وَالْمُتَّهَمِ؛ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ الْعَطْفِ أَنَّ الْمُتَّهَمَ غَيْرُ الْمُلِدِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُصَرِّحْ النَّاظِمُ بِوُجُوبِ حَلِفِهِ إذَا ثَبَتَ عُدْمُهُ وَكَأَنَّهُ رَآهُ ظَاهِرًا.
وَأَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ إلَى تَمَامِ حُكْمِ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَتَقَعَّدَ عَلَيْهَا وَادَّعَى الْعُدْمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ أَوَّلَ الْفَصْلِ حَيْثُ قَالَ:
وَمَنْ عَلَى الْأَمْوَالِ قَدْ تَقَعَّدَا
الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةَ وَزَادَ أَنَّهُ يُطَالُ سَجْنُهُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلُ:
حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ قَعَدَا
إذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُؤَدِّ يَمُوتُ فِي السِّجْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فَالْبَيْتُ تَكْرَارٌ إلَّا أَنَّهُ قَصَدَ تَمَامَ أَقْسَامِ حَبْسِ الْمِدْيَانِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ.
وَغَيْرُ أَهْلِ الْوَفْرِ مَهْمَا قَصَدَا ... تَأْخِيرَهُ وَبِالْقَضَاءِ وَعَدَا
مُكِّنَ مِنْ ذَاكَ بِضَامِنٍ وَإِنْ ... لَمْ يَأْتِ بِالضَّامِنِ بِالْمَالِ سُجِنْ
وَمَنْ لَهُ وَفْرٌ فَلَيْسَ يُضْمَنُ ... فَإِنْ قَضَى الْحَقَّ وَإِلَّا يُسْجَنُ
وَأَوْجَبَ ابْنُ زَرْبٍ أَنْ يُحَلَّفَا ... مَنْ كَانَ بِاكْتِسَابِ عَيْنٍ عُرِفَا
(2/235)

(الْجَوْهَرِيُّ) الْوَفْرُ الْمَالُ الْكَثِيرُ. اهـ.
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا مُطْلَقُ الْمَالِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمِدْيَانَ إذَا وَعَدَ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَطَلَبَ التَّأْخِيرَ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ إنْ أَعْطَى حَمِيلًا بِالْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُعْطِ حَمِيلًا فَإِنَّهُ يُسْجَنُ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوَفْرِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَفْرِ وَالْمَالِ فَلَا يُقْبَلْ مِنْهُ ضَامِنٌ بَلْ إمَّا أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يُسْجَنَ وَقَالَ ابْنُ زَرْبٍ إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ فِي الْوَقْتِ مَالٌ وَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَمِيلُ أَوْ الرَّهْنُ وَعَلَى قَوْلِهِ الْعَمَلُ قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ
(2/236)

وَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَسَأَلَ أَنْ يُؤَخَّرَ وَوَعَدَ بِالْقَضَاءِ فَلْيُؤَخِّرْهُ الْإِمَامُ حَسْبَمَا يَرْجُو لَهُ وَلَا يَعْجَلْ عَلَيْهِ بِالتَّفْلِيسِ وَبَيْعِ عُرُوضِهِ عَلَيْهِ فِي الْحِينِ وَإِذَا أُخِّرَ الْغَرِيمُ بِمَا حَلَّ عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ حَمِيلٌ قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمِيلٌ سُجِنَ.
وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ تَعَذُّرَ الْقَضَاءِ قَدْ يَتَّجِهُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالْوَفْرِ وَأَنْ عِنْدَهُ النَّاضَّ فَلَا يُؤَجَّلُ وَلَا يُؤَخَّرُ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّاضِّ وَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا نَاضًّا وَأَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّدَدَ وَالْإِضْرَارَ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ عَنْهُ وَدَعَا إلَى تَحْلِيفِهِ عَلَى ذَلِكَ فَيَجْرِي الْأَمْرُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي يَمِينِ التُّهْمَةِ. اهـ.
وَصَرَّحَ فِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ بِأَنَّ الْحَمِيلَ الَّذِي يُعْطِي مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّاضِّ هُوَ بِالْمَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّاظِمُ وَفِي أَحْكَامِ
(2/237)

ابْنِ سَهْلٍ: وَكَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ زَرْبٍ يَرَى الْيَمِينَ فِي هَذَا عَلَى التُّجَّارِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ حُضُورُ النَّاضِّ عِنْدَهُمْ وَكَانَ لَا يَرَى الْيَمِينَ عَلَى غَيْرِ التُّجَّارِ وَهُوَ تَنْوِيعٌ حَسَنٌ. اهـ.
وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى حَالِ الْمَلَا ... عَلَى الْأَصَحِّ وَبِهِ الْحُكْمُ خَلَا
يَعْنِي أَنَّهُ اُخْتُلِفَ هَلْ يُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الْمَلَاءِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعُدْمُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَمَنْ ادَّعَى الْعُدْمَ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ أَوْ يُحْمَلُونَ عَلَى الْعُدْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمَلَاءُ.
وَمَنْ ادَّعَى الْمَلَاءَ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ وَهَذَا مُقَابِلُ الْأَصَحِّ وَالْحُكْمُ خَلَا أَيْ مَضَى بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْمَلَاءِ، وَهُوَ مِمَّا اُعْتُبِرَ فِيهِ الْغَالِبُ وَطَرْحُ الْأَصْلِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْإِنْسَانَ وُلِدَ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَالْغَالِبُ مِنْ الْإِنْسَانِ التَّكَسُّبُ لِحَمْلٍ عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذَا الْقَوْلِ.
وَيَشْهَدُ النَّاسُ بِضَعْفٍ أَوْ عَدَمْ ... وَلَا غِنَى فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ قَسَمْ
بِمَا اقْتَضَاهُ الرَّسْمُ لَا الْيَقِينِ ... إذْ لَا يَصِحُّ بَتُّ ذِي الْيَمِينِ
وَمَنْ نُكُولُهُ عَنْ الْحَلْفِ بَدَا ... فَإِنَّهُ يُسْجَنُ بَعْدُ أَبَدَا
يَعْنِي: أَنَّ الْمَدِينَ قَدْ يُشْهَدُ فِيهِ بِكَوْنِهِ عَدِيمًا أَيْ لَا يُعْلَمَ لَهُ مَالٌ لَا ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ إنْظَارُهُ، وَقَدْ يُشْهَدُ فِيهِ بِكَوْنِهِ ضَعِيفَ التَّجَرُّدِ قَلِيلَ ذَاتِ الْيَدِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ عَرَفُوهُ، وَالشَّهَادَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ الشُّهُودُ لَا عَلَى الْبَتِّ وَإِذَا كَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ فَلَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ يَمِينِ الْمَشْهُودِ فِيهِ لِلْقَاعِدَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ شُهِدَ لَهُ بِظَاهِرِ الْحَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَإِذَا حَلَفَ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ رَسْمُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْعِلْمِ لَا عَلَى الْبَتِّ وَالْجَزْمِ إذْ قَدْ يَكُونُ مَلَكَ مَالًا بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ حَلِفُهُ عَلَى الْبَتِّ لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ: لَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ مَالًا ظَاهِرًا وَلَا خَفِيًّا، وَلَا يَقُولُ: لَا مَالَ لِي وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي وَإِذَا نَكَلَ عَنْ هَذِهِ الْيَمِينِ وَامْتَنَعَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُسْجَنُ وَلَا يُطْلَقُ أَبَدًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ وَالْمُرَادُ بِالْحَالَتَيْنِ حَالَةُ الْعُدْمِ وَحَالَةُ الضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ: بِمَا اقْتَضَاهُ يَتَعَلَّقُ بِقَسَمٍ، وَبَاؤُهُ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْيَقِينِ بِالْخَفْضِ عَطْفٌ عَلَى مَا، وَالْيَمِينِ آخِرَ الْبَيْتِ الثَّانِي نَعْتٌ لِذِي، وَحَالَةُ الضَّعْفِ وَحَالَةُ الْعُدْمِ مُتَغَايِرَتَانِ يَنْبَنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا خِلَافَ مَا يَنُبْنِي عَلَى الْأُخْرَى فَيَنْبَنِي عَلَى حَالَةِ الْعُدْمِ تَسْرِيحُهُ وَوُجُوبُ إنْظَارِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَنْبَنِي عَلَى حَالَةِ الضَّعْفِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقَلِيلُ الَّذِي بِيَدِهِ بَعْدَ أَنْ يُتْرَكَ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ هُوَ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لِظَنِّ يُسْرِهِ وَيَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ وَوُجْدِهِ.
كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّاظِمُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ:
وَمُثْبِتٌ لِلضَّعْفِ حَالَ دَفْعِهِ ... لِغُرَمَائِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ
(قَالَ فِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ ضَعِيفُ التَّجْرِ مُقِلٌّ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَلِيلُ وَدُفِعَ لِغُرَمَائِهِ وَتُرِكَ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ هُوَ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَاسْتُحْلِفَ (وَفِيهَا أَيْضًا) ابْنُ رُشْدٍ صِفَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعُدْمِ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ: إنَّهُ يَعْرِفُهُ فَقِيرًا عَدِيمًا لَا يَعْلَمُ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَاخْتُلِفَ إنْ شَهِدُوا أَنَّهُ فَقِيرٌ عَدِيمٌ لَا مَالَ لَهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَقِيلَ: إنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ الْبَتَاتِ وَقِيلَ: إنَّهَا جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْعِلْمِ (وَفِي الطُّرَرِ أَيْضًا) قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ وَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنْ إرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ فَيَحْنَثُ إنْ بَتَّ أَوْ قَطَعَ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) إنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمَطْلُوبِ مَالٌ اُسْتُحْلِفَ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ قَرْضٌ وَلَا عَرَضٌ وَلَئِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا لَيُؤَدِّيَنَّ فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ أَبَدًا. اهـ.
وَعَنْ حَلِفِهِ هَكَذَا عَلَى الْبَتِّ تَحَرَّزَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: بِمَا اقْتَضَاهُ الرَّسْمُ الْبَيْتَ. (وَفِي الطُّرَرِ أَيْضًا) إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَحَكَى ابْنُ مُغِيثٍ أَنَّهُ يُسْجَنُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ تُهْمَةٌ.
(2/238)

وَحَيْثُ تَمَّ رَسْمُهُ وَعُدِمَا ... كَانَ عَدِيمًا لِأَوْلَى الْغُرَمَا
إلَّا إنْ اسْتَفَادَ مِنْ بَعْدِ الْعَدَمْ ... مَالًا فَيَطْلُبُونَهُ بِالْمُلْتَزَمْ
يَعْنِي إذَا شُهِدَ بِعُدْمِ الْمَدِينِ وَتَمَّ رَسْمُ الشَّهَادَةِ بِالْإِعْذَارِ إلَى غُرَمَائِهِ فَسَلَّمُوا عُدْمَهُ إمَّا لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْمَدْفَعِ فِيمَا شُهِدَ لَهُ بِهِ، وَإِمَّا لِإِقْرَارِهِمْ بِعَدَمِهِ فَإِنَّ هَذَا الْمَدِينَ يَكُونُ عَدِيمًا لِهَؤُلَاءِ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ عَدَّمُوهُ فَلَا يَجِبُ لَهُمْ قِبَلَهُ شَيْءٌ إلَّا إنْ اسْتَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَهُ بِمَا الْتَزَمَ لَهُمْ حَيْثُ قَالَ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ لَيَقْضِيَنَّ فَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ حَكَى الْبَاجِيُّ أَنَّهُ إذَا قَامَ الْغُرَمَاءُ فَأَثْبَتَ الْغَرِيمُ عُدْمَهُ وَحَلَفَ ثُمَّ قَامُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْعُدْمِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ اسْتَفَادَ مَالًا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَوْ قَامَ غَيْرُ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعُدْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ عُدْمَهُ مُتَّصِلٌ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ اسْتَفَادَ مَالًا إلَى قِيَامِ هَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ وَلَا أُعْذِرَ إلَيْهِمْ فِي الشُّهُودِ بِالْعُدْمِ فَيَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى اتِّصَالِ الْعُدْمِ وَيُبَاحُ لَهُمْ الْمَدْفَعُ فِي شَهَادَتِهِمْ اهـ.
(فَرْعٌ) فِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ وَمَنْ فُلِّسَ وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِمَا لَهُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ دَايَنَهُ آخَرُونَ وَفُلِّسَ ثَانِيَةً فَاَلَّذِينَ دَايَنُوهُ ثَانِيَةً أَوْلَى بِمَا فِي يَدِهِ وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ الْأَوَّلُونَ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِهِمْ تَحَاصَّ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ مُعَامَلَةِ الْآخَرِينَ وَأَمَّا مَالِكُهُ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ أَرْشٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَإِنَّ الْآخَرِينَ وَالْأَوَّلِينَ فِيهِ أُسْوَةٌ. اهـ.
وَيَنْبَغِي إعْلَانُ حَالِ الْمُعْدِمِ ... فِي كُلِّ مَشْهَدٍ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ
وَمُثْبِتٌ لِلضَّعْفِ حَالَ دَفْعِهِ ... لِغُرَمَائِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ
وَطَالِبٌ تَفْتِيشَ دَارِ الْمُعْسِرِ ... مُمْتَنِعٌ إسْعَافُهُ لِلْأَكْثَرِ
اشْتَمَلَ كُلُّ بَيْتٍ مِنْ الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَسْأَلَةٍ (الْأُولَى) : أَنَّهُ يُطْلَبُ إعْلَامُ النَّاسِ بِحَالِ الْمُعْدِمِ فِي الْمَشَاهِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي قَالَ الشَّارِحُ: وَهُوَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ مِنْ قُضَاةِ الْعَدْلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ لِيَعْرِفَ النَّاسُ فَلَا يُعَامِلُهُ مَنْ يُعَامِلُهُ إلَّا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ فِعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. اهـ.
(الثَّانِيَةُ) : أَنَّ الْمَدِينَ إذَا أَثْبَتَ ضَعْفَهُ وَقِلَّةَ ذَاتِ يَدِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي لِغُرَمَائِهِ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ وَتَقَدَّمَ هَذَا. (الثَّالِثَةُ) : إذَا سَأَلَ رَبُّ الدَّيْنِ تَفْتِيشَ دَارِ الْمَدِينِ فَهَلْ يُجَابُ لِذَلِكَ أَوْ لَا قَوْلَانِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا وَقَعَ لِابْنِ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ قَالَ فَإِنْ سَأَلَ الطَّالِبُ أَنْ يُفَتِّشَ عَلَيْهِ دَارِهِ وَقَالَ إنَّهُ قَدْ غَيَّبَ فِيهَا مَالَهُ فَإِنَّ الشُّيُوخَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ حَكَى أَصْبَغُ ابْنُ سَهْلٍ أَنَّهُ شَاهَدَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمَ بِطُلَيْطِلَةَ إذَا دَعَا الطَّالِبُ إلَى أَنْ يُفَتِّشَ مَسْكَنَ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ ادِّعَائِهِ الْعُدْمَ بِالْحَقِّ أَنْ يُفَتِّشَ مَسْكَنَهُ فَمَا أَلْفَى فِيهِ مِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ بِيعَ عَلَيْهِ وَأُنْصِفَ الطَّالِبُ مِنْهُ وَلَا يَخْتَلِفُ فُقَهَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ أُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَاسْتَبْصَرُوا فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْهُ وَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْفَقِيهَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَنْكَرَهُ وَأَنْكَرَهُ أَيْضًا ابْنُ مَالِكٍ، وَقَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ الَّذِي يَفِي فِي بَيْتِهِ وَدَائِعُ فَقُلْتُ لَهُ: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَقَالَ يَلْزَمُ إذَنْ تَوْقِيفُهُ وَالِاسْتِينَاءُ بِهِ حَتَّى يُعْلَمَ هَلْ لَهُ طَالِبٌ أَوْ يَأْتِي مَدْفَعٌ فِيهِ قَالَ وَأَعْلَمْتُ ابْنَ الْقَطَّانِ بِعَمَلِ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لِي يَبْعُدُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَأَنَا أَرَاهُ حَسَنًا فِيمَنْ ظَاهِرُهُ الْإِلْدَادُ وَالْمَطْلُ وَاسْتِسْهَالُ الْكَذِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. اهـ. وَفِي كُلٍّ وَبِأَمْرِ الْحَكَمِ يَتَعَلَّقَانِ بِإِعْلَانٍ، وَقَوْلُهُ: حَالُ دَفْعِهِ مُبْتَدَأٌ، وَبِقَدْرِ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مُثْبِتٌ، وَإِسْعَافُهُ نَائِبُ مُمْتَنِعٌ.

[فَصْلٌ فِي الْفَلَسِ]
ِ التَّفْلِيسُ أَعَمُّ وَأَخَصُّ فَالتَّفْلِيسُ الْأَخَصُّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ كُلِّ مَالِ مَدِينٍ لِغُرَمَائِهِ
(2/239)

لِعَجْزِهِ عَنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ قَالَ وَالْأَعَمُّ قِيَامُ ذِي دَيْنٍ عَلَى مَدِينٍ لَيْسَ لَهُ مَا يَفِي بِهِ. قَوْلُهُ: حُكْمُ الْحَاكِمِ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ التَّفْلِيسَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَكُونُ بِحُكْمٍ فَأُطْلِقَ التَّفْلِيسُ عُرْفًا عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ثُبُوتَ خَلْعِ الْمَالِ غَيْرُ الْحُكْمِ بِهِ وَإِنَّمَا التَّفْلِيسُ هُوَ الْحُكْمُ بِالْخَلْعِ لَا ثُبُوتُ الْخَلْعِ، وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ خَلْعُ كُلِّ الْمَالِ الْحُكْمَ بِأَدَاءِ مَالٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: لِمَدِينٍ صِلَةُ مَا وَلِغُرَمَائِهِ يَتَعَلَّقُ بِمَدِينٍ أَوْ بِخَلْعٍ وَلِعَجْزِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، وَأُخْرِجَ خَلْعُ كُلِّ مَالِهِ بِاسْتِحْقَاقِ عَيْنِهِ وَإِذَا اتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ مِنْ الْمُفْلِسِ وَاقْتَسَمُوهُ فَهُوَ تَفْلِيسٌ أَخَصُّ وَالْحَدُّ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي السَّمَاعِ أَنَّهُ كَتَفْلِيسِ السُّلْطَانِ وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ تَفْلِيسًا، وَقَوْلُهُ: فِي حَدِّ الْأَعَمِّ قِيَامُ إلَخْ مُنَاسِبٌ لِإِطْلَاقِ التَّفْلِيسِ عَلَى قِيَامِ الْغُرَمَاءِ وَبَاقِيهِ ظَاهِرٌ فِي إخْرَاجِهِ وَإِدْخَالِهِ وَمِنْ خَاصِّيَّةِ الْأَعَمِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَبَرُّعٌ وَلَا مُعَامَلَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا مُحَابَاةٌ إلَّا مَا تَجْرِي الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ وَالْأَخَصُّ يَمْنَعُ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْأَعَمُّ وَيَمْنَعُ مُطْلَقَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
(قَالَ الرَّصَّاعُ) : رَأَيْتُ لِتِلْمِيذِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْوَانُّوغِيِّ أَنْ قَالَ اُنْظُرْ حَدَّ شَيْخِنَا التَّفْلِيسَ الْأَعَمَّ وَالْأَخَصَّ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ حَدَّ الْأَعَمِّ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطَبِقَ عَلَى حَدِّ الْأَخَصِّ وَفِي تَعْرِيفِ الشَّيْخِ لَيْسَ كَذَلِكَ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْتَ.
وَمَنْ بِمَالِهِ أَحَاطَ الدَّيْنُ لَا ... يَمْضِي لَهُ تَبَرُّعٌ إنْ فَعَلَا
وَإِنْ يَكُنْ لِلْغُرَمَا فِي أَمْرِهِ ... تَشَاوُرٌ فَلَا غِنًى عَنْ حَجْرِهِ
وَحَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ دُيُونِ ... إذْ ذَاكَ كَالْحُلُولِ بِالْمَنُونِ
تَقَدَّمَ أَنَّ التَّفْلِيسَ أَعَمُّ وَأَخَصُّ وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ قِيَامُ الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَدِينِ أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْأَخَصِّ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ مَالِهِ هِيَ أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا وَتَحِلُّ دُيُونُهُ إذْ ذَاكَ كَمَا تَحِلُّ بِالْمَوْتِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ
وَإِنْ يَكُنْ لِلْغُرَمَا فِي أَمْرِهِ
الْبَيْتَيْنِ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ جَعَلَ التَّفْلِيسَ الْأَعَمَّ هُوَ قِيَامُ الْغُرَمَاءِ، وَالنَّاظِمُ جَعَلَهُ إحَاطَةَ الدَّيْنِ بِمَالِهِ ظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ الْغُرَمَاءُ وَجَعَلَ أَيْضًا التَّفْلِيسَ الْأَخَصَّ هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ مَالِهِ وَالنَّاظِمُ جَعَلَهُ تَشَاوُرَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ فِي أَمْرِ الْمُفْلِسِ وَمَا نَسَبْتُهُ لِلنَّاظِمِ مِنْ جَعْلِهِ التَّفْلِيسَ الْعَامَّ هُوَ إحَاطَةُ الدَّيْنِ بِمَالِ الْغَرِيمِ وَالْخَاصَّ تَشَاوُرَ الْغُرَمَاءِ فِي أَمْرِ الْمُفْلِسِ صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ قَالَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طُرَرِهِ وَقَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْفَلَسُ عَدَمُ الْمَالِ وَالتَّفْلِيسُ خَلْعُ الرَّجُلِ مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ وَالْمُفْلِسُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْفَلَسِ ثُمَّ قَالَ: وَحَدُّ التَّفْلِيسِ الَّذِي يَمْنَعُ قَبُولَ إقْرَارِهِ هُوَ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ فَيَسْجُنُوهُ أَوْ يَقُومُوا عَلَيْهِ فَيَسْتَتِرُ عَنْهُمْ فَلَا يَجِدُوهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ وَيَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ نَقْلِهِ لِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ كَلَامِ الْمُقَدِّمَاتِ مَا نَصُّهُ إذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْمَنْقُولَ عَنْ الْمُقَدِّمَاتِ اتَّضَحَ لَك أَنَّ لِمَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ ثَلَاثَ حَالَاتٍ: (الْحَالَةُ الْأُولَى) : مَا قَبْلَ التَّفْلِيسِ أَشَارَ إلَيْهَا الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ لِلْغَرِيمِ مَنْعُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فُرُوعَ هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ تَبَرُّعِهِ وَسَفَرِهِ إنْ حَلَّ بِغَيْبَةٍ وَإِعْطَاءِ غَيْرِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ أَوْ كُلِّ مَا بِيَدِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) : تَفْلِيسٌ عَامٌّ وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ
(2/240)

بِقَوْلِهِ وَفَلَسٌ حَضَرَ أَوْ غَابَ إنْ لَمْ يُعْلَمْ مَلَاؤُهُ بِطَلَبِهِ وَإِنْ أَبَى غَيْرُهُ دَيْنًا حَلَّ زَادَ عَلَى مَالِهِ أَوْ بَقِيَ مَا لَا يَفِي بِالْمُؤَجَّلِ فَمُنِعَ مِنْ تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ فَقَوْلُهُ بِطَلَبِهِ دَيْنًا حَلَّ أَيْ بِطَلَبِ الْغَرِيمِ أَوْ بِطَلَبِ الْمَدِينِ دَيْنًا حَلَّ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ هُوَ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ فَيَسْجُنُوهُ أَوْ يَقُومُوا عَلَيْهِ فَيَسْتَتِرُ عَنْهُمْ فَلَا يَجِدُوهُ.
(الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ) : تَفْلِيسٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ كَتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ أَيْ كَخَلْعِهِ مَالَ الْمَدِينِ لِغُرَمَائِهِ وَهَذَا هُوَ التَّفْلِيسُ الْخَاصُّ وَقَدْ عَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ الْحُكْمُ بِالْخَلْعِ لَا نَفْسُ خَلْعِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ فِي شَرْحِ قَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ كَتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ أَيْ كَحُكْمِهِ بِخَلْعِ الْمَالِ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
(وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ) وَمَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ فَلَا تَجُوزُ لَهُ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا عِتْقٌ وَلَا إقْرَارٌ بِدَيْنٍ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا قَامُوا وَبَنَوْا عَلَى تَفْلِيسِهِ مُحَمَّدٌ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ تَشَاوَرُوا فِيهِ فَذَلِكَ حَدُّ التَّفْلِيسِ وَاعْتَمَدَ النَّاظِمُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ التَّشَاوُرُ تَفْلِيسًا فَأَحْرَى غَيْرُهُ (وَفِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ مَاتَ وَفُلِّسَ فَقَدْ حَلَّ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ.
وَالِاعْتِصَارُ لَيْسَ بِالْمُكَلَّفِ ... لَهُ وَلَا قَبُولُ غَيْرِ السَّلَفِ
وَهُوَ مُصَدَّقٌ إذَا مَا عَيَّنَا ... مَالًا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ أُمِّنَا
يَعْنِي أَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يُكَلَّفُ وَلَا يُلْزَمُ بِأَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لِمَنْ لَهُ الِاعْتِصَارُ مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ الْغُرَمَاءُ فِي دُيُونِهِمْ بَلْ إنْ شَاءَ اعْتَصَرَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْتَصِرْ فَإِذَا اعْتَصَرَ أَخَذَهُ الْغُرَمَاءُ فِي دَيْنِهِمْ وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غَيْرِ السَّلَفِ مِنْ هِبَةٍ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ السَّلَفِ أَيْضًا عَلَى مَا يَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَأَشَارَ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي إلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ إذَا عَيَّنَ مَالًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مُؤَمَّنٌ عَلَيْهِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ وَدِيعَةٍ وَنَحْوِهِمَا فَفِي تَبْصِرَةِ اللَّخْمِيِّ: لِلْمُفْلِسِ اعْتِصَارُ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ (وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا اخْتِلَافَ أَعْلَمُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمِدْيَانَ أَنْ يَتَسَلَّفَ وَلَا أَنْ يَسْتَوْهِبَ وَلَا أَنْ يَتَدَايَنَ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ، وَلَا أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إنْ طَاعَ لَهُ بِذَلِكَ أَحَدٌ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ لَمْ يُعَامِلُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ مَعْرُوفٍ لِأَحَدٍ وَلَا تَحَمُّلٌ مِنْهُ وَإِنْ طَاعَ الرَّجُلُ أَنْ يُسْلِفَ الطَّالِبَ فَيَقْضِيَهُ مَالَ الْغَرِيمِ الْمَطْلُوبِ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ إنَّمَا هُوَ لِلطَّالِبِ لَيْسَ لِلْغَرِيمِ الْمَطْلُوبِ فَلَا قَوْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا وَجْهَ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ وَفِي مُفِيدِ (ابْنِ هِشَامٍ) وَإِذَا وَهَبَ لِلْمُفْلِسِ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ شُفْعَةٌ فِيهَا رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ أَبَاهُ (وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ بِشَيْءٍ يُعَيِّنُهُ وَدِيعَةٍ أَوْ قِرَاضٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: إنَّ إقْرَارَهُ لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ مَعَ يَمِينِ الْمُقَرِّ لَهُمْ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ عَلَى الْأَصْلِ بَيِّنَةٌ صُدِّقَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْأَصْلِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ. اهـ. وَعَلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ
(2/241)

حَيْثُ قَالَ وَقُبِلَ تَعْيِينُهُ الْقِرَاضَ وَالْوَدِيعَةَ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَصْلِهِ.
وَرَبُّ الْأَرْضِ الْمُكْتَرَاةِ إنْ طَرَقْ ... تَفْلِيسٌ أَوْ مَوْتٌ بِزَرْعِهَا أَحَقْ
وَاحْكُمْ بِذَا لِبَائِعٍ أَوْ صَانِعِ ... فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ فَمَا مِنْ مَانِعِ
يَعْنِي: أَنَّ مَنْ اكْتَرَى أَرْضًا وَزَرَعَهَا ثُمَّ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ الَّذِي أَكْرَاهَا أَحَقُّ بِزَرْعِهَا مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ مُكْتَرِيهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ كِرَاءَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ شَيْئًا وَلَمْ يُخْرِجْ شَيْأَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى فَلِسَ الْمُشْتَرِي أَوْ مَاتَ أَوْ اسْتَصْنَعَ فِي صِبْغٍ أَوْ خِيَاطَةٍ مَثَلًا أَوْ الشَّيْءُ الْمَصْنُوعُ مَا زَالَ بِيَدِهِ فَفَلِسَ رَبُّهُ أَوْ مَاتَ فَإِنَّ الْبَائِعَ وَالصَّانِعَ أَحَقُّ بِمَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَوَّلُ ثَمَنَ سِلْعَتِهِ.
وَالثَّانِي إجَارَتُهُ (وَقَالَ فِي الْمُفِيدِ) وَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا فَزَرَعَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ فَلِسَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ أُجْرَتَهَا فَرَبُّ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالزَّرْعِ الَّذِي فِيهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ كِرَاءَهُ (وَفِيهِ أَيْضًا) وَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى صَنْعَةٍ فَصَنَعَهَا ثُمَّ أَفْلَسَ رَبُّ الصَّنْعَةِ فَالصَّانِعُ أَحَقُّ بِالسِّلْعَةِ حَتَّى يَقْبِضَ أُجْرَتَهُ فِي فَلَسِ رَبِّهَا وَمَوْتِهِ. اهـ.
(وَفِي التَّوْضِيحِ) فِي تَوْجِيهِ كَوْنِ رَبِّ الْأَرْضِ الْمُكْتَرَاةِ أَوْلَى بِزَرْعِهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا نَشَأَ عَنْ الْأَرْضِ فَكَانَتْ كَالْحَائِزَةِ لَهُ وَحَوْزُهَا كَحَوْزِ صَاحِبِهَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً وَفُلِّسَ مُشْتَرِيهَا أَوْ مَاتَ وَهِيَ بِيَدِ بَائِعِهَا. اهـ. أَيْ فَبَائِعُهَا أَحَقُّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَرَبُّ الْأَرْضِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَحَقُّ بِزَرْعِهَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَقَّ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَاحْكُمْ بِذَا الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ كَوْنُ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْلَى بِزَرْعِهَا فَيَكُونُ الْبَائِعُ وَالصَّانِعُ أَحَقَّ بِمَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُشْتَرِي وَالْمَصْنُوعِ لَهُ وَلَيْسَ لَهُمَا مَانِعٌ وَلَا مُعَارِضٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ تَكْمِيلٌ لِلْبَيْتِ وَجَمْعُ ضَمِيرِ بِأَيْدِيهِمْ بِاعْتِبَارِ مُكْرٍ وَبَائِعٍ وَصَانِعٍ.
وَمَا حَوَاهُ مُشْتَرٍ وَيُحْضَرُ ... فَرَبُّهُ فِي فَلَسٍ مُخَيَّرُ
لَا إذَا مَا الْغُرَمَاءُ دَفَعُوا ... ثَمَنَهُ فَأَخْذُهُ مُمْتَنِعُ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا مِمَّا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ حَتَّى فَلِسَ الْمُشْتَرِي أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ الْبَائِعُ شَيْأَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فَلِسَ فَبَائِعُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْأَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ يَتَحَاصَصَ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَدْفَعْ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهُ لِبَائِعِهِ فَإِنْ دَفَعَ الْغُرَمَاءُ لِلْبَائِعِ ثَمَنَ شَيْئِهِ فَلَا كَلَامَ لَهُ فِيهِ.
وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ إلَّا الْحِصَاصُ وَهَذَا مَفْهُومُ قَوْلِهِ:
فَرَبُّهُ فِي فَلَسٍ مُخَيَّرٌ
(قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) : قَالَ مَالِكٌ مَنْ بَاعَ سِلْعَتَهُ فَمَاتَ الْمُبْتَاعُ قَبْل أَنْ يَدْفَعَ ثَمَنَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِيَدِهِ فَالْبَائِعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِهَا وَإِنْ فَلِسَ الْمُبْتَاعُ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِيَدِهِ كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ غَيْرَهَا إلَّا أَنْ يَرْضَى الْغُرَمَاءُ بِدَفْعِ ثَمَنِهَا إلَيْهِ فَذَلِكَ لَهُمْ اهـ.
(وَفِي الْمُفِيدِ) وَمَنْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَتَهُ ثُمَّ فَلِسَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْبَائِعُ ثَمَنَهَا فَوَجَدَهَا الْبَائِعُ عِنْدَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَحَاصَّ غُرَمَاءَهُ بِثَمَنِهَا فَإِنْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً فِي سُوقِهَا أَوْ بَدَنِهَا فَلَهُ أَخْذُهَا وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا قَدْ زَادَتْ فِي بَدَنِهَا أَوْ سُوقِهَا إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهَا. اهـ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْبَيْتَيْنِ قَبْلَهَا فِي الصُّورَةِ أَنَّ تِلْكَ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ يَدِ بَائِعِهَا فَكَانَ
(2/242)

أَحَقَّ بِهَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ وَهَذِهِ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَرَبُّهَا أَحَقُّ بِهَا فِي الْفَلَسِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأُولَى
وَاحْكُمْ بِذَا لِبَائِعٍ أَوْ صَانِعٍ
فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ الْبَيْتَ فَصَرَّحَ بِبَقَاءِ الشَّيْءِ بِيَدِ بَائِعِهِ وَقَالَ فِي هَذِهِ وَمَا حَوَاهُ مُشْتَرٍ فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْمُشْتَرِي قَبَضَ مُشْتَرَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِسِلْعَتِهِ فِي التَّفْلِيسِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
(أَحَدُهَا) : ذَكَرَهُ النَّاظِمُ وَهُوَ إنْ لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهَا (الثَّانِي) : أَنْ يُمْكِنَ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ شَيْئِهِ فَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ فَلَيْسَ إلَّا الْمُحَاصَّةُ كَمَا إذَا أَفْلَسَ الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ وَلَمْ تَقْبِضْ الصَّدَاقَ وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ التَّصْرِيحُ بِهِ.
(الثَّالِثُ) : أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْ حَالَتِهِ فَلَوْ طُحِنَ الْقَمْحُ أَوْ صَارَ الزُّبْدُ سَمْنًا أَوْ فُصِّلَ الثَّوْبُ فَلَيْسَ إلَّا الْمُحَاصَّةُ.
(الرَّابِعُ) : أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَالثَّوْبِ أَمَّا مَا لَا يُعْرَفُ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّمَا لَهُ الْحِصَاصُ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ صَبَّ الزَّيْتَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْجَرَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وَخَلَطَهُ بِزَيْتِهِ فَلَهُ مَكِيلَتُهُ وَخَلْطُهُ بِمِثْلِهِ لَا يُفِيتُهُ. اهـ مِنْ الْقَلْشَانِيِّ.
وَلَيْسَ مَنْ رَدَّ بِعَيْبٍ مَا اشْتَرَى ... أَوْلَى بِهِ فِي فَلَسٍ إنْ اعْتَرَى
وَالْخُلْعُ فِي سِلْعَةِ بَيْعٍ فَاسِدِ ... ثَالِثُهَا اخْتِصَاصُهَا بِالنَّاقِدِ
اشْتَمَلَ الْبَيْتُ الْأَوَّلُ عَلَى مَسْأَلَةٍ وَالثَّانِي عَلَى أُخْرَى (فَالْأُولَى) : مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَدَفَعَ ثَمَنَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ فَفُلِّسَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ لِلْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَعِيبِ الَّذِي رَدَّهُ فِي ثَمَنِهِ بَلْ هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ، وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ ابْتِدَاءُ بَيْعٍ لَخُيِّرَ الْمُشْتَرِي لِكَوْنِهِ صَارَ بَائِعًا وَجَدَ سِلْعَتَهُ فِي التَّفْلِيسِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَعَلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ نَقْضُ بَيْعٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَمَنْ رَدَّ عَبْدًا بِعَيْبٍ فَفُلِّسَ بَائِعُهُ وَالْعَبْدُ بِيَدِهِ قَبْلَ قَبْضِ الرَّادِّ ثَمَنَهُ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَعَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ بَيْعٍ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ ابْنُ عَرَفَةَ هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ بَعْدَ الرَّدِّ وَنَحْوُهُ لَفْظُ النَّوَادِرِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْمَازِرِيِّ اُخْتُلِفَ إنْ لَمْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ حَتَّى فُلِّسَ الْبَائِعُ مِنْ الْمَوَّاقِ.
وَلَفْظُ التَّوْضِيحِ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً ثُمَّ اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى عَيْبٍ فَأَرَادَ رَدَّهَا فَوَجَدَ الْبَائِعَ قَدْ فُلِّسَ وَإِنَّ لَهُ رَدَّهَا وَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) وَهَذَا عَلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ نَقْضٌ وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ بَيْعٍ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا. اهـ. (وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي) فَأَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً شِرَاءً فَاسِدًا وَقَدْ كَانَ دَفَعَ ثَمَنَهَا أَوْ كَانَ أَخَذَهَا عَنْ دَيْنٍ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ ثُمَّ فُلِّسَ الْبَائِعُ وَالسِّلْعَةُ لَمْ تَفُتْ وَهِيَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْبَيْعَ يُفْسَخُ وَاخْتُلِفَ هَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهَا فِيمَا نَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ فِيمَا لَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ الثَّانِي: لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ الثَّالِثُ: إنْ كَانَ أَخَذَهَا عَنْ دَيْنٍ كَانَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي فُلِّسَ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ ثَمَنَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَهُ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ جَمِيعًا قَالَ جَمِيعَهُ فِي التَّوْضِيحِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ رَدَّ، مَنْ: اسْمُ لَيْسَ، وَرَدَّ: صِلَةُ مَنْ، وَبِعَيْبٍ: يَتَعَلَّقُ بِرَدِّ، وَمَا اشْتَرَى: مَفْعُولُ رَدَّ، وَأَوْلَى: خَبَرُ لَيْسَ وَالنَّاقِدُ الَّذِي دَفَعَ الثَّمَنَ وَأَخْرَجَ بِهِ الَّذِي أَخَذَهَا عَنْ الدَّيْنِ.
وَزَوْجَةٌ فِي مَهْرِهَا كَالْغُرَمَا ... فِي فَلَسٍ لَا فِي الْمَمَاتِ فَاعْلَمَا
وَحَارِسُ الْمَتَاعِ وَالزَّرْعِ وَمَا ... أَشْبَهَهُ مَعَهُمْ قَدْ قَسَمَا
يَعْنِي إنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَدْفَعْ لَهَا الصَّدَاقَ ثُمَّ فُلِّسَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِصَدَاقِهَا فِي الْفَلَسِ أَمَّا فِي الْمَوْتِ فَلَا شَيْءَ لَهَا وَهَذَا قَوْلُ الْجَلَّابِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تُحَاصِصُ
(2/243)


بِصَدَاقِهَا فِي الْفَلَسِ وَالْمَوْتِ مَعًا (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) اُخْتُلِفَ هَلْ تُحَاصُّ الزَّوْجَةُ الْغُرَمَاءَ بِصَدَاقِهَا الْمَشْهُورُ أَنَّهَا تُحَاصِصُ بِهِ فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ وَقِيلَ: لَا تُحَاصِصُ فِيهِمَا، وَفِي الْجَلَّابِ تُحَاصُّ بِهِ فِي الْفَلَسِ دُونَ الْمَوْتِ. اهـ.
وَعَلَى الثَّالِثِ اقْتَصَرَ النَّاظِمُ وَأَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي إلَى أَنَّ حَارِسَ الْمَتَاعِ وَالزَّرْعِ إذَا أَفْلَسَ رَبُّ الْمَتَاعِ أَوْ الزَّرْعِ لَا يَكُونُ الْحَارِسُ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ فِي أُجْرَةِ حِرَاسَتِهِ بَلْ هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ مَعَهُمْ أَيْ مَعَ الْغُرَمَاءِ قَدْ قَسَمَا مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِ الْمَدِينِ وَفِي التَّفْرِيعِ لِابْنِ الْجَلَّابِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى غَنَمٍ يَرْعَاهَا أَوْ مَتَاعٍ يَحْفَظُهُ ثُمَّ أَفْلَسَ مُسْتَأْجِرُهُ فَالْأَجِيرُ أُسْوَةُ غُرَمَائِهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْغَنَمِ وَلَا عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَى حِفْظِهِ. اهـ. وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: أَمَّا الْأَجِيرُ عَلَى رِعَايَةِ الْإِبِلِ أَوْ عَلَى رَحَى الْمَاءِ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ.