السبت، 22 نوفمبر 2014

جريمة البغي (تعريفها وأركانها وطرق أثباتها وعقوبتها) – من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة

         

الكتاب السادس
البغي

659- النصوص الواردة فى البغى: الأصل فى البغى قول الله جل شأنه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9, 10] (1) , وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ... } الخ [النساء:59] .
وهناك نصوص من السنة وردت فى البغي, فيروى عن عبد الله بن عمر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أعطى إمامًا صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم.
وروى عرفجة أنه قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات - ورفع صوته - ألاَ من خرج على أمتى وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان" (2) . وفى رواية أخرى: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".
_________
(1) ويستخلص من نص الآية خمس فوائد: الأولى: أنهم لم يخرجوا بالبغى عن الإيمان فإنه سماهم مؤمنين, الثانية: أنه أوجب قتلهم, الثالثة: أنه أسقط قتلهم إذا فاءوا إلى أمر الله, الرابعة: أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوا فى قتلهم, الخامسة: أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه, المغنى ج10 ص48.
(2) المغنى ج10 ص48.
(2/671)


وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر, فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية", وفى لفظ: "من كره من أمره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية".
وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء, كلما هلك نبى خلفه نبي, وأنه لا نبى بعدي, وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم, فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
وعن عوف بن مالك الأشجعى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". قال: قلنا: يا رسول الله ألاَ ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا, ما أقاموا فيكم الصلاة, إلا من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئًا من معصية الله, فليكره ما يأتى من معصية الله, ولا ينزعن يدًا من طاعة".
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهديى ولا يستنون بسنتي, وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين فى جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننزع الأمر أهله, إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان".
وعن أبى ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ قال: والذى بعثك بالحق أضع سيفى على عاتقى وأضرب حتى ألحقك, قال: أو لا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ تصبر حتى يلحقنى" (1) .
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص80, 81.
(2/672)


وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن مسعود: "هل تدرى يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم, قال: لا يجهز على جريحها, ولا يُقتل أسيرها, ولا يُطلب هاربها, ولا يقسم فيئها" (1) .
660- تعريف البغى: يعرف البغى لغة بأنه طلب الشيء, فيقال: بغيت كذا إذا طلبته, ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64] , ثم اشتهر البغى فى العرف فى طلب ما لا يحل من الجور والظلم, وإن كانت اللغة لا تمنع أن يكون البغى بحق، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّى الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] .
ويختلف الفقهاء فى تعريف البغى اصطلاحًا لاختلاف مذاهبهم فيه, فالمالكيون يعرفون البغى بأنه الامتناع عن طاعة من ثبتت إمامته فى غير معصية بمغالبته ولو تأويلاً, ويعرفون البغاة بأنهم فرقة من المسلمين خالفت الإمام الأعظم أو نائبه لمنع حق وجب عليها أو لخلفه (2) .
ويعرف الحنفيون البغاة ويستخرجون منها تعريف البغى بأنه الخروج عن طاعة إمام الحق بغير حق, والباغى بأنه الخارج عن طاعة إمام الحق بغير حق (3) .
ويعرف الشافعيون البغاة بأنهم المسلمون مخالفو الإمام بخروج عليه وترك الانقياد له أو منع حق توجه عليهم بشرط شوكة لهم وتأويل ومطاع فيهم (4) .
أو هم الخارجون عن الطاعة بتأويل فاسد لا يقطع بفساده إن كان لهم شوكة
_________
(1) سبل السلام ج3 ص207, طبعة الحلبى سنة 1349هـ.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص426, شرح فتح القدير ج4 ص48.
(4) نهاية المحتاج ج8 ص382.
(2/673)


بكثرة أو قوة وفيهم مطاع (1) , فالبغى إذن عند الشافعيين هو خروج جماعة ذات شوكة ورئيس مطاع عن طاعة الإمام بتأويل فاسد.
ويعرف الحنابلة البغاة بأنهم الخارجون عن إمام ولو غير عادل بتأويل سائغ ولهم شوكة ولو لم يكن فيهم مطاع (2) , فالبغى عند الحنابلة لا يختلف فى تعريفه كثيرًا عند الشافعية.
ويرى الظاهريون أن البغى هو الخروج على إمام حق بتأويل مخطئ فى الدين أو الخروج لطلب الدنيا (3) .
ويعرف الشيعة الزيدية الباغى بأنه من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو غرم وله فئة أو مَنَعة أو قام بما أمره للإمام (4) , فالبغى هو الخروج على الإمام الحق من فئة لها مَنَعة.
علة اختلاف التعاريف: والعلة فى اختلاف تعريف البغى فى المذاهب الفقهية المختلفة هى الاختلاف على الشروط التى يجب توفرها فى البغاة وليست الاختلاف فى الأركان للبغى ومحاولة الفقهاء فى أكثر من مذهب أن يجمعوا فى التعريف بين أركان البغى وشروطه ورغبتهم أن يكون التعريف جامعًا مانعًا.
تعريف مشترك: ونستطيع أن نعرف البغى تعريفًا مشتركًا فيه كل المذاهب إذا اكتفينا بإبراز الأركان الأساسية فى التعريف فنقول: إن البغى هو الخروج على الإمام مغالبة.
661- أركان البغى: وأركان البغى الأساسية كما هو ظاهر من التعريف المشترك ثلاثة:
(1) الخروج على الإمام. (2) أن يكون الخروج مغالبة. (3) القصد الجنائى.

* * *
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص111.
(2) شرح المنتهى مع كشاف القناع ج4 ص114.
(3) المحلى ج11 ص97, 98.
(4) الروض النضير ج4 ص331.
(2/674)


الركن الأول: الخروج على الإمام
662- يشترط لوجود جريمة البغى الخروج على الإمام, والخروج المقصود هو مخالفة الإمام والعمل لخلعة, أو الامتناع عما وجب على الخارجين من حقوق. ويستوى أن تكون هذه الحقوق لله أى مقررة لمصلحة الجماعة, أو للأشخاص أى مقررة لمصلحة الأفراد. فيدخل تحتها كل حق تفرضه الشريعة للحاكم والمحكوم, وكل حق للجماعة على الأفراد, وكل حق للقرد على الفرد, فمن امتنع عن أداء الزكاة فقد امتنع عن حق وجب عليه, ومن امتنع عن تنفيذ حكم متعلق بحق الله كحد الزنا, أو متعلق بحق الأفراد كالقصاص, فقد امتنع عن حق وجب عليه, ومن امتنع عن طاعة الإمام فقد امتنع عن الحق الذى وجب عليه, وهكذا.
ولكن من المتفق عليه أن الامتناع عن الطاعة فى معصية ليس بغياَ وإنما هو واجب على كل مسلم لأن الطاعة لم تفرض إلا فى معروف ولا تجوز فى معصية, فإذا أمر الإمام بما يخالف الشريعة فليس لأحد أن يطيعه فيما أمر إذ الطاعة لا تجب إلا فيما تجيزه الشريعة (1) .

والخروج قد يكون على الإمام وهو رئيس الدولة الأعلى وقد تكون على من ينوب عنه, فمن امتنع عن طاعة الإمام فى معصية فليس باغيًا لأن حق الأمر واجب الطاعة وكلاهما مقيد غير مطلق, فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الشريعة وليس لمأمور أن يطيعه فيما يخالف الشريعة. وذلك ظاهر من قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] , ومن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق", وقوله: "من أمركم من
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص430.
(2/675)


الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه", وقوله: "لا طاعة فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف", وقد احتاط الفقهاء لهذا فى تعريف البغاة.
والإمام: هو رئيس الدولة الإسلامية الأعلى أو من ينوب عنه من سلطان أو وزير أو حاكم أو غير ذلك من المصطلحات, ويعبر بعض الفقهاء عن رئيس الدولة الإسلامية الأعلى بالإمام الذى ليس فوقه إمام, وعمن دونه بالإمام مطلقًا إذا كان مستقلاً بجزء من الدولة الإسلامية, وبنائب الإمام إذا كان ينوب عن الإمام الأعظم.
والإمامة فرض من فروض الكفاية فى الشريعة الإسلامية كالقضاء, إذ لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلومين ويستوفى الحقوق ويضعها موضعها. ولا خلاف على هذا بين الفقهاء. ويشترط فى الإمام شروط لا محل لذكرها هنا أهمها أن يكون مسلمًا ذكرًا مكلفًا عدلا (1) , ولا يعتبر الخروج على الإمام قبل أن تثبت إمامته, وتثبت الإمامة بأربع طرق:
1- باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد, كما حدث فى بيعة أبى بكر على أثر وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2- باختيار الإمام السابق لمن يليه, كما حدث فى اختيار أبى بكر لعمر حيث عهد إلى عمر بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة فى الحال التى يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر, إنى استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن برَّ وعَدَل فذلك علمى به ورأيى فيه, وإن جار وبدَّل فلا علم لى بالغيب, والخير أردت, ولكل امرئ ما اكتسب, وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون".
ويصح أن يعهد الإمام لولده, كما فعل معاوية وغيره من الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم.
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص108, كشاف القناع ج4 ص94, المحلى لابن حزم ج9 ص359 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص518.
(2/676)


3- يجعل الإمام السابق الأمر شورى فى جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم أو يختاره أهل الحل والعقد, كما فعل عمر حيث ترك الأمر شورى فى ستة من الصحابة فاختاروا من بينهم عثمان.
4- بالتغلب والقهر حيث يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إمامًا فتثبت له الإمامة وتجب طاعته على الرعية, ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا.
وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغيًا, أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغيًا ولا الخروج بغيًا (1) .
ومع أن العدالة شرط من شروط الإمامة إلا أن الرأى الراجح فى المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية هو تحريم الخروج على الإمام الفاسق الفاجر ولو كان الخروج للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن الخروج على الإمام يؤدى عادة إلى ما هو أنكر مما فيه وبهذا يمتنع النهى عن المنكر لأن من شرطه أن لا يؤدى الإنكار إلى ما هو أنكر من ذلك, إلى الفتن وسفك الدماء وبث الفساد واضطراب البلاد وإضلال العباد وتوهين الأمن وهدم النظام. وإذا كانت القاعدة أن للأمة خلع الإمام وعزلة بسبب يوجبه كالفسق إلا أنهم يرون أن لا يعزل إذا استلزم العزل الفتنة. أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه أن للأمة خلع وعزل الإمام بسبب يوجبه وأنه ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق, فإذا وجد من الإمام ما يوجب اختلال أموال المسلمين وانتكاس أمور الدين كان للأمة خلعه كما كان لهم تنصيبه لانتظام شئون الأمة وإعلائها, ويرى بعض هذا
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص94, 95, أسنى المطالب ج4 ص105 وما بعدها, حاشية ابن عابدين ج3 ص428, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60.
(2/677)


الفريق انه إذا أدى الخلع لفتنة احتمل أدنى الضررين (1) .
ويرى الظاهريون أن الخروج على الإمام محرم إلا أن يكون جائرًا, فإن كان جائرًا فقام عليه مثله أو دونه قوتل مع القائم لأنه منكر زائد ظهر, فإن قام عليه أعدل منه وجب أن يقاتل مع القائم. وإذا كانوا جميعًا أهل منكر فلا يقاتل من أحد منهم إلا أن يكون أحدهم أقل جورًا فيقاتل معه من هو أجور منه (2) .
وعلى هذا الرأى بعض المالكيين, فسحنون يقول بوجوب قتال أهل العصبية إن كان الإمام عدلاً وقتال من قام عليه, فإن كان غير عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله وإلا وسعك الوقوف إلا أن يريد نفسك ومالك فادفعه عنهما ولا يجوز لك دفعه عن الظالم. ويرى الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن فسق الأئمة قد يتفاوت ككون فسق أحدهم بالقتل وفسق الآخر بانتهاك حرمة الإبضاع وفسق الآخر بالتعرض للأموال فيقوم هذا على التعرض للدماء والإبضاع, فإن تعذر يقوم المتعرض للإيضاع على المتعرض للدماء, فإن قيل: أيجوز القتال مع أحد هؤلاء لإقامة ولايته وإدامة نصرته وهو معصية, قلنا نعم وفقًا لما بين مفسدتى الفسوقيين, وفى هذا وقفة وإشكال من جهة كونه إعانة على معصية ولكن درء ما هو أشد من تلك المعصية يجوزه. ونحوه خروج فقهاء القيروان مع أبى يزيد الخارجى على الثالث من بنى عبيد لكفره وفسق أبى يزيد والكفر أشد (3) . ومجموع رأى سحنون والشيخ عز الدين هو رأى الظاهريين.
وعلى الرغم من أن الرأى الراجح فى مذهب مالك هو تحريم الخروج على الإمام الجائر فإن من المتفق عليه فى المذهب أنه لا يحل للإمام الجائر أن يقاتل
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص60, حاشية ابن عابدين ج3 ص429, أسنى المطالب ج4 ص109, حاشية الشهاب الرملى ج4 ص111, كشاف القناع ج4 ص95, الأحكام السلطانية الغراء ص514, تتمة الروض النضير ج4 ص6, 9, مواهب الجليل ج6 ص277, نيل الأوطار ج7 ص84.
(2) المحلى ج9 ص372.
(3) حاشية الشيبانى ج8 ص60.
(2/678)


الخارجين عليه لفسقه وجوره, وعليه قبل كل شيء أن يترك فسقه ثم يدعوهم لطاعته فإن لم يجيبوه كان له أن يقاتلهم (1) .
ومن المتفق عليه فى كل المذاهب الشرعية أن قتال الخارجين لا يجوز قبل سؤالهم عن سبب خروجهم, فإذا ذكروا مظلمة أو جورًا وكانوا على حق وجب على الإمام أن يرد المظالم ويرفع الجور الذى ذكروا ثم يدعوهم للطاعة وعليهم أن يرجعوا للطاعة فإن لم يرجعوا قاتلهم, والأصل فى ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] . فأمر الله تعالى بالإصلاح ثم بالقتال فلا يجوز أن يقدَّم القتال على الإصلاح ولا يكون الإصلاح إلا برد المظالم ورفع الجور (2) .
والخارجون على ثلاثة أنواع عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد:
1- الخارجون بلا تأويل سواء كانوا ذوى منعة أو شوكة أو لا منعة لهم.
2- الخارجون بتأويل ولكن لا مَنَعة لهم.
3- الخارجون بتأويل وشوكة, وهم قسمان:
(أ) الخوارج ومن يذهبون مذهبهم ممن يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويَسْبُون نسائهم ويكفِّرون بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ب) الخوارج بتأويل ولهم منعة وشوكة ممن لا يذهبون مذهب الخوارج ولا يستحلون دماء المسلمين ولا يستبيحون أموالهم ونساءهم (3) .
والتأويل المقصود هو ادعاء سبب للخروج والتدليل عليه, ويستوى أن
_________
(1) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص409, أسنى المطالب ج4 ص114, كشاف القناع ج4 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص60, 61, المحلى ج11 ص99.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, المغنى ج10 ص48, 52, أسنى المطالب ج4 ص111, 113.
(2/679)


يكون التأويل صحيحًا أو فاسدًا لا يقطع بفساده, ويعتبر التأويل فاسدًا إذا أولوا الدليل على خلاف ظاهره ولو كانت الأدلة على التأويل ضعيفة كادعاء أهل الشام فى عهد على بأنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم, مع أن الادعاء صادر ممن لا يعتد بقولهم وشهادتهم.
وكتأويل بعض مانعى الزكاة فى عهد أبى بكر بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنًا لهم, طبقًا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة:103] .
وكادعاء الخوارج الذين خرجوا من عسكر على بعد صفين أنه كفر ومن معه من الصحابة حيث حكم الرجال فى أمر الحرب الواقعة بينهم وبين معاوية وقالوا إنه حكَّم الرجال فى دين الله والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف:40] , وتلك كبيرة ومرتكب الكبيرة فى رأيهم كافر, فإذا كان التأويل مقطوعًا بفساده فلا يعتبر أن هناك تأويلاً ما (1) .
والمنعة والشوكة هى الكثرة والقوة, كثرة عدد الخارجين أو قوتهم بحيث يمكن معها مقاومة تدعوه إلى احتمال كلفة من بذل مال وإعداد رحال ونصب قتال ونحو ذلك ليردهم إلى الطاعة. ويعتبرون فى مذهب أحمد النفر اليسير كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم ممن لا منعة لهم ولو كانوا مسلحين يحسنون القتال (2) .
ويشترط الشافعيون لوجود المنعة والشوكة أن يكون فى الخارجين مطاع ولو لم يكن إمامًا عليهم يسمعون له ويطيعون؛ لأنه الشوكة لمن لا مطاع لهم, فمهما بلغ عدد الخارجين ومهما كانت قوتهم فلا شوكة ما لم يكن فيها مطاع (3) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج4 ص427, نهاية المحتاج ج7 ص382, 383, كشاف القناع ج4 ص96.
(2) حاشية ابن عابدين ج3 ص428, نهاية المحتاج ج7 ص382, كشاف القناع ج4 ص96, المغنى ج10 ص49, أسنى المطالب ج4 ص111.

(3) نهاية المحتاج ج7 ص383.
(2/680)


وحكم الخارجين بلا تأويل والخارجين بتأويل ولا شوكة لهم عند أبى حنيفة وأحمد هو حكم قطَّاع الطريق فيعاملون على هذا الأساس. وكتب الحنابلة والأحناف تجعل حكمهم حكم قطاع الطريق دون تفصيل مما قد يوهم بأنهم يقرون كذلك دون قيد ولا شرط. أما حكمهم عند الشافعى فهو حكم غيرهم من أهل العدل ويحاسبون على ما يأتونه من أفعال: فإن كونت جريمة الحرابة عوقبوا على الحرابة, وإن كونت جرائم أخرى عوقبوا عليها. ويلاحظ أن لا فرق بين الحنفيين والحنابلة وبين الشافعيين فى هذه المسألة؛ لأن الأحناف والحنابلة وإن اعتبروهم محاربين إلا أنهم لا يعاقبونهم بعقوبة الحرابة إلا إذا توفرت شروط الحرابة وإن سموهم قطاعًا بإطلاق: لأن الخارجين إذا لجأوا للقوة فلن يفعلوا إلا أن يخيفوا الطريق ويأخذوا الأموال ويقتلوا من تعرض لهم فتكون جرائمهم بطبيعة الحال وظروف الخروج حرابة, فكأنهم نظروا إلى واقع الحال فى إعطائهم حكم المحاربين, أما الشافعيون فنظروا إلى الأصل وقالوا إنهم من أهل العدل فإذا ارتكبوا جريمة وتوفرت شروطها أخذوا بها, وهكذا لا نجد ثمة فرق بين الفريقين وإن اختلفوا فى تعبيراتهم (1) .
وإذا كان الرأى الراجح فى مذهب أحمد أن المتأول بلا شوكة يعتبر محاربًا فإن بعض فقهاء المذهب لا يشترط الشوكة مع التأويل, فلا فرق عنده بين الكثير والقليل ما دام الخروج أساسه التأول ويعتبر المتأول بلا شوكة باغيًا لا محاربًا, وحجة القائلين بالشوكة أن ابن ملجم - لما جرح عليًا قال على للحسن: إن برئت رأيت رأيى وإن مت فلا تمثلوا به - لم يثبت لفعله حكم البغاة كما أن إثبات حكم البغاة للعدد اليسير يشجع على الخروج ويؤدى إلى إتلاف أموال الناس؛ لأن البغاة يسقط عنهم ضمان ما أتلفوه (2) . وحجة الذين لا يشترطون الشوكة أن الخروج أساسه التأول
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, بدائع الصنائع ج7 ص140, أسنى المطالب ج4 ص48, كشاف القناع ج4 ص96.
(2) المغنى ج10 ص49.
(2/681)


لا الشوكة وعقيدة الخارج لا عدد من يشاركونه تلك العقيدة, فلا معنى لاشتراط الشوكة.
أما الخارجون بتأويل وشوكة فهم البغاة عند أبى حنيفة والشافعى سواء رأوا رأى الخوارج أو لم يروه, ولا تعتبر الخوارج عندهما كفرة ولا فسقة وإنما بغاة لا غير (1) .
واختلف الحنابلة فى الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب ويكفِّرون عثمان وعليًا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة, ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويرون سبى نسائهم, والبعض يراهم بغاة لا غير, وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء, والبعض يراهم بغاة وفسقة فى وقت واحد, ويرون استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم, وهذا هو رأى مالك وسنذكره فيما بعد. على أن أبا حنيفة يعتبر أيضًا الخوارج فسقة باعتقادهم ولكنه يعاملهم معاملة البغاة ولا ينظر إلى الفسق إلا فى قبول شهادتهم وقضائهم (2) .
ويرى البعض الآخر - ورأيهم الراجح فى كذهب أحمد - أن الخوارج مرتدون فحكمهم حكم المرتدين لا حكم البغاة ومن ثم تباح دمائهم وأموالهم, فإن تحيزوا فى مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار, وإن كانوا فى قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا قتلوا حدًا وكانت أموالهم فيئًا لا يرثهم ورثتهم المسلمون. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم يحقرون صلاتكم مع صلاتهم, وصيامكم مع صيامهم, وأعمالكم مع أعمالهم, يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يَمْرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة, ينظر من النصل فلا يرى شيئًا, وبنظر فى القدح فلا يرى شيئًا, وينظر فى الريش فلا يرى شيئًا, ويتمادى فى الفُوق".
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, بدائع الصنائع ج8 ص140, نهاية المحتاج ج7 ص382, 385, أسنى المطالب ج4 ص111, 113, المهذب ج2 ص234, 238.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص416.
(2/682)


وفى رواية أخرى: "يخرج قوم فى آخر الزمان أحداث الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية, يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فإن لقيتهم فاقتلهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة".
أما القائلون بأنهم بغاة أو بغاة فسقة فيحتجون بأنه لم يقل بتكفيرهم أحمد من الفقهاء, وإنما الذى قال به بعض فقهاء الحديث لا كلهم, ويفسرون عبارة "يتمادى فى الفوق" بأن الحديث لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشيء بحيث يشك فى خروجهم منه, ويحتجون أيضًا بما روى عن على أنه لم يقاتل أهل النهروان إلا بعد أن قتلوا عبد الله بن خباب وأنه لم يبدرهم بقتال, وقال لأصحابه: لا تبدروهم بقتال, وبعث إليهم: أقيدونا بعبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله, فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب القتل, ولو كانوا كفارًا لبدرهم بالقتال ولما طالب بالقَوَد من قتلة عبد الله بن خباب. كذلك يحتجون بما ذكره ابن عبد البر عن على أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا, وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وأخيرًا فإنهم يحتجون بأن عليًا لما جرحه ابن ملجم قال للحسن: أحسنوا إساره؛ فإن عشتُ فأنا ولى دمي, وإن مت فضربة كضربتي, أى أنه أشار بالقصاص منه ولو كان كافرًا لَمَا اقتص منه لأن الكافر مباح الدم بكفره (1) .
ويختلف مذهب مالك عن المذاهب الثلاثة فيمن يعتبره باغيًا, فالباغى عند مالك هو كل من امتنع عن الطاعة فى غير معصية بمغالبة ولو تأويلاً, فكل من خرج بمغالبة فهو باغٍ سواء كان متأولاً أو غير متأول, ذا منعة وشوكة أو ليس له شوكة ومنعة, ويجوز أن يكون الباغى فردًا واحدًا ويجوز أن يكون البغى من أكثر من واحد, والخوارج الذين يكفِّرون بعض الصحابة ومَنْ على
_________
(1) المغنى ج10 ص48- 52, كشاف القناع ج4 ص96.
(2/683)


غير رأيهم من المسلمين ويستحلون الدماء والأموال وسبى النساء, هم عند مالك بغاة وليسوا كفرة وإنما هم فسقة فى رأيه ولهذا إذا ظفر بهم الإمام العدل أن يستتيبهم وغيرهم من أهل الأهواء (1) .
ومذهب الظاهريين على أن البغاة قسمان لا ثالث لهما, قسم خرجوا على تأويل فى الدين فأخطأوا فى تأويلهم كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق, وقسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام الحق أو على من هو فى السيرة مثلهم, فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق أو إلى أخذ مال من لقوا أو سفك الدماء هملاً انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين وهم ما لم يفعلوا ذلك فى حكم البغاة. والمتأولون قسمان: قسم أخطأ فى التأويل وله عذر فى تأويله كأصحاب معاوية, وقسم من المتأولين لا عذر له فى تأويله كمن قام رأى الخوارج ليخرج الأمر على قريش أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم أو تكفير أهل الذنوب أو استقراض المسلمين أو قتل الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر أو إلى منع الزكاة, فهؤلاء وأمثالهم لا عذر لهم بالتأويل الفاسد لأنها جهالة تامة. والقائمون لغرض الدنيا أو للعصبية كما فعل يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فى القيام على ابن الزبير, وكما فعل مروان بن محمد فى القيام على يزيد بن الوليد, فهؤلاء لا يعذرون لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وعملهم بغى مجرد (2) .
أما من قام يدعو إلى أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو إلى إظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل فليس بغيًا بل الباغى من خالفه, فإذا أريد بظلم فمنع نفسه فإنه على حق سواء أراد الإمام أو غيرة (3) .
ويرى الظاهريون أن البغاة ليسوا فقط من خرجوا على الإمام وإنما الباغى
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص277, 278, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, 61, تبصرة الحكام ج2 ص362.
(2) المحلى ج11 ص97, 98.
(3) المحلى ج11 ص98.
(2/684)


هو من بغى على أخيه المسلم, فيجوز أن يكون الباغى سلطانًا ويجوز أن يكون فردًا, فإذا كان الباغى هو السلطان كان على المسلمين أن يقاتلوا الباغى حتى يفئ إلى أمر الله, وعلى هذا يصح أن يكون الباغى فردًا ويصح أن يكون جماعة (1) .
وخلاصة رأى الظاهريين أن كل من خرج مغالبة على الإمام بتأويل أو غير تأويل فهو باغٍ سواء كان فرد أو جماعة ما لم يكن خروجه بحق فإنه ليس باغيًا.
والباغى عند الشيعة الزيدية هو من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم على المحاربة وله فئة أو منعة, أو قام بما أمره للإمام (2) .
فالبغى لا يكون إلا من جماعة يكون لهم منعة وعدد وتأويل, وهذا يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد إلى حد كبير. كما يتفق مذهب الظاهريين مع مذهب مالك, ولا يعتبر الخارج بحق باغيًا عند بعض المالكيين وأبى حنيفة والظاهريين (3) , وعلى مثل هذا الرأى الشيعة الزيدية (4) .
أما عند الشافعى وأحمد وبعض المالكيين فيعتبر الخارج باغيًا ولو كان خارجًا بحق وسواء كان على صواب أو على خطأ؛ لأن الخروج ليس هو الطريق الصحيح الذى يؤدى لإقرار الحق وتصحيح الخطأ، فإذا لم يكونوا بغاة فيما يطلبون فهم بغاة فى اختيار الوسيلة التى يريدون بها الوصول إلى حقهم لأنها تؤدى إلى الفساد وزعزعة أركان الدولة, ولأنه من المحرم عليهم الخروج على من تثبت إمامته, لأن من ثبتت إمامته تجب طاعته. على أن فى مذهب الشافعى من يرى أن الخروج على الإمام الجائر ليس بغيًا إذا كان الخروج لإزالة جور أو ظلم, ولكن رأيهم مرجوح فى المذهب (5) .
ويعتبر الخروج بحق فى مذهب أبى حنيفة وعند القائلين به من المالكيين إذا
_________
(1) المحلى ج11 ص99.
(2) الروض النضير ج4 ص331.
(3) مواهب الجليل ج6 ص477, شرح الزرقاني, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, شرح فتح القدير ج4 ص408, المحلى ج11 ص98, 99, حاشية ابن عابدين ج3 ص426.
(4) تتمة شرح الروض النضير ج4 ص8, 9.
(5) أسنى المطالب, وحاشية الشهاب الرملى ج4 ص111, كشاف القناع ج4 ص96.
(2/685)


كان الخوارج قد فعلوا ذلك لظلم ظلمهم به الإمام وعليه أن يترك الظلم وينصفهم, ولا ينبغى للناس أن يعينوا الإمام عليهم؛ لأن فى ذلك إعانة على الظلم وتعاون على الإثم والعدوان. ويرون فى مذهب مالك أن على الناس أن يعينوا الخارجين على الإمام, بينما يرى الحنفية أن ليس للناس إعانة الخارجين لأن فيه إعانة على خروجهم على الإمام. أما إذا كان الخروج بدعوى الحق والولاية فقالوا الحق معنا فهم أهل بغى عند أبى حنيفة, وعلى كل من يقوى على القتال أن ينصر الإمام على هؤلاء الخارجين. أما المالكيون فيرون نصر الخارجين إذا كان الخارج عليه عدلاً أو كان أقل فسقًا وجورًا ما دام الإمام جائرًا فاسقًا (1) .
ويعتبر الخروج بحق فى مذهب الظاهريين إذا كان لظلم ظلمهم به الإمام أو كان للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتعرض لهم الإمام, أو خرج على الإمام الجائر إمام عدل أو أقل فسقًا وجورًا (2).
ويفترق مذهب الظاهريين عن المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية فى اعتبار السلطان باغيًا, فهذه المذاهب لا تعتبر السلطان باغيًا ولو كان جائرًا وإنما البغاة هم الخارجون على الإمام. وقد رأينا أن بعض الفقهاء يعتبرون الخارجين بغاة سواء كانوا على حق فى خروجهم أو كانوا على غير الحق, بينما يراهم البعض بغاة إذا كانوا على غير الحق فقط فإن كانوا على حق فليسوا بغاة, على أن القائلين بهذا يرون هم ومخالفوهم أن الإمام ليس له أن يقاتل الخارجين قبل أن يسألهم عن سبب خروجهم, فإذا ادعوا مظلمة أو شبهة كان على الإمام أن يرد المظالم ويكشف الشبهات ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة, فإن لم يعودوا قاتلهم لأنهم يصبحون بامتناعهم عن العودة للطاعة بغاة ولو كانوا قد خرجوا فى أول الأمر بحق (3) .
* * *
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص437, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, مواهب الجليل ج6 ص277.
(2) المحلى ج11 ص97, 98.
(3) أسنى المطالب ج4 ص114, كشاف القناع ج4 ص96, المغنى ج10 ص53, حاشية ابن عابدين ج4 ص427, 429, شرح فتح القدير ج4 ص409, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60.
(2/686)


الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة
663- يشترط ليكون الخروج بغيًا أن يكون مغالبة أى أن يكون استعمال القوة هو وسيلة الخروج وأن يكون الخروج مصحوبًا بالمغالبة أى باستعمال القوة, فإذا كان الخروج غير مصحوب باستعمال القوة فلا يعتبر بغيًا كرفض مبايعة الإمام بعد أن بايعت له الأغلبية ولو نادى الخارجون بعزل الإمام أو بعصيانه وعدم طاعته أو بالامتناع عن أداء ما عليهم من واجبات تقوم الدولة على استيفائها. ولكن إذا فعل الخارجون شيئًا محرمًا عوقبوا عليه باعتباره جريمة عادية. ومثل الامتناع عن البيعة ما وقع من بعض الصحابة فى صدر الإسلام, فقد امتنع على عن مبايعة أبى بكر أشهر ثم بايع, ورفض سعد بن عبادة مبايعته ولم يبايعه حتى مات. وكامتناع عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير عن المبايعة ليزيد. ومن الأمثلة على ذلك ما وقع من الخوارج فى عهد عليّ, فإن عليًا لم يتعرض لهم حتى استعملوا القوة, ولم يعتبرهم بغاة إلا بعد استعمالها. وكان يخطب يومًا فقال رجل بباب المسجد: لا حكم إلا لله, وهى عبارة كان الخوارج يتنادونها يعرِّضون بقبول على التحكيم. فقال على: كلمة حق أريد بها باطل, لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله, ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا, ولا نبدؤكم بقتال. وكان يصلى يومًا فناداه رجل من الخوارج: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين؛ يعرِّض به على اعتبار أنه كفر بقبول التحكيم, فأجابه على: فاصبروا إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ويدللون على هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه فى المدينة فلأن لا تتعرض لأهل البغى
(2/687)


وهم من المسلمين أولى. وتلك كانت سيرة عمر بن عبد العزيز فى الخوارج: كتب إليه عدى بن أرطأة أن الخوارج يسبونك, فكتب إليه: إن سبونى فسبوهم, وإن شهروا السلاح فأشهروا عليهم, وإن ضربوا فاضربوا.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الولاة فى شأن الخوارج فقال: إن كان رأى القوم أن يسيحوا فى الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة ولا على قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا, وإن كان رأيهم القتال فوالله لو كان أبكارى خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله.
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا مقالة على بعد أن جرحه ابن ملجم, قال على: أطعموه واسقوه واحبسوه, فإن عشت فأنا ولى دمى أعفو إن شئت وإن شئت استقدت, وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به. فقد اعتبر على جريمة ابن ملجم جريمة عادية ولم يعتبره باغيًا لأن خروجه لم يكن مغالبة (1) .
ويروى الحضرمى يقول: دخلت مسجد الكوفة من قِبَل أبواب كندة, فإذا نفر خمسة يشتمون عليًا وفيهم رجل عليه بُرْنُس يقول: أعاهد الله لأقتلنه, فتعلقت به وتفرقت أصحابه عنه, فأتيت به عليًا فقلت: إنى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك, فقال: ادْنُ, ويحك من أنت؟ فقال أنا سور المنقرى. فقال على: خل عنه. فقلت: أخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك؟! قال: أفأقتله ولم يقتلني؟ (2) .
ويعتبر الخروج بغيًا عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين حينما يبدأ الخارجون باستعمال القوة فعلاً, أما قبل استعمالها فلا يعتبر الخروج بغيًا ولا يعتبرون بغاة ويعاملون كما يعامل العادلون ولو تحيزوا فى مكان وتجمعوا ولو كانوا يقصدون استعمال القوة فى الوقت المناسب, ولكن ليس ثمة ما يمنع من
_________
(1) المهذب ج2 ص237, 238, مواهب الجليل ج6 ص278, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, المغنى ج10 ص58, 60, كشاف القناع ج4 ص99.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص409.
(2/688)


منعهم من التحيز وتعزيرهم على التجمع بقصد استعمال القوة ولإثارة الفتنة. أما أبو حنيفة فيعتبرهم بغاة, ويعتبر حالة البغى قائمة من وقت تجمعهم بقصد القتال والامتناع من الإمام لأنه لو انتظر حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع. ومذهب الشيعة الزيدية يماثل مذهب أبى حنيفة فى هذا. والأصل عند الجميع أن البغاة لا يحل قتالهم إلا إذا قاتلوا, فمن نظر إلى حقيقة القتال اشترط أن يقع القتال فعلاً, ومن نظر إلى وجودهم فى حال قتال اكتفى بتجمعهم بقصد القتال والامتناع (1) , على أن الرأى الراجح فى مذهب أحمد يرى قتل الخوارج لأنهم كفار بتكفيرهم المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم.
ولا يبدأ الإمام قتال الخارجين إلا بعد أن يراسلهم ويسألهم عن سبب خروجهم, فإن ذكروا مظلمة أزالها أو شبهة كشفها, لأن ذلك طريق إلى الصلح ووسيلة إلى الرجوع إلى الحق, وقد فعل على هذا فى وقعة الجمل وفعله مع الحرورية, ولأن الله جل شأنه يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِي} [الحجرات:9] , فيجب أن يتقدم ما قدمه الله وهو الصلح ويتأخر ما أخره وهو القتال, ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة فإن استجابوا وإلا قاتلهم, إلا أن يعاجلوه بالقتال فله أن يقاتلهم دون أن يسألهم. ويرى أحمد أن له أيضًا إذا خشى كَلَبَهُم فليس من المتعين أن يراسلهم (2) .
وقد راسل على أهل البصرة قبل وقعة الجمل, وأمر أصحابه أن لا يبدءوهم بقتال, ثم قال: هذا يوم من فَلَج فيه فَلَج يوم القيامة, ثم سمعهم يقولون: الله أكبر يا ثارات عثمان, فقال: اللهم أكب قتلة عثمان على وجوههم. كذلك بعث عبد الله بن عباس للحرورية فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف.
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص410, الروض النضير ج4 ص331, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, نهاية المحتاج ج7 ص383.
(2) المغنى ج10 ص53, كشاف القناع ج4 ص96, شرح فتح القدير ج4 ص409, أسنى المطالب ج4 ص144, المحلى ج11 ص99.
(2/689)


وإنما وجبت المراسلة والدعوة للطاعة لأن المقصود من القتال هو كفهم ودفع شرهم لا قتلهم؛ فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين, فإن سأله الخوارج لإنظار لمدة معينة أنظرهم إن رأى فى ذلك مصلحة, وإن ظن أنهم يريدون المهلة ليكيدوا له لم ينظرهم ثلاثة أيام (1) , ويشترط الزيدية أن تكون الدعوة للطاعة, وإذا أمكن دفع البغاة بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم وليس إهلاكهم, ولأن المقصود إذا حصل بما دون القتل لم يجز القتل من غير حاجة.
وإذا حضر مع البغاة من لا يقاتل فيرى الحنابلة أنه لا يجوز قتله, وهذا هو رأى بعض الشافعيين, ويرى الآخرون قتله مادام فى صف البغاة ولو لم يقاتل لأنه يعتبر رِدْءًا لهم. والظاهر فى المذاهب الأخرى أن حكم من حضر المعركة وكان فى صفوف البغاة أن له حكمهم إذا أمكن اعتباره فى مركز المقاتل أو المدافع (2) .
وتعتبر حالة البغى قائمة طالما كان الباغى فى مركز المقاتل أو المدافع, فمن ألقى سلاحه من البغاة أو كف عن القتال أو استسلم أو عجز عن القتال كالجريح جرحًا يمنعه من القتال أو هرب غير متحيز إلى فئة أو متحرفًا لقتال فلا يجوز قتله لأنه لا يجوز قتاله حيث زالت حالة البغى وهى استعماله القوة. وعلى هذا لا يقتل المدبر ولا الأسير ولا يجهز على الجريح سواء كانت حالة الحرب قائمة أو انتهت, وهذا هو ما يراه الشافعى وأحمد. وفى مذهب أحمد: لا يتبع المدبر أصلاً ولا يقتل ولو كان متحيزًا إلى فئة (3) .
ومذهب الشافعى على إتباع المنهزمين إذا انهزموا إذا انهزموا مجتمعين أو انسحبوا
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص538, المغنى ج10 ص54, أسنى المطالب ج4 ص114, المحلى لابن حزم ج11 ص116.
(2) المغنى ج10 ص55, المهذب ج2 ص235, المحلى ج11 ص100.
(3) المغنى ج10 ص55, 56, 63, كشاف القناع ج4 ص98.
(2/690)


بنظام وكانوا غير متفرقين, فإذا انهزموا متفرقين بحيث تزول شوكتهم لم يتبعوا, وإلا اتبعوا حتى يتبددوا وتزول شوكتهم, ومن تخلف منهم عجزًا أو ألقى سلاحه تاركًا للقتال لم يقاتل, ويقاتل من ولَّى متحرفًا للقتال أو متحيزًا لفئة قريبة أو بعيدة (1) .
فإذا انهزموا وولوا مدبرين, فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها فيبقى لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ويجهزوا على جريحهم لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكرَّوا على أهل العدل, وأما أسيرهم فإن شاء الإمام قتله استئصالاً لشأفهم وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس, وإن لم يكن لهم فئة يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم ولو يجهز على جريحهم ولو يقتل أسيرهم (2) . وبعض أصحاب الشافعى يرون رأى أبى حنيفة (3) .
والقاعدة عند مالك أن لا يتبع المنهزم ولا يجهز على الجريح إلا إذا خيف منهم أو انحازوا إلى فئة, ففى هذه الحالة يتبع المنهزم ويذفَّف على الجريح, أما الأسير فإذا كانت الحرب قائمة فللإمام قتله ولو كانوا جماعة إذا خيف أن يكون منهم ضرر, فإذا انقطعت الحرب فلا يقتل (4) . على أن بعض المالكيين يمنع قتل الأسير وتتبع المدبر والإجهاز على الجريح بصفة مطلقة (5) .
ويرى الظاهريون أنه لا يجوز قتل الأسير بأى حال ولو أن قتله كان مباحًا قبل الأسار لأن حل قتله قبل لإسار ليس مطلقًا, وإنما الذى أحل قتله هو قتاله أو دفاعه, فإذا لم يكن باغيًا أى مقاتلاً أو مدافعًا حرم قتله لزوال حالة البغي, وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيًا ولا مدافعًا فدمه محرم, وكذلك لو ترك
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص114.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص140, 141, شرح فتح القدير ج4 ص411, 412.
(3) المغنى ج10 ص63.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص62, مواهب الجليل ج6 ص278.
(5) مواهب الجليل ج6 ص277.
(2/691)


القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه وإن لم يؤسر لأن الله جل شأنه قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] , فمن فاء فلا يقاتل, وإنما حل قتال الباغى بمقاتلته ولم يحل قتله قط فى غير المقاتلة (1) , وكذلك الحكم فى الجرحى؛ لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعًا فهو باغ. أما المدبرون فإن كانوا تاركين للقتال جملة منصرفين إلى بيوتهم فلا يحل اتباعهم أصلاً, وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لاذين بمعقل يمتنعون فيه أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنوهم فيه ثم يعودون إلى حالهم فيتبعون (2) ؛ لأن الله افترض قتالهم حتى يفيئوا لأمر الله ولم يفيئوا بعد. ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة (3) .
وإذا قتل من البغاة أسير أو جريح أو مدبر عند من لا يجيزون قتله فقاتله مسئول عن قتله جنائيًا. ويرى بعضهم القصاص من القاتل لأنه قتل معصومًا لا شبهة فى قتله. ويرى البعض أن لا قصاص لأن فى قتلهم اختلافًا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص عند من يقولون بأن الشبهات تدرأ الحدود. والظاهريون لا يعترفون بأن الحدود تدرأ بالشبهات. فمقتضى مذهبهم القصاص فى كل الأحوال (4) .
ويحبس الأسرى - إلا من دخل منهم فى الطاعة فيخلى سبيله - ويظلون محبوسين حتى تنتهى الحرب. وإذا كان الأسير امرأة أو صبيًا أو شيخًا فانيًا أخلى سبيلهم ولم يحبسوا فى رأى. وفى الرأى الآخر يحبسون لأن فى ذلك كسرًا لقلوب البغاة. والرأيان فى مذهب أحمد والشافعي, أما مالك وأبو حنيفة فيريان الحبس (5) .
_________
(1) المحلى ج11 ص100.
(2) المحلى ج11 ص101.
(3) شرح الروض النضير ج4 ص332, شرح الأزهار ج4 ص534.
(4) المغنى ج10 ص64, المهذب ج2 ص336.
(5) المهذب ج2 ص336, المغنى ج10 ص64, شرح فتح القدير ج4 ص412, شرح الزرقانى ج8 ص62.
(2/692)


ويجوز تبادل الأسرى وأخذ الرهائن بين الفريقين عند الضرورة ولكن لا يجوز لأهل العدل قتل الأسرى أو الرهائن على سبيل المعاملة بالمثل لو قتل البغاة الرهائن أو الأسرى لأنهم مسلمون غير مقاتلين ولا مغالبين. مع ملاحظة ما سبق أن قلناه من أن بعض الفقهاء يجيز قتل الأسرى فى حالة قيام الحرب, أما منع قتل الرهائن فلا خلاف فيه لأنهم غير مقاتلين ولأنهم صاروا آمنين بالموادعة (1) .
ويرى مالك وأبو حنيفة أنه يجوز قتال البغاة بما يعم إتلافه كالحريق والتغريق ورمى المنجنيق ويقاتلون بكل ما يقاتل به المشركون, لأن القتال مقصود به دفع شرهم وكسر شوكتهم فيقاتلون بكل ما يؤدى لذلك (2) . ويرى بعض المالكيين أن لا يقاتلوا بما يعم إتلافه إذا كان فيهم نساء وذرية, ولا يراه البعض الآخر (3) .
ومذهب الشافعى وأحمد أن لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غير ضرورة, لأنه لا يجوز قتل من يقاتل وما يعم إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل, فإن دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم إتلافه جاز ذلك, أما إذا قاتل البغاة بما يعم إتلافه فيجوز قتالهم بمثله (4) .
ويجيز الشيعة الزيدية القتل بما يعم إتلافه بشرطين: أولهما: أن يتعذر الوصول إلى البغاة إلا بذلك كأن يتحصنوا فى حصن أو بيوت مانعة أو فى سفينة البحر, ثانيهما: أن يكون بينهم من لا يجوز قتله كالصبيان والنساء, فإن لم يجتمع
_________
(1) المحلى ج11 ص117, 118, شرح فتح القدير ج4 ص415, المغنى ج10 ص64, أسنى المطالب ج4 ص114.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص141, شرح فتح القدير ج4 ص411.
(3) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص61.
(4) أسنى المطالب ج4 ص115, المغنى ج10 ص57.
(2/693)


هذان الشرطان يجوز استعمال ما يعم إتلافه إلا لضرورة ملحة (1) .
ويجيز الظاهريون القتال بما يعم تلفه بشرط أن لا يؤدى إلى قتل غير البغاة؛ لأن من لا يقاتل لا يحل قتله (2) .
ويكره للعادل قتل أبيه أو أمه إذا كان أحدهما باغيًا ولكن القاتل يرث القتيل مع هذا لأنه عمد غير عدوان, ولا يكره قتل الجد ولا الأخ ولا الابن (3) . أما أبو حنيفة فيكره للعادل أن يقتل باغيًا ذا رحم محرم منه ابتداء إلا إذا أراد الباغى قتله فله أن يدفعه, ولا يحرم العادل ميراث الباغي, أما الباغى إذا قتل العادل فيحرم من ميراثه عند أبى يوسف. وعند أبى حنيفة ومحمد لا يحرم إن كان يعتقد أنه قتله بحق ولا يزال على هذا الاعتقاد (4) .
ومذهب الشافعى كمذهب أبى حنيفة فى كراهة القتل, ولكنه لا يورث العادل ولا الباغى شيئًا من مال المقتول لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لقاتل شيء", وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما: يكره قتل ذى الرحم المحرم, والثانى: لا يرثه لأنه ليس لقاتل شيء, وأما الباغى إذا قتل العادل فإنه لا يرثه لأنه قتله بغير حق (5) .
وحجة القائلين بالكراهة قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - كف أبا حذيفة ومنعه عن قتل أبيه.
ورأى الظاهريين أن قتل ذى الرحم غير مكروه وإن كانوا لا يختارون أن يعمد المرء إلى أبيه أو أخيه خاصة ما دام يجد غيرهما, فإن رأى أباه أو أخاه يقصد مسلمًا كان عليه أن يدفعه عن المسلم (6) .
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص541, 542.
(2) المحلى ج11 ص116, 117.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص62.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص141, 142, شرح فتح القدير ج4 ص414, 416.
(5) المغنى ج10 ص67, 68, أسنى المطالب ج4 ص115.
(6) المحلى ج11 ص107.
(2/694)


ولكن الشيعة لا يجيزون للمسلم أن يقتل ذا رَحِمه ولو كان كافرًا إلا لأحد وجهين: أحدهما: أن يقتله مدافعًا عن نفسه أو غيره, الثانى: أن لا يندفع إلا بالقتل, ويرث العادل الباغى إذا قتله (1) .
والبغى إذا كان يحل مقاتلة البغاة ويبيح دماءهم طالما كانوا باغين إلا أنه لا يبيح أموالهم حتى فى حالة البغي, فتظل أموالهم معصومة ولو وقعت فى يد العادلين. ويرى مالك أنه لا يجوز قطع أشجارهم ولا هدم دورهم ولا إتلاف أموالهم وإنما للإمام أن يستعين بأموال البغاة التى يمكن استعمالها فى القتال فيقاتلهم بها كالأسلحة والخيل والإبل حتى إذا تغلب عليهم رد عليهم ما استعان به وغيره (2) .
ويرى أبو حنيفة أن أموال البغاة تظل على ملكهم لأن عليًا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر بعد الهزيمة, ولا يفتح باب, ولا يستحل فرج ولا مال, وبعد موقعة النهروان جمع ما غنم من الخوارج فى الرحبة فمن عرف شيئًا أخذه حتى كان أخره قدر من الحديد لإنسان جاء فأخذه.
ويرى أبو حنيفة ما يراه مالك من جواز استعمال السلاح والكُراع إن احتاجه أهل العدل لأن للإمام أن يستعين بمال العادل عند حاجة المسلمين إليه ففى مال الباغى أولى, أما بقية الأموال فتحبس عن البغاة لدفع شرهم وإضعافهم بذلك ولا ترد إليهم حتى يفيئوا فترد عليهم أو على ورثتهم, ويجوز للإمام أن يبيع من الأموال ما يحتاج نفقة ويحبس الثمن (3) .
ويرى الشافعى أنه لا يجوز استعمال شىء من أموال البغاة وأنها ترد جميعًا بعد انتهاء الحرب لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه, لكن إذا اقتضيت الضرورة استعمال مال من أموال البغاة جاز استعماله كما لو تعين استعمال سلاحهم للدفاع أو استعمال خيلهم للتغلب عليهم, ويرى البعض أن
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص541.
(2) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص61.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص412, 413.
(2/695)


تؤدى أجرة المال المستعمل كما هو الشأن فى حالة الضرورة, ولا يرى البعض ذلك لأن الضرورة هنا منشؤها فعل البغاة ولم تنشأ من جهة المضطر (1) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما كمذهب أبى حنيفة ومالك, والثانى كمذهب الشافعي (2) .
وكمذهب الظاهريين كمذهب الشافعى فهم يرون الحيلولة بين البغاة وبين كل ما يستعينون به على باطلهم من مال أو سلاح فيحبس عنهم حتى يفيئوا, ولا يجوز استعماله إذا اضطر أهل العدل لأن يدافعوا به عن أنفسهم (3) .
ويرى الشيعة الزيدية أنه لا يجوز الاستعانة بأموال البغاة أيًا كان نوعها, فإذا استعملها الإمام كان ضامنًا لها (4) .
على أن من الشيعة من يرى أن ما كان فى معسكر البغاة من الأموال يحل أخذه غنيمة لأهل العدل (5) .
وللإمام أن يستعين على قتال البغاة ببغاة مثلهم حتى إذا انتصر دعا من معه إلى الطاعة, وليس له - عند أحمد والشافعى - أن يستعين على قتالهم بالكفار بل ولا بمن يرى قتلهم مدبرين من المسلمين. ويرى أبو حنيفة أن للإمام الاستعانة على البغاة إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر, وهذا هو رأى الشيعة الزيدية. أما الظاهريون فلا يوجبون الاستعانة بأهل الحرب وأهل الذمة إذا اضطرتهم حماية أنفسهم لذلك بشرط أن يوقنوا أنهم فى استنصارهم لا يؤذون مسلمًا ولا ذميًا فى مال ولا حرمة. أما الاستعانة بأهل البغى فلا يمنعها الظاهريون (6) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص114, 115,
(2) المغنى ج10 ص65, 66.
(3) المحلى ج11 ص102.
(4) شرح الأزهار ج4 ص542.
(5) الروض النضير ج4 ص330.
(6) المحلى ج11 ص113, شرح فتح القدير ج4 ص416, المغنى ج10 ص57, أسنى المطالب ج4 ص115, 116, شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح الأزهار ج4 ص533.
(2/696)


ولم أعثر على رأى مالك فى الاستعانة على البغاة بالذميين, وإن كان رأيه فى الجهاد أن لا يستعان بمشرك إلا فى خدمة الجيش المحارب فأولى ألا يستعان به فى محاربة مسلم.
* * *
الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)
664- يشترط لوجود البغى أن يتوفر لدى الخارج القصد الجنائى, والقصد المطلوب توفره هو القصد الجنائى العام؛ أى قصد الخروج على الإمام مغالبة, فإذا كان الخارج لم يقصد من فعله الخروج على الإمام أو لم يقصد المغالبة فهو ليس باغيًا.
ويشترط أن يكون الخروج على الإمام بقصد خلعه أو عدم طاعته أو الامتناع من تنفيذ ما يجب على الخارج شرعًا, فإن كان الخارج قد خرج امتناعًا عن المعصية فهو ليس باغيًا, وإذا ارتكب الباغى جرائم قبل المغالبة أو بعد انتهائها فليس من الضرورى أن يتوفر فيها قصد البغى لأنه لا يعاقب عليها باعتباره باغيًا وإنما باعتباره عادلاً, فيشترط أن يتوفر فى كل جريمة منها القصد الجنائى الخاص بها ليعاقب عليها بعقوبتها الخاصة.
* * *

مسئولية الباغى الجنائية والمدنية
66
5- تختلف مسئولية الباغى الجنائية والمدنية باختلاف الحالات التى يكون فيها, فمسئوليته قبل المغالبة وبعدها تختلف عنها فى حالة المغالبة.
666- مسئولية الباغى قبل المغالبة وبعدها: يسأل الباغى مدنيًا وجنائيًا عن كل ما يقع منه من الجرائم قبل المغالبة باعتباره مجرمًا عاديًا, وكذلك عن جرائمه التى تقع بعد انتهاء المغالبة, فإذا قتل اقتص منه إذا توفرت شروط
(2/697)


القصاص, وإذا أخذ مالاً خفية عوقب باعتباره سارقًا إذا توفرت شروط السرقة, وإذا غصب مالاً أو أتلفه عوقب بالعقوبة المقررة للغصب والإتلاف, وإذا امتنع عن تنفيذ ما يجب عليه عوقب بالعقوبة المقررة للامتناع, وعليه الضمان العادى فى كل الأحوال إذا أتى ما يوجب الضمان كالسرقة والغصب والإتلاف.
667- مسئولية الباغى أثناء المغالبة: الجرائم التى تقع من البغاة أثناء المغالبة والحرب إما أن تكون مما تقتضيه حالة الحرب وإما أن لا تقتضيها حالة الحرب.
فأما ما اقتضته حالة الحرب كمقاومة رجال الدولة وقتلهم والاستيلاء على البلاد وحكمها والاستيلاء على الأموال العامة وجبايتها وإتلاف الطرق والكبارى وإشعال النار فى الحصون ونسف الأسوار والمستودعات وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الحرب, فهذه الجرائم لا يعاقب عليها بعقوبتها العادية, وتدخل جميعًا فى جريمة البغي, والشريعة تكتفى فى البغى بإباحة دماء البغاة وإباحة أموالهم بالقدر الذى يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم, فإذا ظهرت الدولة عليهم وألقوا سلاحهم عصمت دماؤهم وأموالهم وكان لولى الأمر أن يعفو عنهم أو أن يعزرهم على بغيهم لا على الجرائم والأفعال التى أتوها أثناء خروجهم, فعقوبة البغى بعد التغلب على البغاة هى التعزير, أما عقوبة البغى فى حالة المغالبة والحرب فهى القتال إن جاز أن نسميه عقوبة وما يتبعه من قتل وجرح وقطع, والواقع أن القتال لا يعتبر عقوبة وإنما هو إجراء دفاعى لدفع البغاة وردهم إلى الطاعة ولو كان عقوبة لجاز قتل البغاة بعد التغلب عليهم لأن العقوبة جزاء على ما وقع, ولكن من المتفق عليه أنه إذا انتهت حالة المغالبة امتنع القتال والقتل. والخلاف منحصر فى قتل الأسير والإجهاز على الجريح, حيث يجيزه البعض كما قدمنا عند حالة المغالبة, ولا يجيزه البعض الآخر, فإذا انتهت حالة المغالبة فالباغى معصوم الدم لأن البغى هو الذى أباح دمه, ولا بغى إذا لم تكن مغالبة.
أما الجرائم التى تقع من الباغى أثناء المغالبة ولا تقتضيها طبيعة المغالبة فهذه
(2/698)


تعتبر جرائم عادية ويعاقب عليها بعقوبتها العادية ولو أنها وقعت أثناء الخروج والمغالبة كشرب الباغى الخمر مثلاً.
668- مسئولية الباغى المدنية: ليس على أهل البغى ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفوس وأموال إذا اقتضيت إتلافه ضرورة الحرب, فأما ما لم تكن هناك ضرورة لإتلافه فى حالة الحرب وما أتلف فى غير حالة الحرب فعلى البغاة ضمانة بلا خلاف.
أما الأموال التى لم تتلف أو تلفت تلفًا جزئيًا فعلى البغاة ردها لأربابها وعليهم ضمان التلف الجزئى إذا لم تكن ضرورة الحرب هى التى اقتضت هذا التلف الجزئى. وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد والرأى الصحيح هو مذهب الشافعي, على أن فى مذهب الشافعى رأيًا بتضمين البغاة كل ما أتلفوه من نفس ومال فى حالة الحرب وفى غير حالة الحرب لأنهم أتلفوه بعدوان. على أن القائلين بهذا الرأى لا يرون القصاص فى القتلى لأنهم يسقطونه بالشبهة فيلزمون البغاة بديات من قتلوا (1) , ويحتج القائلون بتضمين البغاة بأن أبا بكر قال لأهل الردة: تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم, ولأنها نفوس وأموال أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح, فوجب الضمان كالذى تلف فى غير حالة الحرب, ويحتج القائلون بعدم الضمان بأن الفتنة الكبرى كانت بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام الحد على رجل استحل فرجًا حرامًا بتأويل القرآن, ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن, ولا يغرم ما أتلفه بتأويل القرآن, ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلا تضمن ما أتلفته على الأخرى كأهل العدل, ولأن تضمينهم يقضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب, فأما قول أبى بكر رضى الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له: أما أن يدوا قتلانا فلا, فإن قتلانا قتلوا فى سبيل الله تعالى على ما أمر الله, فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله ولم ينقل أنه غرم أحدًا شيئًا, على
_________
(1) المهذب ج2 ص236, أسنى المطالب ج1 ص113, المغنى ج10 ص61, شرح فتح القدير ج4 ص414.
(2/699)


أنه لو وجب التغريم فى حق المرتدين لم يلزم مثله فى حق البغاة؛ فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء مسلمون لهم تأويل سائغ فلا يصح إلحاقهم بهم (1) . ويرى الشيعة الزيدية أن البغاة لا ضمان عليهم (2) .
ويرى مالك عدم تضمين الباغى ولو كان مليئًا سواء أتلف نفوسًا أو أموالاً بشرطين: أولهما: أن يكون الباغى متأولاً, فإن لم يكن متأولاً ضمن, الثانى: أن يكون الإتلاف حدث حال البغى واقتضته ضرورة المغالبة (3) .
ويسمى الباغى غير المتأول فى مذهب مالك معاندًا, ولكنهم لا يعتبرونه معاندًا إلا إذا كان خارجًا على عادل, فإن خرج على غيره فليس معاندًا ولو كان غير متأول وكان حكمه حكم المتأول.
أما الظاهريون, فالبغاة عندهم ثلاثة أصناف: صنف تأولوا تأويلاً يخفى وجهه على كثير من أهل العلم كمن تعلق بآية خصصتها آية أو بحديث خصصه آخر أو نسخه نص آخر, فهؤلاء معذورون, حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدًا أو يتلف مالاً مجتهدًا أو يقضى فى فرج خطأ مجتهدًا ولم تقم عليه الحجة فى ذلك, ففى الدم دية على بيت المال لا على الباغى ولا على عائلته ويضمن المال كل من أتلفه, وهكذا أيضًا من تأول تأويلاً خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته, وأما من تأول تأويلاً فاسدًا لا يعذر فيه, لكن خرق الإجماع أى شيء كان ولم يتعلق بقرآن ولا سنة فعليه القود فى النفس وما دونها, والحد فيما أصاب من حدود الله, وضمان ما استهلك من مال, وهكذا من قام فى طلب دنيا مجردًا بلا تأويل ومن قام عصبية (4) .
وإذا غلب البغاة على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه, فإذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغى لم يطالبوا بشيء مما جبى ولم يرجع به على من أُخذ منه, وهذا هو رأى مالك وأبى
_________
(1) المغنى ج10 ص62.
(2) نيل الأوطار ج7 ص79.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص62.
(4) المحلى ج11 ص107.
(2/700)


حنيفة والشافعى وأحمد, وحجتهم أن فى عدم الاعتداد بذلك إضرارًا بالرعية, على أنه إذا كان قد بقى من الأموال التى جبيت شيء فى يد البغاة استولى عليها الإمام لصرفها فى مصارفها (1) . ويقصر مالك عدم الضمان على الباغى المتأول دون غيره.
ويرى الظاهريون أنه لا محل أن يكون حاكمًا إلا من ولاه الإمام الحكم, ولا أن يكون آخذًا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك, ولا أن يكون مُصَدِّقًا أو جابيًا إلا من ولاه الإمام ذلك, فكل من أقام حدًا أو أخذ صدقة أو قضى قطيعة وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام, فلم يحكم كما أمر الله, ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى, ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالي؛ فإن لم يفعل ذلك كما أُمر فلم يفعل شيئًا من ذلك بحق وإذا يفعله بحق فقد فعله بباطل, وإذا فعله بباطل فقد تعدى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] , والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذا هو ظالم, فالظالم لا حكم له إلا رده ونقضه. وواضح من هذا أن من أخذ صدقة فعليه ردها لأنه أخذها بغير حق فهو متعد فعليه ضمان ما أخذ, إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة فى القرآن فإذا أوصلها فقد تأدت الزكاة إلى أهلها. وصح من هذا أن كل حد أتاه فهو مظلمة لا يعتد به وتعاد الحدود ثانية ولابد وتؤخذ الدية من مال من قتلوه فورًا وأن يفسخ كل حكم حكموه ولابد.
وليس أدل على ذلك مما رواه عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر والسير والمنشط والمكره, وعلى أَثَرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله, وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم". وعن عرفجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات, فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جمع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان", فصح أن لهذا
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح فتح القدير ج4 ص413, أسنى المطالب ج4 ص113, المغنى ج10 ص68.
(2/701)


الأمر أهلاً لا يحل لأحدهم أن ينازعهم إياه وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل, وصح أن المنازعين فى الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم, فهم عصاة بكل ذلك, وإذ هم عصاة فكل حكم حكموه وكل زكاة قبضوها وكل حد أقاموه كل ذلك منهم ظلم وعدوان, ومن الباطل أن تنوب معصية الله عن طاعته وأن يجزى الظلم عن العدل وأن يقوم الباطل مقام الحق (1) .
ويرى الشيعة الزيدية أن للإمام أن يضمن البغاة ما اقتضوه من الحقوق التى إلى الإمام من واجبات أو خراج أو مظالم أو نحو ذلك (2) .
وإذا أقام البغاة قاضيًا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل, ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد, فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل, وهذا ما يراه مالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة, على أن مالكًا يشترط أن يكون البغاة متأولين, وما يثبت عند قاضى البغاة يثبت عند قاضى أهل العدل من حقوق ولو لم يكن قد حكم به, وإذا سمع شهودًا فكتب بها كتابًا صح كتابة إذا توفرت فى الشهود العدالة سواء كانوا من البغاة أم لا, ولكن أبا حنيفة لا يقبل شهادة البغاة مطلقًا لفسقهم (3) .
مسئولية من يعين البغاة:
 قد يستعين البغاة بغيرهم من الذميين أو المحاربين, ولكل صنف حكمه.
669- الاستعانة بالذميين: يفرق مالك بين ما إذا كان الباغى متأولاً أو معاندًا والباغى المعاند عنده هو غير المتأول, فإن استعان البغاة المتأولين بذميين فحكم الذميين هو حكم البغاة الذين أعانوهم؛ يسألون جنائيًا عما يسألون
_________
(1) المحلى ج11 ص111, 112.
(2) شرح الأزهار ج4 ص557.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح فتح القدير ج4 ص416, أسنى المطالب ج4 ص112, 113, المغنى ج10 ص70.
(2/702)


عنه ويضمنون مدنيًا ما يضمنونه. وإذا استعان البغاة المعاندون بذميين اعتبر الذميون ناقضين لعهدهم وحلت دمائهم وأموالهم كالحربيين سواء بسواء.
ويعتبر مالك هذه الحالة بأن يكون المعاند خارجًا على الإمام العدل, فإن كان الخروج على غيره فلا يعتبر الخارج معاندًا ولو كان غير متأول والذمى معه لا يعتبر ناقضًا (1) .
ويرى أبو حنيفة أنه لو استعان أهل البغى بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضًا للعهد كما أن هذا الفعل من أهل البغى ليس نقضًا للإيمان, فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام فى المعاملات وأن يكونوا من أهل الدار فحكمهم حكم البغاة مسئوليتهم جميعًا واحدة من الناحيتين الجنائية والمدنية (2) .
وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أولهما: أن إعانة الذميين بالبغاة تنقض عهدهم كما لو انفردوا بقتال المسلمين, والثانى: أن عهدهم لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون الحق من الباطل فيكون ذلك شبهة لهم. ويترتب على القول بنقض العهد أن الذميين يصبحون كأهل الحرب, ويترتب على القول بعدم النقض أن يكون حكمهم حكم أهل البغى فى قتل قتيلهم والكف عن مدبرهم وأسيرهم وجريحهم, إلا أن أصحاب هذا الرأى يرون تضمين الذميين ضمانًا تاماُ فيسألون عن جرائمهم حال القتال وغيره, فإن قتلوا أو جرحوا أو أتلفوا سئلوا جنائيًا عن كل ذلك وعليهم ضمان المال المتلف ورد القائم سواء أتلف فى حال الحرب واقتضت ضرورة الحرب إتلافه أم لا. ويعللون التفرقة بين البغاة والذميين بأن البغاة لهم تأويل سائغ والذميين لا تأويل لهم, ولأن إسقاط المسئولية عن المسلمين قصد منه عدم تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ولا يخشى تنفير الذميين عن الطاعة لأن تأمينهم مشروط بالطاعة. والقائلون بنقض العهد يرون أن إكراه البغاة الذميين على معاونتهم يمنع من نقض العهد, وأن اعتقاد الذميين بأنهم ملزمون
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص62.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص415.
(2/703)


بمعاونة البغاة يمنع أيضًا من نقض العهد (1) .
670- الاستعانة بأهل الحرب: إذا استعان البغاة بأهل الحرب فإما أن يكونوا مستأمنين أو غير مستأمنين:
فإن كانوا مستأمنين فأعانوهم نقضوا عهدهم بالإعانة وصاروا كأهل الحرب غير المستأمنين لأنهم تركوا شرط الأمان وهو الكف عن المسلمين, فإن فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض عهدهم.
وأن كانوا غير مستأمنين فاستعان بهم البغاة وأمَّنوهم أو عقدوا لهم ذمة لم يصح من ذلك شيء؛ لأن شرط الأمان الأساسى هو الكف عن المسلمين والبغاة يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح الأمان, ولأهل العدل يقاتلوهم كمن لم يؤمِّنوه سواء. وحكم أسيرهم حكم أسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم, فأما أهل البغى فلا يجوز لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم (2) .
أما إذا عقد البغاة ذمة لحربيين أو عاهدوهم ولم يشترطوا عليهم أن يعينوهم على أهل العدل فعقود أهل البغى نافذة فى حق أهل العدل؛ لأن البغاة مسلمون وأمان المسلم إذا كان فى حقه فهو نافذ على جميع المسلمين, فإذا استعانوا بهم فأعانوهم انتقض العهد فى حق أهل العهد.
ويرون فى مذهب أبى حنيفة أن العادل يجوز له أن يؤمن الباغي, فإذا أمن رجل من أهل العدل رجلاً من أهل البغى جاز أمانه لأنه ليس أعلى شقاقًا من الكافر وهناك يجوز فكذا هنا, ولأنه قد يحتاج المناظرة ليثوب ولا يأتى ذلك ما لم يأمن كل الآخر, لكن إذا أمن ذمى يقاتل مع أهل العدل باغيًا فلا يجوز أمانه (3) .
_________
(1) المغنى ج10 ص72, المهذب ج2 ص237.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص416, المغنى ج10 ص71, المهذب ج2 ص237, أسنى المطالب ج4 ص115.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص416.
(2/704)


ولكن غيرهم يرى أن أمان أهل البغى بأيديهم متى تركوا القتال حرمت دمائهم وكانوا إخواننا, وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك, فالأمان والإجارة هنا هدر ولغو, وإنما الأمان والإجارة للكافر الذى يحل للإمام قتله إذا أسروه واستبقاؤه لا فى مسلم إن ترك بغيه كان هو ممن يعطى الأمان ويجير, ولو أن أحدًا من أهل البغى أجار كافرًا جازت إجارته كإجارة غيره ولا فرق: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجير على المسلمين أدناهم" (1) .
* * *
_________
(1) المحلى ج11 ص117.

(2/705)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق