الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

الباب الثاني - في الحدود – الكتاب الثالث : الشرب – مقدمة " من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة

الكتاب الثالث
الشرب

مقدمة

579 - حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريمًا قاطعًا لأنها تعتبر الخمر أم الخبائث وتراها مضيعة للنفس والعقل والصحة والمال. وقد حرصت الشريعة على أن تبين للناس من أول يوم أن منافع الخمر مهما يقال فى منافعها ضئيلة لا تتعادل مع أضرارها الجسيمة، وذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِماَ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُماَ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِماَ} [البقرة: 219] .
ولقد حرمت الشريعة الإسلامية الخمر من ثلاثة عشر قرنًا، ووضع التحريم موضع التنفيذ من يوم نزول النصوص المحرمة، وظل العالم الإسلامى يحرم الخمر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين حيث بدأت البلاد الإسلامية تطبق القوانين الوضعية وتعطل الشريعة الإسلامية، فأصبحت الخمر مباحة لشاربيها كما هو الحال فى مصر ولا عقاب علىشربها أو السكر منها اللهم إلا إذا وجد شاربها فى حالة سكر بِّين فى محل عام، فإن كان السكر بينًا وكان السكر فى محل خاص فلا عقاب عليه؛ أى أن العقوبة التى يقررها القانون المصرى ليست على شرب الخمر ولا على السكر وإنما على وجود السكران فى محل عام.
وفى الوقت الذى يستبيح فيه المسلمون الخمر بالرغم من تحريم الإسلام لها تنتشر الدعوة إلى تحريم الخمر فى كل البلاد غير الإسلامية، فلا تجد بلدًا ليس فيه جماعة أو جماعات تدعو إلى تحريم الخمر وتبين بكل الوسائل أضرارها العظيمة التى تعود على شاربيها بصفة خاصة وعلى الشعوب بصفة عامة،
(2/496)

وقد اندفعت هذه الجماعات إلى المناداة بتحريم الخمر بعد ما أثبته العلم من أن شرب الخمر مضر بالصحة وأنه يضعف الجسم والعقل بصفة عامة ويؤدى إلى قلة النسل وانحطاطه من الناحيتين الجسمانية والعقلية، وكذلك ثبت أن شرب الخمر يؤدى إلى ضعف الإنتاج، وهذا الذى أثبته العلم الحديث يؤيد مطلقًا نظرية الشريعة الإسلامية. وقد ترتب على الدعوة القوية لتحريم الخمر أن ابتدأت الدول غير إسلامية تضع فكرة تحريم الخمر موضع تنفيذ من القرن الحالى. فالولايات المتحدة الأمريكية أصدرت من عدة سنين قانونًا يحرم الخمر تحريمًا تامًا. وقد أصدرت الهند من سنتين قانونًا مماثلا. وهاتان هما الدولتان الكبيرتان اللتان حرمتا الخمر، أما أكثر الدول فقد استجابت للدعوة استجابة جزئية فحرمت تقديم الخمر وتناولها فى المحلات العامة فى أوقات معينة من النهار أو أيام معينة من العام، كما حرمت تقديمها أو بيعها لمن لم يبلغوا سنًا معينة.
ونستطيع أن نقول بعد ذلك إن العالم غير الإسلامى أصبح اليوم مهيئًا لفكرة تحريم الخمر بعد أن ثبت علميًا أنها تضر بالشعوب ضررًا بليغًا، وأن الدعوة إلى التحريم تأخذ طريقها ويشتد ساعدها كل يوم وتجد من العلماء والمصلحين كل تعضيد، وأن اليوم الذى تحرم فيه كل الدول الخمر تحريما ً قاطعًا لم يعد بعيدًا، وأن العالم غير الإسلامى قد بدأ يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية ويسير على أثرها فسجل على نفسه بذلك أنه استجاب للحق بعد أن ظل يدعى إليه ثلاثة عشر قرنًا فلا يستجيب.
ولقد كان هذا حريًا أن يدفع البلاد الإسلامية إلى المسارعة بتحريم الخمر وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ولكن المسلمين لا يزالون يغطون فى نومهم، عاجزين عن الشعور بما حولهم، بل عاجزين عن الشعور بأنفسهم، وسيأتى قريبًا اليوم الذى يصبح فيه تحريم الخمر عامًا فى كل الدول فتتم معجزة الشريعة الإسلامية
(2/497)

ويتحقق ما نادت به من ثلاثة عشر قرنًا على أيدى أناس لا ينتمون للإسلام ولا يعرفون من حقائقه شيئًا.
580 - النصوص الخاصة بالخمر: الأصل فى التحريم القرآن والسنة، على أن نصوص القرآن لم تحرم الخمر دفعة واحدة بل جاء التحريم تدريجيًا، وأول نصوص التحريم قوله تعالى: {ياَ أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ثم جاء القرآن بعد ذلك بتأثيم شاربها فى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْر وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نًَّفْعِهِماَ} [البقرة: 219] ثم نزل التحريم القاطع فى قوله تعالى: {ياَ أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِرِ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوُه} [المائدة: 90] .
أما السنة: فيقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" عن ابن عمر، وقوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" عن جابر، وعن عائشة قوله: "كل مسكر حرام وما أسكر منه الغرف فملء الكف منه حرام"، وعن عبد الله بن عمر: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه". وقوله: "من شرب الخمر فاجلدوه".
581 - معنى الشرب عند الفقهاء: اختلف الفقهاء فى تحديد معنى الشرب، فهو عند مالك والشافعى وأحمد: شرب المسكر سواء سمى خمرًا أم لم يسم خمرًا، وسواء كان عصيرًا للعنب أو لأى مادة أخرى كالبلح والزبيب والقمح والشعير والأرز، وسواء أسكر قليله أو أسكر كثيره (1) .
أما أبو حنيفة: فالشرب عنده قاصر على شرب الخمر فقط، سواء كان ما شرب كثيرًا أو قليلا والخمر عنده اسم لما يأتى:
ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد. وعند أبى يوسف ومحمد: ماء العنب إذا غلا واشتد فقد صار خمرًا قذف بالزبد أو لم يقذف به.
ماء العنب إذا طبخ فذهب أقل من ثلثيه وصار مسكرًا.
نقيع البلح والزبيب
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 112، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص326.
(2/498)

إذا غلا واشتد وقذف بالزبد على رأى أبى حنيفة أو إذا غلا واشتد ولو لم يقذف بالزبد على رأى أبى يوسف ومحمد، ويستوى أن يكون البلح رطبًا أو بُسْرًا أو تمرًا. وما عدا هذه الأنواع الثلاثة لا يعتبر خمرًا عند أبى حنيفة، فعصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع البلح والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير وغير ذلك من المواد نقيعًا كان أو مطبوخًا؛ كل ذلك لا يعتبر خمرًا وشربه حلال إلا ما بلغ السكر، فإن أسكر فلا يعاقب على شربه وإنما يعاقب على السكر منه. وحجة أبى حنيفة فى هذا الرأى ما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أشار إلى النخلة والكرمة وقال: "الخمر من هاتين الشجرتين"، وما روى عنه من قوله: "حرمت الخمرة لعينها، والمسكر من كل شراب" (1) .
فأبو حنيفة إذن يفرق بين الخمر والمسكر ويحرم شرب الخمر قليلًا كان أو كثيرًا أما ما عدا الخمر من المواد المسكرة فيسميه مسكرًا لا خمرًا، والمسكر عنده لا يعاقب على شربه كالخمر وإنما يعاقب على السُّكر منه؛ لأن المسكر ليس حرامًا فى ذاته وإنما الحرام هو الكمية الأخيرة منه التى تؤدى للسكر، فلو شرب شخص ثلاثة أقداح ولم يسكر ثم شرب الرابع فسكر فالمحرم هو القدح الرابع.
ولقد أدت التفرقة بين الخمر والمسكر إلى أن يفرق أبو حنيفة بين عقوبة الشرب وعقوبة السكر، وأن يقول بأن الحد حدان: حد الشرب وهو قاصر على شرب الخمر سواء سكر الشارب أم لم يسكر، قلَّ ما شربه أو كَثُر. وحد السكر فلا عقاب عليه. أما باقى الأئمة فلحد عندهم واحد هو حد الشرب. ويجب على كل من شرب مسكرًا سواء سمى خمرًا أو سمى باسم آخر، وسواء سكر الشارب أم لم يسكر ما دام أن الكثير من الشراب يسكر؛ لأن القاعدة عندهم أن ما أسكر كثيره فقليلة حرام.
ورأى الأئمة الثلاثة هو الرأى المتبع فى العالم الإسلامى، إلا أننا رأينا أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج5 ص112 وما بعدها، المغنى ج10 ص327.
(2/499)

نتكلم على حد الشرب وحد السكر معًا ببيان رأى الحنفيين، ولأن بعض الفقهاء يرى حد غير المسلم إذا سكر (1) ، فكان الكلام على حد السكر واجبًا من هذين الوجهين، على أن البعض الآخر يرى تعزير الذمى على السكر (2) .
والقاعدة عند فقهاء الشريعة أن الخمر مباح لغير المسلمين ما دام دينهم لا يحرمها تطبيقًا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمرنا بتركهم وما يدينون" ولكن لما كان السكر مما تحرمه الأديان جميعًا فقد رأى بعض الفقهاء حد غير المسلم على السكر ورأى البعض تعزيره، ولا خلاف فى أن غير المسلم يعزر على التظاهر بالشرب ولو لم يسكر ولو أن الشرب مباح له. على أنه ليس فى قواعد الشريعة ما يمنع من تطبيق حد الشرب على غير المسلمين إذا تبين أن السماح لهم بشرب الخمر يؤدى إلى الفساد الاجتماعى، ولا شك أن عدم تحريم الشرب عليهم يؤدى هذا إلى الفساد؛ لأن السماح لهم بالشرب يقتضى وجود الخمر فى البلاد ويشجع المسلمين على شرب الخمر، وهذا وحده يؤدى إلى هدم قواعد التحريم. وإذا كانت الدول المسيحية والبوذية تحرم الخمر على رعاياهم مسيحيين وبوذيين ومسلمين فأولى بالدول الإسلامية أن تحرم الخمر على رعاياها أيًا كانت ديانتهم ومذاهبهم.
* * *
_________
(1) بدائع الصنائع ج5 ص113.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 112.
(2/500)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق