السبت، 1 نوفمبر 2014

القتل - عقوبات القتل شبه العمد - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

القتل  
عقوبات القتل شبه العمد
من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني  
الدكتور عبد القادر عودة 

عقوبات القتل شبه العمد
231- العقوبات على القتل شبه العمد منها ما هو أصلى: وهو الدية والكفارة، ومنها ما هو بدل: وهو التعزير والصيام، ومنها ما هو تبعى: وهو الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية.
* * *
العقوبات الأصلية
أولاً: الدية:

232- الدية: هى العقوبة الأصلية الأساسية للقتل شبه العمد، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل".
وتعتبر الدية فى شبه العمد عقوبة أصلية لأنها ليست بدلاً من عقوبة أخرى، ولأنها العقوبة الأساسية لهذا النوع من القتل، ولكن الدية فى القتل العمد تعتبر عقوبة بدلية لا أصلية لأنها بدل من عقوبة القصاص وهى العقوبة الأصلية للقتل العمد.
233- الأجناس التى تجب فيها دية القتل شبه العمد: تجب دية القتل شبه العمد فى نفس الأجناس التى تجب فيها الدية فى القتل العمد. فهى عند الشافعى تجب فى الإبل وحدها، وعند مالك وأبى حنيفة تجب فى ثلاثة أجناس هى: الإبل والذهب والفضة، وعند أحمد وأبى يوسف ومحمد تجب فى ستة أجناس هى: الإبل والذهب والفضة والشعير والغنم والحلل.
(2/189)

وقد بينا أسباب هذا الخلاف وسند كل فريق وأهمية هذا الخلاف، وما قلناه عن هذا كله فى دية القتل العمد يغنى عن إعادته هنا (1) .
234- مقدار الواجب من كل جنس: المقدار الواجب من كل جنس فى دية شبه العمد هو نفس المقدار الواجب فى دية القتل العمد، وقد سبق أن ذكرنا ما فيه الكفاية بمناسبة الكلام عن دية القتل العمد (2) .
235- هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟: تختلف الديات لسببين؛ أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ، والأول متفق عليه والثانى مختلف فيه، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بما فيه الكفاية فى الفقرة (212) وما قيل هناك هو ما يمكن أن يقال هنا.
236- أوصاف الإبل فى دية شبه العمد: هى نفس أوصافها فى دية العمد على الخلاف والوفاق إلى سبق ذكره هناك، مع ملاحظة أن شبه العمد يدخل فى العمد عند مالك إلا ما كان على وجه العب أو التأديب لأن القتل عنده إما عمد وإما خطأ.
237- هل تغلظ الدية فى شبه العمد؟: لا يرى التغليظ فى شبه العمد إلا أحمد للأسباب التى بيناها عند الكلام على التغليظ فى دية العمد، وصفة التغليظ وكيفيته هناك هى صفته وكيفيته هنا. ومن يقول من المالكية بشبه العمد يرى أن الدية تغلظ فى شبه العمد وهو ضرب المؤدب والأب ولده والأم والأجداد وفعل الطبيب والخاتن وهو كل من جاز فعله شرعًا، وقيل: اللطمة والوكزة والرمية والحجر والضرب بعصاة متعمدًا فهذا شبه العمد وتكون فيه دية مغلظة على الجانى وليست على العاقلة (3) ، والرأى المشهور فى مذهب مالك أنه لا يعرف شبه العمد.
_________
(1) راجع الفقرة 206.
(2) راجع الفقرة 207.
(3) مواهب الجليل ج6 ص226 , شرح الدردير ج4 ص237.
(2/190)

238- على من تجب دية شبه العمد؟: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد وهم القائلون بالقتل شبه العمد أن دية شبه العمد تجب على العاقلة وليست فى مال الجانى، ويخالفهم فى هذا ابن سيرين والزهرى والحارث العكلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الأصم، ويرون أن دية القتل شبه العمد على القاتل فى ماله لأنها موجب فعله الذى تعمده فلا تحمله عنه العاقلة كما هو الحال فى العمد المحض، وهذا هو مقتضى مذهب مالك، لأن شبه العمد عنده فى حكم العمد، وهو يجعل الدية فى العمد فى مال القاتل، فكأن ما يعتبر شبه عمد عند مالك إذا وجبت فيه الدية وجبت فى مال القاتل لا فى مال العاقلة (1) .
وحجة القائلين بتحميل الدية العاقلة ما رواه أبو هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها وما فى بطنها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها" أى على عاقلة الجانية. ويقولون إن القتل العمد يختلف عن القتل شبه العمد، ففى الأول يقصد الجانى الفعل ويقصد القتل فغلظ على الجانى من كل وجه أما فى الثانى فيقصد الجانى الفعل ولا يقصد القتل، فغلظ عليه من وجه حيث جعلت عليه الدية مغلظة كما هو الحال فى دية العمد، وخففت عليه من وجه لأنه لا يقصد القتل وجعلت الدية على العاقلة كما هو الحال فى القتل الخطأ.
هل تجب الدية على الجانى ابتداء أم على العاقلة؟: اختلفوا فى التصوير القانونى لتحميل الدية، ففى مذهب الشافعى وأحمد أنها تجب على العقلة ابتداء ولا تجب على الجانى لأنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ورضاهم بها، فهم ملزمون رضوا أم لم يرضوا ولا تجب على غيرهم، والأرجح فى المذهب أنها تجب ابتداء على الجانى لأنه هو الذى ارتكب الجناية ثم تنتقل منه إلى العاقلة تخفيفًا عنه ومناصرة له، ولأن حفظ القاتل فى الواقع واجب على عاقلته فإذا لم يحفظوه فقد فرطوا، وهذا التفريط يقتضى منهم أن يتحملوا بعض نتائج ذنبه، خصوصًا وأن القاتل يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له فى القتل وعلى هذا الرأى أبو حنيفة ومالك (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص255 , المغنى ج9 ص491 , المهذب ج2 ص209.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص255 , نهاية المحتاج ج7 ص350 , المغنى ج9 ص525 , 526.
(2/191)

وتظهر نتيجة الفرق بين الرأيين إذا لم يكن للجانى عاقلة، أو كان له ولكنها لا تستطع حمل الدية فإن أخذنا بالرأى الأول وجب ألا يرجع على الجانى بالدية، وإن أخذنا بالرأى الثانى وجب أن يرجع عليه بها؛ لأنه هو الجانى المسئول عن الدية أصلاً (1) .
239- متى تؤدى دية شبه العمد؟: من المتفق علبه الأئمة الثلاثة أن دية شبه العمد ليست حالَّة وأنها تجب مؤجلة فى ثلاث سنوات فيؤدى فى آخر كل حول ثلثها ويعتبر بدء السنة عند الشافعى وأحمد من اليوم الذى تجب فيه الدية وهو يوم الموت ويرى أبو حنيفة أن السنة تبدأ من يوم الحكم بالدية لا من يوم الموت. وهذا هو ما يراه مالك فى دية الخطأ (2) .
وإذا كان الواجب دية واحدة فإنها تقسم فى ثلاث سنين فى كل سنة ثلثها، فإذا كان الواجب على شخص واحد أكثر من دية كأن قتل شخصين مثلاً فعليه لكل واحد منهما ثلث الدية فى كل سنة؛ لأن لكل واحد منهما دية مستقلة فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه، ولو وجبت الدية على عواقل كثيرة فإذا قتل عشرة مثلاً شخصًا وجبت الدية على عواقلهم وقُسط نصيب كل عاقلة على ثلاث سنوات. وفى الدية الناقصة كدية المرأة وجهان: أحدهما: أنها تقسم على ثلاث سنين لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة فتأخذ حكمها، وثانيهما: الدية الناقصة يجب فيها فى العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها فى العام الثانى. والوجة الأول يقول به بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد (3) والثانى مذهب أبى حنيفة ويقول به بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد. ويرى مالك التأجيل على ثلاث سنوات فى الدية الكاملة، أما الدية الناقصة ففيها آراء مختلفة؛ منها أنها حالَّة ومنها أنها تؤجلَّ على أن ما يدفع لا يقل عن ثلث الدية الكاملة (4) .
_________
(1) الإقناع ج4 ص234.
(2) مواهب الجليل ج6 ص267.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص255 , 256 , المغنى ج9 ص492 , 494 , المهذب ج2 ص228.
(4) مواهب الجليل ج6 ص267.
(2/192)

وإذا وجبت الدية بالصلح فهى حالَّة فى مال الجانى ما لم يكن هناك شرط بتأجيلها، وإذا وجبت بإقرار الجانى فيرى أبو حنيفة أنها تجب مؤجلة، ويرى أحمد أنها تجب حالة وهو رأى الشافعى ومالك (1) .
240- هل تحمل العاقلة كل الدية فى القتل شبه العمد؟: يرى أحمد أن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية الكاملة فإن بلغ الثلث أو زاد عليها حملته العاقلة، وحجته ما روى عن عمر أنه قضى فى الدية أن لا يحمل منه شئ حتى تبلغ عقل المأمومة (عقل المأمومة ثلث الدية) ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجانى لأنه موجب جنايته وبدل متلفه، فكان عليه كسائر الجنايات والمتلفات، وإنما خولف فى القلق فصاعدًا تخفيفًا عن الجانى لكونه كثيرًا يجحف به (2) .
ويرى أبو حنيفة أن العاقلة لا تحمل ما دون نصف عشر الدية الكاملة ويحمله الجانى، فإن بلغ نصف عشر الدية حملته العاقلة، وحجته ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تعقل العاقلة عمدًا - إلى قوله - ولا ما دون أَرْش المُوضحة" (أرش الموضحة نصف عشر الدية الكاملة) (3) .
ويرى الشافعى أن العاقلة تحمل الجميع ما قل أو كثر من الدية؛ لأن ما ألزم بالكثير ألزم بالقليل من باب أولى (4) .
ويرى مالك أن الدية إذا بلغت ثلث دية المجنى عليه أو الجانى حملتها العاقلة فإذا كانت دون الثلث فهى على الجانى وحده (5) ، وفى المذهب رأى بأن العاقلة لا تحمل إلا ما زاد على الثلث، ومقتضى هذا الرأى أن الثلث يحمله الجانى وينظر فى هذا إلى مصلحة الجانى فإن كانت ديته أقل اعتبرت دون دية المجنى عليه، فلو جنى مسلم على مجوسية ما يبلغ ثلث ديتها أو ثلث ديته حملته عاقلته، ولو جنى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص256 , 257 , المغنى ج9 ص504 - 506.
(2) المغنى ج9 ص505 , 506.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص255.
(4) المهذب ج2 ص228.
(5) مواهب الجليل ج6 ص265.
(2/193)

مجوسى أو مجوسية على مسلم ما يبلغ ثلث دية الجانى حملته العاقلة ولو كان أقل من ثلث دية المجنى عليه، ويجعل مالك وأحمد ما لا تحمله العاقلة حالاً لا مؤجلاً، أما أبو حنيفة فالديات كلها مؤجلة عنده (1) .
وإذا حملت العاقلة الدية فيرى أبو حنيفة ومالك أن يتحمل الجانى من الدية ما يحمله أفراد العاقلة، أما الشافعى وأحمد فيريان أن لا يحمل الجانى شيئًا. ويرى مالك أن يتحمل الجانى مع العاقلة. وتظهر أهمية هذه الآراء المختلفة إذا ما أخذنا بالرأى القائل بأن الديات تتفاوت بحسب الدين، فإن دية المجوسى وعابد الوثن أقل من ثلث الدية فلا تحملها عنه العاقلة. فإن دية المجوسى وعابد الوثن اقل من ثلث الدية فلا تحملها عنه العاقلة. طبقًا لرأى أحمد، وهى أكثر من نصف العشر لأنها 1/15 من الدية فتحملها العاقلة طبقًا لرأى أبى حنيفة والمرأة المجوسية ديتها تبلغ 1/30 فلا تحملها العاقلة فى رأى أبى حنيفة، وأحمد ولكن تحملها طبقًا لرأى الشافعى، والكتابية ديتها 1/4 الدية الكاملة فلا تحملها العاقلة طبقًا لرأى أحمد وتحملها طبقًا لرأى أبى حنيفة والشافعى.
241- هل تتحمل العاقلة الديات عن الإمام والحاكم؟: من المتفق عليه أن ما يجب على الإمام والحاكم فى عير الحكم والاجتهاد فهو على العاقلة إذا كان مما تحمله العاقلة، أما ما وجب عليه بسبب الحكم والاجتهاد ففيه نظريتان فى مذهب الشافعى وأحمد:
الأولى: أنه على عاقلته؛ لما روى عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها، فقال عمر لعلى: عزمت عليك لا تبرح حتى تقتسمها - أى الدية - على قومك. ولأن الحاكم جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره.
الثانية: أنه فى بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر فى أحكامه واجتهاده فإيجاب العقل على عاقلته مجحف بهم، ولأنه نائب عن الله تعالى فى أحكامه وأفعاله فكان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص257 , المغنى ج9 ص494 , مواهب الجليل ج6 ص265.
(2/194)

أرش جنياته فى مال الله.
وأبو حنيفة من القائلين بالوجه الثانى (1) ومالك من القائلين بالوجه الأول.
242- العاقلة: العاقلة من يحمل العقل، وسميت عقلاً وهى الدية لأنها تعقل لسان ولى المقتول، وقيل: إنها سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل، والعقل هو المنع. ولا خلاف فى أن العاقلة هم العصبات وأن غيرهم كالإخوة لأم وسائر ذوى الأرحام والزوج ليسوا من العاقلة.
ومذهب الشافعى أن الأب والجد والابن وابن الابن لا يدخلون فى العاقلة، وهو رأى أحمد، وحجته ما رواه أبو هريرة عن الرسول عليه السلام قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله لى الله عليه وسلم فقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ". وفى رواية " ثم ماتت القاتلة فجعل النبى ميراثها لبنيها والعقل على العصبة " ولأن مال ولده ووالده كماله، ولهذا لم تقبل شهادتهما له. والدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل وتخفيفًا له فلو جعلناها على الأب والابن أجحفنا به لأن مالهما كماله (2) .
ومذهب مالك وأبى حنيفة وهو رأى لأحمد: أن الأباء والأبناء من العاقلة؛ لأن العقل أساسه التناصر وهم من أهله، ولأن العصبة فى تحمل العقل كَهُمْ فى الميراث فى تقديم الأقرب فالأقرب وآباؤه أقرب الناس إليه فكانوا أولى بتحمل عقله، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى - كما روى عمرو بن شعيب - بأن عقل المرأة بين عصبتها [من كانوا لا يرثون شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها] وإن قتلت فعقلها بين ورثتها (3) .
ويدخل فى العاقلة سائر العصبات مهما بعدوا لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم
_________
(1) المغنى ج9 ص510 , المهذب ج2 ص277 , لمدونة ج16 ص83.
(2) المهذب ج2 ص228 , المغنى ح9 ص515.
(3) مواهب الجليل ج6 ص266 , بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص515.
(2/195)

يكن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين فى المال بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا.
وقد كان العقل قبل خلافة عمر رضى الله عنه بالتعصيب فلما وضع الديوان جعل العقل على أهل ديوان القاتل، وهم المقاتلة من الرجال البالغين ومن ثم يرى أبو حنيفة أن عاقلة الشخص أهل ديوانه ولكنه يقول: إن العاقلة هى العصبة إذا لم يوجد الديوان، واليوم لا ديوان فالعاقلة دون شك هم العصبة، ويرى مالك أن العاقلة هى العصبة ولكنه يجعل أهل الديوان مع العصبة ويبدأ بهم فى تقسيم الدية، أما الشافعى وأحمد فلا يريان أهل الديوان من العصبة.
ويشترك فى العقل الحاضر والغائب من العصبة طبقًا لرأى أبى حنيفة وأحمد؛ لأن الغائبين استووا مع الحاضرين فى التعصيب والإرث فاستووا فى تحمل العقل كالحاضرين، ولأنه معنى تعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب، ويرى مالك أن يخص العقل بالحاضر فقط لأن التحمل أساسه التناصر وهو بين الحاضر، وبعض الفقهاء فى مذهب الشافعى يأخذون بالرأى الأول والبعض يأخذون بالرأى الثانى (1) .
وتقسم الدية على العاقلة مع مراعاة الأقرب فالأقرب ولا يُحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم فى العقل، ومن لا يعرف منه ذلك لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيًا لا يلزم قريشًا كلهم التحمل فإن قريشًا وإن كانوا كلهم يرجعون لأب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون لأب يتميزون به، فيعقل عنهم من يشاركهم فى نسبهم إلى الأب الأدنى (2) .
ولا تُكلَّف العاقلة من المال ما يجحف بها ويشق عليها لأنه لزمها من غير جناية على سبيل المواساة للجانى والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجانى بما يشق على غيره ويجحف به، ولو كان الإجحاف مشروعًا كان الجانى أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله، فإن لم يشرع فى حقه ففى حق غيره أولى.
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص400 , مواهب الجليل ج6 ص267 , المغنى ج9 ص518 , المهذب ج2 ص230.
(2) المغنى ج9 ص519.
(2/196)

واختلف الفقهاء فى مقدار ما يحمله كل فرد فقال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه، وفى مذهب مالك رأى يفرض ربع دينار على كل شخص، وفى مذهب أحمد رأى آخر يفرض نصف مثقال على الموسر وربع مثقال على متوسط الحال، وهو مذهب الشافعى ويرى أبو حنيفة أن لا يزيد ما يؤخذ من الفرد عن ثلاثة دراهم أو أربعة، كما يرى التسوية بين الغنى والمتوسط (1) ، والقائلون بنصف دينار وربعه اختلفوا، فبعضهم يرى هذا القدر هو الواجب فى السنوات الثلاث، والبعض يراه الواجب سنويًا.
والمفروض أن الدية تقسم على ثلاث سنوات، فالمبلغ المقدر على كل فرد هو أقصى القسط السنوى ويجب عليه فى آخر السنة، ومن مات أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ من الدية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف ولأن المرأة والصبى والمجنون ليسوا من أهل النصرة، ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يعقل عنهم.
وإذا لم يكن للجانى عاقلة أصلاً، أو كان له عاقلة فقيرة، أو عددها صغير لا تحمل كل الدية، فهناك نظريتان:
الأولى: يرى أصحابها أن يقوم بيت المال مقام العاقلة، فإذا لم يكن عاقلة أو كانت فقيرة أخذت الدية من بيت المال، وإن كانت عاقلة لا تحمل كل الدية أخذ باقيها من بيت المال، ويرى بعض أصحاب هذا الرأى أن ما يجب على بيت المال يدفع فورًا، لأن التأجيل للعاقلة قصد به التخفيف ولا حاجة للتخفيف إذا قام مقامها بيت المال، ويرى البعض أن الواجب يقسط على ثلاث سنوات على حسب المستحق على العاقلة، وأصحاب هذه النظرية مالك والشافعى، وهى ظاهر مذهب أبى حنيفة والراجح فى مذهب أحمد.
الثانية: ويرى أصحابها أن الدية تجب على مال القاتل لا على بيت المال، لأن الأصل أن القاتل هو المسئول عن الدية، وإنما حملتها العاقلة للتناصر والتخفيف، فإذا لم تكن عاقلة يرد الأمر لأصله كذلك فإن فى بيت المال حقوقًا
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص520 , مواهب الجليل ج6 ص267 , المهذب ج2 ص230.
(2/197)

للنساء والصبيان والمجانين والفقراء وهؤلاء لا عقل عليهم فلا يجوز صرف ما يستحقونه فيما لا يجب عليهم وهذه النظرية رواية عن أبى حنيفة لمحمد ورأى فى مذهب أحمد (1) .
وإذا لم يمكن الأخذ من بيت المال، فيرى القائلون بأن الدية تجب ابتداء على العاقلة، وهم بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد، بأن الدية تسقط كلها إذا لم تكن عاقلة أو يسقط منها ما لم تحمله العاقلة إذا كان عددها صغيرًا، أما القائلون بأنها تجب على الجانى ابتداء فيرون إلزام الجانى بها أو بما بقى منها.
وإذا أخذنا بالرأى القائل بأن الغنى يدفع نصف دينار سنويًا والمتوسط يدفع ربع دينار، وافترضنا أن الفقراء ضعف عدد الأغنياء ومتوسطى الحال وأن متوسطى الحال ضعف الأغنياء وأن النساء والصبيان ضعف عدد الرجال، فإنه يجب ألا يقل عدد أفراد العائلة عن تسعة آلاف نفس، وإذا طبقنا هذا على ما يقول به أو حنيفة من تحمل الشخص أربعة دراهم، وجب أن يصل أفراد العاقلة إلى عشرة آلاف نفس.
وفى مذهب مالك يرى بعضهم أن أقل ما توزع عليهم الدية سبعمائة شخص، ويرى البعض أن أقلهم ألف، وإذا أخذنا بالفروض السابقة وصل عدد أفراد العاقلة إلى عشرة آلاف نفس.
243- أهمية نظام العاقلة: بينا فى الجزء الأول أهمية نظام العاقلة وتحملها الدية ودللنا على أنه نظام عادل وإن كان يلوح فى ظاهر الأمر أنه يحمل الإنسان وزر غيره، وقلنا إننا لو أخذنا بالقاعدة العامة فيحمل كل مخطئ وزره لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل أولياء المجنى عليه أو هو نفسه على الدية كاملة إذا كان الجانى غنيًا وعلى بعضها إذا كان متوسط الحال، أما إذا كان الجانى فقيرًا
_________
(1) مواهب الجليل ج7 ص266 , بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص524 , المهذب ج2 ص228.
(2/198)

وهو كذلك فى أغلب الأحوال فلا يحصل المجنى عليه من الدية على شئ، وهكذا تنعدم المساواة والعدالة بين المتهمين كما تنعدم بين المجنى عليهم. وقلنا إن هذا النظام قصد به أن يحصل المجنى عليهم على حقهم كاملاً وأنه يحقق العدالة والمساواة على جميع الوجوه، وقلنا أكثر من ذلك فليراجعه من شاء.
لكن هذا النظام على ما فيه من عدالة وتسوية بين المتهمين والمجنى عليهم لا يمكن أن يقوم فى عهدنا الحاضر لأن أساسه وجود العاقلة، ولا شك أن العاقلة ليس لها وجود الآن إلا فى النادر الذى لا حكم له وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا تتحمل أن يفرض عليها كل الدية، ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم، أما الآن فلا شئ من هذا بحيث يندر أن تجد شخصًا يعرف جده الثالث، وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل، إما الرجوع على المجنى عليه بكل الدية، وإما الرجوع على بيت المال، والرجوع على المجنى عليه يؤدى إلى إهدار دماء أكثر المجنى عليهم لأن أكثر المتهمين فقراء وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التى تقوم على حفظ الدماء وحياطتها وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة ويحقق أغراض الشيعة والخوف من إرهاق الخزانة لا يجب أن يقف حائلاً دون تحقيق المساواة والعدالة ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، ونستطيع أن نفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين، فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوروبية إلى هذا العمل، فأنشأت صندوقًا لتعويض المجنى عليهم فى الجرائم إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التى تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام
(2/199)


العاقلة، فنظام العاقلة يقوم اليوم فى (بعض) (1) وهى من البلاد الأوروبية، فأولى بنا وهو نظامنا أن نقيمه بيننا على الوجه الذى يتلاءم مع ظروفنا وحالاتنا.
ثانيًا: الكفارة:
244- تجب الكفارة عقوبة أصلية على القتل شبه العمد مع الدية: وقد سبق أن تكلمنا على الكفارة بمناسبة الكلام على عقوبة القتل العمد، وما قلناه هناك يغنى الاطلاع عليه عن إعادته هنا.
* * *
العقوبات البدلية
245- العقوبات البدلية فى القتل شبه العمد هى: أولاً: التعزير بدلاً من الدية. ثانيًا: الصيام بدلاً من الكفارة وهى عتق الرقبة أو التصدق بقيمتها. وقد استوفينا الكلام على التعزير والصيام بمناسبة عقوبات القتل العمد وما قلناه هناك يغنى عن إعادته هنا.
العقوبات التبعية
246- العقوبات التبعية فى القتل شبه العمد هى: أولاً: الحرمان من الميراث. ثانيًا: الحرمان من الوصية. وقد استوفينا الكلام عليهما فى باب القتل العمد ومن ثم فليس ما يدعم لتكرار القول هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق