الخميس، 20 نوفمبر 2014

الباب الثاني - في الحدود – الكتاب الرابع : السرقة – المبحث الثاني : أدلة السرقة - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة


الكتاب الرابع
السرقة


المبحث الثاني
أدلة السرقة


تثبت جريمة السرقة بما يأتى:
618- أولاً: البينة, أى شهادة الشهود: ويشترط فى شهود السرقة ما سبق بيانه من الشروط التى يجب توافرها فى شهود الزنا على الخلاف والوفاق الذى ذكر بين الفقهاء. وتثبت السرقة بشهادة شاهدين اثنين: فإن قل العدد عن اثنين أو كان أحدهما امرأة أو كان أحدهما شاهد رؤية والآخر شاهد سماع فلا قطع بشهادتهما.
وتقبل شهادة رجل وامرأتان, وشهادة شاهد رؤية وشاهدى سماع, وشهادة شاهد ويمين المدعي, بقصد إثبات ملكية المسروق, فإذا لم يكن غير هذه الشهادات فى جريمة السرقة امتنع الحكم بالقطع, واقتصر القاضى على الحكم بتعزير الجانى وإلزامه بضمان قيمة الشيء المسروق (4) .
ويشترط أبو حنيفة عدم التقادم لقبول الشهادة ولقطع السارق بها, والأصل عنده أن التقادم يبطل الشهادة على الحدود الخاصة, ولكن بطلان الشهادة
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص67.
(2) المغنى ج10 ص296.
(3) شرح الأزهار ج4 ص364.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص81, سرح الزرقانى ج8 ص106, المغنى ج10 ص289, أسنى المطالب ج4 ص151.
(2/611)

بالنسبة للحد لا يمنع من ثبوت المال المسروق للمجنى عليه بنفس الشهادة, ولا يمنع من تعزير الجانى بهذه الشهادة وتضمينه قيمة المسروق, لأن التقادم يمنع من قبول الشهادة على الحدود الخالصة لشبهة الضغينة, والشبهة تدرأ الحد، ولكنها لا تمنع وجوب المال.
أما الأئمة الثلاثة فلا يعرفون التقادم ولا يسلمون به, فتقبل الشهادة عندهم تقادمت أو لم تتقادم ما دام القاضى مقتنعًا بصحتها.
وهناك رواية عن أحمد بأنه يقبل التقادم فى الحدود (1) .
وإذا تعدد السراق, وكان بعضهم غائبًا وبعضهم حاضرًا تثبت السرقة عليهم جميعًا بشهادة شاهدين, ويقطع الحاضر من الجناة, أما الغائب فلا يقطع بهذه الشهادة, بل يجب أن تعاد البينة فى مواجهته, أو تثبت عليه الجريمة فى مواجهة بينة أخري (2) , وهو ما يراه الأئمة الثلاثة. وعلى القاضى أن يتحقق من عدالة الشهود فى الحدود ولو لم يطعن المتهم فى شهادتهم, ولكنه غير ملزم بالتحقق من عدالتهم فى غير الحدود, ما لم يطعن فى شهادتهم على الرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة.
ويشترط أبو حنيفة لقبوله الشهادة على السرقة الموجبة للقطع قيام الخصومة ممن له يد صحيحة على الشيء المسروق, فإذا حضر الشهود, وقبل المجنى عليه أو من له حق الخصومة وشهدوا بالسرقة, لم تقبل شهادتهم ما لم يحضر من له حق المخاصمة أو المجنى عليه ويخاصم, لأن من شرط السرقة أن يكون الشيء مملوكًا لغير السارق, فلا تظهر السرقة إلا بالخصومة, فإذا لم توجد الخصومة لم تقبل الشهادة, إلا أن عدم قبول الشهادة لا يمنع القبض على المتهم وحبسه بناء على تبليغ الشهود بالسرقة إذ التبليغ اتهام, والقبض والحبس لا يجوز أن يتوجه
_________
(1) المغنى ج10 ص187, بدائع الصنائع ج7 ص81, وراجع الجزء الأول من التشريع الجنائى الإسلامى.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص258.
(2/612)

بالاتهام, فإذا حضر المجنى عليه أو غيره ممن له حق الخصومة وادعى ملكية المسروق قبلت الشهادة (1) .
والمقصود من قبول الشهادة هو عدم سماع الشهود قضاء والأخذ بها كدليل, فلا يمنع حضور الشهود قبل المخاصمة من سماع أقوالهم وتدوينها كبلاغ وحبس المتهم بموجبها, وإنما الممنوع هو الحكم بها (2) .
ولكن مالكًا لا يرى المخاصمة ضرورية لقبول الشهادة والحكم بها, فإذا حضر الشهود وبلغوا بالسرقة سمعت شهادتهم وأقيمت الدعوى على المتهم ولو لم يحضر المجنى عليه, ولو كان المتاع لغائب أو مجهول, ويقطع السارق بشهادة الشاهدين؛ لأن الحد متعلق بحق الله تعالي, وقد ارتكب المتهم الجريمة, فوجبت عليه عقوبتها (3) , بل لو كذب المجنى عليه الشهود بالسرقة فلا يمنع هذا من القطع ما دامت السرقة ثابتة (4) .
ويرى الشافعى أنه إذا تقدم الشهود فشهدوا بسرقة مال شخص غائب أو حاضر لم يبلغ قبلت شهادتهم حسبة تغليبًا لحق الله تعالي, ولكن لا يقطع السارق بهذه الشهادة حتى يطالب المالك بالشيء المسروق, أو يطالب عنه وليه أو وصيه, فإذا ادعى اعتبرى الشهادة مرة ثانية بعد ادعائه لإثبات أن المال المسروق له؛ لأن شهادة الحسبة لا تقبل فى المال, أما وجوب القطع فقد ثبت بثبوت السرقة التى ثبتت بشهادة الحسبة إن كان القطع, متوقفًا على المخاصمة؛ لأن عدم المخاصمة تفيد وجود مسقط للقطع فانتظار المخاصمة هو انتظار ظهور مسقط, فإذا خاصم تبين أن لا مسقط (5) . ورأى الشافعى لا يختلف من الناحية العملية عن رأى أبى حنيفة.
وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع مذهب أبى حنيفة وهو الراجح
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص81.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص252.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص106, المدونة ج16 ص66, 67.
(4) المدونة ج16 ص68, شرح الزرقانى ج8 ص97.
(5) أسنى المطالب ج4 ص152.
(2/613)

, والثانى يتفق مع مذهب مالك, وهو المرجوح (1) , وأصحاب الرأى الأول يحتاطون فيرون حبس السارق وأخذ المال المسروق وحفظه حتى يحضر الغائب أو وكيله, ويلاحظ أن المخاصمة مقيدة بالسرقة الموجبة للقطع, فإن كانت السرقة مما يعزر فيه فلا تشترط الخصومة لظهور السرقة, وليس من الضرورى سماع أقوال المجنى عليه أو من يمثله إلا فيما يتعلق بتضمين السارق قيمة المسروق, ويكفى أن يثبت السرقة بأى طريق آخر غير طريق المجنى عليه. والتشدد فى السرقة الموجبة للقطع راجع إلى الأصل المشهور "ادرءوا الحدود بالشبهات" فمن اشترط حضور المجنى عليه اتخذ من عدم حضوره شبهة أن يكون المال غير مسروق أو أن للمتهم حقًا فيه, أو أنه سرق من غير حرز, أو أن المتهم أذن له فى دخول الحرز وغير ذلك من الشبهات التى تدرأ القطع.
من يملك الخصومة؟: وإذا كان بعض الفقهاء يرى الخصومة شرطًا لظهور السرقة المستوجبة للقطع فلابد من بيان من يملك الخصومة, والأصل عند أبى حنيفة أن كل من له يد مالك أو أمانة أو ضمان, فللمالك أن يخاصم السارق, وللمودع وللمستعير والمضارب والغاصب والقابض على رسوم الشراء والمرتهن؛ لأن يد هؤلاء إما يد ضمان أو يد أمانة, فلهم جميعًا أن يخاصموا السارق, وتعتبر خصومتهم فى حق ثبوت ولاية الاسترداد والإعادة إلى أيديهم أولاً, وفى حق القطع إذ يقطع السارق بخصومتهم ثانيًا. ولكن زفر لا يعتبر الخصومة فى حق القطع إلا من المالك فقط وهو مذهب الشافعي, حيث يشترط مخاصمة المالك أو وكيله, ولا يجيز مخاصمة واضع اليد كالمرتهن والمستأجر. أما مالك فلا يشترط المخاصمة والمطالبة للقطع - وفى مذهب أحمد رأيان: رأى كمذهب مالك, والثانى كمذهب الشافعى يشترط مخاصمة المالك دون غيره (2) .
_________
(1) المغنى ج10 ص299, كشاف القناع ج4 ص86.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص83, أسنى المطالب ج4 ص152, المغنى ج10 ص299, كشاف القناع ج4 ص87, شرح الزرقانى ج8 ص106.
(2/614)

والسارق عند أبى حنيفة لا يملك الخصومة إذا سرق الشيء منه؛ لأن يده ليست صحيحة على الشيء المسروق, فلا هى يد مالك, ولا يد أمانة, ولا ضمان, فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق, وليس للمالك ولاية الخصومة فى هذه الحالة, لأن الأخذ لم يخرج من المال من حيازته ولكن له حق استرداد الشيء المسروق. وإذا كان السارق لا يملك الخصومة فإنه يترتب على ذلك سقوط القطع فى حق السارق الثانى.
أما حق الاسترداد فقد اختلف فيه الفقهاء فى المذهب. فيرى البعض أن السارق الأول ليس له أن يطالب السارق الثانى برد المسروق, ويرى البعض أن له حق المطالبة بالاسترداد (1) , ومالك لا يشترط الخصومة, ويرى قطع السارق من السارق؛ لأنه سرق مالاً للغير من حرز لا شبهة له فيه (2) , ولكنه لا يجعل للسارق الأول حق استرداد المسروق, إنما الاسترداد للمالك.
وأحمد يشترط الخصومة, ولكنه لا يقطع السارق من السارق, ولا السارق من الغاصب, ولا يجعل حق استرداد المسروق إلا للمالك (3) .
وفى مذهب الشافعى رأيان فى قطع السارق من السارق: أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أحمد (4) , وحق الاسترداد لا يكون فى أى حال إلا للمالك.
619 - ثانيًا: الإقرار: تثبت السرقة بالإقرار ولو بعد حين من السرقة, لأن التقادم عند القائلين به لا يؤثر على الإقرار, إذ الإنسان غير متهم فيما يقر به على نفسه. والظاهريون يرون أن يكون الإقرار مرة واحدة ولا يتعدد.
وقد اختلف فى عدد الأقارير. فاكتفى مالك وأبو حنيفة والشافعى بإقرار واحد، ويرى أبو يوسف من فقهاء الحنفية مع أحمد والشيعة الزيدية أن يكون
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص84.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 96.
(3) المغنى ج10 ص257, 279.
(4) المهذب ج2 ص299, أسنى المطالب ج4 ص138.
(2/615)

الإقرار مرتين, وحجتهم ما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقطع أحد السارقين إلا بعد أن اعترف مرتين أو ثلاثًا, ويترتب على اشتراط الإقرار مرتين عند القائلين به أنه لو أقر مرة واحدة لم يقطع بها, ولكنه يعزر بها ويحكم عليه بقيمة المسروق (1) .
واختلف فى اشتراط الخصومة مع الإقرار, فأبو حنيفة والشافعى وأحمد يشترطون المخاصمة مع الإقرار, فلا يقطع المقر بسرقة مال من مجهول أو من غائب إلا إذا خاصمه من يملك المخاصمة كما هو الحال فى حالة الثبوت بالبينة, ولكن أبا يوسف من فقهاء المذهب الحنفى لا يشترط المخاصمة فى حال الإقرار ويرى القطع فى السرقة من مجهول أو غائب إذا ثبتت السرقة دون حاجة للمخاصمة, وحجته فى ذلك أن المقر لا يتهم فى الإقرار على نفسه, ويحتج أبو حنيفة ومن على رأيه بأن سمرة لما أقر للرسول أنه سرق بعيرًا, أرسل الرسول يسأل المجنى عليهم فقالوا: فقدنا بعيرًا فى ليلة كذا, فقطعه.
ويحتج لذلك أيضًا بأن الظاهر أن من فى يده شيء فهو ملكه, فإن أقر به لغيره لم يحكم بزوال ملكه حتى يصدقه المقر له, والغائب يجوز أن يصدقه, ويجوز أن يكذبه, فاحتمال التكذيب شبهة تدرأ الحد عن المتهم.
وقد علمنا فيما سبق أن مالكًا لا يشترط المخاصمة للقطع سواء ثبتت السرقة ببينة أو إقرار (2) .
وإذا أقر الجانى ورجع عن إقراره لم يقطع, لأن العدول شبهة فى صحة الإقرار, ولكن يمكن أن يعزر على أساس إقراره, وان يحكم عليه بضمان المال المسروق, وإذا عدل المتهم عن الإقرار, وكانت الجريمة ثابتة بشهادة
_________
(1) المغنى ج10 ص291- 294, شرح الأزهار ج4 ص364, شرح الزرقانى ج8 ص106, أسنى المطالب ج4 ص150, بدائع الصنائع ج7 ص81, 82.
(2) المغنى ج10 ص300, أسنى المطالب ج4 ص150, شرح الزرقانى ج8 ص106, بدائع الصنائع ج7 ص82.
(2/616)

الشهود, قطع الجانى بناء على ثبوت الجريمة بالبينة, وهذا ما يراه أحمد ومالك والظاهريون (1) .
وعند الشافعيين يرون أن الأصح سقوط القطع إذا ثبتت الجريمة أولاً ثم ثبتت بالبينة إذا رجع عن الإقرار (2) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة يرون أن الإقرار يبطل الشهادة, وأن العدول عن الإقرار يبطل الحد (3) .
وليس للعدول عن الإقرار أى أثر عند الظاهريين, بل يؤخذ الجانى بإقراره ولو عدل عنه, لأنهم لا يدرأون الحدود بالشبهات, ويرى بعض الشافعية هذا الرأى على أساس أن السرقة حق متعلق بالإفراد (4) .
620- ثالثًا: اليمين: فى مذهب الشافعى رأى أن السرقة تثبت باليمين المردودة, فإذا ثبتت على هذا الوجه قطع المتهم, فإذا لم يكن شهود ولا إقرار, فنسب المجنى عليه السرقة للمتهم, فنكل السارق عن اليمين فحلفها المدعى قطع السارق؛ لأن اليمن المردودة كالإقرار والبينة وسيلة من وسائل الإثبات, وكل منها يقطع به فيقطع باليمن المردودة.
لكن الرأى الراجح فى المذهب أن القطع لا يكون بالبينة أو الإقرار, وأنه لا قطع باليمين المردودة, وإنما يثبت به المال المسروق فقط (5) , وهذا الرأى يتفق مع مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فإنهم لا يرون اليمن المردودة دليلاً مثبتًا إلا للمال دون غيره, وأن السارق لا يقطع بها (6) .
* * *
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص86, المحلى ح8 ص250.
(2) أسنى المطالب ج4 ص150, ويراجع مذهب أبس حنيفة فى شرح فتح القدير.
(3) شرح الأزهار ج4 ص349.
(4) المحلى ج8 ص250, المهذب ج2 ص364.
(5) أسنى المطالب ج4 ص364.
(6) شرح الزرقانى ج8 ص107, بدائع الصنائع ج7 ص81, المغنى ج1 ص128.
(2/617)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق