السبت، 22 نوفمبر 2014

جريمة الحرابة (تعريفها وأركانها وطرق أثباتها وعقوبتها) – من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة 
الكتاب الخامس
الحرابة

632- الحرابة: هى قطع الطريق أو هى السرقة الكبرى, وإطلاق السرقة على قطع الطريق مجاز لا حقيقة؛ لأن السرقة هى أخذ المال خفية وفى قطع الطريق بأخذ المال مجاهرة, ولكن فى قطع الطريق ضرب من الخفية هو اختفاء القاطع عن الإمام ومَنْ أقامه لحفظ الأمن, ولذا لا تطلق السرقة على قطع الطريق إلا بقيود فيقال السرقة الكبرى, ولو قيل السرقة فقط لم يفهم منها قطع الطريق, ولزوم التقييد من علامات المجاز (1) .
633- مقارنة بين السرقة والحرابة: وجريمة الحرابة وإن سميت بالسرقة الكبرى إلا أنها لا تتفق تمام الاتفاق مع السرقة, فالسرقة أخذ المال خفية والحرابة هى الخروج لأخذ المال على سبيل المغالبة, فركن السرقة الأساسى هو أخذ المال فعلاً وركن الحرابة هو الخروج لأخذ المال سواء أخذ المال أم لم يؤخذ, والسارق يعتبر سارقًا إذا أخذ المال خفية, أما المحارب فيعتبر محاربًا فى حالات:
الأولى: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخاف السبيل ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحد.
الثانية: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال ولم يقتل أحدًا.
الثالثة: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فقتل ولم يأخذ مالاً.
الرابعة: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال وقتل.
ففى هذه الحالات الأربع يعتبر الشخص محاربًا ما دام قد خرج

_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص268.
(2/638)

بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة, أما إذا خرج بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة فلم يخف سبيلاً ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحدًا فهو ليس محاربًا, فالخروج بقصد أخذ المال إذا لم يؤد لحالة من الحالات ليس حرابة ولكنه ليس مباحًا بل هو معصية يعاقب عليها بالتعزير, والخروج بغير قصد المال لا يعتبر حرابة ولو أدى إلى جرح وقتل, والخروج لأخذ المال على غير سبيل المغالبة ليس حرابة وإنما هو اختلاس. والحرابة تعرف عند أبى حنيفة وأحمد والشيعة الزيدية بأنها الخروج لأخذ المال على سبيل المغالبة إذا أدى هذا الخروج إلى إخافة السبيل أو أخذ المال أو قتل إنسان, ويعرفها البعض بأنها إخافة السبيل لأخذ المال (1) .
والأصل فى الحرابة قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ... } الخ [المائدة:33] , وقد اختلف فى المحاربين المقصودين بهذه الآية, فقال البعض: إنها نزلت فى قوم مشركين كان بينهم وبين النبى ميثاق فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض, وقال البعض: إنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب, وقال البعض: إنها نزلت فى قوم أسلموا ثم ارتدوا واستاقوا إبلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتلوا راعيها. والرأى الذى عليه جمهور الفقهاء أن المحارب هو المسلم أو الذمى الذى يقطع الطريق أو يخرج أخذ المال على سبيل المغالبة (2) , على أن الظاهرية يرون أن الذمى الذى يقطع الطريق ليس محاربًا ولكنه ناقض للذمة (3) , ومن هذا الرأى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد (4) , أما بقية المذاهب المقارنة فيسوى بين المسلم والذمى وترى كليهما محاربًا إذا قطع الطريق. وفى مذهب مالك أن الحرابة هى إخافة السبيل سواء قصد المال أو لم يقصد, فمن

_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص90, أسنى المطالب ج4 ص154, المغنى ج10 ص302, شرح الأزهار ج4 ص376, شرح الزرقانى ج8 ص108, المغنى ج11 ص306.
(2) بداية المجتهد ج2 ص379, نيل الأوطار ج7 ص260 وما بعدها, المحلى ج11 ص300 وما بعدها.
(3) المحلى ج11 ص315.
(4) المغنى ج10 ص319.
(2/639)

خرج لقطع السبيل لغير مال فهو محارب كقوله: لا أدع هؤلاء يخرجون للشام أو غيرها, فمن قطع الطريق أخاف الناس فهو محارب, ومن حمل عليهم سلاحًا بغير عداوة ولا ثائرة فهو محارب. والمسلم به عند مالك أن كل ما يقصد به أخذ المال على وجه يتعذر معه الغوث فهو حرابة.
وتعرف الحرابة عند الشافعيين بأنها هى البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرة اعتمادًا على الشوكة مع البعد عن الغوث (1) . على أنهم يشترطون فى القتل الغير حرابة أن يكون بقصد أخذ المال (2) أو إخافة السبيل (3) .
ويرى الظاهريون أن المحارب هو المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد فى الأرض, فيدخل فى المحاربين قاطع الطريق واللص, ولكنهم يرون أن اللص إذا دخل مستخفيًا ليسرق أو يزنى أو يقتل مثلاً ففعل شيئًا من ذلك مستخفيًا فإنما هو سارق أو زان أو قاتل, عليه ما على الزانى أو السارق أو القاتل, فإن اشتهر أمره بفعل ارتكاب جريمته فهو ليس محاربا ولكنه فاعل منكر وليس عليه إلا التعزير, فإن دافع وكابر بقصد ارتكاب جريمته فهر محارب بلا شك لأنه قد حارب وأخاف السبيل وأفسد فى الأرض (4) . ومن أشهر على آخر سلاحًا على سبيل إخافة الطريق ولو لم يقصد أخذ المال فهو محارب, وإن كان يقصد العدوان فقط فعليه القصاص إذا جرح شخصًا فإن لم يكن هنالك جرح فعليه التعزير (5) , ومن يمتنع عن أداء الزكاة عليه التعزير ولا يعتبر محاربًا فإن مانع دونها فهو محارب (6) , فالمحارب عندهم كل من حارب المار وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال أو لانتهاك فرج (7) , ويرى بعض الشافعية والمالكية التعرض للبُضع مجاهرة حرابة (8) .

_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص154, نهاية المحتاج ج8 ص2.
(2) نهاية المحتاج ج8 ص5.
(3) أسنى المطالب ج4 ص155.
(4) المحلى ج11 ص306 - 308.
(5) المحلى ج11 ص315.
(6) المحلى ج11 ص313.
(7) المحلى ج11 ص308, والمراجع السابقة.
(8) نهاية المحتاج ج8 ص2, شرح الزرقانى ج8 ص109.
(2/640)

ويعتبر مالك من الحرابة أخذ المال مخادعة مع استعمال القوة أو مع عدم استعمالها, فمن يسقى المجنى عليه أو يطعمه مادة مخدرة أو يحقنه بها حتى يغيب عن صوابه ثم يأخذ ماله أو يخدعه حتى يدخله محلاً بعيدًا عن الغوث ثم يسلبه ما معه يعتبر محاربًا. ومن يخدع شخصًا صغيرًا أو كبيرًا على أى الوجهين السابقين ثم يقتله بقصد أخذ ما معه فهو محارب سواء أخذ ما معه أو لم يجد معه ما يؤخذ. ويسمى مالك هذا النوع من القتل قتل الغيلة وهو عنده نوع من الحرابة (1) .
634- ممن تحدث الحرابة؟: تحدث الحرابة من جماعة أو فرد فقط قادر على الفعل. ويشترط أبو حنيفة وأحمد أن يكون مع المحارب سلاح أو ما هو فى حكم السلاح كالعصا والحجر والخشبة, ولكن مالكًا والشافعى والظاهرية والشيعة الزيدية لا يشترطون السلاح ويكفى عندهم أن يعتمد المحارب على قوته, بل يكتفى مالك بالمخادعة دون استعمال القوة فى بعض الأحوال وأن يستعمل أعضاءه كاللكز والضرب بجمع الكف (2) .
ويعتبر محاربًا كل من باشر الفعل فيه أو تسبب فيه, فمن باشر أخذ المال أو القتل أو الإخافة فهو محارب, ومن أعان على ذلك بتحريض أو اتفاق أو إعانة فهو محارب, ويعتبر فى حكم المباشر من يحضر المباشرة ولو لم يباشر بنفسه كمن يوكل إليه الحفظ أو الحراسة. ويعتبر معينًا الطليعة والردء الذى يلجأ إليه المحاربون إذا انهزموا أو الذين يمدونهم بالعون إذا احتاجوا إليه, فكل هؤلاء يعتبرون محاربين عند مالك وأبى حنيفة وأحمد والظاهريين, ولكن الشافعى لا يعتبر محاربًا إلا من باشر فعل الحرابة بنفسه, وأما المتسبب فى الفعل والمعين عليه وإن حضر مباشرته ولم يباشره فلا يعتبر محاربًا وإنما هو عاص أتى معصية
_________
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص109, المدونة ج16 ص104.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص90, كشاف القناع ج4 ص89, المغنى ج10 ص 304, أسنى المطالب ج4 ص154, شرح الأزهار ج4 ص376, المحلى ج11 ص308, المدونة ج16 ص103, شرح الزرقانى ج2 ص109.
(2/641)

يُعزَّر عليها ويترتب على هذا الفرق أنه لو خرج جماعة فقطعوا الطريق وأخذ بعضهم مالاً وقتل بعضهم أشخاصًا ولم يفعل الباقون شيئًا فكلهم مسئول عن أخذ المال والقتل عند أبى حنيفة وأحمد والظاهريين, أما عند الشافعى فلا يسأل عن القتل إلا القاتل ولا يسأل عن أخذ المال إلا من أخذ المال لأن كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده, أما الباقون فعليهم التعزير (1) . ويشترط فى المحارب أن يكون مكلفًا ملزمًا وهذا متفق عليه [ولا يخالف فيه إلا الظاهريون فلا يشترطون إلا أن يكون مكلفًا فقط لأنهم يرون أن الذمى إذا قطع الطريق ينقض عهده] .
فإذا كان فى القطاع صبى أو مجنون فيرى أبو حنيفة ومحمد أن لا حد عليهما لأنهما ليس من أهل الحد ولا حد على غيرهما ممن باشر الجريمة أو تسبب فيها أو أعان عليها, ويرى أبو يوسف هذا الرأى إذا كان الصبى أو المجنون هو الذى باشر الجريمة وحده فإن كان غيرهما هو المباشر فالحد على العقلاء البالغين دون غيرهم, ويرى مالك والشافعى وأحمد والظاهريون أن الحد يسقط عن الصبى والمجنون فى كل حال دون غيرهما سواء ولى أحدهما قطع الطريق أو وليه غيره (2) .
ويستوى أن يكون المحارب رجلا أو امرأة عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعه, وظاهر الرواية عند أبى حنيفة أن لا تحد المرأة إذا اشتركت فى الحرابة ولا يحد من معها إذا وليت هى مباشرة الفعل, ولكن أبا يوسف يرى حد الرجال ولو باشرت المرأة القطع دونهم, والرواية الأخرى فى مذهب أبى حنيفة أن النساء والرجال فى قطع الطريق سواء؛ لأن هذا حد يستوى فى وجوبه
_________
(1) المهذب ج2 ص302, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, المدونة ج16 ص100, كشاف القناع ج4 ص9, المحلى ج11 ص308, بدائع الصنائع ج4 ص91.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص91, كشاف القناع ج4 ص89, المدونة ج16 ص103, أسنى المطالب ج4 ص152.
(2/642)

الذكر والأنثى كسائر الحدود, ولأن النص لم يفرق بين ذكر وأنثى (1) .
وإذا أخذ المحارب مالاً فيشترط فى المال المأخوذ محاربة ما يشترط فى المال المأخوذ بالسرقة, فيجب أن يكون المال مالاً محرزًا, وأن يكون مالاً متقومًا, وأن يكون مملوكًا للغير, وأن لا يكون لآخذه شبهة فيه, إلى غير ذلك من الشروط التى سبق بيانها عند الكلام عن السرقة. وبالإجمال فإنه يشترط فى أخذ المال حرابة ما يشترط فى أخذه بالسرقة إلا أن الأخذ حرابة يقتضى الأخذ مجاهرة ومغالبة لا خفية, ويجب أن يكون المال المسروق بحيث يصيب كل من المحاربين نصابًا فإذا لم يصب كل منهم نصيبًا فلا حد عليهم باعتبارهم آخذين للمال, وهذا هو مذهب أبى حنيفة والشافعي, على أننا يجب أن نلاحظ أن أبا حنيفة يعتبر المباشر والمتسبب والمعين محاربًا, أما الشافعى فلا يعتبر محاربًا إلا المباشر, كذلك يجب أن لا ننسى الفرق بينهما فى تقدير النصاب, وقد سبق بيانه فى السرقة.
أما الشيعة الزيدية وأحمد فيرون الحد على المحارب ما دامت قيمة المسروق كله تبلغ نصابًا واحدًا, ولو تعدد السراق ولو لم يصب أحدهم من المال المسروق نصابًا كاملاً (2) .
أما مالك فلا يشترط النصاب فى الحرابة, ويكفى عنده لوجوب الحد أن يأخذ المحارب مالاً محترمًا سواء بلغ نصاب السرقة أو لم يبلغه, وسواء كان الآخذ واحدًا أو جماعة (3) , ويرى بعض فقهاء المذهب الشافعى هذا الرأى.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص91, شرح الزرقانى ج8 ص109, المدونة ج16 ص102, أسنى المطالب ج4 ص154, كشاف القناع ج4 ص89, شرح الأزهار ج4 ص376, المحلى ج11 ص308.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص92, أسنى المطالب ج4 ص154, نهاية المحتاج ج8 ص3, المهذب ج2 ص302, كشاف القناع ج4 ص91, المغنى ج10 ص313, شرح الأزهار ج4 ص366, 367.
(3) المدونة ج6 ص100, شرح الزرقانى ج8 ص108, نهاية المحتاج ج8 ص5.
(2/643)

وإذا كان المحارب مستأمنًا فحكمه حكم السارق, وقد بينا ذلك عند الكلام على السرقة (1) .
635- مكان القطع: يشترط أبو حنيفة لعقوبة الحد أن تكون الحرابة فى دار الإسلام, فإن كانت فى دار الحرب فلا يجب الحد؛ لأن المتولى إقامة الحد وهو الإمام ليس له ولاية على دار الحرب وهى محل وقوع الجريمة (2) , ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (3) , لكن مالكًا والشافعى وأحمد والظاهريين يوجبون الحد سواء وقعت الحرابة فى دار الإسلام أو دار الحرب ما دام الفعل قد وقع جريمة؛ أى وقع على مسلم أو ذمى من مسلمين أو ذميين, وقد تكلمنا عن هذا بمناسبة الكلام على السرقة, ويشترط الظاهريون أن يكون القطع من المسلمين فقط.
ويرى أبو حنيفة أن يكون القطع فى غير مصر أى بعيداُ عن العمران, فإن كان فى مصر فلا حد عنده سواء كان القطع نهارًا أو ليلاً, وسواء كان بسلاح أو غيره, وهو رأى أساسه الاستحسان, ويعلل بأن القطع لا يحصل عادة فى الأمصار وإنما يحصل فى الطريق بين القرى, ولذلك يشترط أن يكون القطع على مسافة سفر من المصر, وإذا كان هذا هو الاستحسان فإن القياس أن الحد يجب سواء كان القطع فى مصر أو غير مصر, وهو رأى أبى يوسف, ويميل إليه فقهاء المذاهب وعليه فتوى, ويروى عن أبى يوسف أنه يفرق بين النهار والليل فيرى الحد فى قطع الطريق فى المصر ليلاً سواء كان القاطعون مسلحين أم يحملون عصيًا, ولا يعتبر الفاعلون قاطعى طريق فى النهار إلا إذا كانوا مسلحين فإن لم يكونوا مسلحين فليسوا بقطاع إذا ارتكبوا جرائمهم فى المصر, وحجته أن الغوث قلما يتحقق فى الليل فيستوى فيه السلاح وغيره (4) . وأبدى أحمد رأيه فى الحرابة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص314, أسنى المطالب ج4 ص150.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص92.
(3) شرح الأزهار ج4 ص376.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص92, شرح فتح القدير ج4 ص374,375.
(2/644)

فى الصحراء ولكنه توقف إذا كانت فى القرى والأمصار, ولكن أصحابه لا يفرقون بين الحرابة فى الصحراء والمصر ويرون المحارب محاربًا حيثما كان لتناول الآية بعمومها كل محارب, ولأن الحرابة فى المصر أعظم خطرًا وأكثر ضررًا. ويفرق بعض فقهاء المذهب بين ما إذا كان المجنى عليهم يلحقهم الغوث لو صاحوا وبين عدم لحوق الغوث ويعتبرون القطع فى الحالة الثانية (1) .
ولا يفرق مالك والشافعى بين الصحراء والمصر فيصح أن يقع الفعل فى الصحراء أو فى المصر, ولكن مالكًا يشترط أن يقع الفعل على وجه يتعذر معه الغوث, فلو منع المجنى عليه من الاستغاثة وكان الغوث ممكنًا لو استغاث فالفعل حرابة, وإذا وضع حول الدار من يمنع وصول الغوث كان الفعل حرابة, وكذلك إذا هدد من يحضر للغوث فامتنع عن الإغاثة خوفاً (2) .
أما الشافعى فيشترط لاعتبار الفعل حرابة أن لا يلحق الغوث.
وفقد الغوث قد يكون للبعد عن العمران أو السلطان أو لضعف الموجودين فى محل الحادث أو على مقربة منه أو لضعف السلطان أو لمنع المجنى عليهم من الاستغاثة, فمذهب الشافعى فى هذه الحالة كمذهب مالك (3) , والشيعة الزيدية لا يرون الحرابة إلا فى غير المصر ولكن بعضهم يرى أنها تكون فى المصر وغير المصر (4) .
أما الظاهريون فيرون أن الحرابة تكون فى المصر والفلاة, سواء وقعت ليلاً أو نهارًا, وسواء كان المحارب مسلحًا أو غير مسلح, وسواء كانت فى قرية صغيرة أو مدينة عظيمة, وسواء كان الغوث ممكنًا أو متعذراً (5) .
636- المقطوع عليه: يشترط فى المقطوع عليه أن يكون معصومًا,
_________
(1) المغنى ج10 ص303, 304, كشاف القناع ج4 ص89.
(2) مواهب الجليل ج6 ص314, شرح الزرقانى ج8 ص108, 109.
(3) نهاية المحتاج ج8 ص3, أسنى المطالب ج4 ص154.
(4) شرح الأزهار ج4 ص376.
(5) المحلى ج11 ص308.
(2/645)

ويكون كذلك إذا كان مسلمًا أو ذميًا, أما إذا كان حربيًا أو بغيًا فلا عصمة له, وإذا كان حربيًا مستأمنًا فهو معصوم, ولكن هناك خلافًا على توقيع عقوبة الحد فى ارتكاب الجريمة عليه, وقد أن ذكرنا الآراء المختلفة فى شأنه فى السرقة (1) .
وللمقطوع عليه أن يقتل القاطع ويدفعه عن نفسه وماله, ويستحب للمجنى عليه أن يناشد المحارب أن يرجع عن جريمته, فإن لم يكن فى الأمر مهلة ففرض على المجنى عليه أن يبادر إلى كل ما يمكنه به الدفاع عن نفسه, ما يغلب على ظنه أنه يندفع به, فإن اندفع بالقول والتهديد لم يكن له أن يضربه, وإن كان يندفع بالضرب لم يكن له أن يقتله, فإن كان لا يندفع إلا بالقتل أو خاف أن يبدأه بالقتل أو لم يعاجله بالدفع فله أن يضربه بما يقتله, والأصل فيما سبق أن المحارب حين يقصد قتل إنسان أو سلب ماله لا يُهدر دمه بهذا القصد فى ذاته وإنما الذى يهدر دم المحارب هو عدم إمكان دفعه إلا بالقتل لأن القتل يصبح من ضروريات الدفع, على أن المحارب يهدر دمه إذا ارتكب من الحرابة ما يوجب حد القتل, فإذا عدا عليه شخص فقتله فلا قصاص عليه وإنما يعزر لافتياته على السلطات العامة (2) .
637- الأدلة على جريمة الحرابة: تثبت جريمة الحرابة بالبينة والإقرار, ويكفى فى حالة البينة شهادة شاهدين, وما قيل عن البينة والإقرار فى السرقة يقال هنا. ويجوز أن يكون الشاهدان من الرفقة الذين قاتلوا المحاربين أو وقعت عليهم الحرابة على أن لا يشهدا لأنفسهما بشيء ويجوز أن يشهد لهما غيرهما, وإذا لم يتوفر نصاب الشهادة فكان شاهد واحد, أو شاهد وامرأة, أو شاهد رؤية وشاهد سماع, وكان الشهود سماعيين أو لم يكن ثمة شهود, وكان المتهم مقرًا ثم عدل عن إقراره - فى هذه الحالات وأمثالها يعاقب المحارب عقوبة تعزيرية لأن التعزير يثبت بما يثبت
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص91.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص92, 93, شرح الزرقانى ج8 ص109, 110, المدونة ج16 ص104, وقد سبق الكلام على قطع السارق والحكم واحد فى الحالتين, ويراجع كتاب التشريع الجنائي, والمحلى لابن حزم ج11 ص314, المغنى ج11 ص352, أسنى المطالب ج4 ص166 وما بعدها.
(2/646)

به الأموال, والعبرة عند توقيع العقاب بثبوت الاتهام لدى القاضي, فإذا اقتنع بصحة الأدلة المعروضة عليه قضى على أساسها وإلا فلا (1) .
638- عقوبة الحرابة:
تختلف عقوبة المحارب عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية باختلاف الأفعال التى يأتيها فتعتبر حرابة, وهى لا تخرج عما يأتى:
(1) إخافة السبيل دون أن يأخذ مالاً أو يقتل نفسًا.
(2) أخذ المال لا غير.
(3) القتل لا غير.
(4) أخذ المال والقتل معًا.

فلكل فعل من هذه الأفعال عقوبة خاصة عند هؤلاء الفقهاء. أما مالك فيرى أن الإمام بالخيار فى اختيار عقوبة المحارب من بين العقوبات التى وردت فى النص ما لم يمن قتل فعقابه القتل أو القتل والصلب والخيار للإمام بين هاتين العقوبتين دون غيرهما, بينما يرى الظاهريون أن الإمام بالخيار فى كل الأحوال أيًا كانت الجريمة وسواء قتل المحارب أم لم يقتل.
والأصل فى هذا الخلاف بين الفقهاء اختلافهم على تفسير حرف "أو" الوارد فى قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] , فمن رأى أن جرف "أو" جاء للبيان والتفصيل قال: إن العقوبات جاءت مترتبة على قدر الجريمة وجعل لكل جريمة بعينها عقوبة بعينها, ومن رأى أن حرف "أو" جاء للتخيير ترك للإمام أن يوقع أى عقوبة على أية جريمة بحسب ما يراه ملائمًا, إلا أن مالكًا قيد التخيير فى حالة القتل فجعل الخيار بين القتل والصلب فقط, وحجته أن القتل أصلاً عقوبته القتل فلا يعاقب عليه بالقطع ولا بالنفي, كذلك قيد التخيير فى حالة أخذ المال دون قتل وجعل للإمام الخيار إلا فى عقوبة النفى. أما الظاهريون فيرون الخيار المطلق.
_________

(1) شرح الزرقانى ج8 ص112, أسنى المطالب ج4 ص158, المغنى ج10 ص324, شرح الأزهار ج4 ص379, بدائع الصنائع ج7 ص93.
(2/647)

وبعد هذا البيان نستطيع أن نبين عقوبة كل فعل بحسب الآراء المختلفة:
639- إخافة السبيل لا غير: إذا أخاف المحارب السبيل لا غير ولم يقتل ولم يأخذ مالاً فجزاؤه عند أبى حنيفة وأحمد النفي؛ لقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} , وجزاؤه عند الشافعى والشيعة الزيدية التعزير أو النفي, وقد سووا بين التعزير والنفى لاعتبارهم النفى تعزيرًا حيث لم يحدد نوعه ومدته, على أنهم يرون أن يمتد النفى حتى تظهر توبة المحارب (1) .
ويرى مالك أن الإمام مخير بين أن يقتل المحارب أو يصلبه أو يقطعه أو ينفيه وأن الأمر فى الاختيار مرجعه الاجتهاد وتحرِّى المصلحة العامة, فإن كان المحارب ممن له الرأى والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه لأن القطع لا يرفع ضرره, وإن كان لا رأى له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف, وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ باليسر وما يجب فيه هو النفى والتعزير (2) . ويرى الظاهريون ما يراه مالك فى هذه المسألة (3) .
معنى النفى: اختلف الفقهاء فى معنى النفى اختلافًا كبيرًا, فقال البعض: إن المراد بقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} أن ينفوا من الأرض بالقتل أو الصلب. وقال البعض: إن النفى هو الطرد من دار الإسلام, فالنفى بهذا المعنى هو التغريب ويساوى إلى حد ما إسقاط الجنسية فى عصرنا الحاضر وإن كان من الممكن إعادة المنفى إذا ظهرت توبته. والنفى فى مذهب مالك هو السجن فى رأى البعض, وهو السجن فى بلد أخرى غير محل الحادث فى رأى ثانٍ, وهو فرارهم من الإمام لإقامة الحد عليهم, فإن قدر عليهم فلا نفى بعد ذلك, وبالرأى الأول يأخذ الحنفيون
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص154, 155, المغنى ج10 ص313, بدائع الصنائع ج7 ص93, شرح الأزهار ج4 ص376.
(2) نهاية المجتهد ج2 ص 380, 381, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, المدونة ج16 ص98, 99.
(3) المحلى ج11 ص387, 319.
(2/648)

فعندهم هو السجن. وفى مذهب الشافعى الرأى الراجح أن النفى هو الحبس وأن الحبس جائز فى محله وأولى أن يكون فى محل آخر, أما الرأى المرجوح فالنفى أن يطلبوا إذا هربوا حتى يؤخذوا. ويرى أحمد أن النفى هو تشريد المحارب فى الأمصار فلا يسمح له أن يأوى إلى بلد حتى تظهر توبته, والرواية الثانية كالرأى الثانى فى مذهب الشافعى. والرأى الراجح فى مذهب الشيعة أن النفى يكون بالحبس, وقيل: بسمل الأعين وبالطرد والتشريد.
مدة النفى: ومدة النفى عند أبى حنيفة والشافعى ومالك غير محدودة, فيظل المحارب مسجونًا حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه, وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب أحمد.
وإن كان البعض يرى أن تكون مدة النفى عامًا قياسًا على التغريب فى الزنا (1) .
أما الظاهريون فيرون أن النفى هو أن ينفى أبدًا من كل مكان من الأرض وأن لا يترك يقرّ إلا مدة أكله ونومه وما لا بد منه من الراحة التى إن لم ينلها مات, ومدة مرضه, ويظل هكذا حتى يحدث توبة فإذا أحدثها سقط عنه النفى وترك يعود إلى مكانه (2) .
وأساس هذه الآراء المختلفة هو الاختلاف فى تفسير معنى النفي, فمن قال بأن النفى هو السجن مطلقًا فسروا النفى بأنه الإبعاد من الأرض, ورأوا أنه لا يقدر على إخراجه من الأرض جملة فوجب أن يفعل من ذلك أقصى ما يقدر عليه وغاية ذلك هو السجن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم", وسقط ما يستطاع. زمن قال إن السجن يكون فى بلد غير بلده نظر إلى المعنى
_________

(1) المدونة ج16 ص98, 99, شرح الزرقانى ج8 ص110, بداية المجتهد ج2 ص381, أسنى المطالب ج4 ص154, المهذب ج2 ص302, المغنى ج10 ص313, 314, بدائع الصنائع ج7 ص95, شرح فتح القدير ج4 ص269, 270, كشاف القناع ج4 ص91, شرح الأزهار ج4 ص376.
(2) المحلى ج11 ص183.
(2/649)

السابق ونظر إلى أن يحقق معنى الإبعاد المستطاع عن محل الجريمة أيضًا. أما الذين لم يروا سجنه فقد قالوا: إذا سجناه فى بلد أو أقررناه فيه غير مسجون فلم ننفه من الأرض كما أمر الله تعالى بل عملنا به ضد النفى والإبعاد وهو الإقرار والإثبات فى الأرض فى مكان واحد منها وهذا خلاف القرآن, فوجب علينا بنص القرآن أن ننفيه ونبعده عن جميع الأرض بحسب طاقتنا, وغاية ذلك ألا نقره فى شيء منها ما دمنا قادرين على نفيه من ذلك الموضع ثم هكذا أبدًا, ولو قدرنا على أن لا ندعه يقر ساعة فى شيء من الأرض لفعلنا ذلك ولكان واجبًا علينا فعله ما دام مصرًا على المحاربة (1) .
وحجة الفقهاء فى أن النفى غير محدود المدة أن النص لم يحدده وأن النفى جاء عقوبة للمحارب وأن المحارب ما دام مصرًا على المحاربة فهو محارب, وإذ هو محارب يجب أن يجزى جزاء المحارب, فالنفى باقٍٍ عليه ما لم يترك المحاربة بالتوبة, فإذا تركها سقط عنه جزاؤها (2) .
640- أخذ المال لا غير: إذا أخذ المحارب المال ولم يقتل, فيرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد ومعهم الزيدية أن يقطع المحارب من خلاف؛ أى أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى, وهم يقطعون اليد اليمنى للمعنى الذى قطعت به يد السارق اليمنى ويقطعون الرجل اليسرى لتتحقق المخالفة, ولا ينتظر اندمال اليد فى قطع الرجل بل يقطعان معًا لأن العقوبة عقوبة واحدة وتبدأ بالأيدى لأن النص بدأ بالأيدى فقدمها على الأرجل, ولا خلاف فى قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إذا كانت يداه ورجلاه صحيحة, فإن كان معدوم اليد والرجل إما لكونه قد قطع فى حرابة أو سرقة أو قصاص أو مرض, فمذهب أبى حنيفة وهو رأى فى مذهب أحمد أن القطع يسقط عن المحارب سواء كانت اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس؛ لأن قطع ما زاد على ذلك يذهب منفعة الجنس.
وعلى هذا الشيعة الزيدية وكل من لا يرى أن يقطع إلا يد واحدة ورجل
_________
(1) المحلى ج11 ص 181, 182.
(2) المحلى ج11 ص182, 183.
(2/650)

واحدة فى السرقة. أما الشافعى ورأيه وجه فى مذهب أحمد فيرى أن يقطع الباقى من الأعضاء المستحقة القطع, فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها, ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك لأنه وجد فى محل الحد ما يستوفى فاكتفى باستيفائه. وإن كان ثمة شلل فى اليدين أو الرجل فالحكم فى الشلل مما سبق ذكره عند الكلام على القطع فى السرقة.
أما مالك فيرى أن المحارب إذا أخذ المال دون قتل يعاقب على حسب اجتهاد الإمام فيما هو من المصلحة العامة, والإمام مخير فى عقابه بأية عقوبة مما جاءت بها آية المحاربة عدا عقوبة النفي, فليس له أن يعاقبه بها لأن الحرابة سرقة مشددة وعقوبة السرقة أصلاً القطع فلا يصح أن يجعل الخيار للإمام فيما ينزل بالعقوبة عن القطع وهو النفى.
أما الظاهريون فيرون أن الإمام له حق الخيار المطلق من كل قيد فى جريمة الحرابة, فيختار أية عقوبة من عقوباتها لأى فعل أتاه المحارب بحسب ما يرى أنه يتفق مع المصلحة العامة.
ويلاحظ أنه عند اختيار القطع بحسب رأى مالك نفذ القطع على الوجه الذى يراه الشافعى والذى سبق بيانه (1) .
وينبغى أن لا ننسى ما ذكرناه عن النصاب واشتراطه أو عدم اشتراطه فى حالة أخذ المال, كما ينبغى أن نعلم أن من يشترطون المخاصمة للقطع فى السرقة يشترطون لتوقيع عقوبة القطع فى الحرابة المخاصمة أيضًا ممن له حق المخاصمة, فليراجع ما ذكرناه عن المخاصمة فى السرقة (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص93, شرح الازهار ج4 ص377, المغنى ج10 ص311, 312, بداية المجتهد ج2 ص381, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, أسنى المطالب ج4 ص155, المحلى لابن حزم ج11 ص327.
(2) أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص93.
(2/651)

641- القتل لا غير: إذا قتل المحارب ولم يأخذ مالاً فيرى أبو حنيفة والشافعى أن عقوبة المحارب هى القتل حدًا دون صلب, وهذا الرأى رواية عن أحمد, وعنه رواية أخرى هى أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كمن أخذوا المال, وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان, أحدهما يرى القتل دون صلب, والثانى يرى القتل مع الصلب.
ويرى مالك أن الإمام بالخيار إن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل دون صلب (1) , ولا خيار له فى غير هاتين العقوبتين دون غيرهما (2) .
ويرى الظاهريون أن الإمام بالخيار فى كل العقوبات التى جاءت بها آية المحاربة, فيعاقب على القتل بالنفى أو القطع أو القتل أو الصلب, ولا يباح له أن يجمع على المحارب عقوبتين من هذه العقوبات بأى حال (3) .
642- القتل أخذ المال: إذا قتل المحارب وأخذ المال كان عقابه القتل والصلب معًا عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية ولا قطع عليه, وهذا هو ما يراه أبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفي, ويرى أبو حنيفة أن الإمام مخير فى حالة القتل المقترن بأخذ المال بين أن يقطع يده ورجله أو يصلبه وبين أن لا يقطعه ثم يقتله بلا صلب أو يصلبه فيقتله. وينبغى أن لا ننسى ما سبق ذكره عن اشتراط النصاب أو عدم اشتراطه فى المحاربة, فمن يشترط النصاب لكل محارب لا يعتبر القتل مصحوبًا بأخذ المال ما لم يخص كل محارب نصابًا كما هو الحال عند الشافعي, ومن يكتفى بنصاب واحد لكل المحاربين لا يعتبر القتل مصحوبًا بأخذ المال إلا إذا بلغ المال المأخوذ نصابًا كما هو الحال فى مذهب أحمد, ومن لا يشترط النصاب فى المحاربة فيكتفى بأخذ مال مقوَّم أيًا كان مقداره كما هو الحال فى مذهب مالك ومذهب أحمد والرأى المعتمد فى مذهب الشافعي
_________
(1) المدونة ج16 ص99.
(2) بداية المجتهد ص381, 382, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111.
(3) المحلى ج11 ص317, 319.
(2/652)

, ويرى البعض أن محمدًا لا يرى القطع ولكنه يرى الإمام مخيرًا بين الصلب والقتل (1) .
ويرى مالك أن الإمام مخير بين أن يقتله وبين أن يصلبه ويقتله, أما الظاهريون فيرون أن الإمام مخير فى كل العقوبات المقررة فى آية الحرابة فله أن ينفيه وله أن يقطعه وله أن يقتله وله أن يصلبه بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة, ولكن ليس له أن يجمع عليه القتل والصلب ولا أن يجمع عليه بين عقوبتين بحال كالنفى والقطع أو القطع والقتل أو القطع والصلب (2) .
643- كيفية الصلب: اختلف الفقهاء فى كيفية الصلب الواجب على المحارب, فرأى الشافعى وأحمد أن الصلب يجيء بعد القتل فيقتل المحارب أولاً ثم يصلب مقتولاً, وحجتهم أن النص جاء بتقديم القتل على الصلب فى اللفظ فوجب أن يتقدمه فى الفعل, ولأن الصلب قبل القتل تعذيب للمقتول ومُثْلة يؤدى إلى اتخاذ المقتول غرضًا وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "أن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة", وقال: "إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان", وقال: "لعن الله من اتخذ شيئًا فيه روح غرضًا". كذلك نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور.
وأصحاب هذا الرأى يرون أن الصلب ليس عقوبة شرعت لردع المحارب وإنما وهو عقوبة شرعت للزجر, فالمقصود من الصلب اشتهار أمره فيرتدع بذلك غيره (3) .
والمعتمد فى مذهب مالك أن القتل يكون بعد الصلب فيصلب المحارب على خشبة ثم يقتل وهو مصلوب, وحجتهم أن الصلب فرض عقوبة والعقوبة لا تقع
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص270.
(2) المحلى ج11 ص317, 319, الودونة ج16 ص99 , بداية المجتهد ج2 ص380, 381, شرح الأزهار ج4 ص377, أسنى المطالب ج4 ص155, المغنى ج10 ص307, بدائع الصنائع ج7 ص93.
(3) المغنى ج10 ص307, 308, أسنى المطالب ج4 ص155, المحلى ج11 ص315,316.
(2/653)

على ميت فوجب أن يتقدم الصلب القتل وأن الصلب لم يقصد به ردع الغير وإنما قصد به العقاب قبل كل شيء, وكل عقوبة لا غرضان: الأول: ردع الجاني, والثانى: زجر غيره, ولأن الصلب شرع زيادة فى العقوبة وتغليظًا حتى لا تتساوى عقوبة من قتل مع عقوبة من قتل وأخذ المال (1) , على أن فى المذهب من يرى القتل قبل الصلب (2) .
وفى مذهب أبى حنيفة رأيان كمذهب مالك أرجحهما صلب المحارب حيًا ثم طعنه برمح فى ثُنْدُوَته حتى يموت (3) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية هذان الرأيان وأرجحهما الصلب بعد القتل لا قبله (4) .
أما الظاهريون فالأصل عندهم أن الإمام مخير فى كل عقوبات المحاربة ولكن ليس له أن يجمع بينها, فإذا رأى صلبه فليس له أن يقتله أو يقطعه أو ينفيه, وإذا رأى قتله فقد حرم عليه أن يصلبه أو يقطعه أو ينفيه, وإذا رأى نفيه فقد حرم عليه الصلب والقتل والقطع, وإذا رأى قطعه حرم عليه القتل والصلب والنفي, فالصلب عندهم عقوبة مستقلة مقصود بها قتل المحارب بكيفية معينة؛ فيصلب المحارب حيًا ثم يترك على خشبة فلا يطعم ولا يسقى حتى ييبس ويجف فإذا مات أنزل عن خشبته وغسل وكفن (5) .
644- مدة الصلب: لم يرد نص فى تحديد مدة الصلب ولذلك اختلف فى مدته, فرأى الفقهاء فى مذهب أحمد أنه يصلب بقدر ما يشتهر أمره لأن المقصود من الصلب هو إشهار أمر المصلوب, ورأى الفقهاء فى مذهب الشافعى وأبى حنيفة أنه يصلب ثلاثة أيام (6) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص315, المدونة ج16 ص99, شرح الزرقانى ج8 ص110.
(2) بداية المجتهد ج2 ص381.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص95.
(4) شرح الأزهار ج7 ص377, 378, تبصرة الحكام ج2 ص361.
(5) المحلى ج11 ص317, 318.
(6) المغنى ج10 ص308, بداية المجتهد ج2 ص381, أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص95.
(2/654)

645- حكم موت المحارب قبل إقامة الحد عليه: وإذا مات المحارب قبل البدء فى إقامة الحد عليه لم يصلب لأن الصلب جزء من الحد وقد سقط الحد بموت المحارب فيسقط الصلب. على أن بعض الشافعيين والشيعة الزيدية يرون أنه إذا سقط بعض الحد لعدم إمكان تنفيذه لم يسقط البعض الذى يمكن تنفيذه. أما إذا قتل قصاصًا فلا صلب عليه عند أحمد لأن حد الحرابة سقط بالقصاص فيسقط الصلب. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما كرأى أحمد, والثانى: يرى أن الصلب لا يسقط لأن تنفيذه ممكن, وهو رأى فى مذهب الشيعة الزيدية وهو الرأى المعمول به فى مذهب مالك خصوصًا وأنه يرى تقديم حق الله على حق الآدمى. أما مذهب أبى حنيفة فيجيز الصلب ولو أنه يقدم حق الأفراد على حق الله تعالى لأنه لا يمنع من تنفيذ حقوق إلا ما سقط بالضرورة فأما ما لم يسقط فينفذ. وإذا قتل المحارب حسبة أى عدا عليه شخص فقتله لحرابته وجب الصلب عند من يوجبونه وجاز عند من يجعلون الخيرة فيه للإمام (1) .
646- هل يقتص من قاتل المحارب أو قاطعة؟: القاعدة أن الحد حق لله تعالى وأنه لا يجوز العفو عنه ولا إسقاطه, وحد الحرابة كأى حد آخر لا يحتمل العفو والإسقاط والإبراء والصلح عنه, فكل ما وجب على المحارب من قتل أو قطع أو صلب تستوفى منه سواء عفا الأولياء وأرباب الأموال أو لم يعفوا وسواء أبرأوا منه أو صالحوا عليه, وليس للإمام إذا ثبت الحد عمده أن يتركه أو يسقطه أو يعفو عنه لأن الواجب حد والحدود حقوق الله تبارك وتعالي (2) .
وهذا هو الأصل فى كل المذاهب الإسلامية, ولكن الشيعة يرون أن الإمام له إسقاط الحدود عن بعض الناس لمصلحة أو تأخيرها إلى وقت آخر لمصلحة, عدا
_________
(1) المغنى ج10 ص309, 323, أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص62, 63, شرح الأزهار ج4 ص377, المدونة ج16 ص12, شرح الزرقانى ج8 ص110.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص56, 57, 95, المغنى ج10 ص307, كشاف القناع ج4 ص47, أسنى المطالب ج4 ص156, المدونة ج16 ص99, 101.
(2/655)

حدى القذف والسرقة ففيهما اختلاف, فالبعض لا يرون للإمام أن يسقطهما أو يؤخرهما والبعض يرى ذلك, وحجتهم فى هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تمكن من بنى قينقاع وأراد قتلهم وكانوا حلفاء لعبد الله بن أُبى كبير المنافقين فى حال الجاهلية فطلب من النبى تركهم فكره ذلك ثم إنه تشفع إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأكثر فى تركهم فتركهم له لما رأى فى ذلك من الصلاح. وهم مختلفون فيما إذا كان للإمام حق إسقاط القصاص عن بعض الناس أو تأخيره باعتبار أنه حق آدمي, فيرى البعض جواز الإسقاط لمصلحة عامة, ويرى البعض أن الإسقاط لا يجوز لأن منع القصاص هو منع لحق آدمى وظلم, والخلاف بين الفريقين أساسه الخلاف فى أى مصلحتين تغلب عند التعارض, المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (1) .
ويترتب عليه أنه يترتب على عدم جواز العفو عن الحد أو إسقاطه أن يكون المحارب مهددًا إذا وجب عليه القطع أو القتل, وقد فصلنا ذلك فى التشريع الجنائي (2) , ولكن لم نبين حكم الإهدار عند الظاهريين والشيعة الزيدية, فنقول: إن الظاهريين يجعلون للإمام الخيار فى أى عقوبة من العقوبات الواردة فى الآية, وهذا يجعل المحارب غير مهدر ولو حكم عليه بعقوبة مهدرة لاحتمال أن يستبدل بها الإمام عقوبة أخرى غير مهدرة قبل التقييد.
ورأى الشيعة يجعل المحارب غير مهدر ولو حكم عليه بعقوبة مهدرة لأن للإمام إسقاط العقوبة لمصلحة عامة.
وعلى هذا إذا عدا شخص على المحارب أخذ المال أو قتل فقطع يده أو قتله فلا قصاص على العادى عند مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد سواء, كان ذلك قبل الحكم أو بعده ما دامت جريمة الحرابة ثابتة, وإنما يعزر العادى لافتياته على السلطات العامة القائمة على تنفيذ العقوبات, والعلة فى عدم القصاص هى أن قطع
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص334, 335.
(2) جزء أول فيراجع ذلك هناك.
(2/656)

المحارب أو قتله متحتم وواجب لابد من إقامته, فالتعزير ليس للقطع أو للقتل وإنما للافتيات على السلطات العامة والقيام بما اختصت نفسها به (1) .
أما عند الظاهريين والشيعة الزيدية فيقتص من القاطع أو القاتل؛ لأن العقوبات غير لازمة (تراجع أقوال الظاهريين والشيعة فى القتل والجرح) .
647- هل يشترط فى القتل الذى يحدث من المحارب أن يكون عمدًا؟: يوجب مالك وأبو حنيفة والشيعة الزيدية القتل لمجرد القتل, ويطلقون لفظ القتل فلا يشترطون أن يكون عمدًا, وعلى هذا يكون القتل الذى يجب فيه الحد عندهم هو مطلق القتل سواء كان عمدًا أو شبه عمد أو خطأ. مع ملاحظة أن مالكًا لا يعترف بشبه العمد, ويسوى الحنفيون بين أنواع القتل وأداة القتل فلا يشترطون المحدد ويجوز أن يكون القتل بمثقل وعصًا وحجر وخشب (2) , أما الشافعى فيشترط القتل العمد لوجوب الحد, فبالقتل العمد يجب قتله للنص ولأنه ضم إلى جناية القتل الحرابة أى إخافة السبيل وهى تقتضى زيادة العقوبة, والزيادة هنا القتل والقتل محتم إذا قتل لأخذ مال ولو لم يأخذ نصابًا, أما إذا أخذ نصابًا فالقتل والصلب (3) .
وبعض الشافعية يشترط فى القتل أن يكون مما يوجب القَوَد, فلا يكفى أن يكون القتل عمدًا وإنما يجب أن يكون قتلاً يجب فيه القصاص فإن لم يكن قتلاً عمدًا فلا يجب الحد, وإن كان قتلاً عمدًا لا يجب فيه القصاص فكذلك (4) .
ومذهب أحمد على أن يتعمد الجانى الفعل بغض النظر عن الأداة التى استعملت فى القتل, فيستوى عنده أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد (5) .
_________
(1) المدونة ج16 ص104, أسنى المطالب ج4 ص156, ويراجع ما كتب عن السرقة.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص96, 97, حاشية ابن عابدين ج3 ص295, 297, شرح الأزهار ج4 ص377, المدونة ج16 ص99, مواهب الجليل ج6 ص315.
(3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج4 ص155, 156.
(4) نهاية المحتاج ج8 ص4, 5.
(5) المغنى ج10 ص309, كشاف القناع ج4 ص89.
(2/657)

والظاهر من أقوال الظاهريين أنهم يشترطون القتل العمد كالشافعيين (1) .
648- حكم الجراح التى يحدثها المحارب: يرى الظاهريون أن إحداث الجراح بقصد إخافة السبيل حرابة, وعلى هذا فإذا حدثت جراح ولم يكن أخذ مال ولا قتل فالفعل حد والإمام مخير فى العقوبة, والقاعدة عندهم أنه إذا اجتمع حقان أحدهما لله والثانى للعبد كان حق الله تعالى أولى بالقضاء لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقضوا الله فهو أحق بالوفاء دين الله أحق أن يقضى", وقوله: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق", وعلى هذا فإن قتله الإمام أو صلبه للمحاربة كان للولى أن يأخذ أُرْش جرحه لأن حقه فى القود قد سقط فبقى حقه فى الدية أو العفو عنه, وإن رأى الإمام قطع المحارب كان للمجنى عليه أن يقتص أو يعفو. والخلاصة أنه كلما أمكن للمجنى عليه أن يستوفى حقه بعد استفاء حق الله استوفاه وكلما سقط كانت له الدية (2) , ويرى مالك وأبو حنيفة والشيعة الزيدية أنه كلما وجب على المحارب حد دخلت الجراحة فى الحد, فإن لم يكن حد أو كان حد وسقط فحكم الجراحة هو حكمها فى حال عدم وجود الحد (3) .
ويرى الشافعى وأحمد أن الجراح لا تدخل فى الحد فيقتص فى الجراح إذا كانت مما يقتص فيه وإذا لم يكن قصاص ففيها الدية, ويرى الشافعى أن القصاص غير محتم أى ليس حدًا وإنما هو على أصله؛ لأن الانحتام خاص بالقتل والقطع والصلب فإذا سرى الجرح فمات فأصبح القتل عمدًا انحتم القتل (4) .
أما أحمد ففى مذهبه رأيان: رأى يرى عدم انحتام القصاص كمذهب الشافعى لأن الشرع لم يرد بشرع الحد فى الجراح, والرأى الثانى على انحتام القصاص, وحجة أصحابه أن الجراح تابعة للقتل فتأخذ مثل حكمه, ويسلم أصحاب هذا الرأى بأن الجراح التى لا قصاص فيها كالجائفة لا يجب فيها إلا الدية (5) .
_________
(1) المحلى ج11 ص311, 312.
(2) المحلى ج11 ص213, 313.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص97, شرح الأزهار ج4 ص377, شرح الزرقانى ج8 ص111, مواهب الجليل ج6 ص386.
(4) أسنى المطالب ج4 ص156.
(5) المغنى ج10 ص310.
(2/658)

649- الحد والضمان: علمنا مما سبق فى السرقة أن الشافعى وأحمد يريان الجمع بين الحد والضمان, وهذا هو رأيهما فى جريمة الحرابة فالحد لا يمنع من الضمان, أما عند مالك وأبى حنيفة والشيعة الزيدية فالقاعدة عندهم أن الحد لا يجمع مع الضمان, وقد تكلمنا على هذا فى السرقة فليرجع.
ويعلل أبو حنيفة أن الحد فى الحرابة ينفى وجوب ضمان الجراحات؛ لأن الجراحات الخطأ فيها الدية, ولأن الجراحات يسلك بها فى مذهبه مسلك الأموال, فالضمان فى الجراحات بنوعيها مال ولا يجب ضمان المال مع الحد, ومذهب مالك والشيعة الزيدية لا يجمع بين الحد وضمان الجراحات؛ لأنهم يدخلون الجراح فى الحد ويعتبرون الحد عقوبة عنها (1) .
650- التداخل: يجرى التداخل فى جريمة الحرابة, فلو ارتكب شخص أكثر من حرابة عوقب عنها جميعًا مرةً واحدةً إذا كان الفعل الذى أتاه واحدًا, فإن كان الفعل مختلفًا يكفى أن يعاقب بعقوبة الفعل الأشد عقوبة. هذا مع ملاحظة رأى أبى حنيفة فى حالة أخذ المال والقتل فإنه إن أخذ مرة المال وقتل فى الثانية دون أخذ المال جاز قطعه ثم قتله, وهذا على رأى القائلين بأن لفظ "أو" ورد للبيان والتفصيل, وما على رأى القائلين بأن "أو" للتخيير فعند مالك تتداخل على الوجه السابق أيضًا؛ لأنه يخصص لأخذ المال والقتل عقوبات خاصة فتتداخل الأفعال من نوع واحد ويكفى فيها عقوبة واحدة, وإذا اختلف كانت العقوبة الأشد هى الواجبة وفيها الكفاية.
أما عند الظاهريين فللإمام الخيار, ولذلك فالتداخل مطلق, وتكفى أية عقوبة لغض النظر عما إذا كانت أخف العقوبات أو أشدها.

651- مسقطات الحد:
1
- يسقط حد الحرابة بما يسقط به حد السرقة: قد ذكرنا أسباب سقوط حد السرقة وبينا ما فيها من اتفاق واختلاف فلتراجع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص95, تبصرة الحكام ج2 ص361, 362.
(2/659)

[مع ملاحظة أن بعض هذه الأسباب خاص بأخذ المال ولا أثر له فى حالة القتل أو إخافة السبيل] .
2- التوبة: من المتفق عليه أن توبة المحارب قبل القدرة عليه تسقط ما وجب عليه من حد بحرابته, والأصل فى ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:34] , فإذا تاب المحارب سقط عنه ما وجب عليه من القتل والصلب والقطع والنفى ولكن التوبة لا يسقط ما يتعلق بحقوق العباد فيبقى مسئولاً؛ فإن كان أخذ المال فقط فعليه رده, وإن كان قتل أحدا أو جرحه فعليه القصاص أو إجراءات شكلية وإنما يدل عليها رد المال لصاحبه أن كان هناك مال عند القدرة على رده, ويكفى فى التوبة الندم والعزم على ترك مثل ما حدث.
ويشترط فى التوبة أن تكون قبل القدرة على المحارب فإن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء لا من الحقوق المتعلقة بالله ولا من الحقوق المتعلقة بالأفراد, لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} , فأوجب الحد على كل محارب ثم استثنى من ذلك التائبين قبل القدرة, ومن عداهم يبقى على حكم العموم, وعلة قبول التوبة قبل القدرة أن التوبة قبل القدرة تكون غالبًا توبة إخلاص أما بعد القدرة فهى غالبًا توبة تقيه من إقامة الحد, عليه ولأن فى قبول التوبة قبل القدرة ترغيبًا للمحارب فى التوبة والرجوع عن المحاربة والإفساد فناسب ذلك إسقاط الحد عنه, أما بعد القدرة فلا حاجة لترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة (1) .
والمراد بما قبل القدرة أن تمتد إلى المحارب يد الإمام, فإن تاب بعد أن امتدت إليه يد الإمام لم تعتبر التوبة قبل القدرة ولو كان هاربًا أو مستخفيًا أو ممتنعًا (2) .
_________
(1) المغنى ج10 ص310, أسنى المطالب ج4 ص155, 156, بدائع الصنائع ج7 ص96, شرح الأزهار ج4 ص378.
(2) أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص155.
(2/660)

ويعتبر المحارب تائبًا إذا أتى الإمام طائعًا قبل القدرة عليه ملقيًا سلاحه وإن لم يدل على التوبة مظهر آخر, ويعتبر كذلك إذا ترك ما هو عليه من الحرابة وإن لم يأت الإمام (1) , وإذا أمن المحارب ليسلم نفسه فلا أمان له ولا يعتبر بتسليم نفسه تائبًا قبل القدرة عليه لأنه كان مطلوبًا (2) .
وإذا فعل المحارب ما يوجب حدًا لا يختص بالمحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة فإنها لا تسقط عنه بالتوبة عند مالك والظاهريين, ويسقط منها السرقة دون غيرها عند أبى حنيفة لما سنبينه بعد. أما عند الشافعى وأحمد ففى مذهبهما رأيان: أولهما: أنها جميعًا تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فتسقط بالتوبة كحد المحاربة إلا حد القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي, ولأن فى إسقاطها ترغيبًا فى التوبة, وهذا الرأى هو الراجح فى مذهب أحمد والمرجوح فى مذهب الشافعي, والثانى: أنها لا تسقط لأنها لا تختص بالمحاربة فكانت فى حق المحارب كحق غيره. وهذا هو الراجح فى مذهب الشافعى. أما إن أتى حدًا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذى تاب منه دون غيره.
ويرى فقهاء الشيعة الزيدية أن توبة المحارب تسقط كل ما عليه من حدود غير حد المحاربة, ولكنهم يختلفون فى سقوط حد الآدميين, فيرى بعضهم أن التوبة تسقط أيضًا حقوق الآدميين التى أتلفها المحارب أو التائب حالاً حكمًا, ويرى البعض أن أثر التوبة لا تمتد لحقوق الأفراد وإنها لا تسقط إلا حق الله المحض فلا تمتد لمثل القصاص والقذف والمال.
التوبة ممن عليه حد غير المحارب: هناك اختلاف فى أثر توبة من عليه حد من غير المحاربين, فيرى مالك والظاهريون ورأيهما هو الرأى الراجح فى مذهب الشافعى والرأى المرجوح فى مذهب أحمد أن التوبة لا أثر لها على الحد لقول الله
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص112, بدائع الصنائع ج7 ص96.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص112.
(2/661)

تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] , وهذا عامٌّ فى التائبين وغيرهم, وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية وقطع الذى جاءه مقرًا بالسرقة وقد جاءوا جميعًا تائبين يطلبون تطهرهم بإقامة الحد, وقد سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلهم توبة فقال فى حق الغامدية: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم", وجاء عمرو بن سمرة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله إنى سرقت جملاً لبنى فلان فطهرني, فأقام الرسول عليه الحد". ولأن الحد كفارة عن الذنب فلا يسقط بالتوبة, ولأن التائب مقدور عليه فلم يسقط عنه بالتوبة كالمحارب المقدور عليه.
ويرى أبو حنيفة أن السرقة الصغرى وحدها هى التى يسقط حدها بالتوبة إذا تاب السارق قبل أن يظفر به ورد المال إلى صاحبه فيسقط عنه القطع, بخلاف سائر الحدود فإنها لا تسقط بالتوبة, والفرق أن الخصومة شرط فى السرقة الصغرى والكبرى؛ لأن محل الجناية خاص حق العباد والخصومة تنتهى بالتوبة والتوبة تمامها رد المال إلى صاحبه, فإن وصل المال إلى صاحبه لم يبق له حق الخصومة مع السارق.
أما الرأى الراجح فى مذهب أحمد والمرجوح فى مذهب الشافعى وهو مذهب الشيعة الزيدية فيرى أن كل حد يسقط بالتوبة لقوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء:16] , ولأنه ذكر حد السارق, ثم قال: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له", ومن لا ذنب له لا حد عليه، ولأنه قال فى ماعز لما أُخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه"، ولأن الحدود خالص حد الله فتسقط بالتوبة كحد المحارب.
والقائلون بأن التوبة تسقط الحدود مختلفون فيما إذا كان الحد يسقط بمجرد التوبة أو يسقط بها مع إصلاح العمل, ففريق يسقط الحد بمجرد التوبة وهو ظاهر مذهب أحمد, وفريق يعتبر إصلاح العمل لقوله تعالى:
(2/662)

{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] , فعلى هذا يعتبر مضى مدة يعلم بها صدق التوبة وصلاح النية, والبعض لا يقدر مدة معلومة, والبعض يقدر المدة بسنة (1) , وهناك نظرية ثالثة لابن تيمية وابن القيم ذكرناها (2) .
652- حق الله وحق الفرد فى عقوبة القتل: الأصل فى جريمة القتل العادى أنها تمس الأفراد أكثر مما تمس الجماعة, ولذلك يعبر عنها الفقهاء بأنها متعلقة بحقوق الأفراد, ولكن الشارع جعل القتل فى الحرابة مما يمس حقوق الجماعة حيث جعل العقوبة لازمة ولم يجعل لعفو المجنى عليه أثرًا عليها. وقد نظر الفقهاء إلى أن القتل فى الحرابة يجتمع فيه حق الله وحق العبد فكان هذا مما دعا البعض إلى القول بتغليب حق الله ودعا البعض إلى القول بتغليب حق الفرد. والقائلون بتغليب حق الفرد هم بعض الشافعية ورأيهم الراجح فى المذهب, وبعض الحنابلة ورأيهم المرجوح فى المذهب. أما بقيه المذاهب فتغلب حق الله على حق الأفراد, ولكن المذهب الظاهرى له حكم خاص سنذكره فيما بعد (3) .
ويترتب على تغليب حق الله أنه لا يعتبر التكافؤ فى القتل عند القائلين بالتكافؤ؛ فيؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمى ولأب بالبن لأن القتل حد لله فلا تعتبر فيه المكافأة كما هو الحال فى الزنا والسرقة, ولا تراعى المماثلة فى القتل فيقتل بالسيف أيًا كانت الآلة التى استعملها.
ويترتب على تغليب حق العبد اعتبار التكافؤ فى القتل فلا يقتل المحارب إذا كان حرًا بعبد أو نحوه ممن لا يكافئه كابنه وذمى والمحارب مسلم. وإن قتل بمثقل أو غيره روعيت المماثلة فى قتله بأن يقتل بمثل ما قتل به, وإذا قتل ومات
_________
(1) المغنى ج10 ص314 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص91, بدائع الصنائع ج7 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص112, أسنى المطالب ج4 ص155, 156, نهاية المحتاج ج8 ص6, شرح الأزهار ج4 ص378, المحلى ج11 ص126, 131.
(2) التشريع الجنائى ج1 ص305.
(3) يراجع القتل عند الظاهريين.
(2/663)

قبل قتله قصاصًا فالدية تجب فى ماله, وإذا عفا الولى على مال لزم القاتل المال وقتل حدًا.
ويحتج القائلون بتغليب حق الله أن القاعدة تغليب حق الله إذا اجتمع مع حق العبد فى حد لأن العقوبات فى الحدود خالصة أصلاً لله وأن الحد لا يجوز فيه العفو, وإذا كان ولى الدم ليس له العفو فمعنى ذلك أن حق الله غالب, ويحتج القائلون بتغليب حق العبد بأنه الأصل فيما اجتمع فيه حق الله وحق آدمي, ولأن الآدمى لو قتل فى غير محاربة فله حق القصاص فكيف يسقط حقه بقتله فى المحاربة, ويقولون إن أثر الحد هو من ناحية انحتام القتل وعدم جواز العفو عنه, ولكن ذلك لا يسقط بحال حق العبد من النواحى الأخرى, خصوصًا وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقتل مسلم بكافر" (1) .
653- عدم وجوب الحد المانع: لا يجب حد الحرابة إلا إذا استوفت كل شروط الحد, فإذا امتنع أحد الشروط امتنع وجوب الحد كشرط النصاب عند من يشترطون النصاب, فإذا لم يتوفر هذا النصاب عندهم ولم يكن هناك قتل فلا يجب حد القطع, وكشرط البلوغ فإذا حدثت الحرابة من صبى لم يجب عليه الحد أو أخذ المال وحده أو قتل أو فعل غير ذلك, وكشرط العقل فى المحارب فإذا كان المحارب مجنونًا لم يجب عليه الحد, وكشرط العمد فى حالة القتل عند من يشترطون أن يتعمد المحارب القتل, فإن الحد لا يجب عندهم إذا قتل ولم يأخذ مالاً, فإذا أخذ مالاً وقتل غير متعمد القتل وجب عليه حد القطع إذا بلغ المال نصبًا, وهكذا كلما امتنع شرط من شروط الحد لم يجب الحد, وقد تعرضنا لهذه الشروط المختلف عليها والمتفق عليها فيما سبق. على أن عدم وجوب الحد على من أخذ مالاً دون النصاب لا يمنع تعزيره وضمانه لما أخذ, وعدم وجوب الحد على الصبى والمجنون لا يمنع من تأديب الصبى والمجنون بما يتفق مع حالتهما كضرب الصبى وحجز المجنون فى مكان لمنع أذاه عن الناس
_________
(1) المغنى ج10 ص307. أسنى المطالب ج4 ص156, الدونة ج16 ص99, 100.
(2/664)

, ومن يقتل غير متعمد وهو يريد أخذ المال ولكنه لم يأخذ مالاً يعزر ويلزم الدية, وهكذا. والقاعدة فى الشريعة أن كل ما يعتبر معصية إذا أتاه الإنسان عزر ولو أراد الفاعل فعلاً ما لم يتمه ما دام ما فعله يعتبر فى حد ذاته معصية لا حد فيها, فإذا كان ما فعله سواء أتمه أم لم يتمه فيه الحد عوقب بعقوبة الحد إذا توفرت شروطها فإذا لم تتوفر شروطها فالعقوبة التعزير كلما كان الفعل معصية.
654- حكم سقوط الحد بعد وجوبه: إذا سقط الحد بعد وجوبه كان الحكم بالنسبة للمال والقتل والجراح على الوجه الآتى:
إذا كان سبب سقوط الحد هو تكذيب الحجة عند القائلين بالسقوط بتكذيب المجنى علية لشهود الإثبات أو تكذيبه للإقرار الصادر من الجانى فلا شيء على الجانى جنائيًا أو مدنيًا لأن الفعل لا يثبت فى حق الجانى إلا بالحجة وقد بطلت أصلاً.
أما إذا كان سبب سقوط الحد الرجوع عن الإقرار فعند من يقولون بسقوط الحد برجوع الجانى عن الإقرار لا يسقط إلا الحد ولكن الجانى يظل مسئولاً جنائيًا عما يتعلق بحق الأفراد كالقصاص, كما تبقى مسئوليته المدنية كاملة؛ لأن إقرار المقر حجة كاملة فى حقه إلا أنه تعذر اعتباره بالنسبة لعقوبته لأن الحدود تدرأ بالشبهات (1) .
أما إذا كان سبب سقوط الحد هو التوبة قبل القدرة, فإن كان المحاربون أخذوا المال لا غيره ردوه على أصحابه إن كان قائمًا وعليهم ضمانه إن كان هالكًا أو مستهلكًا, وإن كانوا قتلوا لا غير اقتص ممن يجب عليه القصاص ومن لا قصاص عليه ألزم الدية, وإن اجتمع القتل والمال اجتمع الحكمان السابقان لأن المكافأة لا تهمل إلا فى حالة إقامة الحد, أما من يلزمه القصاص من المحاربين فهو من عليه القصاص فى القتل العادي, وقد علمنا مدى اختلاف الفقهاء فى اعتبار المباشر والمتسبب والمعين, والقاعدة العالمة أنه كلما امتنع الحد أو سقط عن القطَّاع رجع
_________
(1) يراجع ما قيل عن سقوط الحد فى السرقة.
(2/665)

بهم فيما عليهم من جرائم إلى حكم غير القطاع وإلى حكم جرائمهم الخاص. وتراعى فى حالة القصاص والمكافأة عند جميع القائلين بها فى حالة التوبة والرجوع عن الإقرار. وإذا كانوا أخذوا المال وجرحوا فحكم المال ما سبق, وحكم الجراحات القصاص فيما يستطاع فيه القصاص, والدية فيما فيه الدية, كما لم كانت الجراحات حدثت من غير قطع الطريق (1) , ويلاحظ أن بعض الشيعة الزيدية يرون أنه يسقط من حقوق الأفراد ما أتلفه المحارب حالاً حكمًا كمال استهلكه أو هلك فى يده لا كمالٍٍ تصرف فيه بمقابل.
655- هل مسئولية القطاع الجنائية تضامنية؟: القاعدة العامة فى الحدود أن الحد لا يجب إلا على مباشِره فقط. ويرى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن يُحَدَّ الرِّدْء والمعين والطليعة كما يحد مباشر الحرابة. والرِّدْء هو الذى يلجأ إليه المحارب إذا هرب أو هزم, والطليعة هى التى تتطلع الطريق وتأتى بالأخبار, والمعين هو من يحضر وقت الجريمة ولو أنه لم يباشر الفعل بنفسه. وحجتهم أن المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة هؤلاء جميعًا ومعاونتهم بخلاف سائر الحدود, فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل فى حق جميعهم ووجب قتلهم جميعًا حدًا لا تعزيرًا, وإن أخذ بعضهم المال دون بعض ثبت الأخذ فى حقهم جميعًا ووجب على جميعهم القطع, وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال قتلوا جميعًا وصلبوا كما لو فعل كل منهم الأمرين معًا, فالمحاربون جميعًا المباشرون والمتسببون مسئولون جنائيًا عن الفعل الذى باشره غيره. ويذهب المالكيون فى اعتبار التسبب إلى حد بعيد بحيث يعتبرون متسببًا فى الجريمة من يتقوى المحاربون بجاهه ولو لم يأمر بقتل أو يتسبب فيه بفعل ما دام جاهه قد أعان على الحادث حكمًا.
وإذا كان فى المحاربين صبى أو مجنون أو من لا حد عليهم, فيرى أبو حنيفة وأحمد أن لا حد عليهما لأنهما ليسا من أهل الحد ولا حد على غيرهما ممن باشر الجريمة أو أعان عليها أو تسبب فيها. ويرى أبو يوسف هذا الرأى إذا كان الصبى أو المجنون هو الذى باشر الجريمة وحده, فإن كان المباشر غيرهما فالحد على العقلاء البالغين دون غيرهم (2) . وحجة أبى حنيفة أن مسئولية الجميع واحدة فالشبهة فى فعل أحدهم شبهة فى حق الجميع. وحجة أبى يوسف انه إذا كان المباشر هو الصبى أو المجنون فهو الأصل والباقون تبع فإذا سقط الحد عن الأصل سقط عن التابع. ويرى أحمد رأى أبى يوسف فعنده أنه لا حد على الصبى والمجنون وإن باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال فى أموالهما ودية قتلهما على عاقلهما ولا شيء على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت الحد على المباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق أولى, أما إذا كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء لأنهما لم يثبت فى حقهما حكم المحرابة وثبوت الحكم فى حق الرِّدْء يثبت بالمحاربة (3) .
ولا يحد مالك الصبى والمجنون ولكنه يرى الحد على غيرهما فى كل حال, سواء باشر الصبى والمجنون أو لم يباشرا.
وإذا كان فى المحاربين امرأة فيرى أبو حنيفة
_________
(1) المغنى ج10 ص318 وما بعدها, بدائع الصنائع ج7 ص91, شرح الزرقانى ج8 ص110.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص91.
(3) المغنى ج10 ص318, 319.
(2/666)

أن لا حد عليها ولو باشرت الفعل ولا حد على من معها سواء اشتركوا معها أو لم يشتركوا, ولكن أبا يوسف يرى أن المرأة إذا باشرت الفعل وحدها حُدَّ من معها من الرجال, والرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة أن الرجال والنساء سواء فى الحد (1) .
ويرى مالك وأحمد أن المرأة يلزمها حكم المحاربة كالرجل, فإذا باشرت الفعل ثبت حكم المحاربة فى حق من معها لأنهم رِدْء لها وأعوان, وإن فعل ذلك غيرها ثبت ذلك فى حقها لأنها ردء وعون له (2) .
أما الشافعى فلا يرى المسئولية التضامنية فى الحرابة وإن كان يعتبر الردء
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص91.
(2) المغنى ج10 ص319.
(2/667)

والطليعة والمعين والمتسبب مسئولين جنائيًا ولكنه يجعل مسئوليتهم تعزيرية باعتبارهم مرتكبين لمعصية, أما الذى يعاقب بالحد فهو المباشر دون غيره, فمن أخذ نصابًا من المال قُطع دون غيره, ومن قتل كان مسئولاً عن القتل دون غيره ولو كان الغير قد أخذ مصابًا من المال (1) .
656- هل مسئولية القطاع المدنية تضامنية؟: يرى مالك أن المحاربين مسئولين مسئولية تضامنية عن الأموال التى يأخذونها فمن يظفر به منهم يغرم ما يلزمهم جميعًا من أموال الناس سواء أخذ هذا المحارب شيئًا مما انتهب أم لم يأخذ وسواء جاء تائبًا أو قدر عليه غير تائب, وإنما يغرم عمن عداه حيث لزم من عداه الغرم لأنه غرم بطريق الضمان إذ كل واحد منهم تقوى بأصحابه, وتلك هى القاعدة فى المحاربين والبغاة والغصاب وفى مذهب مالك (2) , وهذا هو الحكم فى السرقة العادية إذا كان السارق قد تعاون مع غيره فى إخراج السرقة, فكل من لزمه القطع فى السرقة كان مسئولاً بالتضامن عما أخذه غيره ممن وجب عليهم القطع (3) . على أن فى مذهب مالك من يرى أن لا يضمن كل من المحاربين إلا ما أخذه, وهو رأى غير معمول به (4) . هذه هى القاعدة فى مذهب مالك, ويقيدها قاعدة أخرى هى عدم اجتماع الحد والضمان، وقد سبق ذكرناها فى السرقة فلتراجع.
ويذهب أحمد إلى أن الضمان ليس بحد إلا على المباشر دون الرِّدء والمعين؛ لأن وجوب الضمان ليس بحد فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب, وإذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان فالمختص بذلك المباشر دون الرِّدْء ولو وجب الضمان فى السرقة لتعلق بالمباشر دون غيره (5) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص154.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص111.
(3) حاشية الشيبانى ج8 ص111.
(4) تبصرة الحكام ج2 ص361.
(5) المغنى ج10 ص310.
(2/668)

أما الشافعى فيجعل الضمان على المباشر دون غيره كمبدأ فى عدم التضامن فى المسئولية الجنائية.
657- مسئولية المحارب إذا كان صبيًا أو فاقد العقل: المحارب الصبى ليس عليه حد وإنما يعزر بما يناسبه, وكذلك المجنون لا يحد وإنما يعزر بما يمنع شره عن الناس كوضعه فى مصحة أو ما أشبه, والصبى والمجنون كلاهما مسئول فى ماله الخاص إذا أخذ المال, فإذا قتل فالدية على عاقلة عند مالك وأبى حنيفة وأحمد لأنهم يرون أن عمد المجنون والصبى خطأ لأنه لا يمكن أن يقصد الفعل قصدًا صحيحًا, وإذا لم يكن قتله مقصودًا فهو ليس عمدًا وإنما هو خطأ, أما الشافعى فيرى أن عمد الصبى والمجنون عمد لا خطأ وأن الصغير يعفى من الحد والقصاص ولكنه يؤثر على تكييف الفعل لأنه يأتيه مريدًا له وإن كان لا يدركه إدراكًا صحيحًا (1) .
أما السكران بمحرم فهو مسئول فى المذاهب الأربعة جنائيًا ومدنيًا مسئولية كاملة (2) .
ويرى الظاهريون أن الصبى والمجنون والسكران سكرًا أخرجه عن عقله لا يؤاخذون بحد ولا قَوَد, لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ, وعن المجنون حتى يفيق", والسكران لا يعقل, ولا على أحد من هؤلاء دية ولا ضمان عليه ولا على عاقلته, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام", فأموال الصبى والمجنون والسكران حرام بغير نص كتحريم دمائهم ولا نص فى وجوب غرامة عليهم أصلاً, وإيجاب الغرامة شرع فإذا كان بغير نص من قرآن أو سنة فهو شرع فى الدين لم يأذن به الله, ولكن الصبيان والمجانين والسكارى لا يؤاخذون بحد ولا قود فعليهم التعزير, فإذا أتى أحدهم
_________
(1) التشريع الجنائى ج1 ص508 وما بعدها- مذهب الشيعة الزيدية.
(2) التشريع الجنائى ج1 ص499 وما بعدها, كشاف القناع ج3 ص140, أسنى المطالب ج4 ص154 وج3 ص283.
(2/669)

جريمة وجب تعليمه ليكف أذاه حتى يتوب السكران ويفيق المجنون ويبلغ الصبي, لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] , وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى, وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان (1) .
658- حكم المال المأخوذ حرابة: حكم المال فى الحرابة هو وجوب الرد وإن كان قائمًا بعينه سواء سقط الحد أو لم يسقط, ولصاحبه أن يأخذه أينما وجده سواء وجده فى يد المحارب أو يد من تصرف إليه فيه, وذلك على التفصيل المبين فى باب السرقة, وعلى ما ذكرناه من خلاف بين الفقهاء.
* * *
_________
(1) المحلى ج11 ص344, 347.
(2/670)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق