السبت، 15 نوفمبر 2014

الفصل الثالث - الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه (أى الجناية على الجنين أو الإجهاض) - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

الفصل الثالث
 الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه (أى الجناية على الجنين أو الإجهاض)
من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
الجزء الثاني  
 الدكتور عبد القادر عودة 


395- يعبر الحنفية عن هذه الجناية بالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه؛ لأن الجنين يعتبر نفسًا من وجه، ولا يعتبر كذلك من وجه آخر، فيعتبر نفسًا من وجه لأنه آدمى، ولا يعتبر كذلك لأنه لم ينفصل عن أمه، ويعللون ذلك بأن الجنين ما دام مختبئًا فى بطن أمه فليس له ذمة صالحة أو كاملة ولا يعتبر أهلاً لوجوب الحق عليه لكونه فى حكم جزء من الأم، لكنه لما كان منفردًا بالحياة فهو نفس وله ذمة وباعتبار هذا الوجه يكون أهلاً بوجوب الحق له من إرث ونسب ووصية ... إلخ (1) .
ولذلك اعتبر نفسًا من وجه إذا نظرنا إلى أنه أهل لوجوب الحق له، ولم يعتبر كذلك من وجه آخر إذا نظرنا إلى أنه ليس أهلاً لوجوب الحق عليه وصار نفسًا من كل وجه؛ فإذا انقلب على مال إنسان فأتلفه ضمنه، وإذا زوجه وليه لزمه مهر امرأته فى ماله.
396- ويعبر المالكية والشافعية والحنابلة عن هذه الجناية بالجناية على الجنسين، ولكن اختلاف الفقهاء فى التعبير عن الجناية ليس له أية أهمية لأن ما يقصده هؤلاء من تعبيرهم هو ما يقصده الآخرون بالذات، ومحل الجناية عندهم جميعًا هو إجهاض الحامل والاعتداء على حياة الجنين، أو هو كل ما يؤدى إلى انفصال الجنين عن أمه (2) .
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص389.
(2) أسنى المطالب ج4 ص89 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , الإقناع ج4 ص209.
(2/292)

397- ما يجهض الحامل: تقع هذه الجناية كلما وجد ما يوجب انفصال الجنين عن أمه، وقد ينفصل الجنين حيًا وقد ينفصل ميتًا، وتعتبر الجناية تامة بحدوث الانفصال بغض النظر عن حياة الجنين أو موته، وإن كان لكل حالة عقوبتها الخاصة؛ إذ العقوبة فى هذه الجناية تختلف باختلاف نتائج الفعل كما سنبين ذلك عند الكلام على العقوبة.
ولا يشترط فى الفعل المكون للجناية أن يكون من نوع خاص، فيصح أن يكون عملاً ويصح أن يكون قولاً، ويصح أن يكون الفعل ماديًا ويصح أن يكون معنويًا.
ومن الأمثلة على الفعل المادى: الضرب، والجرح، والضغط على البطن، وتناول دواء أو مواد تؤدى للإجهاض، وإدخال مواد غريبة فى الرحم، أو حَمل حمْل ثقيل (1) .
398- ومن الأمثلة على الأقوال والأفعال المعنوية: التهديد، والإفزاع، والترويع كتخويف الحامل بالضرب أو القتل، والصياح عليها فجأة، وطلب ذى شوكة لها أو لغيرها أو دخول ذى شوكة عليها (2) . ومن الوقائع المشهورة فى هذا الباب أن عمر رضى الله عنه بعث إلى امرأة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هى فى الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدًا فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فأشار بعهم أن ليس عليك شئ، إنما أنت والِ ومؤدب، وصمت على فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك (3) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص516 , 519.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج5 ص31 , حاشية ابن عابدين ج5 ص516 , 519 , نهاية المحتاج ج7 ص360 , المغنى ج9 ص552 , 557 , الإقناع ج3 ص209.
(3) المغنى ج9 ص579.
(2/293)

ومن الأمثلة على الأفعال المعنوية: تجويع المرأة أو صيامها، فلو صامت فأدى الصوم إلى الإجهاض كانت مسئولة عن الجناية، ومثل ذلك شم ريح ضار بالحامل (1) .
ويرى بعض الفقهاء أن من يشتم امرأة شتمًا مؤلمًا يسأل جنائيًا إذا أدى شتمه إلى إجهاض المرأة (2) .
ويصح أن يقع الفعل المكون للجناية من الأب أو الأم أو من غيرهما، وأيًا كان الجانى فهو مسئول عن جنايته ولا أثر لصفته على العقوبة المقررة للجريمة.
399- انفصال الجنين: ولا تعتبر الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل الجنين عن أمه، فمن ضرب امرأة على بطنها أو أعطاها دواء فأزال ما ببطنها من انتفاخ أو أسكن حركة كانت تشعر بها فى بطنها لا يعتبر أنه جنى على الجنين لأن حكم الولد لا يثبت إلا بخروجه ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح فى البطن سكنت، فهناك شك فى وجود أو موت الجنين، ولا يجب العقاب بالشك، وهذا هو رأى الفقهاء الأربعة وأساسه عدم اليقين من وجود الجنين أو موته (3) .
ولكن الزهرى يرى أن على الجانى العقوبة لأن الظاهر أنه قتل الجنين.
والرأى الذى يجب العمل به اليوم بعد تقدم الوسائل الطبية أنه إذا أمكن طبيًا القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجانى فإن العقوبة تجب على الجانى، وهذا الرأى لا يخالف فى شئ رأى الأئمة الأربعة لأنهم منعوا العقاب للشك، فإذا زال الشك وأمكن القطع وجبت العقوبة، ولا يكفى انفصال الجنين لمسئولية الجانى بل يجب أن يثبت أن الانفصال جاء نتيجة لفعل الجانى، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجانى وانفصال الجنين.
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص360 , شرح الزرقانى ج8 ص31.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31.
(3) المغنى ج9 ص538 , أسنى المطالب ج4 ص89 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517
.
(2/294)

400- والجنين هو كل ما طرحته المرأة مما يعلم أنه ولد: ويرى مالك مسئولية الجانى عن كل ما ألقته المرأة مما يعلم أنه حمل سواء كان تام الخلقة أو كان مضغة أو علقة أو دمًا. ويرى أشهب من فقهاء المالكية أن لا مسئولية عن طرح الدم، وإنما المسئولية عن طرح العلقة والمضغة، بينما يرى ابن القاسم المالكى أيضًا مسئولية الجانى عن الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار يذوب لأن هذا لا شئ فيه (1) .
401- ويرى أبو حنيفة والشافعى مسئولية الجانى عما تطرحه المرأة إذا استبان بعض خلقه، فإذا ألقت مضغة لم يتبين فيها شئ من خلقه فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور فالجانى مسئول أيضًا (2) .
402- ويرى الحنابلة مسئولية الجانى إن أسقطت المرأة ما فيه صورة آدمى، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمى فلا مسئولية حيث لا دليل على أنه جنين، وإذا ألقت مضغة فشهد ثقات أن فيه صورة خفية كان الجانى مسئولاً جنائيًا. وإن شهدوا أنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور ففيه وجهان: أصحهما: لا مسئولية عنه لأنه لم يتصور فهو فى حكم العلقة ولأن الأصل البراءة فلا مسئولية بالشك، والثانى: يسأل لأنه مبتدأ خلق آدمى أشبه ما لو تصور (3) .
والجنين قد ينفصل عن أمه حيًا وقد ينفصل ميتًا، وللتفرقة بين الحالتين أهمية كبرى لأن العقوبة تختلف باختلاف الحالين.
وتثبت الحياة للجنين بكل ما يدل على الحياة من الاستهلال - أى الصياح - والرضاع والتنفس والعطاس وغير ذلك، ومجرد الحركة لا يعتبر دليلاً قاطعًا على الحياة لأن الحركة قد تكون من اختلاج الجسم إثر خروجه من ضيق فوجب أن تكون الحركة بحيث تقطع بحياة الجنين، أو أن يكون هناك دليل آخر على الحياة (4) .
_________
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31 , بداية المجتهد ج2 ص348.
(2) حاشية ابن عابدين ج5 ص519 , نهاية المحتاج ج7 ص362.
(3) المغنى ج9 ص539.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص33 , أسنى المطالب ج4 ص89 , حاشية ابن عابدين ج5 ص537.
(2/295)

403- ويشترط الحنابلة لاعتبار الجنين منفصلاً حيًا أن تكون الحياة مستقرة فيه، فلا يكون فى حالة نزع أو فى الرمق الأخير، وأن يكون سقوطه أو انفصاله لوقت يعيش لمثله أى أن يكون لستة أشهر فصاعدًا، فإن كان لدون ذلك اعتبر أنه انفصل ميتًا ولو انفصل والحياة فيه لأنها حياة لا يتصور بقاؤها، ولأن الجنين لا يعيش غالبًا إذا انفصل لأقل من ستة أشهر وبهذا الرأى قال المزنى من أصحاب الشافعى (1) .
404- ويعتبر المالكية والحنفية والشافعى الجنين منفصلاً حيًا عن أمه ولو انفصل لأقل من ستة أشهر ما دام قد انفصل وفيه الحياة، ولا يعتبرونه منفصلاً ميتًا إلا إذا انفصل فاقد الحياة. وإذا علمت حياته قبل تمام الانفصال كما لو خرج رأسه فصرخ مرارًا ثم تم انفصاله ميتًا فيعتبر أنه انفصل ميتًا لا حيًا لأن العبرة بحالة الجنين عند تمام الانفصال (2) .
405- ويشترط مالك وأبو حنيفة لمسئولية الجانى عن قتل الجنين أن يكون انفصال الجنين قد حدث فى حياة الأم، فإن انفصل عنها بعد وفاتها فلا يسأل الجانى عن قتله إذا انفصل ميتًا لأن موت الأم سبب ظاهر لموته إذ حياته بحياتها وتنفسه بتنفسها فتحقق موته بموتها فضلاً عن أنه يجرى مجرى أعضائها وموتها يسقط حكم أعضائها، وعلى هذا فمن المشكوك فيه أن تكون وفاة الجنين نتيجة لفعل الجانى، ولا ضمان ولا عقاب بالشك.
أما إذا انفصل الجنين حيًا بعد موت الأم فالجانى مسئول عن قتله وعليه ديته إذا مات بفعله، فإن لم يمت فعليه التعزير، وإذا انفصل بعضه ميتًا فى حياتها ثم انفصل كله بعد موتها فحكمه حكم انفصاله كله ميتًا بعد موتها (3) .
406- ويرى الشافعى وأحمد مسئولية الجانى سواء انفصل الجنين بعد
_________
(1) المغنى ج9 ص550 , 552.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص361.
(3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 , حاشية ابن عابدين ج5 ص518.
(2/296)

وفاة الأم أو فى حياتها، وسواء انفصل حيًا أو ميتًا؛ لأن الجنين تلف بجناية الجانى وعلم ذلك بخروجه فوجبت المسئولية كما لو سقط فى حياتها، ولأنه لو سقط حيًا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتًا، وليس صحيحًا أن حكمه حكم أعضاء الأم لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتًا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها، وفضلاً عن ذلك فهو آدمى موروث فلا يدخل فى ضمان أمه، وكذلك الحكم لو انفصل بعضه من بطن أمه وخرج باقية أو لم يخرج حيث تيقن وجود الجنين أولاً وتيقن قتله ثانيًا (1) .
407- ونستطيع أن نقول بعد تقدم الوسائل الطبية أن الرأى الذى يجب العمل به هو مسئولية الجانى إذا تبين بصفة قاطعن أن الانفصال ناشئ عن فعل الجانى سواء انفصل الجنين فى حياة أمه أو بعد وفاتها، وسواء انفصل كله أو بعضه. وهذا الرأى يتفق مع كل المذاهب لأن الذين يمنعون المسئولية يمنعونها للشك وعدم التيقن فإذا زال الشك بالوسائل الطبية الحديثة وجبت المسئولية.
408- قصد الجانى: مذهب مالك على أن الجناية على الجنين قد تكون عمدية وقد تكون خطأ، فهى عمدية إذا تعمد الجانى الفعل، وهى غير عمدية إذا أخطأ الجانى بالفعل. ويتفق مذهب مالك مع الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى (2) .
409- والقائلون بأن الجناية عمدية يختلفون فى وجوب القصاص من الفاعل إذا انفصل الجنين حيًا ثم مات بسبب الجناية، فبعض المالكية يوجب القصاص والبعض يوجب الدية، وأصحاب الرأى الراجح فى المذهب يوجبون القصاص إذا كان الفعل فى الغالب مؤديًا لنتيجة كالضرب على الظهر والبطن، ويوجبون الدية إذا لم يكن الفعل مؤديًا لنتيجة غالبًا كالضرب على اليد والرجل (3) .
_________
(1) المغنى ج9 ص538 , أسنى المطالب ج4 ص90.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 , بداية المجتهد ج2 ص438 , نهاية المحتاج ج7 ص363.
(3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33.
(2/297)

410- وأصحاب الرأى الراجح فى مذهب الشافعى يرون مع الحنفية والحنابلة أن الجناية على الجنين لا تكون عمدًا محضًا وإنما هى شبه عمد أو خطأ، فهى شبه عمد إذا تعمد الجانى الفعل وهى خطأ إذا أخطأ به.
ولا تعتبر الجناية عمدية حال تعمد العمل لأن العمد المحض بعيد التصور لتوقفه على العلم بوجود الجنين وبحياته، كما يتوقف على قد قتله وهو بعيد التصور (1) .
ويحتج هذا الفريق لرأيه بما روى عن جابر بن عبد الله أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جعل فى الجنين غُرَّة على عاقلة الضارب، والعاقلة لا تحمل العمد، فلو اعتبر الرسول العمد فى هذه الجناية لَماَ جعل الغرة على العاقلة.
411- وتظهر أهمية التفرقة بين العمد وغير العمد فى حالة انفصال الجنين حيًا، حيث يرى بعض القائلين بعمدية الجناية القصاص من الجانى بينما العقاب على غير العمد هو الدية، أما فى حالة انفصال الجنين ميتًا فلا فرق بين العمد وغير العمد فى نوع العقوبة؛ لأن العقوبة متفق عليها فى كل الأحوال وهى الغرة، وإنما يظهر الفرق فى صفة العقوبة حيث تغلظ الغرة فى حالة العمد وشبه العمد ولا تغلظ فى حالة الخطأ (2) ، كذلك يظهر الفرق فى تحمل العقوبة حيث تكون فى مال الجانى وحده فى حالة العمد، وتكون فى ماله أو مال العاقلة وحدها فى حالتى شبه العمد والخطأ، على حسب التفصيل الذى ذكرناه عند الكلام على تحمل الديات (3) .
412- العقوبة المقررة للجناية على الجنين: تختلف العقوبة المقررة للجناية على الجنين باختلاف نتائج فعل الجانى، وهذه النتائج لا تخرج عن خمس:
الأولى: أن ينفصل الجنين عن أمه ميتًا، الثانية: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت بسبب الفعل، الثالثة: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت أو يعيش بسبب آخر غير الفعل، الرابعة: أن لا ينفصل الجنين عن أمه
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص619 , البحر الرائق ج8 ص389 , 390 , المغنى ج9 ص544 , نهاية المحتاج ج7 ص363.
(2) أسنى المطالب ج4 ص94.
(3) راجع الفقرة 389.
(2/298)

أو ينفصل بعد وفاتها، الخامسة: أن يترتب عل الفعل إيذاء الأم أو إصابتها بإصابات تشفى منها أو تؤدى لموتها. وسنتكلم عن هذه النتائج واحدة بعد أخرى والعقوبات المقررة لها.
413- أولاً: انفصال الجنين عن أمه ميتًا: إذا انفصل الجنين عن أمه ميتًا فعقوبة الجانى هى دية الجنين، ودية الجنين غرة عبدًا أو أمَة قيمتها خمس من الإبل.
والأصل فى الغرة ما روى عن عمرو رضى الله عنه أنه استشار الناس فى إمْلاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبى - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغُرَّة عبد أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى الرسول أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولها ومن معهم " (1) .
والغرة فى اللغة الخيار، وسمى العبد والأمة غرة لأنهما من أنفس الأموال. ويشترط الفقهاء فى العبد أو الأمة شروطًا خاصًا لم نر داعيًا لذكرها بعد أن أبطل الرق فى العالم، وبعد أن أجمع الفقهاء على تقدير الغرة بخمس من الإبل.
414- وتجب الغرة فى الجنين الذكر وفى الجنين الأنثى: ولا فرق فى قيمة ما يجب لكل منهما، ويقدر الفقهاء دية الجنين الذكر بنصف عشر الدية الكاملة، ودية الجنين الأنثى بعشر دية الأم، ولما كانت دية المرأة نصف دية الرجل فالنتيجة أن دية الجنين الأنثى تساوى نصف عشر الدية الكاملة (2) .
وتجب الغرة فى حالتى العمد والخطأ معًا، ولا فرق بين الحالتين إلا أن دية الجنين تغلظ فى حالة العمد وتخفف فى حالة الخطأ (3) ، وإلا أنها حالَّة فى مال الجانى
_________
(1) المغنى ج9 ص535.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص32 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , أسنى المطالب ج4 ص94 , المغنى ج9 ص541.
(3) أسنى المطالب ج4 ص94.
(2/299)

المتعمد لا تحمل العاقلة منها شيئًا، أما فى حالة الخطأ ويلحق بها شبه العمد فتحمل العاقلة الدية وحدها أو مع الجانى على حسب الآراء المختلفة التى فصلناها عند الكلام على الدية فى القتل.
والغرة تورث على الجنين على فرائض الله، وفى مذهب مالك رأى مرجوح بأنها للأم دون غيرها وهو مذهب الليث، ومن المتفق عليه أن القاتل لا يرث شيئًا من الغرة إذ لا ميراث للقاتل (1) .
وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة، فلو ألقت الحامل جنينين حيين فعلى الجانى غرتان، وإذا ألقت ثلاثة فعلية ثلاثة، وهكذا (2) .
وإذا ماتت الأم بعد وجوب الغرة فلا تدخل الغرة فى دية الأم بل تجب الغرة للجنين والدية للأم (3) .
415- ثانيًا: انفصال الجنين عن أمه حيًا وموته بسبب الفعل: إذا انفصل الجنين عن أمه حيًا ومات بسبب فعل الجانى فالعقوبة القصاص عند من يراه من القائلين بوجود العمد، أو هى الدية الكاملة عند غيرهم من القائلين بأن الفعل عمد أو القائلين بأنه شبه عمد، وكذلك العقوبة الدية باتفاق فى حال الخطأ، والفرق بين دية العمد وشبه العمد والخطأ ليس فى عدد الإبل وإنما فى صفاتها، أو هو الفرق بين التغليظ والتخفيف، كما أن دية العمد تكون فى مال الجانى وتكون حالَّة دائمًا، بينما دية شبه العمد والخطأ ليست حالة وتحمله العاقلة وحدها أو مع الجاني؛ على حسب مختلف الآراء.
والدية الكاملة للجنين يختلف مقدارها باختلاف نوع الجنين، فدية الذكر دية رجل ودية الأنثى دية امرأة؛ أى نصف دية الرجل.
_________
(1) المغنى ج9 ص542 , أسنى المطالب ج4 ص93 , حاشية ابن عابدين ج5 ص518 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , بداية المجتهد ج2 ص348.
(2) أسنى المطالب ج4 ص90 , المغنى ج9 ص543 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , شرح الزرقانى ج8 ص33.
(3) نفس المراجع السابقة.
(2/300)

وتتعدد الديات بتعدد الأجنة، فلو ألقت المرأة جنينين ذكرين أو ثلاثة كان على الجانى ثلاث ديات كاملة.
وإذا ماتت الأم بسبب الجناية فلا تدخل دية الجنين فى ديتها، ولا تدخل ديتها فى ديات الأجنة ولو تعددت.
416- ثالثًا: انفصال الجنين حيًا ولم يمت: إذا انفصل الجنين حيًا وعاش أو مات بسبب آخر غير الجناية كأن قتله آخر أو امتنعت الأم عن إرضاعه حتى مات فعقوبة الجناية على الجنين هى التعزير لا غير؛ لأن موت الجنين حدث بسبب غير فعله، أما العقوبة على قتل الجنين بعد انفصاله فهى عقوبة القتل العادى لأن الجريمة ليست إلا إزهاق روح إنسان حى.
والعقوبة التعزيرية التى توقع على الجانى يقدرها القاضى ويعينها من بين مجموعة العقوبات التعزيرية ما لم يكن ولى الأمر قد عين هذه العقوبة وقدرها.
417- رابعًا: انفصال الجنين بعد وفاة الأم أو عدم انفصاله: إذا لم يترتب على الجناية انفصال الجنين أو ماتت الأم قبل انفصاله أو انفصل عنها بعد وفاتها فالعقوبة على الجناية فى هذه الحالات جميعًا هى التعزير ما دام لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله وأن موت الأم لا دخل له فى ذلك (1) .
418- خامسًا: أن يترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو موتها: إذا ترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو قطع طرف من أطرافها أو موتها فعلى الجانى عقوبة هذه الأفعال بغض النظر عن العقوبات المقررة للجناية على الجنين؛ لأن العقوبات الأخيرة خاصة بالجنين وليست خاصة بما يصيب أمه، فإذا أعطى رجل امرأة دواء بقصد إجهاضها فماتت بعد أن انفصل ولدها ميتًا فعليه دية المرأة باعتبار أنه قتلها قتلاً شبه عمد وعليه غرة دية الجنين، وإذا ماتت بسبب الفعل بعد انفصال ولدها حيًا فعلى الجانى ديتان: دية المرأة ودية الجنين.
_________
(1) راجع ما كتبناه عن انفصال الجنين.
(2/301)

وإذا ضرب شخص امرأة بالسيف فى بطنها قاصدًا قتلها فاسقط منها جنينين أحدهما أصابه السيف فنزل ميتًا والثانى نزل حيًا ثم مات وماتت المرأة؛ فعلى الجانى القصاص فى قتل المرأة وعليه دية كاملة للجنين الذى نزل حيًا، وغرة للجنين الذى نزل ميتًا،
وإذا ضربها فقطع ذراعها فألقت ولدها ميتًا فعليه القصاص فيما فعل بالمرأة وعليه غرة دية الجنين.
وإذا ضربها ضربًا لم يترك أثرًا فأجهضت جنينًا انفصل عنها ميتًا فعليه التعزير فى ضرب المرأة وعليه غرة دية الجنين.
419- الكفارة: وهناك عقوبة أخرى للجناية على الجنين هى عقوبة الكفارة (1) ، ويعاقب الجانى بها كلما ألقت الأم جنينها سواء ألقته حيًا أو ميتًا، وسواء كان الجانى هو الأم أو أجنبى عنها، وإن ألقت الأم أجنة ففى كل جنين كفارة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (2) .
وإذا اشترك جماعة فى الجناية فألقت المرأة جنينًا فديته عليهم بالحصص وعلى كل منهم كفارة.
ويجعل مالك الكفارة مندوبًا إليها فى الجناية على الجنين وليست واجبة (3) .
أما أبو حنيفة فيفرق بين انفصال الجنين ميتًا وانفصاله حيًا ويوجب الكفارة فى الحال الثانية دون الأولى (4) .
* * *
_________
(1) راجع ما كتب عن الكفارة فهو متمم لما يقال هنا.
(2) أسنى المطالب ج4 ص95 , المغنى ج9 ص556 وما بعدها.
(3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص39.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص518 , 519.
(2/302)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق