الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

القانون المدني اليمني - حق الانتفاع - تعريف حق الانتفاع وطرق إكتسابه

القسم الثاني

الحقوق العينية الأصلية المتفرعة عن الملكية

الباب الأول
حق الإنتفــــــاع

الفصل الأول

تعريف حق الإنتفاع وطرق إكتسابه

مادة (1320): الإنتفاع حق مؤقت لشخص على عين مملوكة للغير يخوله استعمالها واستغلالها والتصرف في منفعتها مدة الإنتفاع طبقاً لما يقضي به سبب إنشائه.
مادة (1321) : يتحدد الإنتفاع بمدة معينة أو بحياة المنتفع ، ويجوز تقريره لأشخاص متعاقبين إذا كانوا موجودين على قيد الحياة كما يجوز للحمل ، ويكتسب حق الإنتفاع بالتصرف الشرعي عقداً كان أو وصية .



القانون المدني اليمني - حق الانتفاع - أثار حق الانتفاع

الفصل الثاني

آثار حق الإنتفــــاع

مادة (1322) :يراعى في حقوق المنتفع والتزاماته السبب الذي أنشأ حق الإنتفاع والأحكام المنصوص عليها في المواد التالية .
مادة (1323) : للمنتفع أن يستعمل الشيء المنتفع به الإستعمال المعتاد ، ويحصل على ثماره لنفسه ويتصرف في ذلك للغير مدة الإنتفاع إذا كان سبب الإنتفاع مطلقاً من كل قيد وذلك مع مراعاة ما ورد في المادة السابقة.. وإذا كان حق الإنتفاع مقيداً في سبب إنشائه التزم المنتفع بما تقيد به فيكون له عين ما تقرر له أو مثله أو ما هو دونه ، ليس له أن يتجاوزه.. ولمالك الرقبة أن يعترض على أي إستعمال غير مشروع أو لا يتفق مع طبيعة الشيء المنتفع به أو مجاوزاً للقيود الواردة في سبب إنشاء حق الإنتفاع بأن يطلب من المحكمة إنهاء حق الإنتفاع ورد الشيء إليه دون إخلال بحقوق الغير.
مادة (1324) : المنتفع ملزم أثناء مدة الإنتفاع بكل ما تحتاجه العين المنتفع بها وبنفقات حفظها وصيانتها ويلزمه في ذلك عناية الشخص المعتاد .. أما التكاليف غير المعتادة والإصلاحات الجسيمة التي لم تنشأ عن تعديه أو تقصيره فإنها تكون على المالك، فإذا قام بها المنتفع فلا رجوع له بها وذلك كله مالم ينص الإتفاق بخلافه.
مادة (1325) : لا يضمن المنتفع تلف الشيء المنتفع به أو هلاكـه دون تعد أو تقصير منه ، فإن تعدى أو قصر ضمن.. ويعتبر تعدياً حبس الشيء المنتفع به وعدم رده لمالكه بعد إنتهاء مدة الإنتفاع مع إمكان الرد ولو لم يستعمله المنتفع أو ورثته ولم يطلبه المالك.
مادة (1326) : على المنتفع أن يخطر المالك في الوقت المناسب وإلا تحمل ما يترتب على تأخيره من ضرر يلحق المالك في الأحوال الآتية:-
1-إذا أدعى الغير حقاً على الشيء المنتفع به أو غصبه غاصب.
2-إذا هلك الشيء أو تلف أو احتاج إلى إصلاحات جسيمة مما يقع على المالك .
3-إذا احتاج الشيء إلى إجراء يقيه من خطر لم يكن منظوراً.




القانون المدني اليمني - حق الانتفاع - إنتهاء حق الانتفاع

الفصل الثالث

إنتهاء حق الإنتفـــاع

مادة (1327) : ينتهي حق الإنتفاع في الأحوال الآتية :-
- 1إنقضاء المدة المحددة في سبب إنشائه.
- 2تلف العين المنتفع بها .
- 3تنازل المنتفع عن حقه ، ولا يعتبر فسخاً في عقد الإيجار.
- 4قضاء المحكمة بإنهائه لسوء الإستعمال.
-5 إتحاد صفتي المالك والمنتفع.
6- موت المنتفع ما لم ينص القانون أو سبب إنشاء حق الإنتفاع على خلاف ذلك.
مادة (1328) : إذا انتهى الإنتفاع بإنتهاء مدته أو بموت المنتفع ، وكان في الأرض المنتفع بها زرع لم يبلغ الحصاد تركت الأرض للمنتفع أو ورثته بأجر المثل لحين بلوغ الزرع الحصاد وحصده مالم ينص سبب إنشاء الإنتفاع على غير ذلك.

مادة (1329): إذا تلفت العين المنتفع بها وكانت مضمونة على متلفها ودفع عن ذلك تعويضاً أو تأميناً انتقل حق الإنتفاع إلى العوض.. ويجبر المالك على إعادة العين المنتفع بها إلى أًصلها إذا كان التلف بفعله تعدياً أو تقصيراً ، ولا يجبر على ذلك إذا كان التلف لا يرجع إليه .. وفي جميع الأحوال إذا أعيدت العين المنتفع بها إلى أصلها وبصفتها يكون للمنتفع حق الإنتفاع بها المدة المقررة للإنتفاع مالم يتفق على غير ذلك.

القانون المدني اليمني - حق الاستعمال وحق السكنى

الباب الثاني
حق الإستعمال وحق السكنى

مادة (1330): يصح أن يقع الإنتفاع على حق الإستعمال أو حق السكنى أو عليهما معاً ، ويتحدد نطاق الإستعمال أو السكنى بحاجة صاحب الحق واسرته لأنفسهم فحسب مع مراعاة ما نص عليه في السبب المنشىء للحق.
مادة (1331): مع مراعاة ما جاء في المادة (1324) يلتزم صاحب حق السكنى بإجراء الإصلاحات المعتادة للدار إذا احتاجت لها ، ويطبق في شأن ما عمله فيها من منشآت حكم المادة (1314) وإذا امتنع بطل حقه وذلك مالم ينص السند المنشىء للحق على غير ذلك.

مادة (1332): تسري أحكام حق الإنتـفاع على حق الإستعمال وحق السكنى فيما لا يتعارض مع الأحكام المبينة في المادتين السابقتين ولا يتعارض مع طبيعة هذين الحقـين.

القانون المدني اليمني - حق القرار


الباب الثالث

حــــق القـــــــــرار

مادة (1333): حق القرار عيني يعطي صاحبه الحق في إقامة بناء أو غرس على أرض الغير.
مادة (1334) : يكتسب حق القرار بالإتفاق وينقل بالميراث أو الوصية ، ويبين السند المنشىء للحق حقوق صاحبه والتزاماته.
مادة (1335) : يجوز تقرير حقوق الإرتفاق على حق القرار إذا لم تتعارض مع طبيعته .
مادة (1336) : يملك صاحب حق القرار ما يحدثه في الأرض من مبان أو غراس.
مادة (1337) : ينتهي حق القرار في الأحوال الآتية :
1  انتهاء المدة المتفق عليها.
- 2 إذا صار ملك العين لصاحب القرار أو العكس.
 -3 تخلف صاحب الحق عن أداء الأجرة المتفق عليها مدة سنتين متتاليتين في الغراس مالم يتفق على غير ذلك.
مادة (1338) : لا ينتهي حق القرار إذا زال البناء أو الغراس قبل المدة المتفق عليها بل يبقى لحين إنتهاء مدته.

مادة (1339) : عند إنتهاء حق القرار تطبق على المباني والمنشآت والغراس الأحكام الخاصة بذلك في باب الإجارة في الفصل الخاص بالمزارعة

القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - معنى الارتفاق وكيفية إنشائه

الباب الرابع
حــــــق الإرتفـــــــــاق
الفصل الأول
معنى الارتفاق وكيفية إنشائه
مادة (1340) : الإرتفاق منفعة مقررة على عقار تحد من إنتفاع مالكه به لمصلحة عامة أو خاصة.
مادة (1341) : يكتسب الإرتفاق بإذن المالك أو بالتصرف الشرعي أو بالميراث أو بالعرف ويجوز أن يترتب على مال عام إن كان لا يتعارض مع الإستعمال المخصص لهذا المال.
مادة (1342) : يجوز أن يثبت الإرتفاق بتخصيص المالك متى ثبت أن مالك عقارين قد أنشأ بينهما علامة ظاهرة تدل على إرتفاق أحدهما بالآخر بالمرور أو بالمجرى أو المسيل ونحوهما فإذا انتقل العقاران أو أحدهما إلى أيدي ملاك آخرين دون تغيير في حالتهما بقي الإرتفاق مالم يتفق صراحة على غير ذلك.
مادة (1343) : إذا أذن مالك عقار بإستخدامه أو تسامح في ذلك بدون مقابل كان له أن يرجع في ذلك متى شاء.

القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - أحكام الارتفاق

الفصل الثاني
أحكــــام الإرتفــــاق
مادة (1344) : يتحدد نطاق الإرتفاق بالسبب الذي أنشأه أو بالعرف السائد في الجهة التي يقع فيها العقار المرتفق به وتطبق في شأنه الأحكام المبينة فيما يلي..
مادة (1345) : تراعى في الإرتفاق الأحكام الخاصة بالقيود التي ترد على الملكية وحقوق الجوار والشركة .
مادة (1346) : للمرتفق أن يجرى من الأعمال ماهو ضروري لإستعمال حقه ، وما يلزم للمحافظة عليه وأن يستعمله بالقدر اللازم لإستيفاء المنفعة المقصودة مراعياً أن لا ينشأ عن ذلك ضرر للعقار المرتفق به . وإذا حدث للمرتفق حاجة فلا يجوز أن يترتب عليها زيادة العبء على العقار المرتفق به.
مادة (1347) : نفقة الأعمال اللازمة لإستعمال حق الإرتفاق والمحافظة عليه ، على المرتفق إلا أن تكون لازمة في نفس الوقت لصيانة العقار المرتفق به ، فتقسم على المالك والمرتفق بنسبة ما يعود على كل منهما من فائدة.
مادة (1348) : لا يلزم مالك العقار المرتفق به القيام بأي عمل إلا ما يقتضيه استعمال الإرتفاق على الوجه المألوف ، ولا يجوز له أن يعمل شيئاً يؤدي إلى الإنتقاص من الإرتفاق أو جعله أكثر مشقة وليس له أن يغير الموضع المعين للإرتفاق إلى موضع آخر إلا بالإتفاق مع المرتفق أو بإذن القاضي للمصلحة ويشترط أن يكون استعمال الإرتفاق في وضعه الجديد ميسوراً بالقدر الذي كان ميسوراً به في السابق.
مادة (1349) : إذا جزىء العقار المرتفق به ، بقي الإرتفاق واقعاً على كل جزء منه إلا أن يتعين الحق في جزء أو أجزاء مخصوصة منه يكون استعماله واقعاً عليها دون غيرها ، فإن الحق ينتهي بالنسبة للأجزاء الأخرى التي لا يقع عليها استعماله ، وإذا جزىء العقار المرتفق بقي الإرتفاق مستحقاً لكل جزء منه في عين ما كان ، ويكون استعمال الحق واقعاً عليه دون زيادة في الأعباء على العقار المرتفق به ، وإذا أصبحت بعض الأجزاء غير محتاجة إلى الإرتفاق زال الحق بالنسبة لها.

القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - أحكام خاصة بحق الطريق وحق المرور

الفصل الثالث
أحكام خاصة بحق الطريق وحق المرور
مادة (1350): لكل مالك على طريق عام أن يفتح أبواباً ونوافذ ويقيم حواجز وميازيب طبقاً لما تقضي به القوانين واللوائح ، ولا يجوز تضييق قرار السكك العامة النافذة ولا هوائها بشيء إلا أن يكون ذلك لا يضر ولمصلحة عامة أو خاصة ، وبتصريح من السلطات الرسمية المختصة.
مادة (1351) : ترفع من الطريق العام الأشياء الضارة بالمرور فيه ولو كانت قديمة ، ويتبع في شأنها ما تقضي به القوانين والأنظمة الخاصة بالطرق العامة.
مادة (1352) : الطريق الخاص كالملك المشترك لمن لهم حق المرور فيه ولا يجوز لأحد من أصحاب الحق أن يحدث شيئاً فيه بغير إذن الباقين إلا المعتاد.
مادة (1353) : لا يجوز لغير الشركاء في الطريق الخاص فتح أبواب إليه أو المرور فيه ، ولكن يجوز للمارين في الطريق العام الدخول في الطريق الخاص عند الضرورة.
مادة (1354) : إذا قام أحد الشركاء في الطريق الخاص بسد بابه المفتوح إليه فلا يسقط حقه في المرور فيه ويجوز له ولخلفه من بعده أن يعيد فتح الباب متى شاء.
مادة (1355) : السكك الخاصة النافذة يجوز تضييق قرارها وهوائها للمصلحة المعتادة الخاصة بأهلها أو بأحدهم بما لا يضر كالميزاب والساباط والروشن والمسيل والبالوعة.
مادة (1356) : لا يجوز فعل شيء في السكة المنسدة إلا بإتفاق أهلها جميعاً.
مادة (1357) : تكاليف إصلاح الطريق الخاص على كل من الشركاء فيه بنسبة ما يعود عليه من فائدة .
مادة (1358) : إذا ثبت لأحد حق المرور في أرض مملوكة لآخر فليس لصاحبها منعه مالم يكن مروره على سبيل التسامح.

القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - أحكام خاصة بحق الشرب

الفصل الرابع
أحكام خاصة بحق الشرب
مادة (1359): المـاء مباح أصلاً للجميع ولا يملك ملكية خاصة إلا بالنقل أو بالإحراز أو ما في حكمهما وهو مثلي يضمن بمثله ، ويعتبر حفر البئر لتلقي الماء إحرازاً له إذا أتى من مباح ومر في المجرى.
مادة (1360) :الماء المباح حق لمن سبق إليه بقدر كفايته ولو كان مأخوذاً من ملك ،ولا يجوز لأحد أن يدخل ملك جاره لأخذ الماء منه إلا بإذن المالك أو رضاه أو لعرف ، ولا يجوز الإضرار بالمالك في أخذ الماء من ملكه إلا لشرب الإنسان أو طهوره.
مادة (1361) : من أنشأ جدولاً أو مجرى لري أرضه فليس لأحد غيره حق الإنتفاع به إلا بإذنه، ولا يجوز لأحد الشركاء في الجدول المشترك أن يشق منه جدولاً آخر إلا بإذن باقي الشركاء.
مادة (1362) : إذا لم يتفق أصحاب حق الشرب على القيام بالإصلاحات الضرورية للجدول المشترك جاز بناءاً على طلب أي منهم الزامهم بالإصلاحات الضرورية كل بنسبة حصته فيه .
مادة (1363) : حق الشرب يورث ويوصى بالإنتفاع به، ولا يباع إلا تبعاً للأرض ولا يوهب ولا يؤجر إلا لعرف.
مادة (1364) : لا يمنع ذو الصبابة من حقه وهو ما فضل من المـاء عن كفاية المتقدم في الأحياء والعبرة بالكفاية وقت الأحياء ، وإذا لم يعرف فالعبرة بوقت السقي.
مادة (1365): مع تجنب الضرر المجحف والتحيل لا يمنع شخص من جر ماء موجود في ملك غيره إذا كان جره من ملك نفسه إلا أن يكون وجود الماء في ملك الغير ناتجاً عن قسمة بينهما ، ويمنع من جر نصيبه من الماء لسقي أرض غير ذات حق إذا كان ذلك يضر بمن له حق على الماء كأن تجف ساقيته.

القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - أحكام خاصة بحق المجرى

الفصل الخامس
أحكام خاصة بحق المجرى
مادة (1366):حق المجرى هو حق مالك أرض في جريان ماء الري في أرض غيره للوصول إلى أرضه فإذا ثبت هذا الحق لأحد فليس لملاك الأرض التي تجري فيها المياه منعه.
مادة (1367) : على صاحب المجرى تعميره وإصلاحه لرفع الضرر عن الأرض التي يمر فيها فإذا امتنع كان لمالك الأرض أن يقوم بالإصلاح على نفقته بالقدر المعروف والرجوع بما أنفق.
مادة (1368) : لمالك الأرض الذي يستعمل لري أرضه المياه الطبيعية المستخرجة وغيرها أن يحصل على مجرى لها في الأراضي المتوسطة بينها وبين أرضه في مقابل تعويض عادل يدفع معجلاً مالم يقض العرف بعدم التعويض وبشرط أن لا يخل ذلك بإنتفاع صاحب الأرض بها إخلالاً بيناً ، وإذا وقع ضرر فعـلاً فلمالك الأرض أن يطلب تعويضاً عما أصابه من ضرر.
مادة (1369): على صاحب الأرض المتوسطة بين منبع مورد الماء والأرض التي ستروى منه أن يسمح بمرور الأنابيب الحديدية أوغيرها اللازمة لوصول الماء مع مراعاة ما نصت عليه المادة (1368) ولصاحب الأرض الإنتفاع بهذه المنشآت بإذن مالكها على أن يشارك في مصاريف أقامتها وأن يدفع مقابل الإنتفاع بها بنسبة ما يعود عليه من نفع .
مادة (1370): إذا أصاب العقار ضرر من الأنابيب الحديدية الموصلة للماء أو غيرها كان لمالك العقار مطالبة المنتفع به بتعويض الضرر الذي أصابه وتعتبر الحكومة في حكم المنتفع عند تنفيذها لمشاريع مياه الشرب.



القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - أحكام خاصة بحق المسيل

الفصل السادس
أحكام خاصة بحق المسيل
مادة (1371) : المسيل هو طريق إسالة المياه الطبيعية أو تصريف المياه غير الصالحة أو الزائدة عن الحاجة في ملك الغير.
مادة (1372) : تتلقى الأراضي المنخفضة المياه السائلة سيلاً طبيعياً من الأراضي العالية دون أن يكون ليد الإنسان دخل في إسالتها ولا يجوز لمالك الأرض المنخفضة أن يقيم سداً لمنع هذا السيل من الوصول إلى ملكه كما لا يجوز لمالك الأرض العالية أن يقوم بعمل يزيد به من عبء الأرض المنخفضة.
مادة (1373): لمالك الأرض الذي يروي أرضه بالمياه الطبيعية أو المستخرجة حق تصريف المياه غير الصالحة أو الزائدة عن حاجته إلى المكان المتعارف عليه بمرورها في أرض الغير بواسطة أنابيب حديدية أو غيرها شريطة أن لا يضر بمالكي الأرض مقابل تعويض عادل.
مادة (1374): لملاك الأراضي التي تجري فيها مياه السيل أن ينتفعوا بالمنشآت الخاصة بتصريف مياه أراضيهم على أن يتحمل كل منهم نفقات إقامة هذه المنشآت وتعديلها وصيانتها كل بنسبة ما يعود عليه من فائدة .
مادة (1375) : لا يجوز لأحد إنشاء مسيل ضار في ملك الغير أو الطريق العام أو الخاص ويرفع الضرر بالإزالة .
مادة (1376) : لا يجـوز لأصحاب المنشآت الجديـدة تصريف مياهها إلى ملك الغير دون إذن منه .
مادة (1377) : على مالك العقار أن يهيئ سطحه بصورة تسيل فيها مياه الأمطار في أرضه أو في الطريق العام مع مراعاة ما تقضي به القوانين واللوائح والأنظمة الخاصة ولا تجوز إسالة هذه المياه في أراضي الغير المجاورة.

القانون المدني اليمني - حق الارتفاق - إنتهاء حق الارتفاق

الفصل السابع
إنتهاء حق الإرتفاق


مادة (1378): ينتهي حق الإرتفاق في الأحوال الآتية :-
1- إنتهاء أجله.
2- زوال محله .
3- إجتماع العقارين المرتفق والمرتفق به في يد مالك واحد ويعود الإرتفاق إذا زال سبب ذلك بإبطال أو فسخ أو نحوهما .
4- تعذر إستعمال الإرتفاق بسبب تغيير طرأ على أحد العقارين الخادم والمنتفع ويعود إذا عاد إلى ما كانا عليه.
5- تنازل صاحب الإرتفاق عن إستخدامه وإعلام مالك العقار الخادم بذلك .

6- زوال الفائدة منه ، وإذا بقيت له فائدة محدودة لا تتفق مع الأعباء الواقعة على العقار الخادم جاز طلب إنهائه.

القانون المدني اليمني - الحقوق العينية التبعية - رهن المنقول

الباب الخامس
الحقوق العينية التبعية

الفصل الأول
رهــــــــن المنقــــول

مادة (1379): رهن المنقول عقد يخصص بمقتضاه شيء منقول مادي أو غير مادي لضمان الوفاء بالتزام معين.
مادة (1380) : تسرى الأحكام المتعلقة بالرهن الواردة في القانون التجاري والقوانين المتعلقة بحالات خاصة بالرهن والقوانين المتعلقة بالمؤسسات المرخص لها بالتسليف على رهن المنقول بما لا يتعارض فيه صراحة أو ضمناً مع أحكام القانون المدني.

القانون المدني اليمني - الحقوق العينية التبعية - التأمين العقاري (الرهن غير الحيازي)



الفصل الثاني
التأمين العقاري (الرهن غير الحيازي(


مادة (1381) : التأمين العقاري هو حق عيني على العقارات المخصصة لضمان وفاء التزام معين ويبقى هذا الحق بكامله على العقارات المخصصة له وعلى كل عقار منها وعلى كل جزء من هذه العقارات ويمنع التصرف في العقار إلا برضاء من له التأمين في العقارات .

مادة (1382) : يجب أن يكون عقد التأمين العقاري مكتوباً ويبين القانون المتعلق بالسجل العقاري قواعد تسجيل عقد التأمين العقاري وسائر الإجراءات والضوابط المتعلقة به وإشهاره.
مادة (1383) : يشمل التأمين العقاري التحسينات المحدثة بعد عقد الرهن في العقار المرهون.
مادة (1384) : يشترط في من يعقد التأمين العقاري أن يكون متمتعاً بأهلية التصرف بالعقار.
مادة (1385) : إذا عقد الشريك في عقار على الشيوع تأميناً عقارياً على ذلك العقار بدون إذن من شركائه ينصرف التأمين إلى الحصة التي تقع في نصيبه بعد القسمة.
مادة (1386) : يجوز عقد عدة تأمينات عقارية على عقار واحد ، على أن يكون كل تأمين محدداً بحصةٍ خاصة من العقار.
مادة (1387) : لمالك العقار المؤمن به الانتفاع به بما لا يضر المرتهن ، أما التصرف بالبيع ونحوه فلا بد من إذن المرتهن بذلك .
مادة (1388):1- إذا تلف العقار أو العقارات المرهونة أو حدثت بها تعييبات فأصبحت غير كافية لضمان حق الدائن ، جاز له أن يرفع الأمر إلى القضاء ويطلب قراراً بإستيفاء ماله فوراً أو الحصول على تأمين إضافي .
2- إذا كان العقار المرهون مؤمناً ضد الحريق فيخصص مبدئيـاً تعويضات التأمين ضد الحريق وغيره التي تخص العقار المؤمن به لترميم العقار بشرط أن تكون كافية لإعادته إلى حالته السابقة .
3- يجرى الترميم تحت إشراف الدائن أو الدائنين أصحاب الرهن غير الحيازي وفقاً للشروط المتفق عليها فيما بينهم وبين المدين ، وإلا وفقاً لما يقرره القاضي.
4- إذا كانت تعويضات التأمين ضد الحريق أو غيره غير كافية لترميم العقار وإعادته إلى حالته السابقة أو كانت كافية وتخلى المدين عن حقه في ترميم العقار فيوزع مبلغ التعويضات للترميم على أًصحاب الديون كلٌ بقدر دينه.
مادة (1389): إذا أحدث الحائز للعقار الجاري عليه التأمين تغييراً في قوامه فإن التعييبات التي تنشأ عن عمله أو تحدث بسبب إهماله وتلحق ضرراً بالدائنين أصحاب التأمين تخولهم حق إقامة الدعوى عليه بطلب التعويض.
مادة (1390): ينقضي التأمين العقاري بإنقضاء الإلتزام الذي يكون ضامنا له أو بتنازل الدائن عن حقه.
مادة (1391) : يرجع في أحكام الحقوق العينية التبعية الأخرى المقررة لضمان الوفاء بدين إلى أحكام السبب في تقريرها من رهن أو كفالة عينية أو أولوية (إمتياز).

أحكـــــــام ختاميـــة

مادة (1392): يلغى القرار الجمهوري بالقانون رقم (19) لسنة 1992م بشأن القانون المدني.
مادة (1393) : يعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره وينشر في الجريدة الرسمية .
صدر برئاسة الجمهورية – بصنعاء

بتاريخ 27/ محرم /1423هـ

الموافق 10/ إبريل /2002م

علي عبدالله صالـــــــح
رئيس الجمهوريــــة

الأربعاء، 9 مارس 2016

كتاب حسن السلوك الحافظ دولة الملوك المؤلف محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان بن عبد العزيز البعلي شمس الدين، ابن الموصلي (المتوفى سنة 774هـ)


كتاب
حسن السلوك الحافظ دولة الملوك

المؤلف
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان بن عبد العزيز البعلي شمس الدين، ابن الموصلي (المتوفى سنة  774هـ)
المحقق: فؤاد عبد المنعم أحمد
الناشر: دار الوطن - الرياض
سنة النشر:
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]





مُقَدّمَة الْمُؤلف

قَالَ العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْموصِلِي الشَّافِعِي غفر الله لَهُ ولوالديه وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين
1 - الْحَمد لله الْآمِر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى الناهي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي موعظة للألباء الدَّاعِي إِلَى مغْفرَة مِنْهُ ورضوان يَقُول (هَل من دَاع فيلبى هَل من مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ هَل من سَائل فنجيبه)
البادي بالنوال قبل السُّؤَال فكم ستر عَيْبا وَغفر ذَنبا وكشف كربا
(1/51)

أَحْمَده على نعمه وأنعم بِحَمْدِهِ وأقصد كرمه ونكرم بِقَصْدِهِ
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة لَا تنبغي لأحد من بعده
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ وشرك الشّرك قد نصب على مُرَاد المُرَاد وعماد التَّوْحِيد من عناد أهل التَّثْلِيث قد وهى أوكاد وسوق شجر الطغيان فِي بسوق وسوق حبر الْإِيمَان فِي كساد فَلم يزل يَدْعُو إِلَى الله بجد واجتهاد حَتَّى انتشرت كلمة الْحق فِي أقطار الْبِلَاد وسطعت أنوار الْهِدَايَة فِي أفكار الْعباد
صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار صَلَاة دائمة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار أما بعد
2 - فقد ندبني من وَجب إِجَابَة سُؤَاله وتعينت تَلْبِيَة مقاله لما لَهُ عَليّ من الْإِحْسَان الوافر وَالْبر الْمُتَوَاتر أَن أكتب لَهُ من الْعلم مَا يَلِيق بِحَالهِ ويبلغه من خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة نِهَايَة آماله وَكَانَ ذَلِك إِحْسَان ظن مِنْهُ بالفقير وإحسان الظَّن سَبَب للخير الْكثير فَرَأَيْت أَن أكتب لَهُ مَا ورد فِي فضل الْعدْل وَالْإِحْسَان فَإِنَّهُ متصف بهما مَعَ مَا فِيهِ من الْفَضَائِل الحسان وأقص فِي ضمن ذَلِك
(1/52)

السياسة الشَّرْعِيَّة مِمَّا فِيهِ مصلحَة الرَّاعِي والرعية منبها على أَن من لزم مَا أوردهُ فِيهِ من السياسة كَانَت دولته مَحْفُوظَة وَهِي بِعَين الْعِنَايَة من الله الْكَرِيم ملحوظة رَجَاء أَن تنْتَفع الدولة الزاهرة بِهَذَا التَّأْلِيف وَأَن يقوم لَهُم بِالنَّصِيحَةِ الجالبة لكل خلق شرِيف فَإِنَّهُ الْأمين الْمَأْمُون والثقة الْعَفِيف يسره الله لليسرى وَجعله من الَّذين لَهُم فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا الْبُشْرَى وَفِي الْأُخْرَى
(1/53)

الْفَصْل الأول الْعدْل

تَعْرِيفه

3 - الْعدْل هُوَ الحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى
دَلِيله فِي الْكتاب وَالسّنة

4 - قَالَ الله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ}
وَقَالَ تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ}
وَقَالَ تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ}
(1/55)

فَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد اجْتمعت فِيهِ هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة الظُّلم وَالْكفْر والفسوق
5 - وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله إِمَام عَادل وشاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَرجل قلبه مُعَلّق بالمساجد ورجلان تحابا فِي الله اجْتمعَا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ وَرجل دَعَتْهُ امْرَأَة ذَات منصب وجمال فَقَالَ إِنِّي أَخَاف الله وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه وَرجل ذكر الله خَالِيا فَفَاضَتْ عَيناهُ)
6 - وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا) رَوَاهُ مُسلم
(1/56)

وَعَن عَوْف بن مَالك قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (خِيَار ائمتكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عَلَيْهِم وَيصلونَ عَلَيْكُم وشرار أئمتكم الَّذين يبغضونكم وتبغضونهم وتلعنونهم ويلعنونكم) قُلْنَا يَا رَسُول الله أَفلا ننابذهم بِالسَّيْفِ قَالَ (لَا مَا أَقَامُوا فِيكُم الصَّلَاة) رَوَاهُ مُسلم وَمعنى تصلونَ عَلَيْهِم تدعون لَهُم
7 - وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عِيَاض بن حمَار قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (أهل الْجنَّة ثَلَاثَة ذُو سُلْطَان مقسط متصدق موفق وَرجل رَحِيم رَقِيق الْقلب لكل ذِي قربى وَمُسلم وعفيف متعفف ذُو عِيَال)
8 - وَعَن عبد الله بن أبي أوفى قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله تَعَالَى مَعَ القَاضِي مَا لم يجر فَإِذا جَار تخلى عَنهُ وَلَزِمَه الشَّيْطَان) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَقَالَ (فَإِذا
(1/57)

جَار وَكله إِلَى نَفسه)
9 - وَعَن أبي سعيد قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن أحب النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأقربهم مِنْهُ مَجْلِسا إِمَام عَادل وَإِن أبْغض النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأشدهم عذَابا إِمَام جَائِر) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث غَرِيب
10 - وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَوْم من إِمَام عَادل أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة وحد يُقَام فِي الأَرْض أزكى فِيهَا من مطر أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) يَعْنِي سنة أخرجه محب الدّين الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه
(1/58)

11 - وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (أَرْبَعَة يبغضهم الله البياع الحلاف وَالْفَقِير المختال وَالشَّيْخ الزَّانِي وَالْإِمَام الجائر) أخرجه أَبُو حَاتِم
12 - وَعَن ابْن عمر قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته وَالْإِمَام رَاع ومسؤول عَن رَعيته وَالرجل رَاع فِي أَهله ومسؤول عَن رَعيته وَالْمَرْأَة فِي بَيت زَوجهَا راعية وَهِي مسؤولة عَن رعيتها وَالْخَادِم فِي بَيت سَيّده رَاع وَهُوَ مسؤول عَن رَعيته) قَالَ سَمِعت هَؤُلَاءِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحسب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَالرجل فِي مَال أَبِيه رَاع وَهُوَ مسؤول عَن رَعيته فكلكم رَاع وكل مسؤول عَن رَعيته) أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
(1/59)

13 - وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من أَمِير عشرَة إِلَّا يُؤْتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولا لَا يفكه إِلَّا عدله وَمَا من رجل تعلم الْقُرْآن ثمَّ نَسيَه إِلَّا لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة أَجْذم)
وَفِي رِوَايَة (إِلَّا جِيءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولة يَدَاهُ إِلَى عُنُقه حَتَّى يُطلقهُ الْحق أَو يوبقه) أخرجه أَحْمد
14 - وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن عَائِذ بن عَمْرو وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على عبيد الله بن زِيَاد فَقَالَ أَي بني إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن شَرّ الرعاء الحطمة
(1/60)

فإياك أَن تكون مِنْهُم) فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْت من نخالة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَهل كَانَت لَهُم نخالة إِنَّمَا النخالة بعدهمْ وَفِي غَيرهم) أخرجه أَحْمد وَمُسلم
15 - وَعَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا يسترعي الله عبدا رعية قلت أَو كثرت إِلَّا سَأَلَهُ الله عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة هَل أَقَامَ فيهم أَمر الله أم أضاعه حَتَّى يسْأَله عَن أهل بَيته خَاصَّة) أخرجه أَحْمد
16 - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من طلب قَضَاء الْمُسلمين حَتَّى يَنَالهُ ثمَّ غلب عدله جوره فَلهُ الْجنَّة وَمن غلب جوره عدله فَلهُ النَّار) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
17 - وَعَن بُرَيْدَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (الْقُضَاة ثَلَاثَة وَاحِد فِي الْجنَّة وَاثْنَانِ فِي النَّار فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق فَقضى بِهِ وَرجل عرف الْحق فجار فِي الحكم فَهُوَ فِي النَّار وَرجل قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي النَّار) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن
(1/61)

مَاجَه
نَبِي الله دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَالْعدْل

18 - وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى} الْآيَة
قيل معنى ذَلِك إِذا حضر بَين يَديك خصمان فَلَا تتمنى أَن يكون الْحق مَعَ الَّذِي ميلك إِلَيْهِ خَاصَّة وبهذه الْخصْلَة سلب سُلَيْمَان من دَاوُد ملكه
قَالَ ابْن عَبَّاس كَانَ الَّذِي أصَاب سُلَيْمَان بن دَاوُد أَن نَاسا من أهل جَرَادَة امْرَأَته وَكَانَت من أكْرم نِسَائِهِ عَلَيْهِ تحاكموا إِلَيْهِ مَعَ غَيرهم فَأحب أَن يكون الْحق لأهل جَرَادَة فَيَقْضِي لَهُم فَعُوقِبَ حَيْثُ لم يكن هَوَاهُ فيهم وَاحِدًا
آثَار الْعدْل

19 - وَقد ضمن الله النَّصْر لمن نصر الله وَرَسُوله بِالْغَيْبِ وَهُوَ
(1/62)

الْقيام بِالْعَدْلِ قَالَ الله تَعَالَى {ولينصرن الله من ينصره} الْآيَة ثمَّ إِنَّه تَعَالَى أوضح شَرَائِط لنصر الْمُلُوك وَشرط عَلَيْهِم شَرَائِط كَمَا ترى فَمَا تضعضعت قواعدهم أَو ظهر عَلَيْهِم عَدو أَو اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِم الْأُمُور إِلَّا لإخلالهم بالشرائط الْمَأْخُوذَة عَلَيْهِم أَو بَعْضهَا وصلاحهم وفلاحهم بِإِقَامَة الْمِيزَان بِالْقِسْطِ الَّذِي شَرعه الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ وركوب سَبِيل الْحق وَالْعدْل الَّذِي قَامَت بِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَنصر الْمَظْلُوم وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم
عُقُوبَة الإِمَام الجائر

20 - وَقَالَ طَاوُوس لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك هَل تَدْرِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ سُلَيْمَان قل فَقَالَ طَاوُوس أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من أشركه الله فِي ملكه فجار فِي حكمه فاستلقى سُلَيْمَان على سَرِيره وَهُوَ يبكي فَمَا زَالَ يبكي حَتَّى قَامَ عَنهُ جُلَسَاؤُهُ
(1/63)

نصب السُّلْطَان لدفع الظُّلم

21 - وَقد امتن الله على عباده بنصبه السُّلْطَان فِي الأَرْض ليدفع الظُّلم عَن الْمَظْلُوم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} يَعْنِي لَوْلَا أَن الله أَقَامَ السُّلْطَان فِي الأَرْض يدْفع الْقوي عَن الضَّعِيف وينصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم لأهْلك الْقوي الضَّعِيف وتواثب الْخلق بَعضهم على بعض فَلَا يَنْتَظِم لَهُم حَال فتفسد الأَرْض وَمن عَلَيْهَا فَإِذا كَانَ السُّلْطَان جائرا زَاد الْفساد فَسَادًا
فضل الْقَضَاء بِالْحَقِّ

22 - قَالَ مَسْرُوق لِأَن أَقْْضِي يَوْمًا بِالْحَقِّ أحب إِلَيّ من أَن أغزو سنة فِي سَبِيل الله
تصلح الْبِلَاد والعباد بالسلطان الْعَادِل

23 - وكما أَنه لَيْسَ فَوق رُتْبَة السُّلْطَان الْعَادِل رُتْبَة كَذَلِك لَيْسَ فَوق رُتْبَة السُّلْطَان الشرير رُتْبَة لشره لِأَن شَره يعم وكما أَن بالسلطان الْعَادِل تصلح الْبِلَاد والعباد كَذَلِك بالسلطان الجائر تفْسد الْبِلَاد والعباد وتقترف الْمعاصِي والآثام وَكَذَلِكَ
(1/64)

السُّلْطَان إِذا عدل انْتَشَر الْعدْل فِي الرّعية فأقاموا الْوَزْن بِالْقِسْطِ وتعاطوا الْحق فِيمَا بَينهم ولزموا قوانين الْعدْل فَمَاتَ الْبَاطِل وَذَهَبت رسوم الْجور فَأرْسلت السَّمَاء غيثها وأخرجت الأَرْض بركاتها ونمت تجاراتهم وزكت زُرُوعهمْ وتناسلت أنعامهم وَدرت أَرْزَاقهم ورخصت أسعارهم فواسى الْبَخِيل وَأفضل الْكَرِيم وقضيت الْحُقُوق وأعيرت المواعين وتهادوا فضول الْأَطْعِمَة والتحف فهان كل الحطام لكثرته وذل بعد عزته فتماسكت على النَّاس مروءاتهم وحفظت عَلَيْهِم أديانهم وَبِهَذَا يتَبَيَّن لَك أَن الْوَالِي مأجور على مَا يتعاطاه من إِقَامَة الْعدْل وعَلى مَا يتعاطاه النَّاس بِسَبَبِهِ
فَسَاد الْبِلَاد والعباد بالسلطان الجائر

24 - وَإِذا جَار السُّلْطَان انْتَشَر الْجور فِي الْبِلَاد وَعم الْعباد فرقت أديانهم واضمحلت مروءاتهم وقست قُلُوبهم وفشت فيهم الْمعاصِي وَذَهَبت أماناتهم فضعفت النُّفُوس وقنطت الْقُلُوب فضعفوا عَن إِقَامَة الْحق فتعاطوا الْبَاطِل وبخسوا الْكَيْل وَالْمِيزَان وروجوا البهرج فَرفعت مِنْهُم الْبركَة وَأَمْسَكت السَّمَاء غيثها وَلم تخرج الأَرْض زَرعهَا ونباتها فَقل فِي أَيْديهم الحطام فقنطوا وأمسكوا الْفضل الْمَوْجُود وتناجزوا على الْمَفْقُود فمنعوا الزكوات الْمَفْرُوضَة وبخلوا بالمواساة المسنونة
(1/65)

وقبضوا أَيْديهم عَن المكارم وفشت فِيهِ الْأَيْمَان الكاذبة والختل فِي البيع وَالشِّرَاء وَالْمَكْر والحيل فِي الْقَضَاء والاقتضاء فيظل أحدهم عَارِيا من محَاسِن دينه متجردا من جِلْبَاب مروءته وَمن عَاشَ كَذَلِك فبطن الأَرْض خير لَهُ من ظهرهَا
25 - قَالَ وهب بن مُنَبّه إِذا عمل الْوَالِي بالجور أَو هم بِهِ أَدخل الله النَّقْص فِي أهل مَمْلَكَته من الزَّرْع والضرع وكل شَيْء وَكَذَلِكَ إِذا هم بِالْعَدْلِ أَو عمل بِهِ أَدخل الله الْبركَة فِي أهل مَمْلَكَته
26 - قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز تهْلك الْعَامَّة بذنب الْخَاصَّة وَلَا تهْلك الْخَاصَّة بِعَمَل الْعَامَّة والخاصة هم الْوُلَاة وَفِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ الله تَعَالَى {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة}
صَلَاح الْحَاكِم صَلَاح الْأمة

27 - وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور إِنِّي لأعْلم رجلا إِن صلح صلحت الْأمة قَالَ وَمن هُوَ قَالَ أَنْت
28 - قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِن ملكا من الْمُلُوك خرج يسير فِي مَمْلَكَته مستخفيا فَنزل على رجل لَهُ بقرة فراحت فحلبت لَهُ
(1/66)

وزن ثَلَاثِينَ بقرة فَعجب الْملك من ذَلِك وَحدث نَفسه بأخذها فَلَمَّا راحت عَلَيْهِ من الْغَد حلبت على النّصْف فَقَالَ الْملك مَا بَال حلابها انْتقصَ أرعيت فِي غير مرعاها بالْأَمْس فَقَالَ لَا وَلَكِن أَظن أَن ملكنا هم بأخذها فنقص لَبنهَا فَإِن الْملك إِذا ظلم أَو هم بظُلْم ذهبت الْبركَة فعاهد الله سُبْحَانَهُ فِي نَفسه أَلا يَأْخُذهَا وراحت من الْغَد فحلبت حلاب ثَلَاثِينَ بقرة فَتَابَ الْملك وَعَاهد ربه ليعدلن مَا بَقِي
29 - وَمن الْمَشْهُور بِأَرْض الْمغرب أَن السُّلْطَان بلغه أَن امْرَأَة لَهَا حديقة فِيهَا الْقصب الحلو وَأَن القصبة الْوَاحِدَة مِنْهَا تعصر قدحا فعزم على أَخذهَا مِنْهَا ثمَّ أَتَاهَا وسألها عَن ذَلِك فَقَالَت نعم ثمَّ إِنَّهَا عصرت قَصَبَة فَلم تعصر نصف قدح فَقَالَ لَهَا أَيْن الَّذِي كَانَ يُقَال فَقَالَت هُوَ الَّذِي بلغك إِلَّا أَن يكون السُّلْطَان عزم على أَخذهَا مني فارتفعت الْبركَة مِنْهَا فَتَابَ السُّلْطَان وأخلص نِيَّته لله تَعَالَى أَلا يَأْخُذهَا أبدا ثمَّ أمرهَا فعصرت قَصَبَة فَجَاءَت ملْء قدح
30 - قَالَ صَاحب سراج الْمُلُوك وَشهِدت أَنا بالإسكندرية وَالصَّيْد بالخليج مُطلق للرعية والسمك فِيهِ يغلب المَاء كَثْرَة ويصيده الْأَطْفَال بالخرق ثمَّ حجره الْوَالِي وَمنع النَّاس من صَيْده فَذهب السّمك حَتَّى لَا تكَاد تُوجد مِنْهُ إِلَّا الْوَاحِدَة بعد الْوَاحِدَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا
(1/67)

قَالَ وَهَكَذَا تتعدى سرائر الْمُلُوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم إِلَى الرّعية إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر
النَّاس تبع لملوكهم

31 - قَالَ وروى أَصْحَاب التواريخ فِي كتبهمْ أَن النَّاس كَانُوا إِذا أَصْبحُوا فِي أَيَّام الْحجَّاج يتسألون من قتل البارحة وَمن صلب وَمن جلد وَمن قطع وَفِي أَمْثَال ذَلِك
32 - وَكَانَ الْوَلِيد صَاحب ضيَاع وَاتخذ مصانع فَكَانَ النَّاس يتسألون فِي زَمَانه عَن الْبُنيان والمصانع والضياع وشق الْأَنْهَار وغرس الْأَشْجَار
33 - وَلما ولي سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَكَانَ صَاحب نِكَاح وَطَعَام فَكَانَ النَّاس يتحدثون فِي الْأَطْعِمَة الرفيعة ويتخذونها ويتوسعون فِي الْأَنْكِحَة والسراري ويعمرون مجَالِسهمْ بِذكر ذَلِك
34 - وَلما ولي عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ النَّاس يتسألون فِي زَمَانه كم تحفظ من الْقُرْآن وَكم وردك وَكم يحفظ فلَان وَكم يَصُوم وأمثال ذَلِك
الْعدْل قوام الْملك ودوام الدول

35 - وَاعْلَم أَن الْعدْل قوام الْملك ودوام الدول وأس كل مملكة
(1/68)

سَوَاء كَانَت نبوية أَو اصطلاحية
الْإِحْسَان

36 - وَقد أَمر الله تَعَالَى بِالْعَدْلِ ثمَّ علم سُبْحَانَهُ أَنه لَيْسَ كل النُّفُوس تصلح على الْعدْل بل تطلب الْإِحْسَان وَهُوَ فَوق الْعدْل فَقَالَ {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان}
فَلَو وسع الْخلق الْعدْل لما قرن الله بِهِ الْإِحْسَان فَمن لم يصلح حَتَّى يُزَاد على الْعدْل كَيفَ يصلح إِذا لم يبلغ بِهِ الْعدْل
37 - وَحكى ابْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره حِكَايَة مَعْنَاهَا أَنه شكي على بعض الْعمَّال عِنْد خَليفَة زَمَانه فكشف عَن سيرته فَلم يُوجد عَلَيْهِ شَيْء من الْجور فَقَالَ الْخَلِيفَة لَا أعزله عَنْكُم وَهُوَ عَادل فَقَالَ لَهُ بعض النَّاس صدق أَمِير الْمُؤمنِينَ هُوَ عَادل وَلَكِن لم يحسن وَقد أَمر الله بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان فَعَزله عَنْهُم
(1/69)

قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ إِمَام عَادل خير من مطر وابل وَأسد حطوم خير من سُلْطَان ظلوم وسلطان ظلوم خير من فتْنَة تدوم
38 - وَقَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِمَا وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء الْعدْل وَالرَّحْمَة يحرزان الْملك
الْعدْل أساس لسَائِر الأساسات

39 - وَاتفقَ حكماء الْعَرَب والعجم على هَذِه الْكَلِمَات فَقَالُوا الْملك بِنَاء والجند أساسه فَإِذا قوي الأساس دَامَ الْبناء وَإِذا ضعف الأساس انهار الْبناء فَلَا سُلْطَان إِلَّا بالجند وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَلَا مَال إِلَّا بجباية وَلَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِعدْل فَصَارَ الْعدْل أساسا لسَائِر الأساسات
(1/70)

الْفَصْل الثَّانِي

الطّرق إِلَى الْعدْل

40 - وَمن أَرَادَ من وُلَاة الْأُمُور الْعدْل الَّذِي أَمر الله بِهِ والتوصل إِلَيْهِ فليسلك مَا نأمره بِهِ من الطّرق يحفظ عَلَيْهِ ملكه فِي الدُّنْيَا وَيكون سَببا إِلَى الْملك الْحق فِي الدَّار الْأُخْرَى
حَملَة الْعلم

41 - وَجُمْلَة القَوْل فِيهِ أَن يجمع السُّلْطَان إِلَى نَفسه حَملَة الْعلم الَّذين هم حفاظه ورعاته وفقهاؤه فهم الأدلاء على الله والقائمون بِأَمْر الله والحافظون لحدود الله والناصحون لعباد الله
42 - وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الدّين النَّصِيحَة قُلْنَا لمن قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم
43 - فيتخذ الْعلمَاء شعارا وَالصَّالِحِينَ دثارا فتدور المملكة على نصائح الْعلمَاء ودعوات الصلحاء فياسعد ملك يَدُور
(1/71)

بَين هَاتين الخصلتين لقد قَامَ عوده وأورق عموده وَكَيف لَا وَقد قرنهم الله حِين الشَّهَادَة بالوحدانية بِالْمَلَائِكَةِ المقربين فَقَالَ تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ} فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِنَفسِهِ ثمَّ ثنى بملائكته ثمَّ ثلث بالعلماء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَفِي تعظيمهم وتوقيرهم وتقريبهم امْتِثَال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ واستمالة لقلوب الرّعية فَلَا يقطع أمرا دونهم وَلَا يفصل أمرا وَلَا حكما إِلَّا بمشاورتهم لِأَنَّهُ فِي ملك الله يحكم وَفِي رَعيته يتَصَرَّف وَفِي شَرِيعَته يقطع
ينزل نَفسه مَعَ الله تَعَالَى منزلَة ولاته مَعَه

44 - وَأَقل الْوَاجِبَات على السُّلْطَان أَن ينزل نَفسه مَعَ الله تَعَالَى منزلَة ولاته مَعَه
أَلَيْسَ إِذا خَالف واليه أمره ومارسم بِهِ لَهُ من الْأَحْكَام عَزله وعاقبه وَلم يَأْمَن سطوته وَإِذا امتثل أوامره وانْتهى عَن مناهيه حل عِنْده مَحل الرِّضَا فواعجبا مِمَّن يغْضب على واليه إِذا خَالفه ثمَّ لَا يخَاف سطوة ربه عَلَيْهِ إِذا خَالفه
خِصَال ورد الشَّرْع بهَا فِيهَا نظام الْملك والدول

45 - وَقد ورد الشَّرْع بِبَيَان خِصَال فِيهَا نظام الْملك والدول وَهِي
(1/71)

ثَلَاثَة اللين وَترك الفظاظة والمشاورة وَألا يسْتَعْمل على الْأَعْمَال والولايات رَاغِب فِيهَا وَلَا طَالب لَهَا فاثنتان مِنْهَا نزلتا من السَّمَاء وَوَاحِدَة قَالَهَا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اللين وَترك الفظاظة

46 - أما الإلهية قَالَ الله تَعَالَى {فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم وَلَو كنت فظا غليظ الْقلب لانفضوا من حولك فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر}
47 - وَفِي الْآيَة إشارتان إِحْدَاهمَا أَن الفظاظة تنفر الْأَصْحَاب والجلساء وتفرق الجموع وَإِنَّمَا الْملك ملك بجلسائه وَأَصْحَابه وجنده وأخلق بخصلة تنفر الْأَوْلِيَاء وَأَن يطْمع فِيهَا الْأَعْدَاء فَيَنْبَغِي لكل سُلْطَان رفضها والاحتراز من سوء مغبتها فَإِنَّهَا مفرقة للجموع ومنفرة للتابع عَن الْمَتْبُوع
48 - وَليكن كَمَا قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه {واخفض جناحك لمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ}
49 - وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَالِسا مَعَ أَصْحَابه فجَاء رجل فَقَالَ أَيّكُم ابْن عبد الْمطلب فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/73)

قد أحببتك فَفِيهِ دَلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يستأثر على أَصْحَابه وجلسائه بشرف الْمجْلس وَلَا يباينهم بزِي وَلَا مقْعد نعم لما كثرت الْوُفُود عَلَيْهِ وَكَانَ الْغَرِيب يَأْتِي فَلَا يعرفهُ من بَين أَصْحَابه أَشَارَ عَلَيْهِ أَصْحَابه أَن يتَّخذ لَهُ دكانا يجلس عَلَيْهَا ليعرفه الْوُفُود فَفعل
50 - وَقد يبلغ باللين مَا لَا يبلغ بالغلظة وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (مَا كَانَ الرِّفْق فِي شَيْء قطّ إِلَّا زانه)
الشورى

51 - وَالْإِشَارَة الثَّانِيَة فِي الْآيَة قَوْله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} كَيفَ يشاورهم وَهُوَ نَبِيّهم وإمامهم وواجب عَلَيْهِم مشاورته وَألا يفصلوا أمرا دونه فَالْجَوَاب إِن هَذَا أدب أدب الله بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجعله الله أدبا لسَائِر الْمُلُوك والأمراء لما علم الله تَعَالَى فِي الْمُشَاورَة من حسن الْأَدَب مَعَ الجليس ومساهمته فِي الْأُمُور فَإِن نفوس الجلساء والنصحاء والوزراء تصلح عَلَيْهِ
52 - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ مَا رَأَيْت أحدا قطّ أَكثر مشورة من
(1/74)

رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجه الشَّافِعِي فِي مُسْنده وَأَبُو حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ
53 - وَقَالَ الْحسن إِن كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغنيا عَن مشاورتهم وَلَكِن أَرَادَ أَن يستن بذلك الْحُكَّام بعده
54 - قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل والمشاورة قبل الْعَزْم والتبين
55 - قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا عزمت فتوكل على الله}
56 - وشاور النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه يَوْم أحد فِي الْمقَام أَو الْخُرُوج فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوج فَلَمَّا لبس لأمته وعزم قَالُوا أقِم فَلم يجنح إِلَيْهِم بعد الْعَزْم قَالَ (مَا يَنْبَغِي لنَبِيّ إِذا لبس لأمته أَن يَضَعهَا حَتَّى يحكم الله)
(1/75)

وَقَالَ الزُّهْرِيّ كَانَ مجْلِس عمر مغتصا من الْقُرَّاء شبانا كَانُوا أَو كهولا وَرُبمَا اسشارهم فَيَقُول لَا يمْنَع أحدكُم أَن يُشِير بِرَأْيهِ فَإِن الْعلم لَيْسَ على قدر السن وَلَكِن الله يَضَعهُ حَيْثُ شَاءَ
58 - وَقَالَ مُزَاحم بن زفر قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز خمس إِذا أَخطَأ القَاضِي خصْلَة مِنْهُم كَانَت فِيهِ وصمة أَن يكون حَلِيمًا عفيفا صليبا عَالما سؤولا عَن الْعلم
عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وبطانة الْخَيْر

59 - وَالَّذِي فعل عمر رَضِي الله عَنهُ من جمع الْقُرَّاء من كَمَال فقهه وَعلمه فَإِنَّهُ أَرَادَ تَكْبِير بطانة الْخَيْر على بطانة الشَّرّ
60 - وَقد ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن
(1/76)

رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (مَا بعث الله من نَبِي وَلَا اسْتخْلف من خَليفَة إِلَّا كَانَت لَهُ بطانتان بطانة تَأمره بِالْخَيرِ وتحضه عَلَيْهِ وبطانة تَأمره بِالشَّرِّ وتحضه عَلَيْهِ والمعصوم من عصم الله) والبطانة هم الْأَوْلِيَاء والأصفياء
61 - وَعَن عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَرَادَ الله بالأمير خيرا جعل لَهُ وَزِير صدق إِن نسي ذكره وَإِن ذكر أَعَانَهُ وَإِذا أَرَادَ الله بِهِ غير ذَلِك جعل لَهُ وَزِير سوء إِن نسي لم يذكرهُ وَإِن ذكر لم يعنه) اخرجه أَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِم
طَالب الْولَايَة لَا يُولى

62 - وَأما الْخصْلَة الثَّالِثَة الَّتِي وَردت بهَا السّنة فألا يسْتَعْمل السُّلْطَان على الْقَضَاء وَالْحكم بَين النَّاس والولايات من سَأَلَهَا أَو حرص عَلَيْهَا
63 - لما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ دخلت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا ورجلان من بني عمي فَقَالَ أَحدهمَا يَا رَسُول الله أمرنَا على بعض مَا ولاك الله وَقَالَ الآخر مثل ذَلِك فَقَالَ (أما وَالله إِنَّا لَا نولي هَذَا الْعَمَل أحدا سَأَلَهُ أَو أحدا حرص عَلَيْهِ)
64 - وَقَالَ الْمُهلب فِيهِ دَلِيل على أَن من تعاطى أمرا وسولت لَهُ نَفسه أَن يقوم بذلك أَن يخذل فِيهِ فِي أغلب أَحْوَاله لِأَن من سَأَلَ الْإِمَارَة لَا يسْأَلهَا إِلَّا وَهُوَ يرى نَفسه أَهلا لَهَا
65 - وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من سَأَلَهَا وكل إِلَيْهَا) بِمَعْنى أَنه لم يعن عَلَيْهَا والتعاطي أبدا مقرون بالخذلان وَأَن من دعِي إِلَى عمل فَرَأى نَفسه تقصر عَنهُ وهاب أَمر الله رزقه الله المعونة وَهَذَا من بَاب من تواضع لله رَفعه الله
مَتى يجوز طلب الْولَايَة

66 - قَالَ الشَّيْخ محب الدّين الطَّبَرِيّ وَهَذَا كُله فِي حق من طلب الْولَايَة لَا لغَرَض سواهَا أما من طلبَهَا لرزق يرزقه عَلَيْهَا أَو خشيَة حُصُولهَا فِي غير محلهَا فَذَلِك جَائِز إِن شَاءَ الله تَعَالَى
67 - قَالَ مُؤَلفه رَحمَه الله وَفِي الحَدِيث دَلِيل على منع من
(1/77)

طلب الْقَضَاء من ولَايَته يقسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يُولى هَذَا الْأَمر أحدا طلبه وَلِأَن من طلبَهَا لم يكن مَعَه من الله تَعَالَى عون وَكَانَ مخذولا فِي ولَايَته كَمَا قدمْنَاهُ وَإِذا لم يكن معانا من الله عَلَيْهَا كَانَ عَاجِزا عَنْهَا غير كفؤ لَهَا لَا محَالة وَلَا يجوز توليه غير الكفؤ وَلِأَن السَّائِل لَهَا الْحَرِيص عَلَيْهَا مُتَّهم
68 - ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة قَالَ قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا عبد الرَّحْمَن لَا تسْأَل الْإِمَارَة فَإنَّك إِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا وَإِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا
وَقَوله (وكلت إِلَيْهَا) أَي أسلمت إِلَيْهَا فضعفت عَنْهَا
طلب ولَايَة الْقَضَاء

69 - وَعَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من سَأَلَ الْقَضَاء وكل إِلَى نَفسه وَمن أكره عَلَيْهِ نزل ملك يسدده) أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ // حَدِيث حسن //
(1/79)

70 - فَلَا يَنْبَغِي تَوْلِيَة من طلب الْقَضَاء لِأَن الولايات أمانات وَتصرف فِي أَرْوَاح الْخَلَائق وَأَمْوَالهمْ فالتسرع إِلَى الْأَمَانَة دَلِيل على الْخِيَانَة وَإِنَّمَا يخطبها من يُرِيد أكلهَا وَمن ائْتمن خائنا على مَوَاضِع الْأَمَانَات كَانَ كمن استرعى الذِّئْب على الْغنم
وَمن هَذِه الْخصْلَة تفْسد قُلُوب الرعايا على مُلُوكهَا لِأَنَّهُ إِذا اهتضمت حُقُوقهم وأكلت أَمْوَالهم فَسدتْ نياتهم أطْلقُوا ألسنتهم بِالدُّعَاءِ والتشكي
71 - وَفِي أَخْبَار الْقُضَاة أَن قَاضِيا قدم إِلَى بلد فَجَاءَهُ رجل لَهُ عقل وَدين فَقَالَ أَيهَا القَاضِي أبلغك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من قدم للْقَضَاء فقد ذبح بِغَيْر سكين) فَقَالَ نعم قَالَ فبلغك أَن أُمُور النَّاس ضائعة فِي بلدنا فَجئْت بخبرها قَالَ لَا قَالَ فاشهد أَنِّي لَا أَطَأ لَك مَجْلِسا وَلَا أؤدي عنْدك شَهَادَة
(1/80)

الْفَصْل الثَّالِث الولايات

مشروعيتها

72 - قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا وَإِذا حكمتم بَين النَّاس أَن تحكموا بِالْعَدْلِ}
الْولَايَة الْعَامَّة

73 - فالولاية أَمَانَة وَكَانَ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فتح مَكَّة وتسلم مَفَاتِيح الْكَعْبَة من بني شيبَة طلبَهَا مِنْهُ
(1/81)

الْعَبَّاس ليجمع لَهُ بَين سِقَايَة الْحجَّاج وسدانة الْبَيْت فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة فَدفع مَفَاتِيح الْكَعْبَة إِلَى بني شيبَة
74 - فَيجب على الإِمَام أَن يولي على كل عمل من أَعمال الْمُسلمين أصلح من يجده لذَلِك الْعَمَل
75 - فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من ولي من أَمر الْمُسلمين شَيْئا فولى رجلا وَهُوَ يجد من هُوَ أصلح للْمُسلمين فقد خَان الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ) رَوَاهُ الْحَاكِم فِي صَحِيحه
76 - ويروى ذَلِك من قَول عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ من ولي من أَمر الْمُسلمين شَيْئا فولى رجلا لمودة أَو قرَابَة بَينهمَا فقد خَان الله وَرَسُوله وَالْمُسْلِمين
77 - وَعَن يزِيد بن أبي سُفْيَان قَالَ قَالَ أَبُو بكر حِين بَعَثَنِي إِلَى الشَّام يَا يزِيد إِن لَك قرَابَة عَسَيْت أَن تؤثرهم بالإمارة وَذَلِكَ أَكثر مَا أَخَاف عَلَيْك فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من ولي من أَمر الْمُسلمين
(1/82)

شَيْئا فَأمر عَلَيْهِم أحدا مُحَابَاة فَعَلَيهِ لعنة الله لَا يقبل الله مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا حَتَّى يدْخلهُ جَهَنَّم وَمن أعْطى أحدا حمى الله فقد انتهك فِي حمى الله شَيْئا بِغَيْر حَقه فَعَلَيهِ لعنة الله أَو قَالَ تبرأت مِنْهُ ذمَّة الله) أخرجه أَحْمد
تَوْلِيَة الْأَصْلَح

78 - فَيجب على السُّلْطَان أَن يبْحَث عَمَّن يسْتَحق الْولَايَة من نوابه على الْأَمْصَار من الْأُمَرَاء الَّذين هم نوابه والقضاة وَنَحْوهم وَمن أُمَرَاء الأجناد ومقدمي العساكر وولاة الْأَمْوَال من الوزراء وَالْكتاب والشادين والسعاة على الْخراج وَالصَّدقَات وَغير ذَلِك من أَمْوَال الْمُسلمين وَأَن يسْتَعْمل عَلَيْهِم أصلح من يجده وَيَنْتَهِي ذَلِك إِلَى أَئِمَّة الصَّلَاة والمؤذنين والمعلمين وأمراء الْحَج وَالْبرد والعيون الَّذين هم القصاد وحراس الْحُصُون والحدادين الَّذين هم البوابون على الْحُصُون والمدائن ونقباء العساكر وعرفاء الْقَبَائِل والأسواق
حكم التَّوْلِيَة لقرابة أَو صداقة

79 - وَلَا يقدم إِلَّا الْأَصْلَح فَإِن عدل عَن الْأَصْلَح إِلَى غَيره لأجل
(1/83)

قرَابَة بَينهمَا أَو عتاقة أَو صداقة أَو مُوَافقَة فِي الْمَذْهَب أَو الدّين أَو الْبَلَد أَو الْجِنْس كالتركية أَو الْعَرَبيَّة والعجمية والرومية أَو لرشوة أَو لضغن فِي قلبه على الأحق فقد خَان الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ وَدخل فِيمَا نهى الله عَنهُ من قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم وَأَنْتُم تعلمُونَ} ثمَّ قَالَ {وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} فَإِن الرجل لحبه وَلَده أَو قَرِيبه قد يؤثره فِي بعض الولايات أَو يُعْطِيهِ مَالا يسْتَحقّهُ فَيكون قد خَان أَمَانَته ثمَّ إِن مؤدي الْأَمَانَة مَعَ مُخَالفَة هَوَاهُ يثيبه الله فيحفظه فِي أَهله وَمَاله بعده والمطيع لهواه يُعَاقِبهُ الله بنقيض قَصده فيذل أَهله وَيذْهب مَاله
80 - وَفِي مثل هَذَا الْمَعْنى الْحِكَايَة الْمَشْهُورَة أَن بعض خلفاء بني الْعَبَّاس سَأَلَ بعض الْعلمَاء أَن يحدثه عَمَّا أدْرك فَقَالَ أدْركْت عمر بن عبد الْعَزِيز فَقيل لَهُ أفغرت أَفْوَاه بنيك من هَذَا المَال وتركتهم فُقَرَاء لَا شَيْء لَهُم وَكَانَ فِي مرض مَوته فَقَالَ أدخلوهم عَليّ فأدخلوهم وهم بضعَة عشر ذكرا لَيْسَ فيهم بَالغ فَلَمَّا رَآهُمْ فرقت عَيناهُ ثمَّ قَالَ وَالله يَا بني مَا منعتكم حَقًا هُوَ لكم وَلم أكن بِالَّذِي يَأْخُذ أَمْوَال النَّاس فأدفعها إِلَيْكُم وَإِنَّمَا أَنْتُم أحد رجلَيْنِ إِمَّا صَالح فَالله يتَوَلَّى الصَّالِحين وَإِمَّا غير صَالح فَلَا
(1/84)

أخلف لَهُ مَا يَسْتَعِين بِهِ على مَعْصِيّة الله قومُوا عني
قَالَ فَلَقَد رَأَيْت بعض وَلَده مَا حمل على مئة فرس فِي سَبِيل الله يَعْنِي أَعْطَاهَا لمن يَغْزُو عَلَيْهَا وَإِنَّمَا أَخذ كل وَاحِد من أَوْلَاده من تركته شَيْئا يَسِيرا يُقَال أقل من عشْرين درهما
81 - قَالَ وَحَضَرت بعض الْخُلَفَاء وَقد اقتسم بنوه فَأخذ كل وَاحِد سِتّمائَة ألف دِينَار وَلَقَد رَأَيْت بَعضهم يَتَكَفَّف النَّاس أَي يسألهم بكفه
82 - وَقد دلّ كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْولَايَة أَمَانَة يجب ردهَا وأداؤها فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن مثل مَا تقدم وَمثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ذَر فِي الْإِمَارَة (إِنَّهَا أَمَانَة وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خزي وندامة إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) رَوَاهُ مُسلم
التَّصَرُّف بالأصلح للمشمول بِالْولَايَةِ

83 - وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على هَذَا فَإِن وَصِيّ الْيَتِيم وناظر الْوَقْف ووكيل الرجل فِي مَاله يجب عَلَيْهِ أَن يتَصَرَّف لَهُ بالأصلح فالأصلح كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ}
(1/85)

أحسن) وَلم يقل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ حَسَنَة فَإِذا كَانَ الْوَلِيّ معزولا عَن غير الْأَصْلَح فِي مَال الْيَتِيم فمصلحة جَمِيع الْمُسلمين أولى بذلك
84 - وَفِي الصَّحِيح عَن معقل بن يسَار قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (مَا من عبد يسترعيه الله تَعَالَى رعية يَمُوت يَوْم يَمُوت وَهُوَ غاش لرعيته إِلَّا حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة)
85 - وَفِي لَفْظَة عِنْد مُسلم (مَا من أَمِير يَلِي أُمُور الْمُسلمين لَا يجْهد وَينْصَح لَهُم إِلَّا لم يدْخل مَعَهم الْجنَّة)
الْأَمِير أجِير للْمُسلمين

86 - وَدخل أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ على مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَجِير فَقَالُوا قل السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَجِير فَقَالُوا قل الْأَمِير فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَجِير فَقَالَ مُعَاوِيَة دعوا أَبَا مُسلم فَإِنَّهُ أعلم بِمَا يَقُول فَقَالَ إِنَّمَا أَنْت أجِير أستأجرك رب هَذِه الْغنم لرعايتها فَإِن أَنْت هنأت جَرْبَاهَا وداويت مرضاها وحبست أولاها على
(1/86)

أخراها وفاك سَيِّدهَا أجرك وَإِن أَنْت لم تهنأ جَرْبَاهَا وَلم تداو مرضاها وَلم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سَيِّدهَا
الْوُلَاة نواب الله على عباده

87 - وَهَذَا ظَاهر فِي الِاعْتِبَار فَإِن الْخلق عباد الله والولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء الْعباد على نُفُوسهم بِمَنْزِلَة أحد الشَّرِيكَيْنِ مَعَ الآخر ففيهم معنى الْولَايَة وَالْوكَالَة
ثمَّ الْوَلِيّ وَالْوَكِيل مَتى استناب فِي أُمُوره رجلا وَترك من هُوَ أصلح للتِّجَارَة مِنْهُ أَو بَاعَ السّلْعَة بِثمن وَهُوَ يجد من يَشْتَرِيهَا بِخَير من ذَلِك الثّمن فقد خَان صَاحبه لَا سِيمَا إِن كَانَ بَينه وَبَين من حاباه مَوَدَّة أَو قرَابَة فَإِن صَاحبه يبغضه ويذمه وَيرى أَنه قد خانه وداهن قَرِيبه أَو صديقه
تَقْدِيم الْأَصْلَح للْإِمَامَة

88 - قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي قَوَاعِده إِذا شغر الزَّمَان عَن الْولَايَة الْعُظْمَى وَحضر اثْنَان يصلحان للْإِمَامَة لم يجز الْجمع بَينهمَا لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ من الْفساد باخْتلَاف الآراء فتتعطل الْمصَالح بِسَبَب ذَلِك لِأَن أَحدهمَا يرى مَا لَا يرَاهُ الآخر من جلب الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد وَإِنَّمَا تنصب الْوُلَاة للْقِيَام بجلب مصَالح
(1/87)

الْمولى عَلَيْهِ ودرء الْمَفَاسِد عَنهُ بِدَلِيل قَول مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون {اخلفني فِي قومِي وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين} فَإِن كَانَا متساويين من كل وَجه تخير بَينهمَا وَيحْتَمل أَن يقرع دفعا لتأذي من يُؤَخر مِنْهُمَا
تَقْدِيم الصَّالح على الْأَصْلَح

89 - وَإِن كَانَ أَحدهمَا أصلح تعيّنت ولَايَة الْأَصْلَح على الصَّالح إِلَّا أَن يكون الْأَصْلَح بغيضا إِلَى النَّاس أَو محتقرا عِنْدهم وَيكون الصَّالح محببا إِلَيْهِم أَو عَظِيما فِي أَعينهم فَيقدم الصَّالح على الْأَصْلَح لِأَن الإقبال عَلَيْهِ مُوجب للمسارعة إِلَى طواعيته وامتثال أمره فِي جلب الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَيصير حِينَئِذٍ أرجح مِمَّن ينفر عَنهُ لتقاعد أعوانه عَن المسارعة إِلَى مَا يَأْمر بِهِ من الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد فَيصير الصَّالح بِهَذَا السَّبَب أصلح
اجْتِمَاع اثْنَيْنِ يصلحان لولاية الْأَحْكَام

90 - وَإِذا اجْتمع اثْنَان يصلحان لولاية الْأَحْكَام فَإِن تَسَاويا من كل وَجه ولينا كل وَاحِد قطرا إِن شغرت الأقطار وَإِن كَانَت مشحونة بالقضاة والحكام تخيرنا بَينهمَا أَو ولينا كل وَاحِد جانبا من جَوَانِب الْبَلَد أَو أقرعنا بَينهم
(1/88)

الْقيام بِأَمْر الْأَيْتَام

91 - قَالَ وَإِذا اجْتمع جمَاعَة يصلحون للْقِيَام بِأَمْر الْأَيْتَام قدم الْحَاكِم أقومهم بذلك وأعرفهم بمصالح الْأَيْتَام وأشدهم شَفَقَة ومرحمة فَإِن تساووا من كل وَجه تخير وَيجوز أَن يولي كل وَاحِد مِنْهُم بعض الْولَايَة مَا لم يكن بَينهمَا تنَازع فيهمَا وَاخْتِلَاف يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل مصالحها ودرء مفاسدها لِأَن الْولَايَة كلما ضَاقَتْ قوي الْوَالِي على جلب مصالحها ودرء مفاسدها
الْقيام بِأَمْر الْأَذَان

92 - قَالَ وَإِذا اجْتمع جمَاعَة يصلحون للأذان فَإِن تساووا أقرعنا بَينهم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول ثمَّ لم يَجدوا إِلَّا أَن يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا عَلَيْهِ) وَإِن تفاوتوا فِي الثِّقَة والعفة وَالْأَمَانَة وَمَعْرِفَة الْمَوَاقِيت وَحسن الصَّوْت قدمنَا الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل لِأَن الْمصلحَة فِيهِ أعظم
الْقيام بِأَمْر الحروب

93 - قَالَ وَلَا يقدم فِي ولَايَة الحروب إِلَّا أَشْجَع النَّاس وأعلمهم بمكايد الحروب والقتال مَعَ النجدة والشجاعة وَحسن السِّيرَة فِي الأتباع فَإِن كَانُوا مستوين فِي كل ذَلِك فَإِن كَانَت الْجِهَة وَاحِدَة تخير الإِمَام وَله أَن يقرع بَينهم كَيْلا يجد بَعضهم على الإِمَام بِتَقْدِيم غَيره عَلَيْهِ وَإِن تعدّدت الْجِهَات صرف كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى جِهَة تلِيق بِهِ
الضَّابِط فِي الولايات

94 - وَالضَّابِط فِي الولايات كلهَا أَنا لَا نقدم فِيهَا إِلَّا أقوم النَّاس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها فَيقدم الأقوم بأركانها وشرائطها على الأقوم بسننها وآدابها
الإِمَام فِي الصَّلَاة

95 - فَيقدم فِي الْإِمَامَة الْفَقِيه على القارىء عِنْد الشَّافِعِي والأفقه على الْأَقْرَاء لِأَن الْفَقِيه أعلم باختلال الْأَركان والشرائط بِمَا يطْرَأ على الصَّلَاة من المفسدات وَكَذَلِكَ يقدم الْوَرع على غَيره لِأَن ورعه يحثه على إِكْمَال الشَّرَائِط وَالسّنَن والأركان فَيكون إِذن أقوم بمصلحة الصَّلَاة وَقدم بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي بنظافة الثَّوْب لِأَن الْغَالِب أَن المتنزه من الأقذار الَّتِي لَيست بأنجاس أَنه يتنزه من النَّجَاسَات فَيكون أقوم بِشَرْط الصَّلَاة
وَكَذَلِكَ يقدم الْبَصِير على الْأَعْمَى عِنْد بَعضهم لِأَنَّهُ يرى من
(1/89)

النَّجَاسَات مَا لَا يرَاهُ الْأَعْمَى فَيكون أَشد تَحَرُّزًا من النَّجَاسَات الَّتِي اجتنابها شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة
وَأما غض الْأَعْمَى عَن الْمُحرمَات فَلَيْسَ غضه شرطا فِي صِحَة الصَّلَاة
الْقيام بِأَمْر الْمَوْتَى

96 - وَأما غسل الْمَوْتَى وتكفينهم فَيقدم الْقَادِر على إِكْمَال الْقيام بمصالح هَذِه الْوَاجِبَات وَلِهَذَا يقدم الْآبَاء على الْأَوْلَاد لِأَن حنو الْآبَاء أكمل من حنو الْأَوْلَاد وَلذَلِك يقدم الْقَرِيب فِي الصَّلَاة على الْمَيِّت على جَمِيع أهل الولايات لِأَن الْمَقْصُود من الصَّلَاة الشَّفَاعَة للْمَيت والقريب لفرط شفقته وَشدَّة حزنه عَلَيْهِ يُبَالغ فِي الدُّعَاء مَا لَا يَفْعَله الْأَجَانِب
الْقيام بِأَمْر الصغار الْحَضَانَة الْأَمْوَال

97 - وَكَذَلِكَ تقدم الْأُم على الْأَب فِي الْحَضَانَة لمعرفتها بهَا وفرط حنوها على الطِّفْل وَإِذا اسْتَوَى النِّسَاء فِي دَرَجَات الْحَضَانَة فقد يقرع بَينهُنَّ وَقد يتَخَيَّر والقرعة أولى
98 - وَيقدم الْآبَاء على الْأُمَّهَات فِي النّظر فِي مصَالح أَمْوَال
(1/91)

المجانين والأطفال وَفِي التَّأْدِيب وارتياد الْحَرْف والصناعات لأَنهم أقوم بذلك وَأعرف بِهِ من الْأُمَّهَات
الْولَايَة فِي أَمر النِّكَاح

99 - وَكَذَلِكَ يقدم فِي ولَايَة النِّكَاح الْأَقَارِب على الموَالِي والحكام وَيقدم من الْأَقَارِب أرفقهم بالمولى عَلَيْهِ كالآباء والأجداد وَيقدم الْجد على الأوصياء وَالْأَئِمَّة والحكام وَيقدم الأوصياء على الْحُكَّام
(1/92)

الْفَصْل الرَّابِع أَرْكَان الْولَايَة

100 - وَالْولَايَة لَهَا ركنان الْقُوَّة وَالْأَمَانَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين} وَقَالَ صَاحب مصر ليوسف فِيمَا حَكَاهُ الله تَعَالَى {إِنَّك الْيَوْم لدينا مكين أَمِين} وَقَالَ تَعَالَى فِي صفة جِبْرِيل {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين}
101 - وَالْقُوَّة فِي كل ولَايَة بحسبها
الْقُوَّة فِي إِمَارَة الْحَرْب

102 - فالقوة فِي إِمَارَة الْحَرْب ترجع إِلَى شجاعة الْقلب والخبرة بالحروب والمخادعة فِيهَا فَإِن الْحَرْب خدعة وَإِلَى الْقُدْرَة على أَنْوَاع الْقِتَال من رمي وَطعن وَضرب وركوب وكر وفر وَنَحْو ذَلِك كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل}
(1/93)

الْقُوَّة فِي الحكم بَين النَّاس

103 - وَالْقُوَّة فِي الحكم بَين النَّاس ترجع إِلَى الْعلم بِالْعَدْلِ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتفطن لحجاج الْخُصُوم وخدعهم وَهُوَ معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أقضاكم عَليّ) أَي هُوَ أَشد تفطنا للخداع وحجج المتحاكمين وخدعهم وَبِه يظْهر الْجمع بَينه وَبَين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أعلمكُم بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل)
فَإِذا كَانَ معَاذ أعرف بالحلال وَالْحرَام كَانَ أقضى النَّاس غير أَن الْقَضَاء لما كَانَ يرجع إِلَى معرفَة الْحجَّاج والتفطن لَهَا كَانَ أمرا زَائِدا على معرفَة الْحَلَال وَالْحرَام فقد يكون الْإِنْسَان شَدِيد الْمعرفَة بالحلال وَالْحرَام وَهُوَ يخدع بأيسر الشُّبُهَات وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح (إِنَّمَا أَنا بشر وَإِنَّكُمْ تختصمون إِلَيّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضي لَهُ على نَحْو مِمَّا أسمع) الحَدِيث فَدلَّ ذَلِك على أَن الْقَضَاء يتبع الْحجَّاج فَمن كَانَ
(1/94)

أَشد تفطنا لَهُ كَانَ أقضى من غَيره ويتقدم على غَيره
شُرُوط الْأَمَانَة

104 - وَالْأَمَانَة ترجع إِلَى خشيَة الله وَألا يَشْتَرِي بآياته ثمنا قَلِيلا وَهَذِه الْخِصَال الثَّلَاث الَّتِي أَخذهَا الله على كل من حكم بَين النَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تخشوا النَّاس واخشون وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْقُضَاة ثَلَاث قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة) الحَدِيث
مدى اجْتِمَاع الْقُوَّة وَالْأَمَانَة

105 - واجتماع الْقُوَّة وَالْأَمَانَة الْيَوْم فِي النَّاس قَلِيل وَلِهَذَا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول اللَّهُمَّ أَشْكُو جلد الْكَافِر وَعجز الثِّقَة
ولَايَة الحروب للقوي الشجاع

107 - فَيقدم فِي ولَايَة الحروب الْقوي الشجاع وَإِن كَانَ فِيهِ فجور على الرجل الْعَاجِز الضَّعِيف وَإِن كَانَ أَمينا كَمَا سُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن الرجلَيْن يكونَانِ أمينين فِي الْغَزْو أَحدهمَا
(1/95)

قوي فَاجر وَالْآخر صَالح ضَعِيف مَعَ أَيهمَا نغزو فَقَالَ أما الْفَاجِر الْقوي فقوته للْمُسلمين وفجوره على نَفسه وَأما الصَّالح الضَّعِيف فصلاحه لنَفسِهِ وَضَعفه على الْمُسلمين يغزي مَعَ الْقوي الْفَاجِر
107 - وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر)
التطبيق فِي عهد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

108 - وَإِذا لم يكن فَاجِرًا كَانَ أولى بإمارة الْحَرْب مِمَّن هُوَ أصلح مِنْهُ فِي الدّين إِذا لم يسد مسده وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَعْمل خَالِد بن الْوَلِيد على الْحَرْب مُنْذُ أسلم وَكَانَ ثمَّ من هُوَ أفضل مِنْهُ فِي الدّين لَكِن كَانَ رَضِي الله عَنهُ غَايَة فِي الْحَرْب حَتَّى قَالَ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن خَالِدا سيف الله على الْمُشْركين) مَعَ أَنه أَحْيَانًا كَانَ يعْمل مَا يُنكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِنَّه مرّة رفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء وَقَالَ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا صنع خَالِد) لما أرْسلهُ إِلَى بني جذيمة
(1/96)

فَقَتلهُمْ وَأخذ أَمْوَالهم بِنَوْع شُبْهَة عرضت لَهُ وَتَأْويل أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَأنكرهُ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأنْكرهُ عَلَيْهِ بعض من كَانَ مَعَه من أَصْحَابه حَتَّى وداهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضمن أَمْوَالهم وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ يقدمهُ فِي إِمَارَة الْحَرْب لِأَنَّهُ أصلح فِي هَذَا الْبَاب من غَيره
109 - وَكَانَ أَبُو ذَر أصلح مِنْهُ فِي الْأَمَانَة والصدق كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد حسنه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء من نسمَة أصدق لهجة من أبي ذَر) وَمَعَ هَذَا فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا أَبَا ذَر إِنِّي أَرَاك ضَعِيفا وَإِنِّي أحب لَك مَا أحب لنَفْسي لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين مَال يَتِيم) رَوَاهُ مُسلم نَهَاهُ عَن الْإِمَارَة لِأَنَّهُ رَآهُ ضَعِيفا مَعَ قَوْله فِيهِ مَا قَالَ
110 - وَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة عَمْرو بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل استعطافا لأقاربه الَّذين بَعثه إِلَيْهِم على من هُوَ أفضل مِنْهُ
(1/97)

111 - وَأمر أُسَامَة بن زيد لأجل طلب ثأر أَبِيه
وَكَذَلِكَ كَانَ يسْتَعْمل الرجل لمصْلحَة راجحة مَعَ أَنه قد كَانَ يكون مَعَ الْأَمِير من هُوَ أفضل مِنْهُ
التطبيق فِي عهد الْخَلِيفَة الراشد أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ

112 - وَهَكَذَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ مَا زَالَ يسْتَعْمل خَالِدا فِي حَرْب أهل الرِّدَّة وَفِي فتوح الْعرَاق وَالشَّام وَأشيع عَلَيْهِ مَا أوجب إِشَارَة عمر على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فِي عَزله فَلم يعزله من أجل رُجْحَان الْمصلحَة
113 - قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي قَوَاعِده لما اتهمَ خَالِد بن الْوَلِيد بِأَنَّهُ قتل مَالك بن نُوَيْرَة ليتزوج امْرَأَته بعده حَتَّى قَالَ الشَّاعِر
(وَجَرت منا يَا مَالك بن نُوَيْرَة ... عقيلته الْحَسْنَاء أَيَّام خَالِد)
حرص عمر رَضِي الله عَنهُ على أَن يعزله أَبُو بكر فَامْتنعَ أَبُو بكر من عَزله لِأَنَّهُ كَانَ أصلح فِي قتال أهل الرِّدَّة من غَيره وَهُوَ أصوب مِمَّا رَآهُ عمر لِأَن تِلْكَ الرِّيبَة لم تكن قادحة فِي كَونه أقوم بِالْحَرْبِ من غَيره فَلَمَّا تولى عمر عَزله هَذَا لفظ الشَّيْخ
(1/98)

الْجمع بَين اللين والشدة

114 - وَقَالَ بعض الْعلمَاء إِذا كَانَ الْمُتَوَلِي الْكَبِير يمِيل خلقه إِلَى اللين فَيَنْبَغِي أَن يسْتَعْمل من يمِيل خلقه إِلَى الشدَّة وَإِذا كَانَ خلقه يمِيل إِلَى الشدَّة فَيَنْبَغِي لنائبه أَن يمِيل إِلَى اللين ليعتدل الْأَمر وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يُؤثر استنابة خَالِد وَكَانَ عمر يُؤثر عزل خَالِد واستنابة أبي عُبَيْدَة الْجراح لِأَن خَالِدا كَانَ شَدِيدا كعمر وَأَبُو عُبَيْدَة كَانَ لينًا كَأبي بكر وَكَانَ الْأَصْلَح لكل مِنْهُمَا أَن يولي من ولاه ليَكُون أمره معتدلا وَيكون بذلك من خلفاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي هُوَ معتدل كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنا نَبِي الرَّحْمَة وَأَنا نَبِي الملحمة) وَقَالَ (أَنا الضحوك الْقِتَال) وَأمته وسط قَالَ الله تَعَالَى فيهم
(1/99)

{أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} وَقَالَ {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين}
115 - وَلِهَذَا لما ولي أَبُو بكر وَعمر صَارا كَامِلين فِي الْولَايَة واعتدل مِنْهُمَا مَا كَانَا ينسبان فِيهِ إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لين أَحدهمَا وَشدَّة الآخر حَتَّى قَالَ فيهمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر) وَظهر من أبي بكر من شجاعة الْقلب فِي قتال أهل الرِّدَّة وَغَيرهم مَا برز بِهِ على عمر وَجَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ
(1/100)

ألحاجة إِلَى الْأَمَانَة أَشد

116 - وَإِن كَانَت الْحَاجة إِلَى الْأَمَانَة أَشد قدم الْأمين مثل حفظ الْأَمْوَال وَنَحْوهَا فَأَما استخراجها وحفظها فَلَا بُد فِيهِ من قوي أَمِين
الْجمع بَين من تحصل بهم الْكِفَايَة

117 - وَإِذا لم تتمّ الْمصلحَة بِرَجُل وَاحِد جمع بَين عدد تحصل بهم الْكِفَايَة
(1/101)

الْفَصْل الْخَامِس عزل الإِمَام للقضاة

عزل لريبة

118 - قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي قَوَاعِده إِذا أَرَادَ الإِمَام عزل الْحَاكِم فَإِن رابه مِنْهُ شَيْء عَزله لما فِي إبْقَاء الْمُرِيب من الْمفْسدَة إِذْ لَا تصلح ولَايَة الْمُرِيب على جِهَة عَامَّة وَلَا خَاصَّة لما يخْشَى من خيانته فِيهَا
أَحْوَال الْعَزْل دون رِيبَة

119 - وَإِن لم تكن رِيبَة فَلهُ أَحْوَال
إِحْدَاهَا أَن يعزله بِمن هُوَ دونه فَلَا يجوز عَزله لما فِيهِ من تَفْوِيت الْمُسلمين الْمصلحَة الْحَاصِلَة من جِهَة فَضله على غَيره وَلَيْسَ للْإِمَام تَفْوِيت الْمصَالح من غير معَارض
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يعزله بِمن هُوَ أفضل مِنْهُ فَينفذ عَزله تَقْدِيمًا للأصلح على الصَّالح لما فِيهِ من الْمصلحَة الراجحة للْمُسلمين
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يعزله بِمن يُسَاوِيه فقد أجَازه بَعضهم لما ذَكرْنَاهُ
(1/103)

من التَّخْيِير عِنْد تَسَاوِي الْمصَالح وكما يتَخَيَّر بَينهمَا فِي ابْتِدَاء الْولَايَة
وَقَالَ آخَرُونَ لَا يجوز لما فِيهِ من الْكسر بِالْعَزْلِ وعاره بِخِلَاف ابْتِدَاء الْولَايَة
(1/104)

الْفَصْل السَّادِس الْبَحْث وَالتَّحْقِيق قبل عزل الْوَالِي أَو القَاضِي

120 - وَيَنْبَغِي للْإِمَام إِذا شكى وَال أَو قَاض أَن يبْحَث عَن ذَلِك ليتعرف الْحق فِيهِ فَيعْمل مُقْتَضى مصلحَة الْمُسلمين
التطبيق فِي عهد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ

121 - وروى الإِمَام الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب السّير عَن خَالِد بن معدان قَالَ اسْتعْمل علينا عمر بن الْخطاب بحمص سعيد بن عَامر ابْن حذيم الجُمَحِي فَلَمَّا قدم عمر بن الْخطاب حمص قَالَ يَا أهل حمص كَيفَ وجدْتُم عاملكم فشكوه إِلَيْهِ وَكَانَ يُقَال حمص الكويفة الصُّغْرَى لشكايتهم الْعمَّال قَالُوا نشكو أَرْبعا لَا يخرج
(1/105)

إِلَيْنَا حَتَّى يتعالى النَّهَار قَالَ أعظم بهَا قَالَ فَمَاذَا قَالُوا يغنط الغنطة بَين الْأَيَّام يَعْنِي تَأْخُذهُ موتَة أَي شبه بالجنون
قَالَ فَجمع عمر بَينهم وَبَينه وَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تفيل رَأْيِي فِيهِ الْيَوْم مَا تشكون مِنْهُ قَالُوا لَا يخرج إِلَيْنَا حَتَّى يتعالى النَّهَار
قَالَ وَالله إِن كنت لأكْره ذكره قَالَ لَيْسَ لأهلي خَادِم فأعجن عجيني ثمَّ أَجْلِس حَتَّى يختمر ثمَّ أخبز خبزي ثمَّ أتوضأ ثمَّ أخرج إِلَيْهِم
قَالَ مَا تشكون مِنْهُ قَالُوا لَا يُجيب أحدا بلَيْل قَالَ مَا تَقول
قَالَ إِن كنت لأكْره ذكره إِنِّي جعلت النَّهَار لَهُم وَجعلت اللَّيْل لله
قَالَ وَمَا تشكون مِنْهُ قَالُوا إِن لَهُ يَوْمًا من الشَّهْر لَا يخرج إِلَيْنَا فِيهِ قَالَ مَا تَقول
قَالَ لَيْسَ لي خَادِم يغسل ثِيَابِي وَلَا لي ثِيَاب أبدلها فأجلس حَتَّى تَجف ثمَّ أدلكها ثمَّ أخرج إِلَيْهِم فِي آخر النَّهَار
قَالَ مَا تشكون مِنْهُ قَالَ يغنط الغنطة بَين الْأَيَّام قَالَ مَا تَقول
قَالَ شهِدت مصرع خبيب الْأنْصَارِيّ بِمَكَّة قد بضعت قُرَيْش
(1/106)

لَحْمه ثمَّ حملوه على جَذَعَة فَقَالُوا أَتُحِبُّ مُحَمَّدًا مَكَانك فَقَالَ وَالله مَا أحب أَنِّي فِي أَهلِي وَأَن مُحَمَّدًا شيك شيكة ثمَّ نَادَى يَا مُحَمَّد فَمَا ذكرت ذَلِك الْيَوْم وتركي نصرته فِي تِلْكَ الْحَال وَأَنا مُشْرك لَا أُؤْمِن بِاللَّه الْعَظِيم إِلَّا ظَنَنْت أَلا يغْفر الله لي بذلك أبدا
قَالَ فتصيبني تِلْكَ الغنطة فَقَالَ عمر الْحَمد لله الَّذِي لم يفيل رَأْيِي فِيهِ فَبعث إِلَيْهِ بِأَلف دِينَار وَقَالَ اسْتَعِنْ بهَا على أَمرك فَقَالَت امْرَأَته الْحَمد لله الَّذِي أغنانا من خدمتك فَقَالَ لَهَا فَهَل لَك فِي خير من ذَلِك ندفعها إِلَى من يأتينا بهَا أحْوج مَا نَكُون إِلَيْهَا
قَالَت نعم فَدَعَا رجل من أَهله يَثِق بِهِ فصررها صررا ثمَّ قَالَ انْطلق بِهَذِهِ إِلَى أرملة آل فلَان وَإِلَى يَتِيم آل فلَان وَإِلَى مِسْكين آل فلَان فَبَقيت مِنْهَا ذهيبة فَقَالَ انفقي هَذِه ثمَّ عَاد إِلَى عمله فَقَالَت أَلا تشتري لنا خَادِمًا مَا فعل ذَلِك المَال قَالَ سيأتيك أحْوج مَا تكونين
(1/107)

الْفَصْل السَّابِع اتِّخَاذ الْحجاب من الْوَالِي يُؤَدِّي إِلَى الْفساد

122 - وَأعظم مَا يكون الْفساد على الْوَالِي فِي مَمْلَكَته من اتِّخَاذ الْحجاب وإرخاء الْحجاب وَوضع النواميس والسياسة الَّتِي يعتمدها مُلُوك الْأَعَاجِم فَإِن حَاشِيَة الْملك بِسَبَب ذَلِك تصير ملوكا ويكذبون على لِسَان الْملك وَيمْنَعُونَ الْمَظْلُوم من شكاية مظلمته ويفعلون مَا أَرَادوا
الدَّلِيل من السّنة الشَّرِيفَة

123 - وَقد قَالَ عَمْرو بن مرّة يَا مُعَاوِيَة إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (مَا من إِمَام أَو وَال يغلق بَابه دون ذَوي الْحَاجة والخلة والمسكنة إِلَّا أغلق الله عز وَجل أَبْوَاب السَّمَاء دون حَاجته وَخلته ومسكنته) فَجعل مُعَاوِيَة رجلا على حوائج النَّاس أخرجه أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ غَرِيب
(1/109)

124 - وَعَن أبي مَرْيَم الْأَزْدِيّ قَالَ دخلت على مُعَاوِيَة فَقَالَ مَا أنعمنا بك أَبَا فلَان وَهِي كلمة تَقُولهَا الْعَرَب فَقلت حَدِيث سمعته أخْبرك بِهِ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (من ولاه الله شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فاحتجب دون حَاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حَاجته وَخلته وَفَقره يَوْم الْقِيَامَة) قَالَ فَجعل مُعَاوِيَة رجلا على حوائج النَّاس رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
125 - وَعَن معَاذ بن جبل قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من ولي من أَمر الْمُسلمين شَيْئا فاحتجب عَن أولي الضعفة وَالْحَاجة احتجب الله عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة) أخرجه أَحْمد
126 - وَذكر البُخَارِيّ حَدِيث الْمَرْأَة الَّتِي مر بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي تبْكي عِنْد قبر وأمرها بِالصبرِ الحَدِيث قَالَ فَجَاءَت إِلَى بَابه فَلم تَجِد عِنْده بوابا
(1/110)

اشْتِرَاط عمر بن الْخطاب على عماله عدم الْحجاب

127 - وَكَانَ عمر بن الْخطاب إِذا بعث عَاملا اشْترط عَلَيْهِ أَرْبعا لَا يركب البراذين وَلَا يلبس الرَّقِيق وَلَا يَأْكُل النقي وَلَا يتَّخذ حاجبا وَلَا يغلق بَابا عَن حوائج النَّاس وَمَا يصلحهم وَيَقُول إِنِّي لَا أستعملك على أبشارهم وَلَا على أعراضهم وَإِنَّمَا استعملك لتصلح بَينهم وتقضي بَينهم بِالْعَدْلِ
ملكان من الْهِنْد والصين ينصفان المظلومين

128 - وبلغنا أَن ملكا من مُلُوك الْهِنْد نزل بِهِ صمم فظل مهتما بِأُمُور المظلومين وَأَنه لَا يسمع استغاثتهم فَأمر مناديه أَلا يلبس أحد فِي مَمْلَكَته ثوبا أَحْمَر إِلَّا أَن يكون مَظْلُوما وَقَالَ لَئِن منعت سَمْعِي لم أمنع بَصرِي فَكَانَ كل من ظلم لبس ثوبا أَحْمَر ووقف تَحت قصره فَيكْشف ظلامته
(1/111)

قَالَ صَاحب سراج الْمُلُوك قَالَ شَيخنَا وَأَخْبرنِي أَبُو الْعَبَّاس الْحِجَازِي وَكَانَ مِمَّن دخل الصين بسيرة عَجِيبَة غَرِيبَة لملوكها فِي سياستهم وَذَلِكَ أَن للبيت الَّذِي يكون فِيهِ الْملك يَجْعَل فِيهِ ناقوسا موصلا بسلسلة وطرف السلسلة فِي خَارج الطَّرِيق وَعَلَيْهَا أُمَنَاء السُّلْطَان وحفظته فَيَأْتِي الْمَظْلُوم فيحرك السلسلة فَيسمع الْملك ضرب الناقوس فيأمر بِإِدْخَال الْمَظْلُوم وكل من حرك تِلْكَ السلسلة تمسكه تِلْكَ الْحفظَة حَتَّى يدْخل على السُّلْطَان
129 - فتيسير الْإِذْن على المظلومين من أجمل الطّرق الَّتِي يتَوَصَّل بهَا السُّلْطَان إِلَى قيام الْعدْل
القَاضِي واتخاذ البواب والحاجب

130 - وَإِذا جلس القَاضِي للْحكم بَين النَّاس كره لَهُ اتِّخَاذ البواب والحاجب إِذا لم تكن زحمة تشوش عَلَيْهِ حكمه وَأما إِذا كَانَت زحمة فَلَا يكره اتِّخَاذ الْحَاجِب لترتيبهم فِي الدَّعَاوَى
(1/112)

التطبيق فِي عهد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ

131 - وَذكر صَاحب سراج الْمُلُوك عَن عبَادَة بن رَافع قَالَ بلغ عمر بن الْخطاب أَن سعد بن أبي وَقاص اتخذ قصرا وَجعل عَلَيْهِ بَابا وَقَالَ انْقَطع الصويت فَأرْسل عمر مُحَمَّد بن مسلمة وَكَانَ عمر إِذا أحب أَن يُؤْتى بِالْأَمر كَمَا هُوَ بَعثه فَقَالَ لَهُ إئت سَعْدا فَأحرق عَلَيْهِ بَابه فَقدم الْكُوفَة فَلَمَّا أَتَى الْبَاب أخرج زنده واستورى نَارا ثمَّ حرق الْبَاب فَأتى سَعْدا الْخَبَر وَوصف لَهُ صفته فَعرفهُ فَخرج إِلَيْهِ سعد فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد إِنَّه بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنَّك قلت انْقَطع الصويت فَحلف سعد بِاللَّه مَا قَالَ ذَلِك
فَقَالَ مُحَمَّد نَفْعل مَا أمرنَا بِهِ ونؤدي عَنْك مَا تَقول ثمَّ ركب رَاحِلَته حَتَّى قدم الْمَدِينَة فابترد من المَاء ثمَّ رَاح فَلَمَّا أبصره عمر قَالَ لَوْلَا حسن الظَّن بك مَا رَأينَا أَنَّك أدّيت وَذكروا أَنه أسْرع السّير فَقَالَ وَهُوَ يعْتَذر وَيحلف بِاللَّه مَا قَالَ فَقَالَ عمر أَلا آمُر لَك بِشَيْء قَالَ قد رَأَيْت مَكَانا أَن تَأمر لي فَقَالَ عمر إِن أَرض الْعرَاق أَرض رقيقَة وَأَن أهل الْمَدِينَة يموتون حَولي من الْجُوع فَخَشِيت أَن آمُر لَك بِشَيْء يكون لَك بارده ولي حاره
(1/113)

الْفَصْل الثَّامِن الشرطة

اتِّخَاذ الشرطي

132 - وَلَا بَأْس باتخاذ الشرطي بَين يَدي الْوَالِي
الدَّلِيل من السّنة الشَّرِيفَة

133 - فقد ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أنس بن مَالك أَن قيس بن سعد كَانَ يكون بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَنْزِلَة صَاحب الشَّرْط من الْأَمِير وَلَا بَأْس بِأَن يتَّخذ موضعا يتَمَيَّز بِهِ عَن النَّاس
(1/115)

134 - فقد روى النَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي ذَر قَالَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجلس بَين ظهراني أَصْحَابه فَيَجِيء الْغَرِيب فَلَا يدْرِي أَيهمْ حَتَّى يسْأَل فطلبنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نجْعَل لَهُ مَجْلِسا يعرفهُ بِهِ الْغَرِيب إِذا أَتَى فبنينا دكانا من طين يجلس عَلَيْهِ وَلم يكن لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجِب وَلَا بواب وَلَا يُقَال بَين يَدَيْهِ إِلَيْك إِلَيْك كَمَا يُقَال بَين يَدي الْحُكَّام والولاة
مشي النَّاس بَين يَدي الْوُلَاة والحكام بِدعَة

135 - وَقد أحدث الْوُلَاة والحكام فِي هَذَا الزَّمَان بدعا مِنْهَا ركُوب الْوَالِي والحكام وَالنَّاس مشَاة بَين يَدَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا من أَخْلَاق المتواضعين وَلَا من أَفعَال المقتفين لآثار سيد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
136 - فَإِنَّهُ ثَبت عَن قيس بن سعد قَالَ زارنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر قصَّة فِي آخرهَا فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف قرب سعد لَهُ حمارا وطأ عَلَيْهِ بقطيفة فَركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ سعد يَا قيس اصحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قيس فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اركب) فأبيت فَقَالَ (إِمَّا أَن تركب وَإِمَّا
(1/116)

أَن تَنْصَرِف) فَانْصَرَفت
(1/117)

الْفَصْل التَّاسِع مصَالح النَّاس

تَقْسِيم السُّلْطَان لأوقاته

137 - وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَلا يشغل أوقاته بحظوظ نَفسه فتضيع مصَالح النَّاس كَمَا قَالَه أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد قسم كسْرَى أَيَّامه فَقَالَ يصلح يَوْم الرّيح وللنوم وَيَوْم الْغَيْم للصَّيْد وَيَوْم الْمَطَر للشُّرْب وَاللَّهْو وَيَوْم الشَّمْس للحوائج
138 - قَالَ ابْن خالويه مَا كَانَ أعرفهم بسياسة دنياهم {يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون} وَلَكِن
(1/119)

نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا دخل منزله جزأ دُخُوله ثَلَاثَة أَجزَاء وجزءا لله وجزءا لأَهله وجزءا لنَفسِهِ ثمَّ جُزْء أجزاءه بَين النَّاس وَكَانَ يَسْتَعِين بالخاصة على الْعَامَّة وَيَقُول
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَحْقِيق حاجات النَّاس

139 - (أبلغوني حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع إبلاغي فَإِنَّهُ من بلغ حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع إبلاغها آمنهُ الله يَوْم الْفَزع الْأَكْبَر)
140 - وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كَانَ وصلَة لِأَخِيهِ الْمُسلم إِلَى ذِي سُلْطَان فِي تَبْلِيغ يسر أَو تيسير عسر أجَازه الله على الصِّرَاط عِنْد دحض الْأَقْدَام) أخرجه أَبُو حَاتِم
ودحض الْأَقْدَام بِإِسْكَان الْحَاء زللها وَعدم ثُبُوتهَا
141 - وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (من بلغ ذَا سُلْطَان حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع إبلاغها ثَبت الله قَدَمَيْهِ على الصِّرَاط يَوْم تزل الْأَقْدَام) أخرجه الْبَزَّار
حسن السمت وَالْوَقار للسُّلْطَان وَالْحَاكِم

142 - وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان وَالْحَاكِم أَن يجمع فِي مَجْلِسه بَين حسن
(1/120)

السمت وَالْوَقار من غير عبوس بل يكون دَائِم الْبشر من غير ضحك كثير الصمت لَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي خير
143 - روى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَن خَارِجَة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوقر النَّاس فِي مَجْلِسه لَا يكَاد يخرج شَيْئا من أَطْرَافه
144 - وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْمَسْجِد احتبى بيدَيْهِ
145 - وَكَذَلِكَ كَانَ أَكثر جُلُوسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَبِيًا
146 - وَعَن جَابر بن سَمُرَة أَنه تربع وَرُبمَا جلس القرفصاء وَكَانَ كثير السُّكُوت لَا يتَكَلَّم فِي غير حَاجَة يعرض عَمَّن تكلم بِغَيْر جميل وَكَانَ ضحكه تبسما فضلا لَا فضول وَلَا تَقْصِير وَكَانَ ضحك أَصْحَابه عِنْده التبسم توقيرا لَهُ واقتداء بِهِ مَجْلِسه مجْلِس حلم وحياء وَخير وَأَمَانَة لَا ترفع فِيهِ الْأَصْوَات
(1/121)

وَلَا توهن فِيهِ الْحرم إِذا تكلم أطرق جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا على رُؤْسهمْ الطير
147 - قَالَ ابْن أبي هَالة كَانَ سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَربع على الْحلم والحذر وَالتَّقْدِير والتفكير
148 - قَالَت عَائِشَة (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث حَدِيثا لَو عده الْعَاد لأحصاه
(1/122)

الْفَصْل الْعَاشِر التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ

149 - يجب على الْحَاكِم التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ فِي دخولهما عَلَيْهِ وَفِي الْقيام وَالنَّظَر إِلَيْهِمَا وَالِاسْتِمَاع وطلاقة الْوَجْه وَسَائِر أَنْوَاع الْإِكْرَام فَلَا يخص أَحدهمَا بِشَيْء من ذَلِك
رد السَّلَام على الْخُصُوم

150 - وَيُسَوِّي فِي جَوَاب سلامهما فَإِن سلما أجابهما مَعًا وَإِن سلم أَحدهمَا قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي يصبر حَتَّى يسلم الآخر فيجيبهما وَقد يتَوَقَّف فِي هَذَا إِذا طَال الْفَصْل وَذكر أَنه لَا بَأْس أَن يَقُول للْآخر سلم فَإِذا سلم أجابهما وَكَأَنَّهُم احتملوا هَذَا الْفَصْل مُحَافظَة على التَّسْوِيَة
وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنهم جوزوا ترك الْجَواب مُطلقًا
(1/123)

واستبعده إِمَام الْحَرَمَيْنِ
جُلُوس الْخُصُوم

151 - وَيُسَوِّي بَينهمَا أَيْضا فِي الْمجْلس فيجلس أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله إِن كَانَا شريفين أوبين يَدَيْهِ وَهُوَ الأولى على الْإِطْلَاق
مدى التَّسْوِيَة مَعَ الذِّمِّيّ

152 - فَلَو كَانَ أَحدهمَا مُسلما وَالْآخر ذِمِّيا فَفِيهِ وَجْهَان
الصَّحِيح مِنْهُمَا الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ أَنه يرفع الْمُسلم فِي الْمجْلس
وَالثَّانِي يُسَوِّي بَينهمَا وَهُوَ الَّذِي ذكره صَاحب عُمْدَة السالك على مَذْهَب مَالك وَحكى فِيهِ فِي مَذْهَب مَالك خلافًا
(1/124)

فَقَالَ وَقيل يرفع الْمُسلم على الذِّمِّيّ
153 - وَحكى صَاحب كتاب بَدَائِع الْبَدَائِع فِي كِتَابه محَاسِن الشَّرَائِع عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ لَئِن جرت فِي الْقَضَاء بَين عباده لم أجر إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَإِلَّا فَلَا يغْفر الله لي ادّعى يَهُودِيّ على هَارُون الرشيد دَعْوَى فأحضرت هَارُون الرشيد باستدعاء الْيَهُودِيّ فَلَمَّا حضر هَارُون قلت لِلْيَهُودِيِّ قُم واجلس حَيْثُ يجلس خصمك وَمَا قلت لهارون قُم واجلس حَيْثُ يجلس
(1/125)

خصمك
154 - وَإِنَّمَا تجب على الْحَاكِم التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ فِيمَا ذَكرْنَاهُ لِأَن تَقْدِيم أحد الْخَصْمَيْنِ مُوجب لإيغار صدر الآخر وحقده وَلَا يجْرِي ذَلِك بَين الْمُسلم وَالْكَافِر على قَول لِأَن خيانته على نَفسه بالْكفْر أَخَّرته وأوجبت هضمه وإذلاله كَمَا نلزمهم بالصغار
155 - وَقد رُوِيَ أَن عليا اعْترف درعا مَعَ يَهُودِيّ فَقَالَ يَا يَهُودِيّ دِرْعِي سَقَطت مني يَوْم كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الْيَهُودِيّ مَا أَدْرِي مَا تَقول دِرْعِي وَفِي يَدي وبيني وَبَيْنك قاضيك فَانْطَلقَا إِلَى القَاضِي شُرَيْح فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْح قَامَ لَهُ من مَجْلِسه فَجَلَسَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ قَالَ لَو كَانَ خصمي مُسلما لجلست مَعَه بَين يَديك وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (لَا تساووهم فِي الْمجَالِس وَلَا تعودوا مرضاهم وَلَا تشيعوا جنائزهم واضطروهم
(1/126)

إِلَى أضيق الطّرق) ثمَّ قَالَ دِرْعِي عرفتها مَعَ هَذَا الْيَهُودِيّ
فَقَالَ شُرَيْح صدقت وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَكِن لَا بُد من شَاهد فَدَعَا قنبرا فَشهد لَهُ ودعا الْحسن وَلَده فَشهد لَهُ فَقَالَ شُرَيْح أما شَهَادَة مَوْلَاك فقد قبلناها وَأما شَهَادَة ابْنك لَك فَلَا فَقَالَ لَهُ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِنِّي سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة) فَقَالَ اللَّهُمَّ نعم قَالَ أَفلا تجيز شَهَادَة سيد شباب أهل الْجنَّة وَالله لتخْرجن إِلَى بلد كَذَا فتحكمن بَين أَهلهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ سلم الدرْع إِلَى الْيَهُودِيّ فَقَالَ الْيَهُودِيّ أَمِير
(1/127)

الْمُؤمنِينَ مَشى معي إِلَى قاضيه فَقضى عَلَيْهِ فَرضِي بِهِ صدقت إِنَّهَا لدرعك سَقَطت مِنْك يَوْم كَذَا وَكَذَا عَن جمل لَك أَوْرَق فالتقطتها وَأَنا أشهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَقَالَ عَليّ هَذِه الدرْع وَهَذِه الْفرس لَك وَفرض لَهُ كل سنة تِسْعمائَة وَلم يزل مَعَه حَتَّى قتل بصفين وَكَانَ شُرَيْح قد قضى لعمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا وَمَات فِي خلَافَة عبد الْملك
التَّسْوِيَة بَين الْخَلِيفَة وَأحد من الرّعية

156 - قَالَ الشّعبِيّ أَخذ عمر بن الْخطاب من رجل فرسا على سوم فَحمل عَلَيْهِ رجلا فَعَطب الْفرس فَقَالَ عمر اجْعَل بيني وَبَيْنك رجلا فَقَالَ صَاحب الْفرس اجْعَل بيني وَبَيْنك شريحا الْعِرَاقِيّ فَجعله فَقَالَ شُرَيْح يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَخَذته صَحِيحا سليما على سوم فَعَلَيْك أَن ترده كَمَا أَخَذته فأعجب عمر قَوْله وَبعث بِهِ قَاضِيا وَقَالَ مَا وجدته فِي كتاب الله فَلَا تسْأَل عَنهُ أحدا وَمَا لم تستبن من كتاب الله فَالْزَمْ السّنة وَإِن لم تكن السّنة فاجتهد رَأْيك وَلَا تشَاور وَلَا تمار وَلَا تشتر وَلَا تبع
(1/128)

كَيْفيَّة الْقَضَاء

157 - وَعَن عبد الله بن الزبير قَالَ قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَن الْخَصْمَيْنِ يقعدان بَين يَدي الْحَاكِم) أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد
158 - وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه إِلَى الْيمن قَاضِيا فَقَالَ يَا رَسُول الله تبعثني وَأَنا حَدِيث السن وَلَا علم لي بِالْقضَاءِ فَقَالَ (إِن الله سيهدي قَلْبك ويسدد لسَانك فَإِذا جلس بَين يَديك الخصمان فَلَا تقضين حَتَّى تسمع من الآخر كَمَا سَمِعت من الأول فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء) فَمَا زلت قَاضِيا وَمَا تشككت فِي قَضَاء بعد أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مُخْتَصرا وَقَالَ // حَدِيث حسن //
وَهَذَا الَّذِي علمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا هُوَ الْعدْل وَبِه يتفطن الْحَاكِم لوجه الْحق وتلوح لَهُ بوادره لَا سِيمَا إِن كَانَ الْحَاكِم لبيبا فطنا لَهُ فراسة صائبة كَمَا وَقع لِسُلَيْمَان بن دَاوُد
(1/129)

صلى الله عَلَيْهِمَا فِي الْقَضَاء بَين الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْوَلَد وَهُوَ مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابناهما جَاءَ الذِّئْب فَذهب بِابْن إِحْدَاهمَا فَقَالَت هَذِه لصاحبتها إِنَّمَا ذهب بابنك أَنْت قَالَت الْأُخْرَى إِنَّمَا ذهب بابنك فتحاكما إِلَى دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى بِهِ للكبرى فخرجتا على سُلَيْمَان فأخبرتاه فَقَالَ ائْتُونِي بالسكين لأشقه بَيْنكُمَا فَقَالَت الصُّغْرَى لَا يَرْحَمك الله هُوَ ابْنهَا فَقضى بِهِ للصغرى) وَأخرجه النَّسَائِيّ وَترْجم عَلَيْهِ بَاب السعَة للْحَاكِم أَن يَقُول الشَّيْء لَا يَفْعَله أفعل ليستبين الْحق
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم فَقَالَ (ائْتُونِي بسكين فَقَالَت الصُّغْرَى مَه قَالَ أشقه بَيْنكُمَا قَالَت ادفعه إِلَيْهَا وَقَالَت الْكُبْرَى شقَّه بَيْننَا قَالَ فَقضى بِهِ للصغرى وَقَالَ لَو كَانَ ابْنك لم ترض أَن أشقه
وَعَن الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى {ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} فَحَمدَ سُلَيْمَان وَلم يلم دَاوُد وَلَوْلَا مَا ذكر الله من أَمر هذَيْن لرأيت أَن الْقُضَاة قد هَلَكُوا فَإِنَّهُ أثنى على هَذَا بِعِلْمِهِ
(1/130)

وَعذر هَذَا بِاجْتِهَادِهِ
إصْلَاح الْحَاكِم بَين الْخَصْمَيْنِ

159 - وَمن أعجب الْأَقْضِيَة وأحسنها مَا رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اشْترى رجل من رجل عقارا فَوجدَ الَّذِي اشْترى الْعقار فِي عقاره جرة فِيهَا ذهب فَقَالَ الَّذِي اشْترى الْعقار خُذ ذهبك مني إِنَّمَا اشْتريت مِنْك الأَرْض وَلم أشتر مِنْك الذَّهَب وَقَالَ الَّذِي شرى الأَرْض إِنَّمَا بِعْتُك الأَرْض وَمَا فِيهَا قَالَ فتحاكما إِلَى رجل فَقَالَ الَّذِي تحاكما إِلَيْهِ ألكما ولد فَقَالَ أَحدهمَا لي غُلَام وَقَالَ الآخر لي جَارِيَة فَقَالَ أنكحوا الْغُلَام الْجَارِيَة وأنفقا على أنفسكما مِنْهُ وتصدقا
(1/131)

الْفَصْل الْحَادِي عشر يجب على الْحَاكِم الحذر من الْهوى

أثر الْهوى

160 - وليحذر الْحَاكِم كل الحذر من الْهوى فَإِنَّهُ يعمي ويصم كَمَا رَوَاهُ أَبُو ذَر بِإِسْنَاد عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (حبك الشَّيْء يعمي ويصم)
معنى الْهوى

161 - وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن مَعْنَاهُ فَقَالَ يعمي الْعين عَن النّظر إِلَى مساويه ويصم الْأذن عَن اسْتِمَاع الْعدْل فِيهِ وَأَنْشَأَ يَقُول
(وكذبت طرفِي فِيك والطرف صَادِق ... وأسمعت فِيك الْأذن مَا لَيْسَ تسمع)
(1/133)

الْفَصْل الثَّانِي عشر الرِّشْوَة والهدية

الحذر من الرِّشْوَة

162 - وليحذر من الرِّشْوَة والهدية فَإِنَّهُمَا يجعلان الْحق بَاطِلا وَالْعدْل جورا
الدَّلِيل من السّنة

163 - روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لعن الله الراشي والمرتشي فِي الحكم) أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ
164 - وَعَن ثَوْبَان قَالَ لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الراشي والمرتشي والرايش يَعْنِي الَّذِي يمشي بَينهمَا رَوَاهُ أَحْمد
(1/135)

الرِّشْوَة الوصلة إِلَى الْحَاجة وَأَصلهَا من الرشا الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى المَاء قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ والراشي الَّذِي يُعْطي من يُعينهُ على الْبَاطِل أَو إبِْطَال الْحق أَو مَنعه والمرتشي الْآخِذ والرايش الَّذِي يمشي بَينهمَا يستزيد هَذَا وينتقص لهَذَا
حكم الرِّشْوَة لدفع الظُّلم أَو للتوصل إِلَى الْحق

165 - وَأما مَا أعْطى لدفع الظُّلم أَو للتوصل إِلَى الْحق فَغير دَاخل فِيمَا ذكرنَا
وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من التَّابِعين الْحسن وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَعَطَاء أَنهم قَالُوا لَا بَأْس أَن يصانع الْإِنْسَان عَن نَفسه وَمَاله إِذا خَافَ الظُّلم
هَدَايَا الْعمَّال غلُول

166 - وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي كتاب الْهَدَايَا عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (هَدَايَا الْعمَّال غلُول)
(1/136)

التطبيق فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

167 - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ قَالَ اسْتعْمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من الأزد يُقَال لَهُ ابْن اللتبية على الصَّدَقَة فَلَمَّا قدم قَالَ هَذَا لكم وَهَذَا أهدي إِلَيّ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا بَال الرجل نَسْتَعْمِلهُ على الْعَمَل بِمَا ولاني اله فَيَقُول هَذَا لكم وَهَذَا أهدي إِلَيّ فَهَلا جلس فِي بَيت أَبِيه أَو بَيت أمه فَينْظر أيهدى إِلَيْهِ أم لَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة يحملهُ على رقبته إِن كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَو بقرة لَهَا خوار أَو شَاة تَيْعر) ثمَّ رفع يَدَيْهِ حَتَّى رَأينَا عفرتي إبطَيْهِ وَقَالَ (اللَّهُمَّ هَل بلغت اللَّهُمَّ هَل بلغت ثَلَاثًا) العفر بِضَم الْعين الْمُهْملَة وبالفاء الْبيَاض الَّذِي لَيْسَ بناصع
مُحَابَاة الْوُلَاة فِي الْمُعَامَلَة من نوع الْهَدِيَّة

168 - وَكَذَا مُحَابَاة الْوُلَاة فِي الْمُعَامَلَة من نوع الْهَدِيَّة وَلِهَذَا شاطر سيدنَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من عماله من كَانَ لَهُ فضل وَدين لَا يتهم بخيانة وَإِنَّمَا شاطرهم لما خصوا بِهِ
(1/137)

لأجل الْولَايَة من الْمُحَابَاة وَغَيرهَا
169 - وَعَن عدي بن عميرَة الْكِنْدِيّ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (من استعملناه مِنْكُم على عمل فكتمنا مخيطا فَمَا فَوْقه كَانَ غلولا يَأْتِي بِهِ يَوْم الْقِيَامَة) قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ رجل من الْأَنْصَار أسود كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ فَقَالَ اقبل عني عَمَلك قَالَ وَمَالك قَالَ سَمِعتك تَقول كَذَا وَكَذَا قَالَ (وَأَنا أقوله الْآن من استعملناه مِنْكُم على عمل فليجيء بقليله وَكَثِيره فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخذ وَمَا نهي عَنهُ انْتهى) أخرجه أَحْمد وَمُسلم
الْوَاجِب كف الظُّلم وَقَضَاء الْحَوَائِج الْمُبَاحَة

170 - وَقد يبتلى النَّاس من الْوُلَاة بِمن يمْتَنع من قبُول الْهَدِيَّة وَنَحْوهَا ليتَمَكَّن بذلك من اسْتِيفَاء الْمَظَالِم مِنْهُم وَيتْرك مَا أوجبه الله من قَضَاء حوائجهم فَيكون من أَخذ مِنْهُم عوضا على كف ظلم وَقَضَاء حَاجَة مُبَاحَة أحب إِلَيْهِم من هَذَا وَإِنَّمَا الْوَاجِب
(1/138)

كف الظُّلم عَنْهُم وَقَضَاء حوائجهم الَّتِي لَا تتمّ مصالحهم إِلَّا بهَا
الإهداء بعد قَضَاء الْحَاجة

171 - وَقد روى الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من شفع لِأَخِيهِ بشفاعة فأهدى إِلَيْهِ هَدِيَّة فقبلها فقد أَتَى بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الرِّبَا)
172 - وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ السُّحت أَن يطْلب الرجل الْحَاجة للرجل فتقضى لَهُ فيهدي إِلَيْهِ فيقبلها
173 - وَرُوِيَ أَيْضا عَن مَسْرُوق أَنه كلم ابْن زِيَاد فِي مظْلمَة فَردهَا فأهدى إِلَيْهِ صَاحبهَا وصيفا فَردهَا عَلَيْهِ وَقَالَ سَمِعت ابْن مَسْعُود يَقُول من رد على مُسلم مظْلمَة فرزقه عَلَيْهَا قَلِيلا أَو كثيرا فَهُوَ سحت فَقلت يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن مَا كُنَّا نرى السُّحت إِلَّا الرِّشْوَة فِي الحكم قَالَ ذَلِك كفر
(1/139)

شريك وَطَعَام الْمُلُوك

174 - وَدخل يَوْمًا على الْمهْدي أَبُو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي شريك فَقَالَ لَهُ لَا بُد أَن تُجِيبنِي إِلَى خصْلَة من ثَلَاث خِصَال إِمَّا أَن تلِي الْقَضَاء أَو تحدث وَلَدي وتعلمهم أَو تآكل عِنْدِي أَكلَة وَذَلِكَ قبل أَن يَلِي الْقَضَاء فأفكر ثمَّ قَالَ الْأكلَة أخفها على نَفسِي فاحتبسه وَأمر الطباخ أَن يصلح لَهُ ألوانا من المخ الْمَعْقُود بالسكر وَالْعَسَل غير ذَلِك فَعمل وَقدم إِلَيْهِ فَأكل فَلَمَّا فرغ من الْأكل قَالَ الطباخ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ يفلح الشَّيْخ بعده هَذِه الْأكلَة أبدا فَحَدثهُمْ شريك بعد ذَلِك وَعلم أَوْلَادهم وَولي الْقَضَاء وَكتب لَهُ برزقه على الصَّيْرَفِي فضايقه فِي النَّقْد وَقَالَ إِنَّك لن تبيع بِهِ بزا فَقَالَ وَالله بِعْت بِهِ أَكثر من الْبَز بِعْت بِهِ ديني
حكم أَخذ أَمْوَال النَّاس بِغَيْر حق

175 - وَإِذا أَخذ السُّلْطَان أَو غَيره من الْوُلَاة أَمْوَال النَّاس بِغَيْر حق وَقد تعذر ردهَا على أَصْحَابهَا ككثير من الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة وعَلى ورثتهم فَالْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يصرفهَا مَعَ التَّوْبَة إِن
(1/140)

كَانَ هُوَ الظَّالِم إِلَى مصَالح الْمُسلمين هَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء وَإِن كَانَ غَيره قد أَخذهَا وَتعذر ردهَا على أَصْحَابهَا وَثمّ إِمَام عَادل يصرفهَا فِي مصَالح الْمُسلمين دَفعهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا صرفهَا هُوَ بِنَفسِهِ إِلَى أهم الْمصَالح فأهمها وَلَا يَدْفَعهَا إِلَى وَال يأكلها وَهَذَا فِيهِ المعاونة على الْبر وَالتَّقوى
مدَار الشَّرِيعَة

176 - ومدار الشَّرِيعَة على قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} الْمُفَسّر لقَوْله تَعَالَى (اتَّقوا الله حق تُقَاته) وعَلى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم) أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
الْوَاجِب تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها

177 - وعَلى أَن الْوَاجِب تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتبطيل الْمَفَاسِد وتقليلها فَإِذا تَعَارَضَت كَانَ تَحْصِيل أعظم المصلحتين
(1/141)

بتفويت أدناهما وَدفع أعظم المفسدتين مَعَ احْتِمَال أدناهما هُوَ الْمَشْرُوع
جَوَاز الْأَخْذ على الحكم إِذا لم يكن لَهُ رزق

178 - وَعَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فَمَا أَخذ بعد ذَلِك فَهُوَ غلُول) أخرجه أَبُو دَاوُود وَمَفْهُومه جَوَاز الْأَخْذ على الحكم إِذا لم يكن لَهُ رزق وَقد جوزه بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي بِشَرْط أَلا يكون لَهُ رزق على بَيت المَال وَأَن يَأْخُذ مِقْدَار أُجْرَة الْعَمَل
179 - فَإِن قيل فقد كَانَ رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل الْهَدِيَّة قيل قَالَ بعض الْعلمَاء بتخصيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَأَنه لَيْسَ لأحد بعده من الْخُلَفَاء والقضاة والولاة قبُولهَا لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هَدَايَا الْعمَّال غلُول)
180 - وَرُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/142)

هَدِيَّة وللأمراء بعده رشوة)
181 - وَرُوِيَ عَن سيدنَا عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه يردهَا إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف مَا أهْدى إِلَيْهِ أهل الْحَرْب فَهُوَ لَهُ دون بَيت مَال الْمُسلمين
182 - وَمِمَّا نظمته فِي الرِّشْوَة
(تَبًّا لقاض حَاكم بالهوى ... كالذئب لَكِن بَين أَثوَاب)
(إِن دخلت منزله رشوة ... أخرجت الْحق من الْبَاب)
183 - ولبعضهم فِي قبُول الْهَدِيَّة
(إِن الْهَدِيَّة حلوة هِيَ ... كالسحر تجتلب القلوبا)
(تدني الْبعيد من الْهوى ... حَتَّى تصيره قَرِيبا)
(وتعيد مصطفى الْعَدَاوَة ... بعد جفوته حبيبا)
منزلَة السُّلْطَان من بَيت مَال الْمُسلمين

184 - وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن ينزل نَفسه منزلَة وَاحِد من الْمُسلمين فَلَا يتَنَاوَل من بَيت المَال فَوق كِفَايَته
185 - فقد روى الْبَيْهَقِيّ أَن أَبَا بكر لما اسْتخْلف غَدا إِلَى السُّوق فَقَالَ لَهُ عمر أَيْن تُرِيدُ قَالَ السُّوق قَالَ إِنَّه قد جَاءَك مَا يشغلك
(1/143)

عَن السُّوق قَالَ سُبْحَانَ الله يشغلني عَن عيالي قَالَ فَفرض لَهُ بِالْمَعْرُوفِ
186 - وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة قَالَت لما اسْتخْلف أَبُو بكر قَالَ لقد علم قومِي أَن حرفتي لم تكن تعجز عَن معشية أَهلِي وشغلت بِأَمْر الْمُسلمين فيأكل آل أبي بكر من هَذَا المَال ويحترف للْمُسلمين فِيهِ وَمعنى الحرفة الْكسْب أَي يكْتَسب لَهُم بِقدر مَا يَأْكُل من أَمْوَالهم

وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِنَّمَا أنزلت نَفسِي من هَذَا المَال منزلَة ولي الْيَتِيم إِن احتجت أخذت فَإِذا أَيسَرت رَددته وَإِن اسْتَغْنَيْت اسْتَعْفَفْت وَإِن افْتَقَرت أكلت بِالْمَعْرُوفِ وَلم يذكر الرَّد أخرجه الْبَيْهَقِيّ
حُقُوق الْعَامِل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

187 - وَعَن الْمُسْتَوْرد بن شَدَّاد قَالَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (من كَانَ لنا عَاملا فليكتسب زَوْجَة فَإِن لم يكن لَهُ خَادِم فليكتسب خَادِمًا فَإِن لم يكن لَهُ مسكن فليكتسب مسكنا) قَالَ وَقَالَ أَبُو بكر أخْبرت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَمن اتخذ غير ذَلِك فَهُوَ
(1/144)

غال أَو سَارِق) أخرجه أَبُو دَاوُد
188 - وَقَالَ الْخطابِيّ هَذَا يتَأَوَّل على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه يُبَاح لَهُ اكْتِسَاب الْخَادِم والمسكن ذَلِك من عمالته الَّتِي هِيَ أُجْرَة مثله وَلَيْسَ لَهُ أَن يرتفق بِشَيْء سواهَا
وَالْوَجْه الآخر لِلْعَامِلِ السُّكْنَى وَالْخَادِم فَإِن لم يَكُونَا لَهُ اُسْتُؤْجِرَ لَهُ مسكن مُدَّة مقَامه فِي عمله وخادم يَكْفِيهِ مهنة مثله
189 - وَعَن الْأَحْنَف بن قيس قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد بَاب عمر فَخرجت علينا جَارِيَة فَقُلْنَا هَذِه سَرِيَّة أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَت وَالله مَا أَنا بسرية وَلَا أحل لَهُ وَإِنِّي لمن مَال الله ثمَّ دخلت فَخرج علينا عمر فَقَالَ مَا ترَوْنَ يحل لي من هَذَا المَال أَو من مَال الله قَالَ قُلْنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعلم قَالَ إِن شِئْتُم أَخْبَرتكُم مَا أستحل مِنْهُ مَا أحج وأعتمر عَلَيْهِ من الظّهْر وحلتي فِي الشتَاء وحلتي فِي الصَّيف وقوت عيالي وشبعي وسهمي فِي الْمُسلمين
(1/145)

للوالي أَن يَأْخُذ من بَيت المَال قدر كِفَايَته

190 - قَالَ معمر يجوز للوالي أَن يَأْخُذ من بَيت المَال قدر كِفَايَته من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة لَهُ وَلمن تلْزمهُ نَفَقَته ويتخذ مسكنا وخادما
أجر القَاضِي

191 - وَكَانَ شُرَيْح يتَّخذ على الْقَضَاء أجرا
192 - قَالَ الشَّافِعِي يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يَجْعَل مَعَ رزق القَاضِي شَيْئا لقرطاسه
193 - وَكَانَ ابْن مَسْعُود يكره لقَاضِي الْمُسلمين أَن يَأْخُذ أجرا أَو عمالة
يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وخزائن الأَرْض

194 - ويروى أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لما ملك خَزَائِن الأَرْض كَانَ يجوع وَيَأْكُل خبز الشعيلر فَقيل لَهُ أتجوع وبيدك خَزَائِن الأَرْض قَالَ أَخَاف أَن أشْبع فأنسى الجائعين
أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَبَيت مَال الْمُسلمين

195 - وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ لما حضرت أَبَا بكر الْوَفَاة قَالَ
(1/146)

انْظُرُوا كم أنفقت من مَال الله فوجدوا قد أنْفق فِي سنتَيْن وَنصف ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم قَالَ اقضوها عني فقضوها عَنهُ ثمَّ قَالَ يَا معشر الْمُسلمين إِنَّه قد حضر من أَمر الله مَا ترَوْنَ فَلَا بُد لكم مِمَّا يَلِي أَمركُم وَيُصلي بكم وَيُقَاتل عَدوكُمْ فَإِن شِئْتُم اجْتَمَعْتُمْ أَنْتُم وذلكم وَإِن شِئْتُم اجتهدت لكم فو الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا ألوكم وَنَفْسِي خيرا فبكوا وَقَالُوا أَنْت خيرنا وَأَعْلَمنَا فاختر لنا فَقَالَ قد اخْتَرْت لكم عمر
عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وعماله وأموال بَيت المَال

196 - وَقَالَ أنس بن مَالك غلا الطَّعَام على عهد عمر بن الْخطاب فَأكل عمر الشّعير وَكَانَ قبل ذَلِك لَا يَأْكُلهُ فاستنكر بِهِ بَطْنه فَضَربهُ بِيَدِهِ وَقَالَ هُوَ وَالله مَا ترى حَتَّى يُوسع الله على الْمُسلمين
197 - وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ رَأَيْت عمر بن الْخطاب يطوف بِالْبَيْتِ وَعَلِيهِ جُبَّة صوف فِيهَا اثْنَتَا عشرَة رقْعَة إِحْدَاهَا بأدم أَحْمَر
198 - وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب اسْتعْمل عمر بن الْخطاب السَّائِب
(1/147)

ابْن الْأَقْرَع على الْمَدَائِن فَدخل إيوانا لكسرى فَإِذا صنم يُشِير بِأُصْبُعِهِ إِلَى الأَرْض قد عقد أَرْبَعِينَ قَالَ وَالله مَا يُشِير هَذَا بإصبعه إِلَى الأَرْض إِلَّا وَثمّ شَيْء فحفر فَاسْتَخْرَجُوا سفطا فِيهِ جَوْهَر فَكتب إِلَى عمر بن الْخطاب أما بعد فَإِنِّي دخلت إيوانا لكسرى فَرَأَيْت كَذَا وَكَذَا فاحتفرت فأخرجت سفطا فِيهِ جَوْهَر فَلم أجد أَحَق بِهِ مِنْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يكن من فئ الْمُسلمين فأقسمه بَينهم إِنَّمَا أصبْنَا شَيْئا تَحت الأَرْض فَلَمَّا قدم السفط على عمر وَعَلِيهِ خَاتم السَّائِب فَرَأى عمر فِيمَا يرى النَّائِم كَأَن نَارا أججت وَهُوَ يُرِيد أَن يلقى فِيهَا فَكتب إِلَى السَّائِب أَن أقدم عَليّ
قَالَ فَلَمَّا قدمت عَلَيْهِ وَهُوَ يطوف فِي إبل الصدقه فطفت مَعَه إِلَى نصف النَّهَار ثمَّ دَعَا بِمَاء فاغتسل ثمَّ دَعَا لي بِمَاء فاغتسلت ثمَّ ذهب إِلَى منزله فَأتى بِلَحْم غليظ وخبز مستخشن ثمَّ قَالَ انْظُر من على الْبَاب فَإِذا أسودان فَجعل يَأْكُل مَعَهم فَإِذا لحم غليظ لَا أَسْتَطِيع أسيغه وَقد كنت تعودت درمك أَصْبَهَان إِذا وَضعته فِي فِي دخل بَطْني ثمَّ دَعَا بالسفط فَقَالَ أتعرف خاتمك قَالَ نعم قَالَ كتبت ترقق لي تزْعم أَنِّي أَحَق بِهِ من أَيْن أصبته فَقَالَ اذْهَبْ فاجعله فِي بَيت الْمُسلمين حَتَّى أقسمه بَينهم
(1/148)

199 - وَقَالَ قَتَادَة قدم عمر الشَّام فَصنعَ لَهُ طَعَام لم ير قبله مثله فَقَالَ هَذَا لنا فَمَا لفقراء الْمُسلمين الَّذين مَاتُوا وهم لَا يشبعون من خبز الشّعير قَالَ خَالِد بن الْوَلِيد لَهُم الْجنَّة فاغرورقت عينا عمر وَقَالَ لَئِن كَانَ حظنا فِي هَذَا الطَّعَام وذهبوا وحظهم بِالْجنَّةِ لقد باينونا بونا بَعيدا
عمر بن الْخطاب وَأَبُو عُبَيْدَة الْجراح رَضِي الله عَنْهُمَا

200 - وَقَالَ عبد الله بن عمر الْعمريّ قَالَ عمر حِين قدم الشَّام لأبي عُبَيْدَة اذْهَبْ بِنَا إِلَى مَنْزِلك قَالَ مَا تُرِيدُ إِلَّا أَن تعصر عَيْنَيْك عَليّ قَالَ فَدخل منزله فَلم ير شَيْئا
قَالَ عمر أَيْن متاعك لَا أرى إِلَّا لبدا وشنا وصحفة وَأَنت أَمِير أعندك طَعَام فَقَامَ أَبُو عُبَيْدَة إِلَى جونة فَأخْرج مِنْهَا كسيرات فَبكى عمر فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة ألم أقل لَك فَمَا تُرِيدُ إِلَّا أَن تعصر عَيْنَيْك عَليّ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يَكْفِيك من الدُّنْيَا مَا بلغك المقيل فَقَالَ عمر غيرتنا الدُّنْيَا بعْدك يَا أَبَا عُبَيْدَة
201 - وَقَالَ النَّخعِيّ بعث أَمِير الْمُؤمنِينَ مُصدقين فأبطأوا عَلَيْهِ وبالناس حَاجَة شَدِيدَة فَجَاءُوا بالصدقات فَقَامَ مؤتزرا بعباءة
(1/149)

يخْتَلف فِي أَولهَا وَآخِرهَا وَيَقُول هَذِه لآل فلَان وَهَذِه لآل فلَان حَتَّى انتصف النَّهَار وجاع دخل بَيته حَتَّى إِذا أمكن أكله ثمَّ قَالَ من أدخلهُ النَّار بَطْنه فَأَبْعَده الله
202 - وَقَالَ طَاوس أجدب النَّاس على عهد عمر فَمَا أكل عمر سمنا وَلَا سمينا حَتَّى أكل النَّاس
عَليّ بن أبي طَالب وزهده

203 - وَقَالَ سعيد بن جُبَير إِن عليا قدم الْكُوفَة وَهُوَ خَليفَة وَعَلِيهِ إزاران قطويان قد رقع إزارا مِنْهُمَا بِخرقَة لَيست بقطوية من وَرَائه فجَاء أَعْرَابِي فَنظر إِلَى تِلْكَ الْخِرْقَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كل من هَذَا الطَّعَام والبس من هَذَا اللبَاس واركب فَإنَّك ميت أَو مقتول قَالَ إِن هَذَا خير لي فِي صَلَاتي وَأصْلح لقلبي وأشبه بِسنة الصَّالِحين قبلي وأجدر أَن يَقْتَدِي بِي من أَتَى من بعدِي
نَفَقَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي الْحَج

204 - وَلما حج عمر قَالَ كم بلغت نفقتنا يَا يرفأ قَالَ ثَمَانِيَة عشر دِينَارا قَالَ وَيحك أجحفنا بَيت مَال الْمُسلمين
عمر بن الْخطاب وعامله سعيد بن عَامر

205 - وَقَالَ شهر بن حَوْشَب لما بلغ عمر الشَّام طَاف بكورها
(1/150)

حَتَّى نزل حمص فَقَالَ اكتبوا لي فقراءهم فَرفعُوا إِلَيْهِ الرقعة فَإِذا سعيد بن عَامر فَقَالَ من سعيد بن عَامر قَالُوا أميرنا قَالَ فَعجب وَقَالَ كَيفَ يكون أميركم فَقِيرا قَالُوا إِنَّه لَا يمسك شَيْئا فَبكى عمر وَبعث بِأَلف دِينَار يَسْتَعِين بهَا فِي حَاجته فَجعل يسترجع فَقَالَت لَهُ امْرَأَته مَالك أَصَابَك أَمِير الْمُؤمنِينَ بشر قَالَ أعظم من ذَلِك أَتَتْنِي الدُّنْيَا دخلت عَليّ الدُّنْيَا وَإِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن فُقَرَاء الْمُسلمين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائها بِأَرْبَعِينَ عَاما) فو الله مَا يسرني أَنِّي احْتبست عَن الرعيل الأول وَأَن لي بِهِ مَا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس
قَالَت فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت قَالَ هَل عنْدك معاونة قَالَت نعم فَأَتَتْهُ بخمارها فصر فِيهِ الدَّنَانِير صررا ثمَّ جعلهَا فِي مخلاة وَبَات يُصَلِّي ويبكي حَتَّى أصبح فَأَعْرض جَيْشًا من جيوش الْمُسلمين فأمضاها كلهَا فَقَالَت امْرَأَته رَحِمك الله لَو حبست مِنْهَا شَيْئا نستعين بِهِ فَقَالَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (لَو اطَّلَعت امْرَأَة من نسَاء الْجنَّة إِلَى الأَرْض لملأت الأَرْض من ريح الْمسك)
(1/151)

وَإِنِّي وَالله مَا أختارك عَلَيْهِنَّ فَسَكَتَتْ
عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وعامله عُمَيْر بن سعد

206 - وَرُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اسْتعْمل رجلا على حمص يُقَال لَهُ عُمَيْر بن سعد فَلَمَّا مَضَت السّنة كتب إِلَيْهِ أَن يقدم عَلَيْهِ فَلم يشْعر بِهِ عمر إِلَّا أَن قدم مَاشِيا حافيا مَعَه عكازته ومزوده وقصعته على ظَهره فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ عمر قَالَ لَهُ يَا عُمَيْر أخنتنا أم الْبِلَاد بِلَاد سوء
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا نهاك الله أَن تجْهر بالسوء وَعَن سوء الظَّن وَمَا ترى من سوء الْحَال وَقد جئْتُك بالدنيا أجرهَا بقرابها قَالَ وَمَا مَعَك من الدُّنْيَا قَالَ عكازة أتوكأ عَلَيْهَا وأدفع بهَا عدوا إِن لَقيته ومزودي أحمل فِيهِ طَعَامي وإدواوتي هَذِه أحمل فِيهَا المَاء لشربي وصلاتي وقصعتي هَذِه أتوضا فِيهَا وأغسل فِيهَا رَأْسِي وآكل فِيهَا طَعَامي فو الله يَا أَمِير لمؤمنين مَا الدُّنْيَا بعد إِلَّا تبع لما معي
قَالَ فَقَامَ عمر من مَجْلِسه إِلَى قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر فَبكى ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ ألحقني بصاحبي غير مفتضح وَلَا مبدل ثمَّ عَاد إِلَى مَجْلِسه ثمَّ قَالَ مَا صنعت فِي عَمَلك يَا عُمَيْر قَالَ أخذت الرقة من أهل الرقة وَالْإِبِل من أهل الْإِبِل وَأخذت الْجِزْيَة من أهل الذِّمَّة عَن يَد وهم صاغرون ثمَّ قسمتهَا بَين الْفُقَرَاء
(1/152)

وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل فو الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو بَقِي مِنْهَا عِنْدِي شَيْء لأتيتك بِهِ فَقَالَ عمر عد إِلَى عَمَلك فَقَالَ عُمَيْر أنْشدك الله أَلا تردني إِلَى عَمَلي وَلم أسلم مِنْهُ حَتَّى قلت لذِمِّيّ أخزاك الله وَلَقَد خشيت أَن يخصمني لَهُ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد سمعته يَقُول (أَنا حجيج المظلومين) وَلَكِن ائْذَنْ لي آتِي أَهلِي فَأذن لَهُ فَأتى أَهله
فَبعث عمر رجلا يُقَال لَهُ خبيب بِمِائَة دِينَار فَقَالَ ائْتِ عُمَيْرًا فَانْزِل عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِن يَك خائنا لم يخف عَلَيْك فِي عيشه وَأهل بَيته وادفع إِلَيْهِ الْمِائَة دِينَار فَأَتَاهُ خبيب فَنزل عِنْده ثَلَاثًا فَلم ير لَهُ عَيْشًا إِلَّا الشّعير وَالزَّيْت فَلَمَّا مَضَت الثَّلَاث قَالَ لَهُ يَا خبيب إِن رَأَيْت أَن تتحول إِلَى جيراننا فلعلهم أَن يَكُونُوا أوسع عَيْشًا منا أما نَحن فَلَو كَانَ عندنَا وَالله غير هَذَا لآثرناك بِهِ قَالَ فَدفع إِلَيْهِ الْمِائَة وَقَالَ قد بعثها إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ فَدَعَا بِفَرْوٍ خلق لامْرَأَته فصرها الْخَمْسَة والستة والسبعة فَقَسمهَا
فَقدم خبيب على عمر فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ جئْتُك من عِنْد أزهد النَّاس وَمَا عِنْده من الدُّنْيَا لَا قَلِيل وَلَا كثير فَبعث إِلَيْهِ عمر وَقَالَ مَا صنعت بِالْمِائَةِ يَا عُمَيْر قَالَ لَا تَسْأَلنِي عَنْهَا قَالَ فلتخبرني قَالَ
(1/153)

قسمتهَا بيني وَبَين إخْوَانِي من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار قَالَ فَأمر لَهُ بوسقي طَعَام وثوبين قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما الثوبان فَأقبل وَأما الوسقان فَلَا حَاجَة لي بهما عِنْد أَهلِي صَاع من بر وَهُوَ كافيهم حَتَّى أرجع إِلَيْهِم
عمر بن الْخطاب وعامليه أبي عُبَيْدَة الْجراح ومعاذ بن جبل

207 - ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ صر أَرْبَعمِائَة دِينَار وَقَالَ للغلام اذْهَبْ بهَا إِلَى أبي عُبَيْدَة الْجراح ثمَّ تلكأ سَاعَة حَتَّى ترى مَا يصنع فَذهب بهَا الْغُلَام إِلَيْهِ وَقَالَ يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ اجْعَل هَذِه فِي بعض حَاجَتك قَالَ وَصله الله ورحمه ثمَّ قَالَ تعالي يَا جَارِيَة اذهبي بِهَذِهِ السَّبْعَة إِلَى فلَان وبهذه الْخَمْسَة إِلَى فلَان حَتَّى أنفذها
(1/154)

وَرجع الْغُلَام إِلَى عمر فَأخْبرهُ فَوَجَدَهُ قد عد مثلهَا لِمعَاذ بن جبل وَقَالَ مر بهَا إِلَى معَاذ بن جبل وتلكأ فِي الْبَيْت سَاعَة حَتَّى تنظر مَا يصنع فِيهَا فَذهب بهَا إِلَيْهِ وَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول اجْعَل هَذِه فِي بعض حَاجَتك فَقَالَ رَحمَه الله وَوَصله ثمَّ قَالَ يَا جَارِيَة اذهبي إِلَى فلَان بِكَذَا وَإِلَى فلَان بِكَذَا فَقَالَت امْرَأَة معَاذ وَنحن وَالله مَسَاكِين أعطنا وَلم يبْق إِلَّا دِينَارَانِ قد حابهما إِلَيْهَا فَذهب الْغُلَام فَأخْبرهُ فَقَالَ إِنَّهُم إخْوَة بَعضهم من بعض
عمر بن عبد الْعَزِيز أثْنَاء خِلَافَته

208 - وَلما ولي عمر بن عبد الْعَزِيز الْخلَافَة قدمت إِلَيْهِ الْخَيل فَقيل لَهُ هَذِه مراكب الْخلَافَة فَقَالَ مَالِي وَلها نَحْوهَا عني وقربوا إِلَيّ بغلتي فقربت إِلَيْهِ بغلته فجَاء صَاحب الشرطة يسير بَين يَدَيْهِ بالحربة فَقَالَ تَنَح عني مَالِي وَلَك إِنَّمَا أَنا رجل من الْمُسلمين ثمَّ أَمر بالستور فهتكت وَالثيَاب الَّتِي كَانَت تبسط للخلفاء فَحملت وَأمر بِبَيْعِهَا وَإِدْخَال ثمنهَا بَيت المَال ثمَّ ذهب يتبوأ مقيلا فَأَتَاهُ ابْنه فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تقيل وَلَا ترد الْمَظَالِم فَقَالَ أَي بني إِنِّي سهرت البارحة فِي أَمر عمك سُلَيْمَان فَإِذا صليت الظّهْر رددت الْمَظَالِم قَالَ من لَك أَن تعيش إِلَى الظّهْر قَالَ ادن مني يَا بني فَدَنَا مِنْهُ فَالْتَزمهُ وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي خرج من صلبي من يُعِيننِي على ديني فَخرج وَلم يقل ورد الْمَظَالِم
209 - ثمَّ سمعُوا من منزله بكاء عَالِيا فَقَالُوا مَا هَذَا قَالُوا إِنَّه
(1/155)

خير جواريه فَقَالَ إِنَّه قد نزل بِي أَمر شغلني عنكن فَمن أحب أَن أعْتقهَا عتقتها وَمن أَرَادَت أَن أمْسكهَا أَمْسَكتهَا وَلم يكن مني إِلَيْهَا شَيْء فبكين أياسا مِنْهُ
210 - وَقَالَت زَوجته فَاطِمَة مَا أعلم أَنه اغْتسل من جَنَابَة وَلَا من احْتِلَام مُنْذُ اسْتَخْلَفَهُ الله حَتَّى قَبضه وَقَالَ مُزَاحم لما اسْتخْلف عمر بن عبد الْعَزِيز قومُوا ثِيَابه فرادوها اثْنَي عشر درهما كمته وعمامته وقميصه وقباءه وقرطعته وخفيه ورداءه
211 - وَقَالَ عمر بن رَاشد أُتِي بالطيب الَّذِي كَانَ يصنع للخلفاء من بَيت المَال فَأمْسك على أَنفه وَقَالَ إِنَّمَا ينْتَفع بريحه
212 - وَقَالَ رَجَاء بن حَيْوَة قدمت امْرَأَة من أهل الْعرَاق على عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا صَارَت إِلَى بَابه قَالَت هَل على أَمِير الْمُؤمنِينَ من صَاحب فَقَالُوا لَا إِن أَحْبَبْت فلجي فَدخلت الْمَرْأَة على فَاطِمَة زَوْجَة عمر وَهِي جالسة فَبَكَتْ وَقَالَت إِنَّمَا جِئْت لأعمر بَيْتِي من هَذَا الْبَيْت الخراب فَقَالَت لَهَا فَاطِمَة وَالله مَا خربه إِلَّا عمَارَة بيُوت أمثالك
(1/157)

وَأَقْبل عمر حَتَّى دخل الدَّار فَمَال إِلَى بِئْر هُنَاكَ فَنزع الدَّلْو فَصَبَّهُ على طين كَانَ هُنَاكَ وَهُوَ يكثر النّظر إِلَى زَوجته فَقَالَت الْمَرْأَة استتري من هَذَا الطيان فَإِنِّي رَأَيْته يديم النّظر إِلَيْك فَقَالَت لَيْسَ هُوَ بالطيان هُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَبَكَتْ حَتَّى كَادَت أَن تهْلك ثمَّ غسل عمر رجلَيْهِ فَمَال إِلَى مصلى لَهُ فصلى مَا شَاءَ الله ثمَّ قدم زنبيلا فِيهِ عِنَب وَجعل يتَخَيَّر للْمَرْأَة ثمَّ قَالَ من أَيْن الْمَرْأَة قَالَت من أهل الْعرَاق فَقَالَ مَا حَاجَتك فَقَالَت لي خمس بَنَات كاسدات فَجعل يبكي وَيَقُول كاسدات ثمَّ قَالَ سمي الأولى فسمتها لَهُ فَفرض لَهَا وللثانية وللثالثة وللرابعة وَهِي تَقول الْحَمد لله فَلَمَّا بلغت إِلَى الْخَامِسَة شكرته فَرمى الْقَلَم من يَده ثمَّ قَالَ كنت أفرض لَهُنَّ لما كنت تولين الْحَمد لوَلِيِّه فَالْآن لما أوليتيني الْحَمد لَا أكتب للخامسة مري الْأَرْبَع أَن يواسين أختهن فدعَتْ لَهُ وانصرفت
فَلَمَّا قدمت الْعرَاق جَاءَت بِالْكتاب إِلَى واليه فَلَمَّا نظره بَكَى وَاشْتَدَّ بكاؤه وَقَالَ رحم الله صَاحب هَذَا الْكتاب فَقَالَت أمات قَالَ نعم فصاحت وولولت فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك أَنا أفرض لَك وَالله مَا أرد كِتَابه فِي شَيْء مَا كنت لأطيعه فِي حَيَاته وأعصيه بعد مماته فَفرض لَهَا
213 - وَدخل عمر بن عبد الْعَزِيز يَوْمًا فَرَأى تفاحة فِي يَد ولد لَهُ
(1/158)

صَغِير فأخرجها بِأُصْبُعِهِ فَبَكَتْ فَاطِمَة فَقَالَ يَا فَاطِمَة إِن هَذَا من فَيْء الْمُسلمين وَلَا يحل لنا فَبعثت فاشترت لَهُ تفاحا عوض ذَلِك
وَمِمَّا نظمته فِي الحض على التخلق بأخلاقهم
(فهذي صِفَات الْقَوْم زهدا وعفة ... وَنصحا فَأَيْنَ المقتدى بفعالهم)
(رجال أماتوا الْيَوْم عَاجل حظهم ... ليحيوا بعز دَائِم فِي مآلهم)
(يعطر أرجاء المحافل ذكرهم ... وتفرق أساد الشرى من ظلالهم)
(فطوبى لراع يَقْتَدِي حسن هديهم ... وويل لوال قد خلا من خلالهم)
(1/159)

الْفَصْل الثَّالِث عشر عدم تَوْلِيَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى على الْمُسلمين

214 - لَا يجوز تَوْلِيَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى على الْمُسلمين وَلَا استكتابهم على بَيت مَال الْمُسلمين
عمر بن الْخطاب وَكَاتب أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ

215 - وَقد أنكر ذَلِك من السّلف عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَإِن عمر كَانَ قد ولى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ على الْبَصْرَة فجَاء إِلَيْهِ فَقَالَ اكْتُبْ لي الْحساب فَانْطَلق فَكتب أنفقت فِي كَذَا كَذَا ثمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا رَآهُ أعجبه قَالَ من كتب لَك هَذَا قَالَ كَاتب لي قَالَ فَادعه حَتَّى يقْرَأ كتبا جاءتنا من الشَّام فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يدْخل الْمَسْجِد فَقَالَ لم أجنب هُوَ قَالَ لَا وَلكنه نَصْرَانِيّ قَالَ فَضرب عمر فَخذي ضَرْبَة كَاد يكسرها ثمَّ قَالَ أما سَمِعت الله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} أَفلا اتَّخذت كَاتبا حَنِيفا يكْتب لَك قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَالِي وَله لَهُ دينه ولي كِتَابَته فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا نأمنهم إِذْ
(1/161)

خَوَّنَهُمْ الله وَلَا نكرمهم إِذْ أَهَانَهُمْ الله وَلَا ندنيهم إِذْ أَقْصَاهُم الله
216 - ويروى أَن خَالِد بن الْوَلِيد كتب إِلَى عمر بن الْخطاب أَن بِالشَّام كَاتبا لَا يصلح خراج الشَّام إِلَّا بِهِ فَكتب إِلَيْهِ لَا تستعمله فَرَاجعه وَأخْبر أَنه لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ فَكتب إِلَيْهِ ينهاه عَن اسْتِعْمَاله فعاوده وَذكر أَن المَال يضيع إِذا لم نَسْتَعْمِلهُ فَكتب إِلَيْهِ عمر مَاتَ النَّصْرَانِي وَالسَّلَام يُرِيد بذلك أَنه لَو مَاتَ لَكُنْت تَسْتَغْنِي عَنهُ فَقدر مَوته
217 - فَأخذ هَذَا الْمَعْنى الشريف ابْن مَسْعُود البياضي كَمَا يرْوى أَنه رُؤِيَ فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ غفر لي بِأَبْيَات قلتهَا وكتبت بهَا إِلَى الراضي وَهِي
(1/162)

يَا ابْن الخلائف من قُرَيْش وَالْأولَى ... طهرت منابتهم من الأدناس)
(قلدت أَمر الْمُسلمين عدوهم ... مَا هَكَذَا فعلت بَنو الْعَبَّاس)
(مَا الْعذر إِن قَالُوا غَدا هَذَا الَّذِي ... ولى الْيَهُود على رِقَاب النَّاس)
(أَتَقول كَانُوا وفروا أَمْوَالهم ... فبيوتهم قفر بِغَيْر أساس)
(لَا تعتذر عَن صرفهم بتعذر ... المتصرفين الحذق الأكياس)
(مَا كنت تفعل بعدهمْ لَو أهلكوا ... فافعل وعد الْقَوْم فِي الأرماس)
تمكن أهل الذِّمَّة فِي دوله الْمهْدي

218 - وَرُوِيَ أَن بعض الزهاد لما رأى تمكن أهل الذِّمَّة فِي دولة الْمهْدي وإهمال الْمُسلمين كتب إِلَيْهِ شعرًا
(بِأبي وَأمي ضَاعَت الأحلام ... أم ضَاعَت الأذهان والأفهام)
(من صد عَن دين النَّبِي مُحَمَّد ... أَله بِأَمْر الْمُسلمين قيام)
(إِلَّا تكن أسيافهم مَشْهُورَة ... فِينَا فَتلك سيوفهم أَقْلَام)
ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك تحمل أَمَانَة هَذِه الْأمة وَقد عرضت على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن
(1/163)

مِنْهَا أفتسلم أَنْت هَذِه الْأَمَانَة الَّتِي تدركت بهَا وخصك الله بهَا إِلَى أهل الذِّمَّة دون الْمُسلمين يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما سَمِعت تَفْسِير جدك عبد الله بن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى {لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} وَأَن الصَّغِيرَة التبسم والكبيرة الضحك فَمَا ظَنك بِأُمُور الْمُسلمين وأماناتهم وأسرارهم وَقد نَصَحْتُك وَهَذِه النَّصِيحَة حجَّة عَليّ مَا لم تصل إِلَيْك
فَلَا يَنْبَغِي أَن يُؤمنُوا على بَيت مَال الْمُسلمين اعتذارا بِأَنَّهُم حذاق فِي الْكِتَابَة فَمَا من فضل يُوجد فِي غير هَذِه الْأمة إِلَّا وَهُوَ فِي الْملَّة الإسلامية أفضل وأكمل وَلَا عيب يُوجد فِي بَعضهم إِلَّا وَهُوَ فِي غَيرهم أفحش فهم أكمل من غَيرهم علما وعقلا وخبرة وَأَمَانَة وبيانا وكفاية وَكِتَابَة وحلما وسخاء وعفافا وَبرا وإحسانا
(1/164)

وسياسة ونجدة وشجاعة ورأيا ونصيحة هَذَا لَا شكّ فِيهِ لمن تَأمله وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا ودوا مَا عنتم قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون} فنهانا الله تَعَالَى أَن نستبطن فِي أمورنا قوما غَيرنَا وَأخْبر تَعَالَى بقوله {لَا يألونكم خبالا} أَنهم لَا يقصرون فِي طلب الخبال لنا يحبونَ فَسَاد احوالنا وَقد قيل
(كل الْعَدَاوَة قد ترجى مودتها ... إِلَّا عَدَاوَة من عاداك فِي الدّين)
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إِلَيْهِم بالمودة وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لَو تكفرون لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك وَمَا أملك لَك من الله من شَيْء}
(1/165)

) يَعْنِي اقتدوا بإبراهيم فِي التبرؤ مِنْهُم ومعاداتهم وبغضهم وَلَا تقتدوا بِهِ فِي وعده لِأَبِيهِ بالأستغفار فَإِن هَذَا حرَام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين وَلَو كَانُوا أولي قربى من بعد مَا تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم} وَلَا تعتقدوا أَن معاداتكم لَهُم تضركم بل قُولُوا {رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا واغفر لنا رَبنَا إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم}
وَكَذَلِكَ لما أَمرهم الله أَن يمنعوا الْكفَّار من دُخُول الْحرم قَالُوا تَنْقَطِع تِجَارَتِنَا فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا وَإِن خِفْتُمْ عيلة} أَي فقرا وحاجة {فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ إِن الله عليم حَكِيم} فَمن كَانَ يظنّ أَن بعض الْمُعَامَلَات تنقص بعزل الْكفَّار من الْيَهُود وَالنَّصَارَى قيل لَهُ (وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ) وَمن ترك شَيْئا عوضه الله خيرا مِنْهُ فَكيف وَفِي أَوْلِيَاء الله الْكِفَايَة عَن الِاسْتِعَانَة بأعداء الله
(1/166)

وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أوثق عرى الْإِيمَان الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله) وَهَؤُلَاء قد كفرُوا بِكِتَاب الله الَّذِي هُوَ الْقُرْآن وبرسوله الَّذِي هُوَ خَاتم الرُّسُل وبدينه الَّذِي هُوَ خير الْأَدْيَان وأبغضوه وعادوه وَالله يبغضهم وَقد غضب عَلَيْهِم ولعنهم كَمَا وصف ذَلِك فِي الْقُرْآن فَكيف يَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَن يكرم من أهانة الله وَيقرب من أبعده الله أَلَيْسَ لَو أَن رجلا كَانَ يخْدم سُلْطَانا وَكَانَ للسُّلْطَان عَدو يبغضه ويعاديه أفيحسن بخادم السُّلْطَان أَن يقرب عَدو السُّلْطَان ويكرمه فَكَذَا حَال من قرب أَعدَاء الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ أَو أكْرمهم أَو والاهم كَيفَ يكون حَاله عِنْد الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقَالَ الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا} الْآيَة
(1/167)

عمر بن عبد الْعَزِيز وتولية أهل الْقُرْآن

219 - وَقَالَ عمرَان بن أَسد أَتَانَا كتاب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى مُحَمَّد بن الميسر أما بعد فَإِنَّهُ بَلغنِي أَن فِي عَمَلك رجلا يُقَال لَهُ حسان على غير دين الْإِسْلَام وَالله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين} فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَادعه إِلَى الْإِسْلَام فَإِن أسلم فَهُوَ منا وَإِن أَبى فَلَا تستعن بِهِ وَلَا تَأْخُذ من غير أهل الْإِسْلَام على شَيْء من أَعمال الْمُسلمين فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكتاب فَأسلم
220 - وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى عماله أَلا توَلّوا على أَعمالنَا إِلَّا أهل الْقُرْآن فَكَتَبُوا إِلَيْهِ إِنَّا وجدنَا فيهم خِيَانَة فَكتب إِلَيْهِم إِن لم يكن فِي أهل الْقُرْآن خير فأجدر أَلا يكون فِي غَيرهم خير
221 - وَعَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تستضيئوا بِنَار الْمُشْركين وَلَا تنقشوا على خواتيمكم عَرَبيا) أخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ
(1/168)

222 - وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل بدر فَلَمَّا كَانَ بحرة الْوَبرَة أدْركهُ رجل قد كَانَ يذكر مِنْهُ جرْأَة ونجدة ففرح بِهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ جئْتُك لأتبعك وَأُصِيب مَعَك فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله) قَالَ لَا قَالَ (فَارْجِع فَلَنْ استعين بمشرك)
قَالَ ثمَّ مضى حَتَّى إِذا كَانَ بِالشَّجَرَةِ أدْركهُ الرجل فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أول مرّة فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ أول مرّة (تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله) قَالَ لَا قَالَ (فَارْجِع فَلَنْ أستعين بمشرك) فَرجع فأدركه بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أول مرّة فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ أول مرّة (أتؤمن بِاللَّه وَرَسُوله) قَالَ نعم قَالَ لَهُ (انْطلق)
وَهَذَا أصل عَظِيم فِي أَلا يستعان بمشرك مَعَ أَن هَذَا خرج لِيُقَاتل مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يجوز استعمالهم على رِقَاب الْمُسلمين
223 - لَكِن قد رُوِيَ أَنه اسْتَعَانَ بناس من الْيَهُود فِي حربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/169)

كَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعَانَ بناس من الْيَهُود فِي حربه وأسهم لَهُم أخرجه أَبُو دَاوُد مُرْسلا
الِاسْتِعَانَة بِأَهْل الذِّمَّة فِي الْقِتَال

224 - وَعَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعَانَ بيهود بني قينقاع ورضخ لَهُم واستعان بِصَفْوَان بن أُميَّة فِي قتال هوزان يَوْم حنين أخرجه الْحَازِمِي
225 - فَإِن صَحَّ هَذَا فَيكون تألفا لقلب من علم مِنْهُ حسن رَأْي فِي الْإِسْلَام وَلَيْسَ فِي قِتَالهمْ مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نوع ولَايَة وَلَا استئمان لَهُم بِخِلَاف استكتابهم لَا يجوز لما فِيهِ من استئمانهم وَقد خَوَّنَهُمْ الله
موقف الْأَئِمَّة مِنْهُ

226 - قَالَ الشَّافِعِي وَآخَرُونَ إِن كَانَ الْكَافِر حسن الرَّأْي
(1/170)

بِالْمُسْلِمين ودعت حَاجَة إِلَى الإستعانة بِهِ استعين بِهِ وَإِلَّا فَيكْرَه وَحمل الْحَدِيثين على هذَيْن الْحَالَتَيْنِ
227 - وَقَالَ مَالك وَأحمد وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ لَا يستعان بهم وَلَا يعانون على الْإِطْلَاق وَاسْتثنى مَالك فَقَالَ إِلَّا أَن يَكُونُوا خدما للْمُسلمين فَيجوز
228 - وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يستعان بهم ويعاونون على الْإِطْلَاق
229 - وَالشَّافِعِيّ إِنَّمَا يجوز الِاسْتِعَانَة بهم فِي الْحَرْب إِذا أمنت خيانتهم وَيَكُونُونَ بِحَيْثُ لَو انضمت فرقتا الْكفْر لقدر الْمُسلمُونَ على مقاومة الْفرْقَتَيْنِ
وَبِهَذَا يظْهر لَك تَحْرِيم استعمالهم على بَيت المَال لِأَن خيانتهم فِيهِ لَا تؤمن وَهِي ولَايَة يشْتَرط فِيهَا الْأَمَانَة وَالله تَعَالَى قد
(1/171)

شهد عَلَيْهِم بالخيانة فَكيف يجوز استعمالهم عمالا على بيُوت الله تَعَالَى واستئمانهم عَلَيْهَا وَهل ذَلِك إِلَّا بِمَثَابَة من دفع السَّيْف إِلَى قَاتله وأجهز على نَفسه وأعان الْعَدو على هَلَاكه
230 - وَذكر صَاحب دُرَر الْآدَاب أَن الْمِقْدَاد بن الْأسود الْكِنْدِيّ جمعته الطَّرِيق مَعَ رجل يَهُودِيّ وَهُوَ رَاكب واليهودي راجل فتسايرا فَلَمَّا وصلا بَاب الْمَدِينَة أمسك الْمِقْدَاد الْيَهُودِيّ وَقَالَ لَهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (مَا صحب مُسلم يَهُودِيّا وَلَا عَامله إِلَّا غشه) وَأَنت قد سايرتني إِلَى بَاب هَذِه الْمَدِينَة فَبِمَ غششتني فَقَالَ الْيَهُودِيّ الْغِشّ يكون فِي مُعَاملَة أَو أكل أَو شرب فَشدد عَلَيْهِ الْمِقْدَاد فِي القَوْل وَهُوَ لَا يشك أَن الْمِقْدَاد لَا يخليه دون أَن يَقُول لَهُ فَلَمَّا ضايقه وألح عَلَيْهِ قَالَ تؤمنني على نَفسِي وأصدقك قَالَ نعم فَقَالَ الْيَهُودِيّ صدق وَالله نبيك لما أعياني الْأَمر فِي غشك وَلم أقدر على مَكْرُوه أوصله إِلَيْك كنت أَمْشِي فِي ظلك المتمدد على وَجه الأَرْض وأتفل عَلَيْهِ
فتولية هَؤُلَاءِ واستكتابهم رزية من الرزايا يبكى على
(1/172)

الْمُسلمين بِسَبَبِهَا كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ (لَا تبكوا على الدّين إِذا وليه أَهله وَلَكِن ابكوا إِذا وليه غير أَهله) رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد
(1/173)

الْفَصْل الرَّابِع عشر خطر الْولَايَة

231 - اعْلَم أَن خطر الْولَايَة عَظِيم وأمرها جسيم ولخطرها جَاءَت الْأَحَادِيث فِي التَّغْلِيظ فِي شَأْنهَا كَمَا ثَبت عَن أبي ذَر قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَلا أَن تَسْتَعْمِلنِي قَالَ فَضرب بِيَدِهِ على مَنْكِبي ثمَّ قَالَ (يَا أَبَا ذَر إِنَّك رجل ضَعِيف وَإِنَّهَا أَمَانَة وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خزي وندامة إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) أخرجه مُسلم
من جعل قَاضِيا ذبح بِغَيْر سكين)
232 - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من جعل قَاضِيا فقد ذبح بِغَيْر سكين) وَفِي رِوَايَة عَن النَّسَائِيّ (فَكَأَنَّمَا
(1/175)

ذبح بالسكين) وكلا الرِّوَايَتَيْنِ لَهُ من حَدِيث عُثْمَان الأخنسي وَقد وَثَّقَهُ يحيى بن معِين ومسه النَّسَائِيّ
وروى الرِّوَايَة الأولى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ
233 - قَالَ الْغَزالِيّ ذبحه بِغَيْر سكين إِذْ قهر نَفسه على الْحق وَالْحكم فَكَأَنَّهُ ذَبحهَا بِغَيْر سكين لصعوبة قهر النَّفس ومخالفتها
234 - وَذكر الْخطابِيّ فِيهِ مَعْنيين أخرين
أَحدهمَا أَن الذّبْح فِي الْعَادة إِنَّمَا هُوَ بالسكين فَعدل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمُعْتَاد ليعلم أَن الأخوف عَلَيْهِ هَلَاك دينه دون بدنه
وَالثَّانِي أَن الذَّابِح بالسكين يذبح الذَّبِيحَة ليتعجل إرهاق نَفسهَا وبغيرها يكون فِيهِ تَعْذِيب
(1/176)

فَضرب الْمثل بذلك ليَكُون الْمُتَوَلِي على حذر
235 - قلت وَهَذَا التَّأْوِيل أرجح وَهُوَ إِنَّمَا يُطَابق الرِّوَايَة الأولى
236 - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ويل لِلْأُمَرَاءِ ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أَقوام يَوْم الْقِيَامَة لَو أَن ذوائبهم كَانَت عقلت بِالثُّرَيَّا وَلم يَكُونُوا عمِلُوا على شَيْء) أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ
والعريف هُوَ الْقيم بِأَمْر الْقَبِيلَة والمحلة يتعرف أُمُورهم
237 - وَعَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من حَاكم يحكم بَين النَّاس إِلَّا حبس يَوْم الْقِيَامَة وَملك آخذ بقفاه على جَهَنَّم ثمَّ يرفع رَأسه إِلَى الله عز وَجل فَإِن قَالَ ألقه أَلْقَاهُ فِي مهواة فَهَوِيَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) أخرجه أَحْمد
238 - وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (ليَأْتِيَن على القَاضِي الْعدْل يَوْم الْقِيَامَة سَاعَة
(1/177)

يتَمَنَّى أَنه لم يقْض بَين اثْنَيْنِ فِي ثَمَرَة قطّ)
239 - وَعَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (مَا من رَحل يَلِي أَمر عشرَة فَمَا فَوق ذَلِك إِلَّا يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة يَده إِلَى عُنُقه فكه بره أَو أوثقه إثمه أَولهَا ملامة وأوسطها ندامة وَآخِرهَا خزي يَوْم الْقِيَامَة) أخرجه أَحْمد
عبد الله بن عمر والامتناع عَن تولي الْقَضَاء

240 - وَعَن عبد الله بن وهب بن عُثْمَان بن عَفَّان قَالَ لعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم اذْهَبْ فَكُن قَاضِيا قَالَ أوتعفيني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ فَاذْهَبْ فَاقْض بَين النَّاس قَالَ تعفيني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ عزمت عَلَيْك إِلَّا فعلت قَالَ لَا تعجل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من عاذ بِاللَّه فقد عاذ بمعاذ) قَالَ نعم قَالَ فَإِنِّي أعوذ بِاللَّه أَن أكون قَاضِيا قَالَ وَمَا يمنعك وَقد كَانَ أَبوك يقْضِي قَالَ لِأَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (من كَانَ قَاضِيا فَقضى بِالْجَهْلِ كَانَ من أهل النَّار وَمن كَانَ قَاضِيا فَقضى بالجور كَانَ
(1/178)

من أهل النَّار وَمن كَانَ قَاضِيا فَقضى بِحَق أَو بِعدْل سَأَلَ التفلت كفافا) فَمَا أَرْجُو مِنْهُ بعد ذَلِك أخرجه أَبُو حَاتِم
241 - وَعَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يَنْبَغِي لمُؤْمِن أَن يذل نَفسه) قَالُوا كَيفَ يذل نَفسه قَالَ (يتَعَرَّض من الْبلَاء مَا لَا يُطيق) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ // حسن غَرِيب //
242 - وَعَن الْمِقْدَام بن معدي كرب قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أفلحت يَا قديم إِن مت وَلم تكن أَمِيرا وَلَا جابيا وَلَا عريفا) أخرجه أَحْمد وَلأبي دَاوُد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرب على مَنْكِبَيْه ثمَّ قَالَ لَهُ (أفلحت يَا قديم إِن مت وَلم تكن أَمِيرا وَلَا كَاتبا وَلَا عريفا)
243 - وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/179)

(ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين يَوْم الْقِيَامَة أَن ذوائبهم كَانَت معلقَة بِالثُّرَيَّا وَلم يَكُونُوا عمِلُوا على شَيْء)
كبار التَّابِعين يهربون من تولي الْقَضَاء

244 - وَلما ورد فِي الولايات من التَّغْلِيظ كَانَ جمَاعَة من السّلف يهربون مِنْهَا كَمَا يرْوى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كتب إِلَى عدي بن أَرْطَأَة نَائِبه على الْعرَاق أَن اجْمَعْ بَين إِيَاس بن مُعَاوِيَة وَالقَاسِم بن ربيعَة الجرشِي فول قَضَاء الْبَصْرَة أنفذهما فَقَالَ لَهُ إِيَاس سل عني وَعنهُ فقيهي الْمصر الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَكَانَ الْقَاسِم يأتيهما وَإيَاس لَا يأتيهما فَعلم الْقَاسِم أَنَّهُمَا يشيران بِهِ فَقَالَ لَا تسئل عَنهُ وَلَا عني فوَاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِن إِيَاس بن مُعَاوِيَة أفقه وَأعلم بِالْقضَاءِ مني فَإِن كنت كَاذِبًا فَمَا يحل لَك أَن توليني وَأَنا كَاذِب وَإِن كنت صَادِقا فَيَنْبَغِي أَن تقبل قولي فَقَالَ إِيَاس إِنَّك جِئْت بِرَجُل أوقفته على شَفير جَهَنَّم فنجى نَفسه بِيَمِين كَاذِبَة يسْتَغْفر الله مِنْهَا وينجو مِمَّا يخَاف فَقَالَ عدي أما إِذا قد فهمتها فَأَنت لَهَا
245 - وَقيل لعمر مَا يمنعك أَلا تفشي الْعَمَل فِي الأفاضل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هم أجل من أَن أدنسهم بِالْعَمَلِ
(1/180)

الْفَصْل الْخَامِس عشر الْعدْل بِالْإِحْسَانِ

246 - قد تقدم أَن الله تَعَالَى لما علم أَن أَمر النَّاس لَا يصلح على الْعدْل الْمُجَرّد من الْإِحْسَان أَمر أَن يتبع الْعدْل بِالْإِحْسَانِ
247 - وَكتب بعض الْحُكَمَاء إِلَى بعض الْمُلُوك املك الرّعية بِالْإِحْسَانِ تظفر بالمحبة فَإِن طلب ذَلِك بِالْإِحْسَانِ هُوَ أدوم بَقَاء مِنْهُ بالعسف وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا تملك الْأَبدَان بتخطيها إِلَى الْقُلُوب بِالْمَعْرُوفِ وَاعْلَم أَنه إِذا عدل السُّلْطَان ملك قُلُوب الرّعية وَإِذا جَار لم يملك مِنْهُم غير الرِّيَاء والتصنع
قُلُوب الرّعية خَزَائِن مُلُوكهَا

248 - وَفِي سير الْمُتَقَدِّمين قُلُوب الرّعية خَزَائِن مُلُوكهَا فَمَا أودعوها من شَيْء فَليعلم أَنه فِيهَا وَاعْلَم أَن الرّعية إِذا قدرت على أَن تَقول قدرت على أَن تفعل فاجهد أَلا تَقول تسلم من أَن تفعل
249 - وَركب أزدشير يَوْمًا فِي عدَّة قَليلَة فَكتب إِلَيْهِ بعض
(1/181)

النصحاء ركبت أَيهَا الْملك أمس فِي عدَّة قَليلَة وَتلك عَادَة لَا يُؤمن اغتيال الْأَعْدَاء فِيهَا فَوَقع من عَم إحسانه آمن أعداءه
عبد الْملك بن مَرْوَان وَأهل الشَّام

250 - وَمَا أحسن مَا قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان يَا أهل الشَّام أَنا لكم كالظليم الرَّائِح على فِرَاخه يَنْفِي عَنْهُم القذر ويباعد عَنْهُم الْحجر ويظلهم من الْمَطَر ويحميهم من الضباب ويحرسهم من الذئاب يَا أهل الشَّام أَنْتُم الْجُبَّة والرداء وَأَنْتُم الْعدة والجذاء
251 - وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء أسوس النَّاس من قاد أبدان الرّعية إِلَى طَاعَته بقلوبها فَلَا يَنْبَغِي للوالي أَن يرغب فِي الْكَرَامَة الَّتِي ينالها من الْعَامَّة كرها وَلَكِن فِي الَّذِي يَسْتَحِقهَا بِحسن الْأَثر وصواب التَّدْبِير
252 - وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز إِنِّي لأجمع أَن أخرج للْمُسلمين أمرا من الْعدْل فَأَخَاف أَلا تحتمله قُلُوبهم
(1/182)

فَأخْرج مَعَه طَمَعا من طمع الدُّنْيَا فَإِن نفرت الْقُلُوب من هَذَا سكنت إِلَى هَذَا
253 - وَقَالَ مُعَاوِيَة لزياد من أسوس أَنا أَو أَنْت فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا جعل الله رجلا حفظ النَّاس بِسَيْفِهِ كمن أسمع النَّاس وأطاعوا لَهُ باللين
254 - ويروى أَن مولى زِيَاد فَخر بِزِيَاد عِنْد مُعَاوِيَة فَقَالَ مُعَاوِيَة اسْكُتْ فَمَا أدْرك صَاحبك شَيْئا بِسَيْفِهِ إِلَّا أَدْرَكته بكلامي
255 - وَيَنْبَغِي للْملك أَلا يقطع إحسانه عَمَّن يسيء إِلَيْهِ من الرّعية ولتقتد فِي ذَلِك بِرَبِّك سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى خلق
(1/183)

الْخلق أَجْمَعِينَ وأنعم عَلَيْهِ أَنْوَاع النعم فأكمل حواسهم وَخلق فيهم الشَّهَوَات ثمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِم نعمه فكملت لَهُم اللَّذَّات وَبعد هَذَا فَمَا قدرُوا الله حق قدره وَلَا عظموه حق عَظمته بل قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَلِيق بِهِ ووصفوه بِمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ وسلبوه مَا يجب لَهُ من الْأَسْمَاء الْحسنى وَالصِّفَات الْعليا فَمنهمْ من قَالَ هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة وَمِنْهُم من قَالَ لَهُ زَوْجَة وَمِنْهُم من قَالَ لَهُ الْبَنَات وَله البنون وَمِنْهُم من يجسمه ويشبهه وَمِنْهُم من أنكرهُ رَأْسا وَقَالَ مَا لِلْخلقِ صانع كَمَا حَكَاهُ الخلاق عَنْهُم فَقَالَ {نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} وَهُوَ مَعَ ذَلِك يحييهم ويبقيهم وَيصِح أجسامهم وحواسهم ويرزقهم وَيَقْضِي مآربهم وأوطارهم ويمتعهم مَتَاعا حسنا ويبلغهم أمانيهم فِي مُعظم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فمعاصيهم إِلَيْهِ صاعدة وَبَرَكَاته عَلَيْهِم نازلة كل يعْمل على شاكلته وَينْفق مَا عِنْده
256 - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله تَعَالَى (مَا أحد أَصْبِر على أَذَى من الله يجْعَلُونَ لَهُ ولدا وَهُوَ
(1/184)

يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم ويكلؤهم فِي مضاجعهم كَأَنَّهُمْ لم يعصوني)
257 - وَفِي مُنَاجَاة مُوسَى أَنه قَالَ (إلهي أَسأَلك أَلا يُقَال فِي مَا لَيْسَ فِي) فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا مُوسَى هَذَا شَيْء مَا فعلته لنَفْسي فَكيف أَفعلهُ لَك
258 - وَفِي هَذِه السّير عِبْرَة لمن اعْتبر وَتَذْكِرَة لمن اذكر
259 - ويروى أَن هِلَال بن يسَاف قَالَ اسْتعْمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِقْدَاد على سَرِيَّة فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَيفَ رَأَيْت الْإِمَارَة) قَالَ خرجت يَا رَسُول الله وَمَا أرى أَن لي فضلا على أحد من الْقَوْم فَمَا رجعت إِلَّا وَكلهمْ عبيد لي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَكَذَلِكَ الْإِمَارَة أَبَا معبد)
(1/185)

الْفَصْل السَّادِس عشر الْمُسَاوَاة فِي الْقصاص

260 - من الْعدْل إِقَامَة الْوَالِي الْقصاص بَين الشريف والمشروف وَالْكَبِير والحقير وَلَا يحابي فِيهِ أحدا وَيَأْخُذ الْحق وَلَو من نَفسه
261 - فقد روى ابْن وهب فِي موطئِهِ عَن ابْن شهَاب قَالَ وَقد أقاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والخليفتان من أنفسهم ليستن بهم من بعدهمْ وَلم يتعمدوا بذلك حيفا
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقص من نَفسه

262 - وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قبل مَوته (من كَانَت لَهُ عِنْدِي مظْلمَة فليأت حَتَّى أقصه من نَفسِي) فَقَامَ سَواد فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنَّك ضربتني على بَطْني وَأَنا مَكْشُوف الْبَطن فكشف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَطْنه فَإِذا هِيَ كالقباطي يَعْنِي ثِيَاب مصر فأكب عَلَيْهِ يقبله
قَالَ (يَا سَواد مَا حملك على هَذَا) فَقَالَ يَا رَسُول الله دنا لِقَاء هَؤُلَاءِ الْمُشْركين فَأَرَدْت أَن يكون آخر الْعَهْد بك أَن أقبل بَطْنك
فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقص من نَفسه مَعَ أَن الله تَعَالَى قد غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر لعلمه أَن الله تَعَالَى لَا يدع الْقصاص فِي الْمَظَالِم بَين الْعباد لِأَن الله تَعَالَى أعدل من يدع مظْلمَة لأحد عِنْد نَبِي أَو غَيره
263 - وَفِي الحَدِيث يَقُول الله تَعَالَى لأسألن الْحجر لم نكب الْحجر ولأسألن الْعود لم خدش الْعود
264 - وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لتؤدن
(1/187)

الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُقَاد للشاة الجلحاء من الشَّاة القرناء)
مدى جَرَيَان الْقصاص بَين الْبَهَائِم

265 - وَقد اخْتلف النَّاس فِي حشر الْبَهَائِم وَفِي جَرَيَان الْقصاص فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول حشرها مَوتهَا قَالَ وَحشر كل شَيْء الْمَوْت إِلَّا الْجِنّ وَالْإِنْس فَإِنَّهُمَا يوافيان يَوْم الْقِيَامَة
وَقَالَ مُعظم الْمُفَسّرين إِنَّهَا تحْشر ويقتص مِنْهَا وَهُوَ قَول قَتَادَة قَالَ يحْشر كل شَيْء حَتَّى الذُّبَاب وَهُوَ الصَّحِيح لقَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} فَهَذَا دَلِيل
(1/189)

حشرها وَدَلِيل جَرَيَان الْقصاص بَينهَا إِخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنَّه يقْتَصّ للشاة الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء نطحتها يَوْم الْقِيَامَة)
وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم (فتنطحها الشَّاة الْجَمَّاء) وَهَذَا لَا يحيله الْعقل وَقد صَحَّ الحَدِيث بِهِ فَيجب اعْتِقَاده
266 - وَهُوَ اخْتِيَار الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ والقرطبي فِي كِتَابه التَّذْكِرَة
267 - قَالَ صِحَاب سراج الْمُلُوك قَالَ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله لَا يقطع بِإِعَادَة الْبَهَائِم والمجانين وَمن لم تبلغه الدعْوَة وَيجوز أَن يعادوا ويدخلوا الْجنَّة وَيجوز أَلا يعادوا
(1/190)

268 - وَقَالَ أَبُو ذَر انتطحت شَاتَان فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (أَتَدْرُونَ فِيمَا انتطحتا قلت لَا أَدْرِي قَالَ لَكِن الله يدْرِي وسيقضي بَينهمَا وَمَا يقلب طَائِر بجناحيه فِي السَّمَاء إِلَّا ذكرنَا مِنْهُ علما) وَقَالَ أَبُو ذَر إِن الرجل ليسأل عَن نكبة أصْبع الرجل
269 - وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا يأتيني أحدكُم على رقبته بعير لَهُ رُغَاء وعَلى رقبته بقرة لَهَا خوار وعَلى رقبته شَاة تنعر) الحَدِيث
270 - وَقَالَ أَبُو الْحسن لَا تجْرِي الْمُقَاصَّة بَين الْبَهَائِم لِأَنَّهَا غير مكلفة وَلَا يجْرِي الْقَلَم عَلَيْهَا قَالَ وَمَا ورد فِي ذَلِك من الْأَخْبَار نَحْو قَوْله (يقْتَصّ للشاة الْجَمَّاء من القرناء) فعلى سَبِيل
(1/191)

الْمِثَال والإخبار عَن شدَّة التَّقَصِّي فِي الْحساب وَأَنه لابد أَن يقْتَصّ للمظلوم من الظَّالِم وأبى ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني فَقَالَ يجْرِي بَينهمَا الْقصاص قَالَ وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت تعقل هَذَا الْقدر فِي الدُّنْيَا وَلِهَذَا جرى فِيهِ الْقصاص
271 - قَالَ صَاحب السراج وَكَلَام الْأُسْتَاذ لَهُ وَجه لِأَن الْبَهِيمَة تعرف النَّفْع وَالضَّرَر فتنفر من العصى وَتقبل على الْعلف وينزجر الْكَلْب إِذا زجر ويستأسد إِذا أشلى وَالطير والوحش تَفِر من الْجَوَارِح والوحش تَفِر من الْجَوَارِح استدفاعا لشرها
272 - فَإِن قيل الْقصاص هُوَ جَزَاء على جِنَايَة مُخَالفَة لأمر والبهائم غير مكلفة وَلَا عقول لَهَا وَلَا جاءها رَسُول والعقول لَا يجب بهَا شَيْء عنْدكُمْ على الْعُقَلَاء فضلا عَن الْبَهَائِم وَهَذَا مُتَّجه على قَول الْأُسْتَاذ أَنَّهَا كَانَت تعقل هَذَا الْقدر وَلَا يجب بِالْعقلِ شَيْء وَيشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا}
وَالْجَوَاب أَنَّهَا لَيست مكلفة لِأَن من ضَرُورَة التَّكْلِيف أَن يعلم الرَّسُول والمرسل وَذَلِكَ من خَصَائِص الْعُقَلَاء وهما الثَّقَلَان فَإِذا لم يَكُونَا مكلفين كَانُوا فِي الْمَشِيئَة يفعل الله بهم مَا يَشَاء كَمَا سلط عَلَيْهِم فِي الدُّنْيَا الذّبْح والاستسخار فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ
(1/192)

سُبْحَانَهُ يفعل فِي ملكه مَا يَشَاء لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ من تنعيم وتعذيب وَإِذا جَازَ أَن يؤلم الْبَهِيمَة ابْتِدَاء جَازَ أَن يؤلمها لما ذكرنَا من الاقتصاص وَالْآيَة مَحْمُولَة على من يعلم الرَّسُول والمرسل ثمَّ إِن لم يجر عَلَيْهِم الْقَلَم فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا رفع الْقَلَم عَنْهَا فِي الْأَحْكَام وَلَكِن فِيمَا بَينهم يؤاخذون بِهِ
273 - وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (اقْتُلُوا الوزغ فَإِنَّهُ كَانَ ينْفخ على إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام) فَهَذِهِ عجماء عوقبت على صَنِيع جِنْسهَا وَقد ضرب مُوسَى الْحجر الَّذِي فر بِثَوْبِهِ وَبَنُو إِسْرَائِيل تنظر عَوْرَته
274 - وَرُوِيَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} أَنَّهَا الَّتِي نكبت النَّاس فِي الدُّنْيَا
275 - وَرُوِيَ أَن الْمَسِيح مر بجبل فَسمع أنينه فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَقَالَ سَمِعت الله يَقُول وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة فَلَا أَدْرِي أكون من تِلْكَ الْحِجَارَة أم لَا
(1/193)

الْفَصْل السَّابِع عشر وجوب دفع الضَّرَر عَن الْمُسلمين

276 - فِي أمره تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ دَلِيل على وجوب دفع الضَّرَر عَن الْمُسلمين وإغاثة المستغيثين فِي النائبات لِأَنَّهُ من الْإِحْسَان وَكَذَلِكَ سد فاقاتهم كستر عَوْرَاتهمْ وإطعام الجائعين مِنْهُم
277 - وَهَذَا يجب على الإِمَام إِذا كَانَ فِي بَيت المَال مَا يقوم بكفايتهم فَإِن لم يكن فِي بَيت المَال مَا يكفيهم وَلَا فِي زَكَاة أَمْوَال الْأَغْنِيَاء ذَلِك وَجب على الْأَغْنِيَاء مواساتهم بِمَا يكفيهم من طَعَام وشراب ومسكن وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه الغياثي يجب على الْمُوسر الْمُوَاسَاة بِمَا زَاد على كِفَايَة نَفسه
من لَا يرحم النَّاس لَا يرحم

278 - وَثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من لَا يرحم النَّاس لَا يرحمه الله)
(1/195)

279 - وَثَبت من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر أَن أَصْحَاب الصّفة كَانُوا فُقَرَاء وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من كَانَ عِنْده طَعَام اثْنَيْنِ فليذهب بثالث وَمن كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَعَة فليذهب بخامس أَو سادس)
280 - وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يَظْلمه وَلَا يُسلمهُ) فَمن تَركه يجوع ويعرى وَهُوَ قَادر على الْإِحْسَان فقد أسلمه للمكروه
281 - وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من كَانَ مَعَه فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا ظهر لَهُ وَمن كَانَ عِنْده فضل من زَاد فليعد بِهِ على من لَا زَاد لَهُ) قَالَ فَذكر من أَصْنَاف المَال مَا ذكر حَتَّى رَأينَا أَنه لَا حق لأحد منا فِي فضل
282 - قَالَ ابْن حزم الظَّاهِرِيّ وروينا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن
(1/196)

مهْدي قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لأخذت فضول أَمْوَال الْأَغْنِيَاء فقسمتها على فُقَرَاء الْمُهَاجِرين قَالَ وَهَذَا إِسْنَاد فِي غَايَة الصِّحَّة
وجوب الْإِحْسَان فِي كل شَيْء

283 - وَثَبت فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي يعلى شَدَّاد بن أَوْس عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (أَن الله كتب الْإِحْسَان على كل شَيْء فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذّبْح وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته)
وَإِنَّمَا ذكر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القتلة وَالذّبْح لِأَنَّهُمَا الْغَايَة من الْفَاعِل فِي أَذَى الْحَيَوَان وَلَا يبْقى بعدهمَا للإحسان وَجه فَإِذا كَانَ مَأْمُور بِالْإِحْسَانِ فِي فعل مَا هُوَ الْغَايَة فِي الْأَذَى فَكيف بِغَيْر ذَلِك فالإحسان مَأْمُور بِهِ على كل حَال
وَالْحَمْد لله ذِي الْجلَال وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وعَلى آله وَصَحبه وعترته الطاهرين وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا
كتب فِي شهر جُمَادَى الأولى سنة 1204 من الْهِجْرَة على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وَأتم التَّسْلِيم على يَد أفقر عباد الله وأحوجهم
(1/197)

إِلَيْهِ أَحْمد بن المرحوم عَلَاء الدّين الْغَزِّي بَلَدا الشَّافِعِي مذهبا الوفائي طَريقَة غفر الله لَهُ ولوالديه ولمشايخه وإخوانه وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات الْأَحْيَاء مِنْهُم والأموات وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
(1/198)