السبت، 15 نوفمبر 2014

الجناية على ما دون النفس - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

الجناية على ما دون النفس

من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني
الدكتور عبد القادر عودة 

259- يعبر فقهاء الشريعة بالجناية على ما دون النفس عن كل أذى يقع على جسم الإنسان من غيره فلا يودى بحياته، وهو تعبير دقيق يتسع لكل أنوع الاعتداء والإيذاء التى يمكن تصورها؛ فيدخل فيه الجرح والضرب والدفع والجذب والعصر والضغط وقص الشعر ونتفه وغير ذلك. ويعبر قانون العقوبات المصرى عن نفس المعنى بالجرح والضرب فقط، وهو تعبير ناقص لا يتسع لغير الجرح والضرب من أنوع الإيذاء مما حمل المحاكم المصرية على التوسع فى تأويل هذا التعبير بما يجعله متفقًا مع اتجاه الشريعة، فحكمت محكمة النقض بأن عبارة الضرب والجرح تشمل كل فعل يقع على الجسم ويكون له تأثير ظاهرى أو باطنى، فمن يضغط على عنق إنسان أو يجذبه فيوقعه على الأرض يعد مرتكبًا لجريمة الضرب عمدًا.
260- الجنايات على ما دون النفس إما عمد أو خطأ: فالعمد هو ما تعمد فيه الجانى الفعل بقصد العدوان كمن قذف أحدًا بحجر بقصد إصابته. والخطأ هو ما تعمد فيه الجانى الفعل دون قصد العدوان كمن ألقى حجرًا من نافذة ليتخلص منه فأصاب أحد المارة، أو ما وقع فيه الفعل نتجة تقصير الجانى دون قصد منه كمن انقلب على نائم بجواره فكسر ضلوعه.
(2/204)

والعمد وإن كان يختلف عن الخطأ فى ماهية الفعل وعقوبته إلا أنهما يتفقان فى كثير من الأحكام، ومن ثم جرى الفقهاء على الجمع بينهما عند شرح أحكامهما فيتكلمون عنهما دفعة واحدة. وإذا كان شراح القوانين يفرقون بين جرائم العمد والخطأ على أساس نوع الجريمة، ويتكلمون عن كل على حدة فإن فقهاء الشريعة يجعلون أساس الفرق هو محل الجريمة هل هو النفس أو ما دونها؛ لأن ما يقع على النفس يتحد فى كثير من أحكامه على اختلاف أنواعه كما بينا فيما سبق، والجرائم التى تقع على ما دون النفس تتحد فى كثير من أحكامها كما سنبين فيما بعد. ثم يفرقون بعد ذلك على أساس نوع الجريمة بين مختلف الجرائم التى تقع على ما دون النفس.
261- ويقسم الفقهاء الجناية على ما دون النفس سواء كانت الجناية عمدًا أو خطأ خمسة أقسام، ناظرين فى هذا التقسيم إلى نتيجة فعل الجاني؛ لأن الجانى فى الجناية على ما دون النفس يؤخذ بنتيجة فعله ولو لم يقصد هذه النتيجة بغض النظر عما إذا كانت الجناية عمدًا أو خطأ، وهذه الأقسام هى: أولاً: إبانة الأطراف أو ما يجرى مجرى الأطراف.
ثانيًا: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها.
 ثالثًا: الشجاج.
 رابعًا: الجراح، خامسًا: ما لا يدخل تحت الأقسام الأربعة السابقة.

262- القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها: ويقصد من إبانة الأطراف قطعها وقطع ما يجرى مجراها، ويدخل تحت هذا القسم: قطع اليد والرجل والإصبع والظفر والأنف والذكر والأنثيين والأذن والشفة وفقء العين وقطع الأشفار والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق أو نتف شعر الرأس واللحية والحاجبين والشارب.
263- القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها: ويقصد من ذلك تفويت منفعة العضو مع بقائه قائمًا فإذا ذهب العضو ذاته فالفعل من القسم الأول، ويدخل تحت هذا القسم: تفويت السمع والبصر والشم
(2/205)

والذوق والكلام والجماع والإيلاد والبطش والمشى، ويدخل تحته أيضًا: تغير لون السن إلى السواد والحمرة والخضرة ونحوها، كما يدخل إذهاب العقل وغيره.
264- القسم الثالث: الشجاج: يقصد بالشجاج جراح الرأس والوجه خاصة. أما جراح الجسم فيما عدا الرأس والوجه فتسمى جراحًا، وتسمية جراح الجسم بالشجاج غلظ؛ لأن العرب تفصل بين الشجة وبين مطلق الجراحة، فتسمى ما كان فى الرأس والوجه شجه، وتسمى ما كان فى سائر البدن جراحة.
ويرى أبو حنيفة أن الشجاج لا تكون إلا فى الرأس والوجه فى مواضع العظم مثل الجبهة والوجنتين والصدغين والذقن دون الخدود، وباقى الأئمة يرون ما كان فى الرأس والوجه مطلقًا شجة.
265- والشجاج عند أبى حنيفة إحدى عشرة شجة (1) :
1- الخارصة: وهى التى تخرص الجلد أى تشقه ولا يظهر منها الدم.
2- الدامعة: وهى التى يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع فى العين.
3- الدامية: وهى التى يسيل منها الدم.
4- الباضعة: وهى التى تبضع اللحم أى تقطعه.
5- المتلاحمة: وهى التى تذهب فى اللحم أكثر مما تذهب الباضعة. ويرى محمد أن المتلاحمة قبل الباضعة وعرفها بأنها التى يتلاحم فيها الدم ويسود.
6- السمحاق: وهى التى تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم، واسم الجلدة السمحاق فسميت بها الشجة.
7- الموضحة: وهى التى تقطع الجلدة المسماة السمحاق وتُوضِح العظم أى تظهره ولو بقدر مغرز الإبرة.
8- الهاشمة: وهى التى تهشم العظم أى تكسرة.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص296.
(2/206)

9-المنقلة: وهى التى تنقل العظم بعد كسرة أى تحوله عن مكانه.
10- الآمَّة: وهى التى تصل إلى أم الدماغ، وهى جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أى المخ.
11- الدامغة: وهى التى تخرق تلك الجلدة وتصل إلى الدماغ.
266- ويرى مالك أن الشجاج عشرة فقط: ويسمى الأول دامية، والثانية خارصة، والثالثة سمحاقًا, والسادسة ملطاة, ويحذف مالك الثامنة وهى الهاشمة ويرى أنها تكون فى جراح البدن لا فى الرأس والوجه، ويتفق فيما عدا ذلك مع أبى حنيفة (1) .
267- ويرى الشافعى وأحمد أن الشجاج عشرة فقط: وهما يحذفان الثانية عند أبى حنيفة وهى الدامعة ويعترفان بالعشرة الباقية، ويسمى أحمد الدامية بهذا الاسم أو بالبازلة، ويسمى الشافعى وأحمد العاشرة بالمأمومة أو بالآمَّة (2) .
268- القسم الرابع: الجراح: ويقصد بالجراح ما كان فى سائر البدن عدا الرأس والوجه. والجراح نوعان: جائفة، وغير جائفة.
فالجائفة: هى التى تصل إلى التجويف الصدرى والبطنى سواء كانت الجراحة فى الصدر أو البطن أو الظهر أو الجبين أو بين الأنثيين أو الدبر أو الحلق.
وغير الجائفة: ما لم تكن كذلك؛ أى التى لا تصل إلى الجوف (3) .
269- القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة: ويدخل تحت هذا القسم كل اعتداء أو إيذاء لا يؤدى إلى إبانة طرف أو ذهاب معناه ولا يؤدى إلى شجة أو جرح، فيدخل تحته كل اعتداء لا يترك أثرًا أو ترك أثرًا لا يعتبر جرحًا ولا شجة.
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص222 , 223.
(2) المهذب ج2 ص212 , الشرج الكبير ج9 ص619 وما بعدها.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص296 , المهذب ج2 ص214 , الشرح الكبير ج9 ص628 , شرح الدردير ج4 ص248.
(2/207)

الجناية على ما دون النفس عمدًا
270- الجناية على ما دون النفس عمدًا هى أن يتعمد الجانى ارتكاب فعل يمس جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته
وأركان الجريمة اثنان:
الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته.
الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا.


الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته:
271- يشترط لوقوع الجريمة أن يرتكب الجانى فعلاً يسمى جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامة هذا الجسم بأى حال، ولا يشترط أن يكون الفعل ضربًا أو جرحًا بل يكفى أن يكون أى فعل من أفعال الأذى أو العدوان على اختلاف أنواعها كالضرب والجرح والخنق والجذب والدفع والضغط والعصر.
272- وليس من الضرورى أن يستعمل الجانى أداة معينة للإيذاء والعض وحلق الشعر ونتفه ولوى الذراع وغير ذلك، فقد يستعمل يده أو رجله أو أسنانه وقد يستعمل عصًا أو سكينًا أو سيفًا أو بندقية أو مادة مضرة أو سامة، لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون أخرى فتستوى فيه كل الآلات.
وفى مذهب أحمد رأى يرى أن ما دون النفس فيه عمد وشبه عمد، ويفرق بينهما بأن فى الأول القصاص وفى الثانى الدية (1) , ويفرقون بين العمد وشبه العمد بأن الأول هو قصد الضرب بما يفضى إلى النتيجة غالبًا، والثانى هو قصد الضرب بما لا يفضى إلى النتيجة غالبًا مثل أن يضربه بحصاة لا يُوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه عمد (2) . ويظهر أنه هو الرأى الراجح فى المذهب، أما الرأى الآخر فيرى أن الجراح كلها عمد دون تفرقة وأن فيها القصاص لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] .
_________
(1) الإقناع ج4 ص189.
(2) الشرح الكبير ج9 ص428 , المغنى ج9 ص410.
(2/208)

أما أبو حنيفة فلا يفرق بين العمد وشبه العمد إلا فى النفس، ويكفى عنده تعمد الفعل فيما دون النفس (1) ، وليس ما يمنع عند مالك والشافعى وأحمد أن يكون الجانى مسئولاً عن الجناية ولو لم تكن الجناية مباشرة لفعله، كمن طلب إنسانًا بسيف مجرد فهرب منه فخر به سقف فأصيب بجرح أو كسر؛ لأنه هو الذى ألجأ المجنى عليه للهرب بفعله.
ويرى الشافعى أن العمد فيما دون النفس إما أن يكون عمدًا محضًا أو شبه عمد، فالعمد المحض هو ما أدى إلى نتيجة الفعل غالبًا، أما شبه العمد فهو ما لم يؤد إلى نتيجة الفعل غالبًا؛ كمن لطم إنسانًا على رأسه فورمت ثم انشقت حتى وضحت فهذه شبه عمد لأن الغالب أن اللطمة لا تؤدى لإيضاح، ولو رماه بحصاة فورمت ثم أوضحت فهى شبه عمد لأن الغالب أن الرمى بالحصاة لا يؤدى للإيضاح (2) .
ومع أنهم وضعوا هذه القاعدة إلا أنهم يختلفون فى طبيعة تطبيقها، وهذا الخلاف مرجعه التقدير. فمثلاً ابن رشد يضرب مثلاً على شبه العمد للطمة التى تفقأ العين لأن اللطمة لا تفقأ العين غالبًا (3) بينما يرى الشافعى أن اللطمة التى تفقأ العين عمد محض لأن اللطم يؤدى غالبًا لفقأ العين (4) .
273- ويستوى أن يكون الفعل مباشرًا أو بالتسبب، فالضرب باليد وشد حبل رفيع فى طريق المجنى عليه ليتعثر فيه كلاهما يكون الجريمة.
274- ويصح أن يكون الفعل ماديًا كالضرب والجرح، ويصح أن يكون معنويًا كمن أذعر رجلاً فأصيب بشلل أو ذهب عقله أو سقط فجرح. ونص القانون المصرى كما ذكرنا من قبل لا يتسع للأفعال المعنوية، أما فى فرنسا فيعاقبون على الفعل المعنوى فيما دون النفس؛ لأن القانون الفرنسى يجعل فى حكم الضرب أنواع التعدى والإيذاء الأخرى بينما القانون المصرى لم يذكر إلا عبارة الضرب والجرح.
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص267 , البحر الرائق ج8 ص287 , بدائع الصنائع ج7 ص233 , الأم ج6 ص45.
(2) الأم ج6 ص46.
(3) بداية المجتهد ج2 ص341.
(4) الأم ج6 ص45.
(2/209)

275- ويشترط أن يكون المجنى عليه معصومًا: فإن لم يكن كذلك فالفعل مباح ولا يعتبر جريمة، وقد تكلمنا عن العصمة بمناسبة الكلام على القتل وما قلناه هناك يغنى عن الإعادة هنا.
276- ويشترط ألا يؤدى الفعل لوفاة: فإذا أدى للوفاة فهو جناية على النفس قد تكون قتلاً عمدًا إذا ثبت أن الجانى تعمد الفعل وقصد القتل، وقد تكون قتلاً شبه عمد إذا ثبت أن الجانى تعمد الفعل ولم يقصد القتل.
الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا:
277- لكى يكون الفعل جريمة عمدية يجب أن يصدر عن إرادة الجانى وأن يرتكب بقصد العدوان، فإن لم يرد الجانى الفعل أو أراده ولم يقصد العدوان فالفعل غير متعمد وإنما خطأ.
278- ويؤخذ الجانى بقصده المحتمل: فيسأل عن نتيجة الفعل الذى أتاه لا عما قصده وقت إحداث الفعل، فإن ترتب على الفعل ذهاب عضو أو إبطال منفعته أو إحداث موضحة أو جائفة أو اقل من ذلك، سئل عن نتيجة فعله ولو لم يكن يقصد إحداث هذه النتيجة بالذات وقت إتيان الفعل.
279- ويسأل الجانى عن قصده غير المحدود: فمن ألقى حجرًا على جماعة بقصد إصابة أحدهم سئل عن نتيجة عمله سواء كان يعرف أفراد هذه الجماعة أو لا يعرفهم.
وقد سبق أن تكلمنا عن الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية، كما تكلمنا عن الإذن فى الجرح واستعمال الحق وأداء الواجب، وما قلناه ينطبق هنا.
280- ويستوى فى الجريمة على ما دون النفس أن يتعمد الجانى الفعل دون أن يقصد القتل، أو أن يتعمد الفعل بقصد القتل ما دام الفعل لم يؤد للموت؛ لأن الشريعة لا تعاقب على الشروع فى القتل إذا كان الشروع يكوَّن جريمة
(2/210)

تامة على ما دون النفس أيًا كانت نتيجة هذه الجريمة جرحًا أو شجة أو جائفة أو إتلافًا لعضو أو ذهاب معناه، وقد عللنا هذا الحكم بمناسبة الكلام على القتل العمد.
* * *
الجناية على ما دون النفس خطأ
281- سبق أن بينا تعريف الخطأ وأنواعه بمناسبة الكلام على القتل الخطأ كما بينا أركان جريمة القتل الخطأ، وما قيل هناك ينطبق بحذافيره هنا، ولا فرق إلا أن الفعل إذا أدى للوفاة فهو جناية على النفس أى قتل خطأ، وإذا لم يؤد للوفاة فهو جناية على ما دون النفس، ومن ثم لا داعى للكلام هنا عن الجريمة وأركانها لأنه تكرار لما قيل هناك.
282- فرق هام: ويجب أن نلاحظ أن الشريعة جعلت العقوبة للجناية على ما دون النفس فى حالة الخطأ متمشية مع نتيجة الفعل كما هو الحال فى العمد، فعقوبة من أتلف عضوًا أو أذهب منفعته أشد من عقوبة الجرح الذى شفى دون أن يتخلف عنه عاهة، وعقوبة من أذهب بصر إنسان أشد من عقوبة من أذهب نصف بصره وهكذا.
والشريعة تتفوق على القانونين المصرى والفرنسى فى هذا لأنهما يسويان فى العقوبة مهما اختلفت نتائج الفعل، وبعض شراح القانونين ينتقدون على المشرع أنه سوى بين عقوبة الإصابات المختلفة مع اختلاف نتائجها دون مبرر لهذه التسوية.
عقوبة الجناية على ما دون النفس
عقوبة الجناية على ما دون النفس تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقوبة الجناية على ما دون النفس عمدًا، وعقوبة الجناية على ما دون النفس شبه عمد، وعقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ.
العقوبة الأصلية للجناية على ما دون النفس عمدًا هى القصاص، وعند مالك:
(2/211)

الدية مع القصاص (1) , فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب التى سنبينها فيما بعد حلت محله عقوبتان بدليتان الأولى الدية أو الأَرْش والثانية التعزير، ويلاحظ الفرق بين عقوبات الجناية عمدًا على النفس والجناية عمدًا على ما دون النفس، ففى النفس يعاقب بالكفارة عقوبة أصلية وبالصيام عقوبة بدلية وبالحرمان من الميراث والوصية عقوبة تبعية، أما هنا فلا يعاقب بهذه العقوبات لأنها قاصرة على القتل ومتعلقة به.
أولاً: القصاص
283- القصاص: هو العقوبة الأصلية للجناية على ما دون النفس عمدًا، أما الدية والتعزير فهما عقوبتان بدليتان تحلان محل القصاص، ويترتب على اعتبار القصاص أصلاً والدية والتعزير بدلاً أنه لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية وبين عقوبة أخرى بدلاً منها لأن الجمع بين البدل والمستبدل ينافيان طبيعة الاستبدال، ويترتب على ذلك أيضًا أنه لا يجوز الحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية.
وهناك نظريتان للجمع بين القصاص والدية، الأولى: يرى أصحابها أن القصاص يجمع مع الدية إذا لم يكن القصاص ممكنًا إلا فى بعض الجرح فيقتص مما يمكن القصاص فيه، وما لا يمكن القصاص فيه تحل العقوبة البدلية فيه محل القصاص، وعلى هذا تجمع الدية مع القصاص عقوبة لجرح واحد، وهذه النظرية يقول بها الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد.
أما النظرية الثانية: فتقوم على أنه لا يمكن الجمع بين العقوبة الأصلية والعقوبة البدلية فى جرح واحد، فإن اقتص فى بعض الجرح سقط حقه فى الباقى ولا شئ له وهو بالخيار إن شاء اقتص ولا شئ له وإن شاء أخذ الدية، وهذه نظرية مالك وأبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد.
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص224 , مواهب الجليل ج6 ص247.
(2/212)

ويمتنع الحكم بالعقوبة الأصلية إذا امتنع القصاص أو سقط لسبب من الأسباب التى نذكرها بعد، وهذه الأسباب بعضها عام وبعضها خاص بما دون النفس.
* * *
أسباب امتناع القصاص العامة
284- أولاً: إذا كان القتيل جزءًا من القاتل: إذا كان القتيل جزءًا من القاتل امتنع الحكم بالقصاص، ويكون القتيل جزءًا من القاتل إذا كان ولده، فإذا جرح الأب ولده أو قطعه أو شجة فلا قصاص لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بولده" أما الولد فيقتص منه لوالده طبقًا للنصوص العامة، ويدخل تحت لفظى الوالد والولد كل والد وإن علا، وكل ولد وإن سفل، وحكم الأم هو حكم الأب لأنها أحد الوالدين، والجدة كالأم سواء كانت من قبَل الأب أو الأم.
ويرى مالك القصاص من الأب فى القتل إذا لم يكن شك فى قصد القتل، ولكنه لا يرى القصاص من الأب فى غير القتل ويرى تغليظ الدية عليه، والتغليظ عند مالك هو تثليث الدية (1) .
وعلى هذا فليس ثمة خلاف بين الأئمة الأربعة فى امتناع القصاص من الوالد لولده إذا جنى عليه فيما دون النفس، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بتوسع عند الكلام على القتل العمد.
285- ثانيًا: انعدام التكافؤ: إذا انعدم التكافؤ بين المجنى عليه والجانى فلا قصاص وينظر إلى التكافؤ من ناحية المجنى عليه وحده لا من ناحية الجانى. وفى مذهب مالك هذا شرط التكافؤ فى النفس أما فيما دون النفس فهو يشترط التكافؤ من الوجهين، فعنده لو قطع كافر أو عبد يد مسلم لم يكن له أن يقتص منهما ولو قطعهما فليس لهما أن يقتصا منه (2) .
فإن كان المجنى عليه مكافئًا للجانى أو خيرًا منه وجب القصاص وإن كان لا يكافئه امتنع القصاص، ولا يشترط فى الجانى أن يكافئ المجنى عليه لأن شرط
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص256.
(2) مواهب الجليل ج6 ص245 , شرح الدردير ج4 ص222.
(2/213)

التكافؤ وضع لمنع قتل الأعلى بالأدنى ولم يوضع لمنع قتل الأدنى بالأعلى.
وأساس التكافؤ عند مالك والشافعى وأحمد: الحرية والإسلام، وأساس التكافؤ عند أبى حنيفة: الحرية والجنس، وسنتكلم فيما يلى عن هذه الأسس الثلاثة:
1- الحرية: يرى مالك والشافعى وأحمد أن الحر لا يقتص منه إذا جرح العبد لأن العبد منقوص بالرق وهذا هو نفس رأيهم فى القتل، ويرى مالك أن لا يقتص من العبد للحر (1) .
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص من الأحرار والعبيد فيما دون النفس ولا قصاص فيما بين العبيد أنفسهم، وهو يخرج بهذا عن رأيه الذى التزمه فى القتل وهو القصاص من الحر للعبد ومن العبد للعبد، وعلة خروجه على هذا الرأى أنه يرى ما دون النفس خلق لوقاية النفس ولما كانت قيمة العبد تختلف عن دية الحر وقيمة العبد تختلف عن غيره من العبيد فلا يمكن أن تتماثل أطراف الأحرار مع العبيد ولا أطراف عبد مع عبد آخر ومن ثم امتنع القصاص بينهم، وهذا الرأى يتفق مع رأى أحمد (2) .
2- الإسلام: سبق أن تكلمنا على هذا الموضوع بما فيه كفاية بمناسبة الكلام على القتل فليراجع، ونلخص ما قلناه بأن مالكًا والشافعى وأحمد يرون أن الكافر لا يكافئ المسلم، والقاعدة عندهم أن لا قصاص من مسلم إذا قتل ذميًا.
أما أبو حنيفة فيرى أن الكافر يكافئ المسلم ما دام معصوم الدم وليس فى عصمته شبهة كالمستأمن مثلاً، ومن ثم فهو يوجب القصاص من كليهما للآخر.
وهم يسيرون على هذه القاعدة فيما دون النفس إلا أن مالكًا خرج عليها
_________
(1) المغنى ج9 ص348 - 351 , بدائع الصنائع ج7 ص310 , المهذب ج3 ص225 , 226.
(2) الشرح الكبير ج9 ص326.
(2/214)

ورأى ألا قصاص بين المسلم والكافر بصفة مطلقة فيما دون النفس، فإذا جرح أحدهما الآخر فلا قصاص لانعدام التكافؤ، ولو أنه يقرر أن المسلم خير من الكافر لأن القصاص فيما دون النفس يقتضى المساواة بين الطرفين ولا مساواة (1) .
3- الجنس: القاعدة عند الأئمة الأربعة أن الأنثى يقتص منها للذكر والذكر يقتص منه للأنثى، وهذا فى القتل أى فى النفس، وقد طبق مالك والشافعى وأحمد هذه القاعدة أيضًا فيما دون النفس (2) ، وحجتهم أن من يجرى بينهم القصاص فى النفس يجرى بينهم فى الأطراف، أما أبو حنيفة فيخالف هذه القاعدة ولا يطبقها فيما دون النفس لأنه يسير على قاعدة أخرى فيما دون النفس هى اعتبار أن ما دون النفس كالأموال، وبتطبيق هذه القاعدة لا يجعل المرأة مماثلة للرجل لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل ودية طرفها لا تماثل دية طرف الرجل، وإذا انعدمت المساواة بين أرشيهما امتنع القصاص فى طرفيهما سواء كان الجانى هو الذكر أو الأنثى (3) .
التماثل فى العدد: يشترط أبو حنيفة التماثل فى العدد بين المجنى عليه والجانى، فجب أن يكون الجانى واحدًا ليقتص منه فإن كان الجناة أكثر من واحد فلا قصاص إذا تعاونوا على ارتكاب فعل واحد كأن قطعوا يد رجل أو إصبعه أو أذهبوا سمعه أو بصره أو قلعوا له سنًا أو نحو ذلك من الجوارح التى يجب على الواحد فيها القصاص لو انفرد بالفعل، وعليهم دية الجارحة مقسمة عليهم بالتساوى، أما إذا ارتكب كل منهم منفردًا فعلاً يجب فيه القصاص فعلى كل منهم القصاص فيما فعله. وحجة أبى حنيفة أن المماثلة فيما دون النفس شرط أساسى للقصاص ولا مماثلة بين جارحة وجوارح، كيد واحدة وأيدٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ لا فى الذات ولا فى المنفعة ولا فى الفعل. أما فى الذات فلا شك فيه لأنه لا مماثلة بين العدد والفرد من حيث الذات،
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص245 , وراجع الفقرة 153 وما بعدها.
(2) المغنى ج9 ص378 , مواهب الجليل ج6 ص245 , المهذب ج3 ص190.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص310 , وراجع الفقرة 153 وما بعدها.
(2/215)

وإذا كانت الصحيحة لا تقطع بالشلاء لفوات المماثلة من حيث الوصف مع التساوى فى الذات فأولى أن يمتنع القصاص لفوات المماثلة فى الذات. وأما فى المنفعة فلأن منفعة اليدين أكثر من منفعة يد واحدة ومن المنافع ما لا يتأتى إلا باليدين كالكتابة والخياطة. وأما فى الفعل فلأن الموجود من كل واحد قطع بعض اليد والجزاء قطع كل اليد من كل منهم وقطع اليد أكثر من قطع بعضها (1) .
ويفرق أبو حنيفة بين النفس وما دونها بأن الفعل فيما دون النفس يتجزأ لأنه قطع بعض الجارحة وترك البعض موجودًا، بخلاف النفس فإن إزهاقها لا يتجزأ، ورأى أبى حنيفة وجه فى مذهب أحمد.
ويرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من الجماعة للواحد، وحجتهم أن شاهدين شهدا عند على رضى الله عنه وعلى رجل بالسرقة فقطع علىٌّ يده، ثم جاءا بآخر فقالا هذا هو السارق وأخطأنا فى الأول فرد شهادتهما على الثانى وغرمهما دية الأول وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحد، ولأنه أحد نوعى القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس.
ويرى الشافعى وأحمد أنه يجب للقصاص من الجماعة بالواحد أن يكون اشتراك الجماعة فى الطرف على وجه لا يتميز فيه أحدهما عن الآخر؛ إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه ثم يرجعوا عن شهادتهم، أو يكرهوا إنسانًا على قطع طرف فيجب قطع المكرهين كلهم والمكَره، أو يتعاونوا فى إلقاء حجر على المجنى عليه فتقطع طرفه أو يقطعوا يدًا ويقلعوا عينًا بضربه واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعًا حتى يقطع الطرف، فإن قطع كل واحد منهم من جانب أو قطع أحدهم بعض المفصل وأتم غيره أو ضرب كل واحد ضربة أو وضعوا منشارًا مثلاً على مفصله ثم مر كل واحد عليه
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص299.
(2/216)

مرة حتى بانت اليد فلا قصاص فيه؛ لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك فى قطع جميعها، وإن كان فعل كل واحد منهم يمكن الاقتصاص فيه بمفرده اقتص منه (1) .
أما مالك ففرق بين حالة التمالؤ وعدم التمالؤ، فإن تمالئوا اقتص من كل منهم بقدر ما أحدثوا بالمجنى عليه سواء تميزت أفعال كل منهم أم لم تتميز، فإذا قلعوا عينه وقطعوا رجله ويده قلع لكل عينه وقطعت يده ورجله، أما إذا لم يكن تمالؤ فإن تميزت أفعالهم أخذ كل منهم بفعله، وإن لم تتميز أفعالهم فعليهم القصاص كما لو تمالؤوا، وهناك من يرى ألا قصاص عليهم وعليهم الدية (2) .
ولا يشترط الشافعى وأحمد التمالؤ فيما دون النفس ويكفى التوافق للقصاص من الجميع.
286- ثالثًا: أن يكون الفعل شبه عمد: يرى الشافعى وأحمد أن الجناية على ما دون النفس قد تكون عمدًا وقد تكون شبه عمد، فهى عمد إذا كان الفعل متعمدًا أو كان يؤدى غالبًا إلى النتيجة التى انتهى إليها، كمن ضرب غيره بسكين فقطع إصبعه أو بعصًا فكسر ذراعه أو أحدث برأسه تربنة.
وهى شبه عمد إذا كان الفعل متعمدًا ولكنه لا يؤدى غالبًا إلى النتيجة التى انتهى إليها، كمن لطم آخر ففقأ عينه أو رماه بحصاة فأحدثت ورمًا انتهى بموضحة. ويرتبان على تقسيم الجناية على ما دون النفس إلى عمد وشبه عمد أن القصاص يجب فى العمد فقط أما شبه العمد فيجب فيه الدية، وهما يسيران فى هذا التقسيم وفى ترتيب العقوبة على ما سارا عليه فى الجناية على النفس (3) .
أما مالك وأبو حنيفة فيريان أن الجناية على ما دون النفس لا تكون إلا عمدًا لأن مالك لا يعترف بشبه العمد والفعل عنده إما عمد أو خطأ، ولأن أبا حنيفة يرى أن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون أخرى فاستوت فيه
_________
(1) المغنى ج9 ص370 وما بعدها , المهذب ج2 ص190.
(2) شرح الدردير ج4 ص222.
(3) الشرح الكبير ج9 ص428 , الأم ج6 ص6.
(2/217)

الآلات للدلالة على القصد، فكان الفعل عمدًا فى كل حال أى أن ما دون النفس لا يقصد إلا مجرد الاعتداء عليه، والاعتداء ممكن بأى آلة بعكس القتل فلا يكون إلا بآلة مخصوصة، ومن ثم كان توفر قصد الاعتداء كافيًا لاعتبار الفعل عمدًا فيما دون النفس ولم يكن هناك محل لاعتبار شبه العمد (1) , ويترتب على رأى مالك وأبى حنيفة أن الجناية على ما دون النفس يجب فيها القصاص فى كل حال ما دام الجانى قد تعمد الفعل.
287- رابعًا: أن يكون الفعل تسببًا: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن الجناية على ما دون النفس بالتسبب لا توجب القصاص لأن القصاص فعل مباشر فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه على طريق المباشرة؛ لأن أساس عقوبة القصاص هو المماثلة بين الفعلين، ويوجب أبو حنيفة الدية بدلاً من القصاص ولكن الأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين الجناية بالتسبب والجناية المباشرة ويوجبون القصاص على الجانى فى الحالين.
288- خامسًا: أن تكون الجناية قد وقعت فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن لا قصاص من الجانى إذا كانت الجناية قد وقعت فى دار الحرب. ويرى بقية الأئمة القصاص سواء كانت الجناية فى دار الحرب أو دار الإسلام، وقد سبق أن تكلمنا على هذه المسألة وفيما ذكرناه غنى عن الإعادة (2) .
289- سادسًا: عدم إمكان الاستيفاء: يمتنع القصاص إذا لم يكن الاستيفاء ممكنًا لأن القصاص قائم على التماثل واستيفاء المثل بدون مكان استيفائه ممتنع، فيمتنع الاستيفاء ضرورة، فمثلاً إذا كان المجنى عليه مقطوع المفصل الأعلى من إبهام اليد اليمنى وجاء الجانى فقطع المفصل الثانى لنفس الإصبع فلا يمكن أن يقتص من الجانى إذا كان إبهام يده اليمنى سليمًا لأن القصاص يؤدى إلى قطع مفصلين والمقطوع مفصل واحد فينعدم التماثل. وكذلك لو أجاف الجانى المجنى عليه أو شجه آمةَّ أو دامغة فالقصاص لا يمكن فى هذه الحالات؛ لأنه لا يمكن إجافة الجانى أو شجه على وجه التماثل التام (3) , ومن ثم يتعذر القصاص بتعذر استيفائه، وينتقل
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص297.
(2) راجع الفقرة 160.
(3) بدائع الصنائع ج9 ص297.
(2/218)

حق المجنى عليه إلى بدل القصاص وهو الدية.
290- أسباب امتناع القصاص الخاصة بما دون النفس: أسباب امتنع القصاص الخاصة بما دون النفس هى:
أولاً: عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف.
ثانيًا: عدم المماثلة فى المحل.
ثالثًا: عدم الاستواء فى الصحة والكمال.
وهذه الأسباب ترجع كلها إلى أساس واحد هو التماثل، فالقصاص يقتضى بطبيعته التماثل من كل وجه، التماثل فى الفعل والتماثل فى المحل والتماثل فى المنفعة.
291- أولاً: عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف: يشترط للقصاص أن يكون الاستيفاء ممكنًا بلا حيف، ولا يكون الاستيفاء ممكنًا بلا حيف من الأطراف إلا إذا كان القطع من مفصل، أو كان له حد ينتهى إليه، كمارن الأنف وهو ما لان منه، فإن كان القطع من غير مفصل أو لم يكن له حد ينتهى إليه كالقطع من قصبة الأنف أو من نصف الساعد أو من نصف الساق، فالفقهاء فى ذلك على رأيين، أولهما: يرى أنه لا قصاص ما دام القطع من غير مفصل وليس له حد ينتهى إليه لتعذر الاستيفاء. وعلى هذا الرأى أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، الرأى الثانى: يرى أصحابه أن يقتص من أول مفصل داخل فى محل الجناية وله حكومة فى الباقى حيث لا يمكن القصاص على وجه المماثلة من غير المفصل، فمن قطع ذراعه من نصف العضد كان له أن يقتص من المرفق ويأخذ حكومة عن نصف العضد، ومن قطع ذراعه من نصف الساعد كان له أن يقتص من الكوع ويأخذ حكومة عن نصف الساعد. وعلى هذا الرأى الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، ولكن بعض الفقهاء فى مذهب أحمد يرون أن المجنى عليه يستحق حكومة عن الزائد والبعض يرى أنه لا يستحق شيئًا (1) , تطبيقًا للمبدأ القائل بأنه لا يجمع فى فعل واحد بين قصاص ودية، أما مالك فيرى القصاص ولو كان القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص298 , الشرح الكطبير ج9 ص348 , المهذب ج2 ص192 , 193 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص329.
(2/219)

من غير مفصل إذا كان ذلك ممكنًا ولا خوف منه، فإن لم يكن كذلك فلا قصاص ولو رضى الجانى بالقطع من مفصل داخل فى الجناية، ومن المتفق عليه بين أبى حنيفة والشافعى وأحمد ألا قصاص فى كسر العظام لأن التماثل غير ممكن، والأمن من الحيف غير محقق.
ولكن مالكًا يرى القصاص إذا قرر الخبراء أنه ممكن ولا خوف منه على حياة المقتص منه (1) .
وإذا اصطحب الكسر بشجة كالهاشمة والمنقلة أو جرح من جراح الجسد فيرى الشافعى القصاص من الموضحة لأنها داخلة فى الجناية ويمكن القصاص فيها وله أرش الباقى حيث تعذر فيه القصاص، فانتقل إلى البدل، وهذا هو مذهب أحمد، إلا أن بعضهم يرى أن له أرش الباقى، والبعض يرى أن ليس له مع القصاص شئ لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين القصاص والدية، ويرى مالك القصاص من الجرح والعظم معًا فى جراح الجسد لا فى شجاج الرأس إن كان ممكنًا وإلا فلا، ويرى مالك أيضًا أن لا قصاص فى الشجاج فيما فوق الموضحة ولو بقدر الموضحة ولكن فى الجسد إذا كان جرح مصحوب بكسر فلا مانع فى القصاص، إذ كان ذلك ممكنًا فى الجميع وإلا فلا، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص أصلاً.
ومن المتفق عليه أن لا قصاص فيما فوق الموضحة من الشجاج لأن الاستيفاء دون حيف غير ممكن، أما ما دون الموضحة فيرى مالك القصاص فيه لأنه يرى الاستيفاء ممكنًا دون حيف، بأن يقاس طول الجرح وعمقه ويقتص بمثله، وهو ظاهر مذهب أبى حنيفة إن كان القصاص من الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية، وهو رواية عن محمد، ورواية أخرى ألا قصاص فيما قبل الموضحة وهو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أن ما دون الموضحة ليس له حد ينتهى إليه؛ لأن الموضحة تنتهى إلى العظم، أما ما دونها فليس كذلك، والقول بإمكان قياس عمق الجرح يؤدى إلى الاقتصاص من الباضعة أو السمحاق موضحة إذا
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص244 , المدونة ج16 ص122 , 123.
(2/220)

كان اللحم أى لحم الشاج خفيفًا، أو الاقتصاص من السمحاق متلاحمة أو باضعة إذا كان لحم الشاج أخف من لحم المشجوج (1) . وأساس اختلاف الفقهاء فى جميع ما سبق هو اختلاف التقدير، أما قاعدتهم جميعًا فواحدة فمن رأى أن الاستيفاء ممكن فى حالة دون حيف قال به ومن رآه لا يمكن بغير حيف منع منه.
292- ثانيًا: عدم المماثلة فى الموضع: يشترط للقصاص التماثل فى الموضع أى فى حمل الجناية، فلا يؤخذ شئ إلا بمثله ولا يقتص من عضو إلا لما يقابله، فلا تؤخذ اليد إلا باليد لأن غير اليد ليس من جنسها، فهو ليس مثلاً لها إذ التجانس شرط للمماثلة ولا تؤخذ الرجل إلا بالرجل والإصبع إلا بالإصبع والعين إلا بالعين والأنف إلا بالأنف ولا يؤخذ الإبهام إلا بالإبهام ولا السبابة إلا بالسبابة ولا الوسطى إلا بالوسطى ولا البنصر إلا بالبنصر ولا الخنصر إلا بالخنصر لأن منافع الأصابع مختلفة فكانت كالأجناس المختلفة، ولا تؤخذ اليد اليمنى إلا باليد اليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى لأن لليمين فضلاً على اليسار ولذلك سميت يمينًا، وكذلك الرجل، وكذلك أصابع اليدين والرجلين لا تؤخذ اليمنى منها إلا باليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى، وكذلك الأعين كما قلنا وكذلك الأسنان لا تؤخذ الثنية إلا بالثنية ولا الناب إلا بالناب ولا الضرس إلا بالضرس لاختلاف منافعها فإن بعضها قواطع وبعضها طواحن وبعضها ضواحك، واختلاف المنفعة بين الشيئين يلحقهما بجنسين مختلفين ولا مماثلة عند اختلاف الجنس، وكذلك لا يؤخذ الأعلى منها بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لتفاوت المنفعة بين الأعلى والأسفل (2) .
293- ثالثًا: المساواة فى الصحة: يشترط للقصاص أن يتساوى العضوان فى الصحة والكمال فلا تؤخذ مثلاً عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد يد صحيحة
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص461 , 462 , بدائع الصنائع ج9 ص309 , مواهب الجليل ج6 ص246 , المهذب ج2 ص190.
(2) بدائع الصنائع ج9 ص297 , الشرح الكبير ج9 ص442 , المهذب ج2 ص190 وما بعدها , مواهب الجليل ج6 ص246.
(2/221)

بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأن المقتص يأخذ فوق حقه؛ أما إذا أراد المجنى عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه وليس له مع القصاص أرش مقابل نقص الشلل لأن الشلاء كالصحيحة فى الخلقة، وإنما تنقص عنها فى الصفة والتماثل لا يشترط فى الصفات، ويحتاط الشافعى وأحمد فى أخذ الشلاء بالصحيحة فيشترطان أن يقرر أهل الخبرة أن قطع العضو الأشل لا يؤثر على حياة المقتص منه لأن الشلل علة وللعلل تأثيرها على الأبدان.
أما مالك فيرى أن لا تؤخذ الصحيحة بالشلاء، كما يرى أن لا تؤخذ الشلاء بالصحيحة ولو رضى المجنى عليه بها، إلا إذا كان العضو الأشل فيه نفع للجانى فإن لم يكن فيه نفع فلا قصاص.
ويرى مالك والشافعى وأحمد القصاص بين الأشلين للمساواة، ويرى بعض فقهاء مذهب الشافعى أن لا قصاص لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها على الأجسام.
أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص بين الأشلين لأنه يشترط التماثل فى الأرش لأنه يسلك بالأطراف مسلك الأموال والشلل يؤثر على كل عضو تاثيرًا مختلفًا فلا تصبح قيمتها واحدة، ومن ثم امتنع القصاص لعدم المساواة (1) , ويرى زفر القصاص عند تساوى الشلل.
ولا يؤخذ الكامل بالناقص فمثلاً لا تؤخذ يد ولا رجل كاملة الأصابع بيد أو رجل تنقص إصبعًا أو أكثر لانعدام المساوة، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، ولكن يجوز أخذ الناقص بالكامل، فتؤخذ اليد أو الرجل الناقصة إصبعًا أو أكثر باليد أو الرجل الصحيحة، وليس للمقتص عند أبى حنيفة رأى فى مذهب أحمد، وله عند الشافعى ورأى فى مذهب أحمد أرش ما نقص لأنه وجد بعض حقه فاقتص فيه، وعدم بعضه فانتقل القصاص فيه إلى البدل وهو الأرش، أما مالك فيرى قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعًا واحدًا بالكاملة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246 , البحر الرائق ج8 ص306 , 308 , بدائع الصنائع ج9 ص203 , المهذب ج2 ص193 , الشرح الكبير ج9 ص458 , 488.
(2/222)

بلا غرم على الجانى ولا خيار للمجنى عليه فى نقص الإصبع، وله أن يختار بين القصاص وبين الدية إن كان النقص إصبعين فأكثر، أما الإصبع وبعض الآخر فلا خيار فيه للمجنى عليه لأنه نقص يسير لا يمنع المماثلة، ومن ثم فيتعين قطع الناقصة بالكاملة، أما إذا نقصت يد المجنى عليه أو رجله إصبعًا فالقود على الجانى الكامل الأصابع، ولا يغرم المجنى عليه الناقص الأصابع أرش الإصبع الزائد، ولا قصاص إن نقصت يد المجنى عليه أكثر من إصبع إذا كانت يد الجانى كاملة الأصابع (1) .
ولا تؤخذ يد ذات أظافر بيد لا أظافر لها، لكن تؤخذ اليد ذات الأظافر الصحيحة باليد ذات الأظافر المسودة أو المخضرة؛ لأن هذا الوصف لا يوجب نقصًا فى المنفعة ولأن الصحيح يؤخذ بالسقيم (2) .
وإذا قطع يد رجل وفيها إصبع زائدة وفى يد الجانى مثلها، فلا قصاص عند أبى حنيفة لأن الإصبع الزائدة نقص وعيب، ويرى أبو يوسف القصاص للتماثل والمساواة، وهو رأى الشافعى وأحمد ويتفق مع رأى مالك.
ويرى أبو حنيفة أن مقطوع الإبهام إذا قطع يد مقطوع الإبهام فلا قصاص لأن قطع الإبهام توهين للكف، ويسقط تقدير الأرش، فلا يعرف إلا بالحَزْر والظن، فتنعدم المماثلة وعند بقية الفقهاء القصاص واجب للتماثل (3) .
* * *
كيف طبق الفقهاء شروط القصاص الخاصة؟
أولاً: فى إبانة الأطراف وما يجرى مجراها
294- الجفن: يؤخذ الجفن بالجفن عند الشافعى وأحمد لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص، ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وجفن الضرير بجفن البصير، لأنهما متساويان فى السلامة من النقص وعدم الإبصار ليس نقصًا فى الجفن ذاته
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص298 , الشرح الكبير ج9 ص448 , 449 , المهذب ج8 ص193 , مواهب الجليل ج6 ص249 , شرح الدردير ج4 ص226 , البحر الرائق ج8 ص308.
(2) البحر الرائق ج8 ص308 , المواهب ج6 ص242.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص194.
(2/223)

وإنما هو نقص فى غيره (1) , أما عند مالك وأبى حنيفة فلا قصاص فى جفون العين لأنه لا يمكن استيفاء المثل تمامًا من دون حيف (2) .
295- الأنف: يؤخذ الأنف بالأنف عند مالك والشافعى وأحمد، لقوله تعالى: {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] ولا يجب القصاص فى الأنف إلا فى المارن، وهو ما لان منه لأنه ينتهى إلى مفصل، ويؤخذ الكبير بالصغير، والأقنى بالأفطس، والأشم بالأخشم الذى لا يشم؛ لأنهما متساويان فى السلامة من النقص وعدم الشم نقص فى غيره ويؤخذ البعض بالبعض، وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجانى ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأن أنف الجانى قد يكون صغيرًا وأنف المجنى عليه كبيرًا، فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة أدى ذلك إلى قطع جميع المارن بالبعض.
ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز، لأنه لا يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بالجذام، ولكن يؤخذ المارن الصحيح بالمارن المريض بالجذام ما دام لم يسقط منه شئ، وإن قطع من سقط بعض مارنه مارنًا صحيحًا للمجنى عليه أن يقتص من الموجود، وينتقل فى الباقى إلى البدل عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد وليس له شئ غير القصاص عند مالك وبعض فقهاء مذهب أحمد، وإن قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل فى الجناية ويمكن القصاص فيه كما يرى الشافعى وأحمد، وينتقل فى الباقى إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فى الباقى لأنه عظم فانتقل فيه إلى البدل، كما يرى الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد وليس له شئ مع القصاص على ما يرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد، أما مالك فيرى القصاص من العظام كلما كان ذلك ممكنًا فإن لم يكن ممكنًا فلا قصاص (3) ,
_________
(
1) المهذب ج2 ص191 , الشرح الكبير ج9 ص436.
(2) مواهب الجليل ج6 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص308.
(3) المدونة ج16 ص123 , مواهب الجليل ج6 ص227 , 228.
(2/224)

أما أبو حنيفة فيرى القصاص فى الأنف إذا أخذ كل المارن، لأن له حدًا ينتهى إليه وهو ما لان منه، أما إذا قطع بعضه أو كان القطع من قصبة الأنف فلا قصاص لتعذر استيفاء المثل فى البعض، ولأنه لا قصاص من العظم، وإن كان أنف القاطع أصغر خُيِّر المقطوع أنفه الكبير إن شاء قطع وإن شاء أخذ الدية وكذلك إذا كان قاطع الأنف أخشم لا يجد الريح أو أخرم الأنف أو بأنفه نقصان من شئ أصابه فإن المقطوع مخير بين القطع وبين أخذ دية أنفه (1) .
العين: تؤخذ العين بالعين عند الفقهاء الأربعة لقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] ولأنها تنتهى إلى مفصل فجرى القصاص فيها، وتؤخذ العين السليمة بالضعيفة خلقة أو من كبر، فتؤخذ عين الشاب بعين الشيخ المريضة، وعين الكبير بعين الصغير والأعمش، ولا تؤخذ الصحيحة بالغائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه، وتؤخذ الغائمة بالصحيحة لأنها دون حقه ولا أرش، لأن التفاوت فى الصفة. ويستثنى أبو حنيفة من القصاص ما لو كانت عين المجنى عليه فيها بياض ولكن يبصر بها، وكذلك عين الجانى، فإنه لا قصاص فيهما (2) .
وإذا قلع الأعور عين صحيح فلا قود عليه وعليه دية كاملة عند أحمد، وحجته أن عمر وعثمان قضيا بهذا ولم يكن لهما مخالف فى عصرهما فصار إجماعًا.
أما مالك فيرى تخيير المجنى عليه فإن شاء اقتص وإن شاء أخذ دية كاملة، ويرى أبو حنيفة والشافعى أن للمجنى عليه القصاص ولا شئ عليه، وإن عفا فله نصف الدية فقط.
أما مالك فجعل له الدية كاملة، لأن عين الأعور هى كل بصره أى تساوى عينيين. ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص دون خلاف لتساويهما من كل وجه إذا كانت العين مثل العين فى كونها يمينًا أو يسارًا وإن عفا على الدية فله جميعها، لأنه ذهب بجميع بصره فأشبه ما لو قلع عين صحيح.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص306 , حاشية الطهطاوى ج4 ص268.
(2) حاشية الطهطاوى ج4 ص268.
(2/225)

وإن قلع الأعور عين صحيح فالرأى الراجح فى مذهب أحمد: إن شاء اقتص ولا شئ له سوى ذلك لأنه قد أخذ جميع بصره، فإن اختار الدية فله دية واحدة، والرأى المرجوح يرى أن له ديتين، إحداهما: للعين التى تقابل عينه، والدية الثانية: لأجل العين الثانية. وعند مالك: للمجنى عليه القصاص ونصف الدية.
وإن قلع صحيح العينين عين أعور فله القصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية لأن الجانى ذهب بجميع بصره وأذهب الضوء الذى بدله دية كاملة، وقد تعذر استيفاء جميع الضوء إذ لا تؤخذ عينان بعين واحدة، ولا أخذ يمنى بيسرى فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء، ويرى البعض أن ليس له إلا القصاص من غير زيادة أو العفو على الدية؛ لأن الزيادة هنا غير مثمرة فلم يكن لها بدل.
ويرى مالك أن الصحيح إذا فقأ عين الأعور فللأخير أن يقتص أو يأخذ دية كاملة لا نصف دية (1) .
296- الأذن: وتؤخذ الأذن بالأذن عند الأئمة الأربعة لقوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45] ولأنه يمكن القصاص لانتهائه إلى حد فاصل. وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم، وأذن الأصم بأذن السميع، لأنهما متساويان فى السلامة من النقص، وعدم السمع نقص فى غير صوان الأذن، ويؤخذ بعض الأذن ببعضها ويراعى فى تقدير المقطوع نسبته إلى الباقى فيقدر بالجزء ولا يقدر بالمساحة؛ كما ذكر فى حالة الأنف.
ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح، لأن المثقوب ليس بنقص، وإنما تثقب الأذن للزينة، ولا يؤخذ صحيح بمشقوق لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المشقوق بالصحيح وله من الدية ما يقابل النقص عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، وليس له شئ عند باقى الفقهاء (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص249 , المغنى ج9 ص430 - 432 , المهذب ج2 ص191 , حاشية الطهطاوى ج4 ص268.
(2) مواهب الجليل ج6 ص22246 , المدونة ج16 ص113 , المهذب ج2 ص191 , الشرح الكبير ج9 ص430 , البحر الرائق ج8 ص303.
(2/226)

297- الشفتان: وتؤخذ الشفة بالشفة، وهو ما بين جلد الذقن والخدين علوًا وسفلاً لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأنه ينتهى إلى حد معلوم والقصاص فيه ممكن، وهذا هو رأى الأئمة الأربعة، وفى مذهب الشافعى من يرى أن لا قصاص فى الشفتين لأنه قطع لحم لا ينتهى إلى عظم، وهو رأى مرجوح، وفى مذهب أبى حنيفة يرون القصاص فى الكل، ولا يرون القصاص فى الجزء لعدم إمكان القصاص بدون حيف (1) .
298- اللسان: ويؤخذ اللسان عن مالك والشافعى وأحمد لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حدًا ينتهى إليه، فاقتص فيه، ولا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه، ولا يرى مالك القصاص فى هذه إلا إذا كان فى اللسان منفعة للجانى كما هو الحال فى اليد الشلاء، وإن قطع نصف اللسان أو ثلثه أو ربعه اقتص من لسان الجانى فى مثل ذلك القدر، وفى مذهب الشافعى رأى يرى عدم القصاص فى البعض لأنه لا يؤمن أن يتجاوز القدر المستحق ولكنه رأى مرجوح، والمذهب أن ما يمكن القصاص فى كله يمكن القصاص فى بعضه (2) , أما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص فى اللسان كله أو بعضه إذ القاعدة عنده أن ما يتبعض وينبسط لا يمكن استيفاء القصاص فيه بصفة المماثلة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص فى كل اللسان إن استوعب قطعًا، إذ يمكن القصاص على وجه المماثلة بالاستيعاب (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص308 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص436.
(2) مواهب الجليل ج6 ص246 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص436.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص308.
(2/227)

299- السن بالسن: ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ولأنه محدود فى نفسه يمكن القصاص فيه دون حيف، ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويأخذ المكسور بالصحيح، ولا شئ له عند مالك وأبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، وله مقابل ما نقص من المكسور عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد؛ ولا قصاص فى قلع السن الزائد لتعذر المثل، وإن كان له سن زائد فى غير موضع المقلوع لم يؤخذ به، ويرى الشافعى القصاص فى السن الزائد إذا كان له مماثل وكذلك أحمد، ولا يرى ذلك أبو حنيفة.
ولا يقتص إلا من سن قد سقطت رواضعه ثم نبتت بعد ذلك، وإلا فلا قصاص، حيث إنها تعود بحكم العادة كما كانت قبل السقوط أو الكسر (1) .
300- اليد: وتؤخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل بقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ، ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب القصاص.
وإذا كان القطع من مفصل الكوع أو المرفق فله القصاص باتفاق الفقهاء، أما إذا كان القطع من غير مفصل كالقطع من الكف أو الساعد أو العضد، فمالك يرى القصاص إذا أمكن ولم يخفف منه وإلا فلا قصاص وأبو حنيفة وأحمد والشافعى لا يرون القصاص لأن محل القطع عظم، لكن يجوز عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد أن يقتص المجنى عليه من أول مفصل داخل فى الجناية، ولا يجيز هذا أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد ولا يجيزه مالك حتى لو اتفق عليه الطرفان، ومن أجازه من فقهاء أحمد اختلفوا، فبعضهم يرى أن للمجنى
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص249 , 261 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص434 , البحر الرائق ج8 ص304 , 305.
(2/228)

عليه أرش الباقى، وبعضهم يرى أن لا شئ له مع القصاص ومذهب الشافعى أن له أرش الباقى.
وقياسًا على ما سبق يكون الحكم فى الأعضاء ذات المفاصل وهى الأصابع والرجلين ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة الأصابع، فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع، أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع، لم يكن للمجنى عليه أن يقتص منه عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأنه يأخذ أكثر من حقه، لكن الشافعى يجيز هو وبعض فقهاء مذهب أحمد أن يأخذ من أصابع الجانى ما يقابل الأصابع المقطوعة لأنها داخلة فى الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها، ولا يرى ذلك أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، أما مالك فيجيز القصاص بين اليد الكاملة واليد الناقصة إذا كان النقص فى الجانى أو المجنى عليه إصبعًا واحدة أيًا كانت، ولا مقابل للإصبع الزائدة فإن زاد النقص عن إصبع واحدة فلا قصاص ولا يجيز مالك ما يجيزه الشافعى من أخذ الأصابع دون الكف.
وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع، فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع، أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع، فللمجنى عليه أن يقتص من الكف، وليس له شئ عند أبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد؛ وله دية الإصبع الخامس والحكومة فى الإصبع السادس عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد لأنه وجد بعض حقه وعدم الباقى، فأخذ الموجود وانتقل فى المعدوم إلى البدل، أما الفريق الآخر فحجته أنه لا يجوز الجمع بين قصاص ودية فى عضو واحد. ورأى مالك تؤخذ الناقصة بالكاملة إذا كان النقص إصبعًا واحدًا ولا مقابل للناقص، فإن كان النقص أكثر من إصبع خُيِّر المجنى عليه بين القصاص والدية، فإن اقتص فلا شئ له.
ولا يؤخذ أصلى بزائد، فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة لم يكن للمجنى عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجيز الشافعى وبعض فقهاء أحمد القصاص من الأصابع الأصلية
(2/229)

على ما ذكرنا آنفًا، ومذهب مالك يجيز القصاص؛ لأن نقص إصبع واحدة لا يمنع من القصاص.
ويجوز أخذ الزائد بالأصلى، فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية، فللمجنى عليه - عند الشافعى - أن يقتص من الكف لأنه دون حقه، ولا شئ له لنقصان إصبع أصلية، لأن الإصبع الزائدة تقوم مقامها، إذ أنها مثلها فى الخلقة. وفى مذهب أحمد رأى يرى أن لا قصاص لاختلاف الزائدة عن الأصلية، ورأى يرى القصاص إذا كانت الزائدة فى محل الأصلية، ورأى يرى القصاص مطلقًا لأن الزائدة لا عبرة بها.
ويظهر أن أبا حنيفة يجيز أخذ الزائد بالأصلى لأنه يعتبر الزيادة نقصًا، والقاعدة عنده أن الناقص يؤخذ بالكامل (1) .
والقاعدة عند مالك: أنه لا يؤخذ الكامل بالناقص ويؤخذ الناقص بالكامل، إلا إذا رضى المجنى عليه أن يأخذه دون مقابل النقص حتى لا يجمع بين قصاص ودية.
فمثلاً إذا قطع صاحب اليد السليمة أقطع الكف لم يقتص للأقطع من يد السليم حيث لا يؤخذ كامل بناقص، لكن إذا قطع أقطع الكف يد غيره من المرفق فللمجنى عليه القصاص بأن يقطع اليد الناقصة من المرفق وله أن يختار الدية، فإذا قطع اليد الناقصة فلا شئ له (2) .
ولا يجيز مالك لمن قطع من مفصل أن يقطع الجانى من مفصل أدنى منه داخل فى الجناية ولو رضى الجانى والمجنى عليه، لكن إذا وقع القصاص على هذا الشكل فقد أجزأ ولا يعاد لو طلب المجنى عليه استيفاء الباقي (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص249 , بدائع الصنائع ج7 ص298 , 303 , المهذب ج2 ص192 , 194 , الشرح الكبير ج6 ص437 , 499 , 450 , 455 , 456 , وفى شرح الدردير يجوز أخذ الزائد بالزائد.
(2) شرح الدردير ج4 ص225.
(3) المرجع السابق.
(2/230)

ويقتص من الإصبع الزائد فى الإصبع الزائد المماثل - كما جاء فى شرح الدردير - إذا تساويا فى المحل، ولا يرى ذلك أبو حنيفة؛ لأن الزائد فى معنى المزلزل، ولا قصاص عنده فى مزلزل، حتى أنه يرى أن لا قصاص بين يدين فى كل منهما إصبع زائدة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص فى هذه الحالة للمساواة بين اليدين.
301- الإليتان: وتؤخذ الإليتان بالإليتين وهما الناتئتان بين الظهر والفخد، وهو رأى مالك، ويأخذ به بعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد، وحجتهم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأن الإليتين ينتهيان إلى حد فاصل، فوجب فيهما القصاص كأى عضو له مفصل، أما البعض الآخر فيرى أن لا قصاص لأن الإليتين لحم متصل بلحم وليس له حد فاصل يؤمن معه الحيف، وهو رأى أبى حنيفة (1) .
302- ويؤخذ الذكر بالذكر: لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهى إلى حد فاصل يمكن الفصل فيه من غير حيف عند مالك والشافعى وأحمد.
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الذكر لأنه ينقبض وينبسط فلا يمكن القصاص على وجه المماثلة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص إذا استوعبت الذكر كله لأن له حدًا ينتهى إليه.
ويؤخذ بعضه ببعضه عند مالك وأحمد، وفى مذهب الشافعى رأيان أرجحهما أخذ البعض بالبعض، وعند أبى حنيفة تؤخذ الحشفة بالحشفة ولا قصاص فى بعضها ولا فى بعض الذكر غيرها.
ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصى لأنه كذكر الفحل فى الجماع وعدم الإنزال لمعنى فى غيره، ويقطع الأغلف بالمختون؛ لأنه يزيد على المختون بجلدة تستحق إزالتها بالختان، ولا يؤخذ صحيح بأشل؛ لأن الأشل ناقص بالشلل فلا يؤخذ به كامل (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص298 , 299 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص439.
(2) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص308 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص439.
(2/231)

303- وتؤخذ الأنثيان بالأنثيين: لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه؛ فإن قطع أحد الأنثيين وقال أهل الخبرة يمكن أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه حتى لا تؤخذ أنثيان بواحدة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد والظاهر من مذهب مالك، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فى الأنثيين حيث لا حد لهما ينتهيان إليه فيهما (1) .
304- الشفران: قياس مذهب مالك أن فى الشفُّرْين القصاص، وقياس مذهب أبى حنيفة أن لا قصاص فيهما، وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أحدهما: يقول بالقصاص، والثانى: يرى أن لا قصاص، وحجة الأول أن لهما حدًا ينتهيان إليه، وحجة الثانى أن الشفرين لحم وليس لهما حد ينتهيان إليه (2) .
ثانيًا: فى إذهاب معانى الأطراف
305- المفروض فى تفويت منفعة الأطراف بقاء أعيانها: فإن ذهب المعنى مع الطرف دخل الفعل تحت إبانة الأطراف، لأن معنى الطرف يكون تابعًا للطرف فى هذه الحالة.
والأصل أنه لا قصاص فى تفويت منفعة معانى الأطراف لعدم إمكان الاستيفاء، ولكن معظم الفقهاء لا يرون مانعًا من محاولة القصاص فإن أمكن الاستيفاء فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإن لم يتمكن ألزم الجانى بالدية. وهم يفرقون بين ما إذا كان الفعل يجب فيه القصاص أو لا يجب فيه القصاص، فإن كان فيه القصاص استوفى القصاص فى الفعل المادى، فإن ذهبت المعانى المماثلة فقد انتهى الإشكال، وإن لم تذهب عمل على إذهابها بطريقة إن أمكن،
_________
(1) مواهب الجليل ج666 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص309 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص440.
(2) المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص440. ويرى مالك وأحمد والشافعى القصاص فى الأظفار , ويرى أبو حنيفة القصاص فى حلمة الثدى دون الثدى , وعند مالك وأبى حنيفة: لا قصاص فى شعر الرأس والحاجبين والشارب واللحية.
(2/232)

فإن لم يكن ذلك فى الإمكان فقد امتنع القصاص لعدم إمكانه ووجبت الدية محله.
وإذا كان الفعل لا يجب فيه القصاص عمل على إذهاب المعانى بطريقة علمية إن أمكن ذلك، فإن ذهبت المعانى فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإلا وجب عليه الدية بدلاً من القصاص، وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (1) , أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فى الفعل ولا فى ذهاب المعنى، ولو كان الفعل أصلاً يمكن القصاص فيه كالموضحة التى تذهب البصر، لأن القصاص على وجه المماثلة غير ممكن، إذ الفعل الذى يراد القصاص فيه جرح مذهب لمعنى طرف، وإحداث مثل هذا الجرح على وجه التماثل غير ممكن، ويرى أبو يوسف ومحمد القصاص فى الفعل إذا كان مما يجب فيه القصاص وفى المعنى الدية، وهناك رواية عن محمد عن ابن سماعة أن فى الفعل والمعنى القصاص معًا إذا كان القصاص من المعنى ممكنًا كالإبصار، أما إذا كان القصاص من المعنى غير ممكن فلا قصاص إلا فى الفعل، ويرى بعض أصحاب الشافعى أن لا قصاص فى السراية أصلاً، وهو رأى مرجوح وليس هو المذهب (2) .
ويضربون مثلاً لتطبيق القواعد السابقة فى حالة وجوب القصاص فى الفعل: رجل ضرب آخر فشجه مُوضحة ذهب معها سمعه أو بصره أو شمه، فللمجنى عليه عند مالك والشافعى وأحمد أن يقتص من الموضحة، فإن ذهب معها السمع أو البصر أو الشم فقد أخذ حقه، وإن لم يذهب عولج بما يذهب بصره أو سمعه أو شمه دون جناية على العين أو الأذن أو الأنف، فإن كان إذهاب المعانى يقتضى الجناية على هذه الأعضاء لم يجز إذهاب المعانى. ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الموضحة ولا فى غيرها، ويرى محمد وأبو يوسف القصاص فى الموضحة
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص224 , 225 , المهذب ج2 ص199 , 200 , الشرح الكبير ج9 ص241 , 242.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص307 , الشرح الكبير ج9 ص442.
(2/233)

فقط، وهو رأى محمد عن ابن سماعة، ويرى بعض فقهاء مذهب الشافعى القصاص المباشر من الموضحة ومن العين، ولا يرى القصاص المباشر من السمع والشم لأنه غير ممكن.
ويضربون مثلاً فى حالة عدم القصاص: شجة وفوق الموضحة، لا قصاص فيها من الجرح، وإنما تبقى فقط محاولة إذهاب المعنى، على أن الشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد يرون أن يقتص موضحة فقط فى هذه الحالة.
* * *
ثالثًا: القصاص فى الشجاج
306- لا خلاف بين الفقهاء الأربعة على أن الموضحة من الشجاج فيها القصاص لإمكان الاستيفاء على وجه المماثلة إذ لها حد تنتهى إليه السكين وهو العظم، ولا خلاف بينهم أيضًا فى أنه لا قصاص فيما بعد الموضحة لتعذر الاستيفاء على وجه المماثلة؛ لأن الهامشة تهشم العظم، والمنقلة تنقله من مكانه بعد هشمه، والآمَّة لا يؤمن معها أن تصل السكين إلى المخ، وكذلك الدامغة.
أما ما قبل الموضحة من الشجاج فمختلف فيه. فمالك يرى القصاص فيها جميعًا لإمكان القصاص (1) , وأبو حنيفة يرى طبقًا لرواية الحسن أنه لا قصاص فى الشجاج إلا فى الموضحة والسمحاق إن أمكن القصاص فى السمحاق، بينما ذكر محمد فى الأصل أن القصاص واجب فى الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية، لأن استيفاء المثل ممكن بقياس الجراحة طولاً وعمقًا (2) .
ومذهب الشافعى وأحمد على أنه لا قصاص فى غير الموضحة من الشجاج، لأن ما فوق الموضحة يتعذر فيه الاستيفاء على وجه المماثلة، لكنهما يريان أن للمجنى عليه الحق فى أن يقتص، وهى بعض حقه، لأن ما فوق الموضحة يزيد عليها فإذا اقتص موضحة فقط فقد أخذ بعض حقه، ويرى الشافعى أن للمجنى عليه مع ذلك أن يأخذ الفرق بين دية الموضحة ودية تلك الشجة، لأن تعذر
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص309.
(2/234)

القصاص على سبيل المماثلة ينقل حقة إلى البدل فيما لم يقتص منه، ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد هذا الرأى، ويرى البعض الآخر أن لا شئ له مع القصاص حتى لا يجتمع القصاص والدية فى عضو واحد.
أما ما قبل الموضحة من الشجاج فيرى الشافعى وأحمد أن لا قصاص فيها لأنها جراحات لا تنتهى إلى عظم فليس لها حد معلوم تؤمن معه الزيادة، ولا عبرة عندهما بقياس عمق الجرح، لأن الأخذ بهذه الفكرة يؤدى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقًا، لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيرًا، بحيث يكون عمق باضعته كعمق موضحة الشاج أو سمحاقه، ولأننا لم نعتبر فى الموضحة عمقها فكذلك يجب أن يكون الحال فى غيرها (1) .
* * *
رابعًا: القصاص فى الجراح
307- اختلف الفقهاء اختلافًا بينًا فى الجراح، فمالك يرى القصاص فى كل جراح الجسد ولو كانت منقلة أو هاشمة، أى ولو كانت مصحوبة بكسر فى العظام، لأنه يرى القصاص ممكنًا على وجه المماثلة، ولا يمنع القصاص إلا إذا عظم الخطر منه كما فى عظام الصدر والعنق والصلب والفخذ فإذا لم يكن هناك خطر أصلاً أو كان خطر لم يعظم فالقصاص واجب (2) , ولا قصاص فى الجائفة.
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الجراح أصلاً، سواء كانت جائفة أو غير جائفة حيث لا يمكن الاستيفاء فيها على وجه المماثلة، لكن إذا أدى الجرح للموت وجب فيه القصاص إن كان الجانى متعمدًا القتل لأن الجراحة تصبح بالسراية نفسًا (3) .
ويرى الشافعى وأحمد القصاص فى جراح الجسد إذا كان الجرح فى معنى
_________
(1) المهذب ج2 ص190 , الشرح الكبير ج9 ص460 , 463.
(2) مواهب الجليل ج6 ص246.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص310.
(2/235)

الموضحة أى إذا كان الجرح ينتهى إلى عظم كجروح الساعد والعضد والساق والفخد، فهذه يمكن المماثلة فيها فيجب فيها القصاص. ولكن بعض أصحاب الشافعى لا يرون القصاص فى جراح الجسد أيا كانت، وهو رأى مرجوح، وحجتهم أن موضحة الرأس لها أرش مقدر، أما جراح الجسد فلا، ورد عليهم بأن الأساس فى القصاص ليس الأرش وإنما قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] (1) .
وأساس اختلاف الفقهاء هو اختلاف التقدير، فمن رأى القصاص ممكنًا على وجه المماثلة فى معظم الجراح كمالك قال به، ومن رآه غير ممكن أصلاً كأبى حنيفة قال لا قصاص، ومن رآه ممكنًا فى الإيضاح فقط كالشافعى ومالك قال بالقصاص فيما أوضح العظم من الجراح فقط.
القصاص فى القسم الخامس
308- إذا لم يذهب الاعتداء بطرف أو بمعناه ولم يحدث شجة ولا جرحًا فلا قصاص طبقًا لرأى أغلب الفقهاء. فاللطمة والوكزة والوجأة وضربة السوط والعصا لا قصاص فيها إذا لم تترك أثرًا (2) .
ويستثنى مالك السوط، ويرى القصاص فى ضربة السوط ولو لم يحدث جرحًا أو شجة، ولكنه لا يرى القصاص فى اللطمة وضربة العصا إلا إذا تركت جرحًا أو شجة (3) ، ويرى شمس الدين بن قيم الجوزية - من فقهاء الحنابلة - القصاص فى اللطمة والضربة، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126] فأمر بالمماثلة فى العقوبة والقصاص، فالواجب أن يفعل بالمعتدى كما فعل فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه، ولا ريب أن اللطمة باللطمة والضربة بالضربة أقرب إلى المماثلة المأمور بها
_________
(1) المهذب ج2 ص190 , الشرح الكبير ج9 ص460.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص399.
(3) مواهب الجليل ج6 ص246 , 247 , المدونة ج16 ص239 , الإقناع ج4 ص190.
(2/236)

حسًا وشرعًا من التعزير بغير جنس اعتدائه وقدره وحقيقته. وقد استدل على صحة رأيه بأن أحمد بن حنبل قال بالقصاص من اللطمة والضربة، وأن أبا بكر وعثمان وعليًا وخالد ابن الوليد أقادوا من لطمة، وأن عمر بن عبد العزيز أقاد رجلاً صفعه آخر حتى سلح (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد القصاص من اللطمة إذا ذهبت بضوء العين (2) , ولكنهم لا يرون القصاص فى اللطمة وحدها.
استيفاء القصاص
309- مستحق القصاص: مستحق القصاص فيما دون النفس هو المجنى عليه دون غيره وله أن يستوفى القصاص إذا كان بالغًا عاقلاً، فإن لم يكن كذلك فيرى مالك وأبو حنيفة أن يقوم مقامه فى الاستيفاء الولى أو الوصي (3) , وهذا الرأى يأخذ به بعض الفقهاء فى مذهب أحمد.
ويرى الشافعى وأغلب الفقهاء فى مذهب أحمد أن الولى والوصى ليس لهما أن يستوفيا قصاصًا استحق للصغير أو المجنون، لأن القصاص للتشفى ولا يتوفر هذا المعنى فى قصاص الولى والوصى فينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون (4) .
ويعطى مالك للولى والوصى والقيم حق الاستيفاء فى النفس وفيما دونها، ويعطى أبو حنيفة للولى حق الاستيفاء فى النفس، وللولى والوصى والقَّيم حق الاستيفاء فيما دون النفس، ويعلل ذلك بأن تصرف الوصى لا يصدر عن كمال النظر والمصلحة فى حق الصغير لقصور فى الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب والجد ولذا لا يلى استيفاء القصاص فى النفس، أما ما دون النفس فيسلك بهما مسلك
_________
(1) أعلام الموقعين ج2 ص2 وما بعدها.
(2) المهذب ج2 ص199 , المغنى ج9 ص428.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص244 , مواهب الجليل ج6 ص252.
(4) الشرح الكبير ج9 ص383 , 384 , المهذب ج2 ص196.
(2/237)

الأموال، وللوصى ولاية استيفاء المال، فأخيرُ له أن يستوفى القصاص فيما دون النفس، لأنه فى حكم استيفاء المال (1) .
310- هل يحبس الجانى إذا أخر القصاص؟: ومن يرى تأخير القصاص حتى البلوغ أو إفاقة المجنون لا يرى حبس الجانى حتى البلوغ أو الإفاقة ما دامت الجناية على ما دون النفس، بل يطلق سراح الجانى، أما إذا كانت الجناية على النفس فيحبس الجانى، ويترتب على هذا أنه لو أطلق سراح الجانى ثم مات المجنى عليه بالسراية تعين حبس الجانى؛ لأن الجناية أصبحت نفسًا (2) .
311- مدى سلطة الولى والوصى: تتأثر سلطة الولى والوصى طبقًا لاختلاف وجهة نظر الفقهاء فى عينية القصاص، فمن رأى أن القصاص واجب عينًا وأن الدية لا تجب بتنازل المجنى عليه عن القصاص على الدية وإنما تجب برضاء المجنى عليه - من رأى هذا كمالك وأبى حنيفة منعا الولى والوصى من العفو؛ لأن العفو لا يكون إلا من صاحب الحق، والحق للصغير والمعتوه وليس لهما، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير وولايتهما مقيدة بالنظر للصغير، والعفو ضرر محض، لأنه إسقاط دون مقابل، وإنما يجوز للولى والوصى الصلح على القصاص مقابل مال بشرط أن لا يقل عن الدية أو الأرش، فإن صالحا على أقل من ذلك كان للصغير والمجنون الرجوع على الجانى بما نقص من الدية أو الأرش، ويقيد مالك الرجوع على الجانى بأن لا يكون معسرًا وقت الاتفاق، وإذا رجع المجنى عليه على الجانى لم يكن للجانى أن يرجع على الولى أو الوصى بما رجع عليه به المجنى عليه (3) .
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص229 , 230 , بدائع الصنائع ج7 ص244.
(2) الشرح الكبير ج9 ص385 , نهاية المحتاج ج7 ص284 , 288 , شرح الدردير ج4 ص220 , البحر الرائق ج8 ص299 , 300.
(3) نفس المراجع السابقة.
(2/238)

والشافعى وأحمد لا يريان أن للولى حق الاستيفاء ولا يجعلان للوصى أو القيم دخلاً فى هذا الحق، ولكنهما يعطيان الولى حق العفو عن القصاص إلى الدية، ولا يعطيانه حق العفو مجانًا، ولولى المجنون أن يعفو على المال عند البعض بالشرط السابق، وليس له العفو عند البعض لأن نفقته فى بيت المال (1)
312- هل يصح قصاص الصغير والمجنون؟: العلة فى منع الصغير والمجنون من الاستيفاء قبل البلوغ والإفاقة أن القصاص حق، وأن استعماله يقتضى الأهلية فيمن يستعمله، فإذا وثب الصغير أو المجنون بالجانى ففعلا به مثل ما فعل بهما، كأن كان الجانى قطع يد الصغير فقطع الصغير يده، فيرى البعض أنه يصير مستوفيًا لحقه لأن عين حقه أتلفه، فأشبه ما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها، فإن المودع لديه لا يسأل عن الوديعة. ويرى البعض أن لا يعتبر مستوفيًا لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ويعتبر جانيًا على الجانى، وعلى الأخير أن يؤدى للصغير أرش يده ويرجع على عاقلة الصغير بأرش يده هو لأن عمد الصغير خطأ (2) .
313- من يلى الاستيفاء؟: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس إلا بحضرة السلطان وتحت إشرافه، لأن القصاص فيما دون النفس يحتاج إلى الاجتهاد ويسهل فيه الحيف ولا يؤمن أن يحيف المقتص، فوجب أن يكون تحت إشراف السلطان.
ومذهب أبى حنيفة، وهو وجه فى مذهب أحمد، جواز الاستيفاء من المجنى عليه فيستوفى المجنى عليه لنفسه إن كان خبيرًا يحسن الاستيفاء، فإن لم يكن يحسنه وكل عنه من يحسنه، لأن القصاص حق له فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق، والمقصود من القصاص التشفى، وتمكين المجنى عليه من القصاص أبلغ فى التشفى، ولكن لما كان استعمال الحق يحتاج إلى خبرة خاصة
_________
(1) نهاية المحتاج ج8 ص284 , المهذب ج2 ص250 , الشرح الكبير ج9 ص385.
(2) الشرح الكبير ج9 ص386 , المهذب ج2 ص196.
(2/239)

فإن المجنى عليه لا يمكَّن منه إلا إذا توفرت فيه هذه الخبرة، فإن لم تتوفر وكَّل عنه خبيرًا بالقصاص، والقائلون بهذا الرأى فى مذهب أحمد لا يرون مانعًا من تعيين رجل بأجر من بيت المال يكون خبيرًا بالقصاص، مهمته أن يستوفى نيابة عن المجنى عليه من الدين لا يحسنون الاستيفاء (1) .
ويرى مالك والشافعى - ورأيهما وجه فى مذهب أحمد - أن المجنى عليه ليس له أن يستوفى فيما دون النفس بأى حال، سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفى أن يحيف على الجانى أو يجنى عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص فى النفس من يُحْسنُهُ من الخبراء، ويقول مالك فى ذلك: "أحب إلى أن يولّى الإمام على الجراح رجلين عدلين، فإن لم يجد إلا واحدًا فأرى ذلك مجزئًا إن كان عدلاً" وعلى هذا يصح أن يكون المستوفى موظفًا مخصصًا بمهمة القصاص فيما دون النفس (2) .
كيفية الاستيفاء فى الشجاج والجراح: ذكرنا أن الاستيفاء فى الشجاج والجراح يكون بالمساحة، فيراعى طول الجراح وعرضها عند الشافعى وأحمد ولا يراعى العمق، أما مالك وأبو حنيفة فيراعون العمق فوق مراعاة الطول والعرض. والفرق بينهما وبين الشافعى وأحمد: أن الأولين يقولان بالقصاص من الشجاج قبل الموضحة كلها أو بعضها، أما الأخيران فيقولان بالقصاص من الموضحة فقط، ولما كانت الموضحة هى التى توضح العظم أى تظهره، فليس هناك ما يدعو لقياس العمق، لأن حد الجراحة هو إيضاح العظم أى إظهاره، أما ما قبل الموضحة فليس له حد معين فى عمقه، فاشترط قياس عمق الجرح لتحقق التماثل بين فعل الجانى والمقتص. والقاعدة عند الشافعى وأحمد اعتبار كل العضو.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246 , الشرح الكبير ج9 ص398 , 399.
(2) مواهب الجليل ج6 ص253 , 254 , المهذب ج2 ص197 , الشرح الكبير ج9 ص399.
(2/240)

ولا يتقيد الشافعى وأحمد عند الاستيفاء بمكان الشجة والجراحة من العضو المصاب ما دام هذا المكان فى عضو الجانى لا يتسع للقصاص، ويعتبران عضو الجانى كله أعلاه وأسفله ووجهه وظهره محلاً للقصاص حتى تستوفى الجراحة المماثلة طولاً وعرضًا، ولكنهما يشترطان أن يبدأ من حيث بدأ الجانى إذا كانت الجراحة لا تأخذ كل العضو، وأن لا ينتقل القصاص من عضو إلى عضو آخر، فإذا لم يتسع عضو الجانى كله لمثل الجراحة التى بعضو المجنى عليه اكتفى بما اتسع له عضو الجانى فقط. وهذا لا يظهر إلا إذا كان عضو الجانى أصغر من عضو المجنى عليه أما إذا كانت مثله فالاستيفاء فى نفس المحل.
فمثلاً إذا كانت رأس الشاج أصغر من رأس المشجوج، وكانت الموضحة فى مقدم الرأس أو فى مؤخره أو قزعته وأمكن أن يستوفى قدرها فى موضعها من رأس الشاج لم يستوف فى غيرها. وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الشاج استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذى شجه فى مثله لأن الجميع رأس، فإن كانت فى مقدم الرأس فلم يتسع لها مقدم الرأس استوفى بقية الشجة فى جانب الرأس. وإن كان قدرها يزيد على كل رأس الجانى لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص فى غير العضو الذى جنى عله وهو الرأس. وإن أوضح الجانى كل رأس المجنى عليه، ورأس الجانى أكبر من رأس المجنى عليه، بدأ المجنى عليه بالقصاص من أى جانب شاء؛ لأن الرأس جميعها محل للجناية، وإن أراد أن يستوفى بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره، فهناك رأيان: رأى يقول بعدم جوازه لأنه يأخذ موضحين بموضحة، ورأى يقول بالجواز ما دام لا يجاوز قدر الجناية وموضعها وهو الرأس، إلا أن يقول أهل الخبرة إن فى ذلك زيادة ضرر أو شين.
أما إذا كان رأس الجانى هو الأكبر فللمجنى عليه أن يستوفى مثل شجته فى مكانها. وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (1) .
_________
(1) المهذب ج2 ص190 , المغنى ج9 ص414 وما بعدها , مواهب الجليل ج6 ص246 , شرح الدردير ج4 ص223.
(2/241)

أما أبو حنيفة فالقاعدة عنده أن الاستيفاء بحسب طول الشجة وعرضها ما أمكن بشرط أن لا يؤدى القصاص إلى إحداث شين الجانى أكثر من شين المجنى عليه، فإذا أخذت الشجة ما بين قرنى المشجوج وكانت تزيد على ما بين قرنى الشاج لصغر رأسه فليس للمشجوج أن يزيد على ما بين قرنى الشاج وله أن يأخذ الأرش إن شاء، وكذلك لو كانت الشجة لا تستوعب ما بين قرنى المشجوج فله أن يقتصها غير مستوعبة وإن شاء الأرش (1) .
كيفية القصاص فى الجراح: لا قصاص فى الجراح عند أبى حنيفة. ويرى أحمد والشافعى القصاص فيما أوضح العظام، أما مالك فيرى القصاص فى كل الجراح ما أمكن القصاص ما لم تكن مخوفة. والقاعدة التى أخذ بها مالك والشافعى وأحمد فى الشجاج هى قاعدتهم فى الجراح.
كيفية القصاص فى الأطراف: القاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن لا قصاص إلا من المفصل فى الأطراف، أما مالك فيجيز القصاص من غير مفصل لأنه يجيز القصاص من العظام. فإذا كان القطع من غير مفصل فلا قصاص إلا عند مالك، لكن الشافعى وأحمد لا يريان مانعًا من القصاص من أول مفصل داخل فى الجناية، ولا يرى ذلك أبو حنيفة.
314- كيفية الاستيفاء: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا يستوفى بآلة يخشى منها الزيادة ولو كانت هى الآلة المستعملة فى الجريمة، ولا يقاس الاستيفاء فى الجراح بالاستيفاء فى القتل لأن القتل اشترط فى استيفائه السيف، لأن السيف آلة القتل، وليس ثمة شئ يخشى التعدى إليه، فيجب أن يستوفى ما دون السيف بالآلة الملائمة للقصاص، ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه، ولقد
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص311.
(2/242)

منعنا القصاص كلية فيما تخشى الزيادة فى استيفائه، فلأن يمنع الآلة التى يخشى منها الزيادة أولى، فإن كان الجرح موضحة أو ما أشبهها فيقتص بالموسى أو بحديدة ماضية معدة لذلك، ولا يستوفى إلا من له علم كما قدمنا كالجراّح ومن فى حكمه، وإن كان على موضع الجراحة شعر حلق، ثم تقاس الشجة بخشبة أو بخيط ويعلم طولها، ويقاس مثلها فى رأس الشاج وتعلم بخط بسواد أو بغيره، ثم تؤخذ حديدة عرضها عرض الشجة فيضعها فى أول المكان المعلم بالسواد ثم يجرها إلى آخره، وإن كان الفعل قطعًا من مفصل قطع الجراح مفصل الجانى بأرفق وأسهل ما يقدر عليه. وهكذا يراعى فى الاستيفاء أن يكون بما يؤمن معه الحيف والتعذيب، وأن يكون بآلة ماضية معدة للاستيفاء، وأن يكون الاستيفاء من خبير يأتى به على أرفق وجه وأسهله (1) .
وكل ذلك إنما هو تطبيق لشرط التماثل وأخذًا بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولُيحدَّ أحدكم شفْرتَه وليُرحْ ذبيحتَه".
ولا يقتص من الجانى فى حر شديد ولا برد شديد، حتى لا يكون للقصاص أثر على الجسم غير عادى، ولا يقتص من الجانى وهو مريض حتى يشفى من مرضه، ويعتبر النفاس مرضًا حتى تنتهى أيامه، وإذا وجب الحد على ضعيف الجسم يخاف عليه من الموت سقط الحد ووجبت عليه الدية (2) .
ولا قصاص فيما دون النفس على حامل حتى تضع حملها ولو كان الحمل بعد الجناية (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص254 , بدائع الصنائع ج7 ص309 , المهذب ج2 ص199 , المغنى ج9 ص412
(2) مواهب الجليل ج6 ص235.
(3) المغنى ج9 ص449.
(2/243)

315- الاستيفاء عند تعدد المستحقين: إذا تعدد المستحقون وكان محل حق كل منهم غير محل الآخر فلكل منهم أن يستوفى حقه فى أى وقت يشاء، حيث لا يتوقف استيفاء حقه على استيفاء الآخرين.
أما إذا تعدد المستحقون لمحل واحد كأن قطع رجل يمنى رجلين، فإن محل القصاص للمجنى عليهما هو يمين الجانى. وحكم هذه الحالة عند مالك: أنه إذا حضر المجنى عليهما معًا أو حضر أحدهما وتغيب الآخر فإن يد الجانى تقطع وليس لهما شئ غير ذلك، وهذا تطبيق لنظريته، فإن القصاص واجب عينا، وإن حقهما تعلق بقطع يد الجانى، فإذا قطعت فقد انتهى حقهما (1) .
وتقول نظرية مالك: إنه إذا استحق أكثر من واحد القصاص من عضو اقتص من العضو ولو طلب أحدهم القصاص فقط ويسقط حق الباقين. وإذا استحق أكثر من واحد القصاص فى عضو واحد واختلفت حقوقهم بأن استحق أحدهم كل العضو واستحق بعضهم بعض العضو، كأن قطع لواحد السبابة اليمنى، وللثانى أصابعه، وللثالث يده من المعصم، وللرابع يده من المرفق، فكل هؤلاء يستحقون فى يد المرفق، فتقطع اليد من المرفق لهم جميعًا، ولا شئ لهم ما لم يكن الجانى قصد المثلة بهم فيقتص للأول فى السبابة، ثم تقطع بقية أصابعه، ثم تقطع اليد من المرفق.
ويرى أبو حنيفة أنهما إذا حضرا جميعًا فلهما أن يقطعا يمين الجانى ويأخذا منه دية يديهما نصفين لأنهما استويا فى سبب الاستحقاق، وقد وجب قطع اليد فى حق كل واحد منهما، فيستحق كل منهما قطع يده، ولا يحصل من كل منهما فى يد واحدة إلا قطع بعضها، فلم يستوف كل واحد مهما بالقطع إلا بعض حقه فيستوفى الباقى من الأرش.
وهذا الرأى تطبيق لنظرية أبى حنيفة فى وجوب القصاص عينًا، تلك
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص225 , مواهب الجليل ج6 ص248.
(2/244)

النظرية التى قيدها فى حالة زوال محل القصاص بحق فيما دون النفس (1) .
وتقول نظرية أبى حنيفة: إنه إذا تجمعت حقوق فى عضو وجب استيفاء حق كل واحد بالقدر الممكن، بغض النظر عن أسبقية الاستحقاق فإذا وجد مع ذلك حق أحد المستحقين ناقصًا خُيِّر بين القصاص والدية ولا شئ له إذا اقتص، وإذا لم يتمكن أحد المستحقين من القصاص فله الدية.
أما الشافعى فيرى أنه إذا قطع أكثر من واحد فيقتص منه للأول وللباقين الدية، وإن سقط حق الأول بعفو أو صلح مثلاً اقتص للثانى، وهكذا إذا اقتص الواحد بعينه تعين حق الباقين فى الدية، لأن القود فاتهم بغير رضاهم. وإذا قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال فلم يعرف من قطع الأول أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة اقتص له وتعين حق الباقين فى الدية (2) .
وحجة الشافعى أن الجانى إذا قطعت يده لأحد المستحقين صارت حقًا له، ولا يمكن أن تكون مع ذلك حقًا لغيره فوجبت الدية للغير، والشافعى يطبق هنا نظريته فى القتل.
أما أحمد فيطبق أيضًا نظريته فى القتل ويرى أن المجنى عليهم إذا اتفقوا على قطع الجانى قطع لهم جميعًا، ولا شئ لهم فوق ذلك، لأن حقهم فى القطع وقد رضوا به فإن أراد أحدهم القود وأراد الباقون الدية قطع لمن أراد القود وتعين حق الباقين فى الدية (3) .
وأساس نظرية الشافعى وأحمد أنه: إذا تجمعت حقوق فى طرف واحد استوفى الحقوق كلها بالقدر الممكن بشرط تقديم الأسبق فى الاستحقاق، وإذا وجد حق أحد المستحقين ناقصًا خير بين القصاص والدية، ولا شئ له إذا اقتص عند بعض فقهاء مذهب أحمد، وله أرش الناقص عند الشافعى وبعض الفقهاء،
_________
(1) المغنى ج9 ص449.
(2) المهذب ج2 ص195.
(3) الشرح الكبير ج9 ص413 , المغنى ج9 ص449.
(2/245)

وإذا لم يتمكن أحد المستحقين مع ذلك من القصاص فله الدية.
وإذا بادر أحدهم فقطعه فقد استوفى حقه ولا شئ للآخرين عند مالك، ولهم الدية عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد.
316- هل يمكن قطع أطراف الجانى قصاصًا؟: إذا استحقت كل أطراف الجانى قصاصًا اقتص منه فى جميعها بعكس ما عليه فى تنفيذ الحدود، فإذا قطع الجانى يدى رجل ورجليه قُطعت يداه ورجلاه لأنه المثل، ولأن استيفاء المثل ممكن. ولو قطع يمين رجل ويسار آخر قطعت يمينه لصاحب اليمين وقطعت يساره لصاحب اليسار؛ لأن هذا يحقق المماثلة. وهكذا يقطع من الجانى طرف بعد طرف كلما استحق ولم يكن ثمة مانع يمنع القصاص (1) .
317- إذا قطع إصبع شخص من المفصل من اليد اليمنى مثلاً ثم قطع اليمنى لشخص آخر - فيرى مالك أن تقطع اليد اليمنى فقط ولا يقطع الإصبع إلا إذا كان الجانى قد قصد المثلة فيقطع الإصبع ثم تقطع بعد ذلك اليد، وفى الحالين لا شئ للمجنى عليهما، لأن حقهما معلق بالقصاص دون غيره وقد اقتص من الجانى (2) .
ويرى أبو حنيفة أنهما إذا جاءا يطلبان القصاص مجتمعين يقتص أولاً فى الإصبع لأننا لو بدأنا بالقصاص فى اليد أبطلنا حق صاحب الإصبع فى القصاص، ولو بدئ بالإصبع لم يبطل حق صاحب اليد فى القصاص، لأنه يمكن من استيفائه مع النقصان ويخير صاحب اليد بين القصاص والدية، لأن الكف صارت معيبة بقطع الإصبع فوجد حقه ناقصًا فيثبت له الخيار كالأشل إذا قطع يد الصحيح. وإذا جاءا متفرقين فإن جاء صاحب الإصبع أولاً اقتص له حتى إذا جاء صاحب اليد خير على الوجه السابق، أما إذا جاء صاحب اليد أولاً اقتص له، لأن حقه ثابت فى اليد ولا يجوز منعه من استيفاء حقه لحق غائب يحتمل أن يحضر ويطالب ويحتمل أن لا يحضر ولا يطالب، فإن جاء
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص300.
(2) المواهب ج6 ص256 , شرح الدردير ج4 ص236.
(2/246)

صاحب الإصبع بعد ذلك أخذ الأرش لتعذر استيفاء القصاص (1) .
ويرى الشافعى وأحمد أنهما إذا حضرا معًا قدم فى القصاص صاحب الأسبقية فى الاستحقاق، فإن كان قطع الإصبع أسبق قطعت إصبعه قصاصًا، وخير صاحب اليد بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الإصبع لأنه وجد بعض حقه، فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود. ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد أن له القصاص فقط وليس له دية الإصبع كما هو مذهب أبى حنيفة؛ لأنه لا يجمع فى عضو واحد بين قصاص ودية، وإن كان قطع اليد سابقًا على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصًا ولصاحب الإصبع أرشها (2) . ويقاس على ما سبق ما لو قطع إصبع رجل من مفصل ثم قطع إصبع آخر من مفصلين ثم قطع إصبع ثالث كلها. وذلك كله فى إصبع واحدة كالسبابة مثلاً.
فعند مالك تقطع السبابة لهم جميعًا ولا شئ لهم إلا إذا كان الجانى قد قصد المثلة بهم فيقطع المفصل الأول للأول، والمفصل الثانى للثانى، والمفصل الثالث للثالث.
وعند أبى حنيفة إن جاءوا جميعًا يقطع المفصل الأعلى لصاحب المفصل الأعلى، ثم يخير صاحب المفصلين، إن شاء استوفى حقه قصاصًا من المفصل الأوسط ولا شئ له من الأرش، وإن شاء أخذ ثلثى دية إصبعه كاملة من مال القاطع. ويسلك أبو حنيفة هذه الطريقة لأن حق كل واحد من المجنى عليهم فى مثل ما قطع منه، فيجب إيفاء حقوقهم بقدر الإمكان وذلك فى البداية بما لا يسقط حق بعضهم، فالبداية بقطع المفصل الأعلى لا تسقط حق الآخرين فى القصاص أصلاً لإمكان استيفاء حقيهما من النقصان، ولكن البداية بالقصاص لصاحب الإصبع تسقط حق صاحب المفصل وصاحب المفصلين. أما إذا جاءوا متفرقين فإن جاء صاحب الإصبع أولاً قطعت له الإصبع، فإذا جاء الآخران فلهما أرش ما قطع منهما، وإن جاء صاحب المفصلين أولاً يقطع له المفصلان، ولصاحب المفصل الأعلى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص300 , 301.
(2) المهذب ج2 ص195 , 196 , الشرح الكبير ج9 ص412.
(2/247)

الأرش، ولصاحب الإصبع الخيار بين أن يقتص من المفصل الباقى ولا شئ له، وإن شاء أخذ دية الإصبع. وإذا جاء صاحب المفصل أولاً فهو كما لو جاءوا معًا (1) .
أما الشافعى وأحمد فعندهما يقتص أولاً لمن جنى عليه أولاً، فإن كان صاحب الإصبع هو الذى جنى عليه أولاً اقتص له وللآخرين الأرش فيما قطع منهما، وإن قطع صاحب المفصلين أولاً اقتص له ولصاحب المفصل أرش ما قطع منه، وخُيِّر صاحب الإصبع بين أن يقتص فى المفصل الباقى ويأخذ أرش مفصليه عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد أو يقتص فقط ولا شئ كما يرى بعض فقهاء مذهب أحمد وبين أن يأخذ دية إصبعه كاملة. وإذا قطع صاحب المفصل أولاً اقتص له، فإذا كان صاحب الإصبع هو الثانى خُير على الوجه السابق، فإن اقتص تعين حق صاحب المفصلين فى الدية، وإن أخذ الدية ولم يقتص خير صاحب المفصلين بين أن يقتص من مفصل واحد على الوجه السابق وما فيه من خلاف وبين أخذ الدية، وإن كان صاحب المفصلين هو الثانى فى القطع خير بين القصاص والدية ثم خير بعده صاحب الإصبع (2) .
ويقاس على ما سبق قطع اليد اليمنى لشخص من المعصم وقطع نفس اليد لآخر من المرفق.
318- تكرر أفعال الجانى: وإذا قطع المفصل الأعلى من سبابة رجل ثم عاد فقطع المفصل الثانى منها، فيرى مالك القصاص من المفصل الثانى إلا إذا كان الجانى يقصد المثلة فيقطع المفصلان واحدًا بعد واحد (3) .
ويرى أبو حنيفة القصاص فى المفصل الأول ولا قصاص عنده فى المفصل الثانى وعليه أرشه، وكذلك الحكم عنده لو قطع إصبع رجل ثم قطع كفه بعد ذلك، أو لو قطع الكف ثم قطع الساعد، فعليه القصاص فيما قطعه أولاً فقط،
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص301.
(2) المغنى ج9 ص457 , 458 , المهذب ج2 ص196.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص236 , بدائع الصنائع ج7 ص301.
(2/248)

وحجة أبى حنيفة أنه حين القطع الأول كان هناك تماثل بين المجنى عليه والجانى، أما فى القطع الثانى فلم يكن التماثل متحققًا لأن المجنى عليه كان مقطوعًا والجانى سليمًا. ولكن محمدًا وأبا يوسف يفرقان بين ما إذا كان القطع الثانى قبل بُرء الأول أو بعد البرء، فإن كان قبل البرء فالفعلان جناية واحدة والقصاص من القطع الثانى، وإن كانت بعد البرء فهما جنايتان متفرقتان ويجب القصاص فى الأولى دون الثانية (1) .
والقياس عند الشافعى وأحمد يؤدى إلى مثل رأى أبى يوسف ومحمد، أما إذا كان القطع الثانى بعد القصاص من قطع المفصل الأول، فالمماثلة متوفرة والقصاص فى الثانى لا خلاف فيه.
وإذا قطع غيره المفصل الأعلى، ثم جاء الجانى فقطع المفصل الثانى، فلا قصاص فى المفصل الثانى اتفاقًا لانعدام المساواة بين إصبع القاطع الثانى والمقطوع (2) .
وإذا قطع الجانى نصف المفصل الأعلى ثم عاد فقطع النصف الثانى لهذا المفصل فإن كان القطع الثانى بعد برء الأول، فهما جنايتان مستقلتان، ولا قصاص فيهما عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد حيث لا قصاص عندهم فى غير مفصل، أما عند مالك فعليه القصاص فى الجنايتين لأن القصاص فى العظام عنده واجب إذا كان ممكنًا وغير مخوف، وإذا كان القطع الثانى قبل برء الأول فعند مالك القصاص من القطع الثانى فقط ما لم يكن الجانى قد قصد المثلة فيقتص من القطعين. وعند أبى حنيفة أيضًا يقتص من القطع الثاني؛ لأن الفعلين يعتبران جناية واحدة، والقطع الثانى من مفصل. وليس فى مذهب الشافعى وأحمد ما يخالف رأى أبى حنيفة (3) .
وإذا قطع من رجل يمينه من المفصل فاقتص منه ثم إن أحدهما بعد ذلك
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص301.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص301.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص302.
(2/249)

قطع من الآخر الذراع من المرفق، فلا يرى أبو حنيفة القصاص، لأن القصاص فيما دون النفس عنده يقتضى المساواة فى الأرش، لأنه يسلك بما دون النفس مسلك الأموال، وفى هذه الحالة لا يعرف التساوى، لأن الذراع ليس له أرش مقدر. ويخالفه أبو يوسف وزفر ويقولان بالقصاص؛ للتساوى والمماثلة ولأن القطع من مفصل (1) .
وعند مالك والشافعى وأحمد القياس يقتضى القصاص، لأنهم لا يسلكون بالأطراف مسلك الأموال، ولا يشترطون التساوى فى الأرش.
319- التداخل: معنى التداخل هو أن يدخل قصاص تحت آخر ويعتبر منفذًا بتنفيذ هذا الآخر. فلو قطع الجانى يد رجل ثم قتله، فيرى مالك أن القصاص فى الطرف يدخل فى القصاص فى النفس، فلا يقتص فى الطرف اكتفاء بالقصاص فى النفس، إلا إذا كان الجانى قد قطع بقصد المثلة ففى هذه الحالة فقط يقتص من الطرف قبل القصاص من النفس (2) .
ويرى أبو حنيفة والشافعى أن اليد لا تدخل فى النفس سواء كان القتل بعد البرء القطع أو قبله، ولولى الخيار إن شاء قطع يده ثم قتله وإن شاء اكتفى بالقتل. ويرى أبو يوسف ومحمد أن اليد تدخل فى النفس إذا كان القطع قبل البرء؛ لأن الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها البرء لا حكم لها مع الجناية على النفس، بل يدخل ما دون النفس فى النفس، أما إذا برئ القطع قبل القتل فلا تدخل اليد فى النفس لأن حكمها استقر قبل القتل (3) .
وفى مذهب أحمد اتفاق على أن القطع إذا برئ قبل القتل فلا يدخل ما دون النفس فى النفس، أما إذا كان القتل قبل برء القطع فقد اختلفوا، ففريق يرى
_________
(1) نفس المرجع السابق.
(2) شرح الدردير ج4 ص236.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص195.
(2/250)

دخول ما دون النفس فى النفس، وفريق يرى أنه لا يدخل.
وإن قطع يد رجل وقتل آخر، فعند مالك يندرج الطرف فى النفس، فيقتل فقط ولا تقطع يده.
وعند أبى حنيفة والشافعى وأحمد تقطع يده أولاً سواء تقدم القطع أو تأخر لأن تقديم القتل يسقط من المقطوع، وإذا تقدم القطع لم يسقط حق المقتول. والقاعدة أنه إذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما (1) . وإذا كان أحد الفعلين عمدًا والثانى خطأ فلا تداخل، واعتبر كلا منهما بحكمه، سواء كان الثانى بعد برء الأول أو قبله، لأنهما جنايتان مختلفتان، فلا يحتملان التداخل، ويعطى لكل جناية حكمها، ففى العمد القصاص، وفى الخطأ الدية (2) .
أما إذا كان الفعلان خطأ أو شبه عمد، فيفرق الفقهاء بين ما إذا كان القتل بعد برء القطع أم قبله، ويدخلون الأطراف فى النفس إذا كان القتل قبل البرء، ولا يدخلون الأطراف فى النفس إذا كان القتل بعد البرء، فمن قطع يد شخص ثم قتله قبل البرء أُلزم بدية واحدة، ومن قطع شخصًا ثم قتله بعد برء القطع ألزم بأرش اليد ودية النفس، ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أن الطرف لا يدخل فى النفس سواء كان القتل بعد البرء أو قبله، لأن الجناية على الطرف انقطعت سرايتها بالقتل، فلا يسقط ضمانها كما لو اندملت. ولكنه رأى مرجوح فى المذهب (3) .
وإذا تعدد الجناة فقطع أحدهم يده مثلاً والثانى رجله ثم قتله ثالث، فلا يدخل ما دون النفس فى النفس كيفما كان بعد البرء أو قبله، لأن التداخل أساسه أن يكون الفاعل واحدًا.
_________
(1) المغنى ج9 ص396 , وتراجع ص386.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص303.
(3) شرح الدردير ج4 ص6 , المغنى ج9 ص387 , المهذب ج2 ص225.
(2/251)

320- السراية: السراية هى أثر الجرح فى النفس أو فى عضو آخر، فإن لم يؤثر الجرح على النفس أو عضو آخر غير محله فلا سراية، وإذا سرى الجرح إلى النفس قيل إن هناك سراية النفس، وهو ما نسميه إفضاء للموت. وإذا سرى إلى عضو آخر قيل إن الجرح سرى إلى عضو آخر، والسراية إما أن تكون من فعل مأذون فيه أو مباح أو من فعل محرم.
321- السراية إلى النفس من فعل محرم: إذا جنى على ما دون النفس فسرى إلى النفس فهو قاتل متعمد عليه القصاص إن كان متعمدًا القتل، لأنه لما سرى بطل حكم ما دون النفس وتبين أن الفعل وقع قتلاً من حين وجوده، وإذا لم يكن متعمدًا القتل فلا قصاص؛ لأن الفعل قتل شبه عمد، ولا قصاص فى شبه العمد.
322- السراية إلى النفس من فعل مباح أو مأذون فيه: هناك أفعال مأذون فيها وأفعال مباحة، فلو أتى الإنسان فعلاً من هذه الأفعال فسرى إلى النفس، فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان المأذون فيه أو المباح النفس أو ما دونها، فإن كانت النفس مباحة كالمهدر دمه أو مأذونًا فى إتلافها كالمحكوم عليه بالقتل قصاصًا فلا عقوبة على الجرح إذا سرى إلى النفس ولا عقوبة عليه من باب أولى إذا لم يسر للنفس، وهذا مسلم به من الجميع، إلا أنهم اختلفوا فى حالة ما إذا استحق شخص قتلاً قصاصًا على آخر، فقطع يده ثم عفا عنه بعد ذلك، فرأى مالك وأبى حنيفة أن العافى مسئول عن قطع اليد، ورأى الشافعى وأحمد ومعهما أبو يوسف ومحمد أن لا مسئولية عليه، وقد بينا أدلة الفريقين من قبل فى العفو عن النفس.
أما إذا كان المباح أو المأذون فيه هو ما دون النفس، كقطع يد السارق أو قطع عضو من الجانى قصاصًا أو تأديب الزوجة والابن والتلميذ، فقد اختلف نظر الفقهاء فى مسئولية الجانى، وسنبين فيما يأتى تفصيل ذلك.
(2/252)

تكلمنا فيما سبق على استعمال الحق وأداء الواجب فلا يفيد القول فيه، وبقى بعد ذلك أن نتكلم على سراية القود.
323- سراية القود: إذا اقتص شخص من طرف الجانى فسرى القصاص إلى نفس الجانى ومات فلا مسئولية على المقتص عند مالك والشافعى وأحمد، لأن السراية من فعل مأذون فيه ولا عقوبة عليه وما تولد عن المأذون فيه يعتبر مأذونًا فيه ضمنًا فلا عقاب عليه، وبذلك قضى عمر وعلى رضى الله عنهما، فعندهما أن من مات من حد أو قصاص لا دية له. وشأن القصاص شأن الحد فى السرقة، فإنه قطع مستحق مقدر، فإذا لم تضمن سرايته فى السرقة فلا تضمين فى القصاص.
ويرى أبو حنيفة أن من قطع طرف آخر قصاصًا فمات من ذلك ضمن ديته لأنه استوفى غير حقه إذ حقه القطع، وهو قد أتى بالقتل، لأن القتل اسم لفعل يؤثر فى فوات الحياة عادة وقد وجد، وكأن القياس أنه يجب القصاص، إلا أنه سقط للشبهة الناشئة عن استحقاق الطرف فدرئ القصاص ووجبت الدية. ويرى أبو حنيفة أن الأمر فى إقامة حد السرقة لا يختلف عن هذه الحالة إلا أن الضرورة إلى عدم إيجاب الضمان على الإمام؛ لأن إقامة الحد واجب عليه، والتحرز عن السراية ليس فى وسعه، فلو أوجب عليه الضمان لامتنع الأئمة عن إقامة الحدود، وفى تعطيل الحدود إخلال بالنظام العام، أما القطع قصاصًا فليس بواجب على مستحق القصاص دائمًا لأنه حقه وهو حر بالخيار فيه، إن شاء قطع وإن شاء عفا، والأولى به العفو لأن الله قد ندب إليه، فليس ثمة ضرورة توجب إسقاط الضمان. ويرى أبو يوسف ومحمد أن لا ضمان على المقتص (1) .
324- السراية إلى ما دون النفس: إذا كان الفعل مباحًا أو مأذونًا فيه فسرى إلى ما دون النفس، كأن قطع إصبعًا قصاصًا فشُلَّت اليد، أو ضرب زوجته
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص473 , بدائع الصنائع ج7 ص305 , المهذب ج2 ص202.
(2/253)

على ذراعها فأتلفه، فالحكم هو ما ذكر فى السراية إلى النفس على الاختلاف والوفاق الذى ذكر من قبل.
أما إذا كان الفعل غير مباح ولا مأذون فيه، فيفرق بين ما إذا كانت السراية لمعنًى أو لعضو.
325- السراية لمعنى: إذا كان الاعتداء على طرف فسرى إلى طرف آخر فأذهب معناه مع بقاء الطرف الآخر سليمًا، فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان فعل الجانى يجوز فيه القصاص أو لا يجوز.
فإذا كان يجوز فيه القصاص كما لو شجه مُوضحة فأذهب بصره، فيرى مالك والشافعى وأحمد (1) أن يقتص من الشجة فإن ذهب البصر بالقصاص من الشجة فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإن لم يذهب عولج علميًا بما يزيل الإبصار دون جناية على الحدقة، فإن لم يزل الإبصار مع ذلك ففيه الدية.
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الشجة ولا فى البصر وفيهما الأرش، ويرى محمد وأبو يوسف القصاص فى الموضحة والدية فى الإبصار. وهناك رواية أخرى عن محمد عن ابن سماعة فى نوادره بأن القصاص يجب فى الفعل والمعنى كلما أمكن القصاص فى المعنى فإن لم يكن القصاص فى المعنى ممكنًا اقتص من الفعل فقط وفى المعنى الدية، وحجته أن السراية تولدت من جناية يقتص فيها إلى عضو يمكن فيه القصاص، فوجب القصاص كما إذا سرى إلى النفس، أما حجة أبى يوسف فى عدم القصاص من المعنى بأن تلف المعنى حدث من طريق التسبب ولى بالسراية، لأن الشجة تبقى بعد ذهاب البصر، وحدوث السراية يوجب تغيير الجناية، كالقطع إذا سرى إلى النفس فإنه لا يبقى قطعًا بل يعتبر قتلاً، وهنا الشجة لم تتغير فدل ذلك على أن ذهاب البر ليس من طريق السراية بل من طريق التسبب، والجناية بالتسبب لا توجب القصاص (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص248 , نهاية المحتاج ج7 ص272 , المغنى ج9 ص430.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص307.
(2/254)

أما إذا كان ذهاب المعنى بإصابة لا قصاص فيها فيقتص من المعنى دون الفعل بطريقة علمية لأنه لا قصاص فى الفعل، فإن زال فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإلا أخذ أرش الفعل والمعنى. وهذا رأى مالك والشافعى وأحمد.
أما أبو حنيفة وأصحابه فلا يرون القصاص اتفاقًا ما دام الفعل لا يقتص منه.
326- السراية لعضو: يختلف الحكم فى السراية لعضو بحسب ما إذا كانت الجناية مما يقتص فيه أو مما لا يقتص فيه، فإن كانت الجناية مما لا يقتص فيه فلا قصاص فى الجناية ولا فى سرايتها وفيهما الدية أو الأرش باتفاق. وإن كانت الجناية مما يقتص فيه فقد اختلف الفقهاء فى ذلك، فيرى مالك والشافعى أن القصاص فى الجناية فقط لا فيما سرت إليه، فإن أدى القصاص إلى مثل ما أدت إليه الجناية فقد استوفى المجنى عليه حقه، وإن لم يحصل فى الجانى مثل ما حصل فى المجنى عله فدية ما سرت إليه الجناية فى مال الجانى، فمثلاً إذا قطع إصبع رجل فتآكل منه الكف وجب القصاص فى الإصبع فقط لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب فى الكف لأنه يباشره بالإتلاف (1) .
ويرى أحمد القصاص فيما سرت إليه الجناية كلما كانت السراية إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة مثل أن يقطع إصبعًا فتتآكل أخرى وتسقط أو تتآكل الكف وتسقط فالإصبع الأخرى التى سرت إليها الجناية والكف التى سرت إليها الجناية كلاهما يمكن مباشرته بالإتلاف فيقتص فيهما لذلك. وحجة أحمد فى ذلك أن ما وجب فيه القود بالجناية يجب بالسراية كما هو الحال فى النفس حيث يقتص من النفس فى حالة السراية إليها إذا كان الفعل الأصلى الجرح أو القطع مما يجب فيه القصاص، فإذا سرت الجناية إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة فالقصاص فى الجناية دون السراية، كمن قطع إصبعًا فشُلَّت الكف أو شل بجواره إصبع آخر فالشلل لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة
_________
(1) المهذب ج2 ص14 , مواهب الجليل ج6 ص248 , شرح الدردير ج4 ص225.
(2/255)

فامتنع فيه القصاص ووجبت الدية فيما حدث فيه الشلل (1) .
أما أبو حنيفة فالقاعدة عنده أن الجناية إذا حصلت فى عضو فسرت إلى عضو آخر والعضو الآخر لا قصاص فيه فلا قصاص فى العضو الأول أيضًا، فإذا قطع إصبعًا من يد رجل فشلت الكف فلا قصاص فيهما وعليه دية اليد؛ لأن الموجود من القاطع قطع مثل للكف ولا يمكن الإتيان بمثله على وجه المماثلة فيمتنع القصاص (2) .
وفضلاً عن هذا فإن الجناية واحدة فلا يجوز أن يجب بها ضمانان مختلفان، هما القصاص والمال، خصوصًا عند اتحاد المحل لأن الكف مع الإصبع بمنزلة عضو واحد.
وكذلك الحكم لو قطع مفصلاً من إصبع فشل ما بقى أو شلت الكف، فإن قال المقطوع أنا أقطع المفصل وأترك الباقى فليس له ذلك لأن الجناية وقعت غير موجبة القصاص من الأصل؛ لأن القطع جاء قطعًا مشلاً للكف والاستيفاء على وجه المماثلة غير ممكن فيمتنع القصاص. ومثل ذلك ما لو شجه فقتله فليس له أن يقتص منها موضحة ويترك الباقى [هذا جائز عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد] .
ويتفق أبو حنيفة فيما سبق مع أصحابه إلا أنهم اختلفوا فى الحالات التى يمكن القول فيها بأن المحل متعدد لا متحد. فمثلاً إذا قطع إصبعًا فشلت إلى جنبها أخرى، فأبو حنيفة لا يرى القصاص تطبيقًا للقاعدة التى سلفت، ولأنه يرى أن المحل متحد.
أما أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن فيرون القصاص فى الأولى والأرش فى الثانية؛ لأن المحل متعدد والفعل يتعدد بتعدد المحل حكمًا وإن كان متحدًا حقيقة لتعدد أثره وهنا تعدد الأثر فيجعل فعلين ويفرد كل واحد منهما بحكمه، ففى الأول القصاص وفى الثانية الدية.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص470 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص306 , 307.
(2/256)

وإذا قطع إصبعًا فسقطت إلى جنبها أخرى فلا قصاص عند أبى حنيفة، وعند أبى يوسف ومحمد القصاص فى الأولى أى فيما قطع والدية فيما سقط. بل إن محمدًا يرى - من رواية ابن سماعة - القصاص من الاثنين، لأن القاعدة عند محمد طبقًا لهذه الرواية أن الجراحة التى فيها القصاص إذا تولد عنها ما يمكن فيه القصاص وجب القصاص فيها جميعًا، وهنا يمكن القصاص من محل السراية المتولد من الجناية.
وإذا قطع إصبعًا عمدًا فسقطت معه الكف من المفصل فلا قصاص عند أبى حنيفة؛ لأن اسيفاء المثل وهو القطع المسقط للكف متعذر ولأن الكف مع الإصبع عضو واحد فكانت الجناية واحدة حقيقة وحكمًا وقد تعلق بها ضمان المال فلا يتعلق بها القصاص لأنه لا يجتمع ضمانان مختلفان بجناية واحدة. ويرى محمد القصاص للأسباب التى سبق بيانها. ويرى أبو يوسف القصاص فتقطع يده من المفصل، والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة عند أبى يوسف أن الإصبع جزء من الكف والسراية تتحقق من الجزء إلى محله كما تتحقق من اليد للنفس والإصبعان عضوان مفردان ليس أحدهما جزء الآخر فلا تتحقق السراية من أحدهما للآخر، فوجب القصاص من الأولى دون الثانية (1) .
* * *
سقوط القصاص
327- يسقط القصاص فيما دون النفس لثلاثة أسباب هى: فوات محل القصاص - العفو - الصلح.
328- فوات محل القصاص: محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية، فإذا فات محل القصاص لأى سبب كمرض أو آفة أو باعتداء أو نتيجة استيفاء حق أو عقوبة سقط القصاص؛ لأن محله انعدام ولا يتصور وجود الشئ مع انعدام محله. وإذا سقط القصاص لم يجب للمجنى عليه شئ عند مالك أيًا كان سبب السقوط؛ لأن حق المجنى عليه فى القصاص عينًا فإذا سقط القصاص فقد
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص307.
(2/257)

سقط حق المجنى عليه. وهذا تطبيق دقيق لنظرية مالك من أن موجب العمد هو القصاص عينًا وللمجنى عليه عند مالك إذا ذهبت الجارحة ظلمًا أن يقتص من قاطعها ظلمًا لأن حقه فى القصاص ينتقل من المقطوع ظلمًا إلى قاطعه (1) .
وأما أبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عينًا - فيفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلمًا، وبين فواته بحق تنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص، وفى الحالة الأولى لا يجب للمجنى عليه شئ، أما فى الحالة الثانية فيجب له الدية بدلاً من القصاص لأن الجانى قضى بالطرف أو الجارحة التى فاتت حقًا مستحقًا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ أو غيره (2) .
وعند الشافعى وأحمد للمجنى عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أيًا كان سبب ذهاب محل القصاص؛ لأن موجب العمد أحد شيئين غير عين القصاص فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجبًا.
329- العفو: العفو عن القصاص عند الشافعى وأحمد هو التنازل عن القصاص مجانًا أو على الدية، وهو فى الحالين إسقاط من جانب المجنى عليه لا يحتاج إلى رضاء الجانى، ويعتبر المتنازل عن القصاص مجانًا عافيًا والمتنازل عن القصاص على الدية عافيًا أيضًا؛ لأن لكليهما يسقط حقًا دون مقابل ممن أسقط له الحق، وهذا تطبيق لنظرية الشافعى وأحمد فى أن موجب العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فمن تنازل عن القصاص مجانًا فقد تنازل عن حق له، ومن تنازل عن القصاص دون الدية فقد تنازل عن حق وتمسك بحق.
والعفو عند مالك وأبى حنيفة هو إسقاط القصاص مجانًا، أما التنازل على الدية فليس عفوًا عندهما، وإنما هو صلح لأنه يتوقف بحسب نظريتهما على رضاء الجانى بدفع الدية؛ لأنهما يريان أن الواجب هو القصاص عينًا.
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص213.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص246 , 298.
(2/258)

330- من يملك العفو؟: يملك حق العفو المجنى عليه البالغ العاقل، فإذا لم يكن بالغًا أو عاقلاً ملكه وليه عند الشافعى وأحمد، أما عند مالك وأبى حنيفة فلا يملكه الولى ولا الوصى، وإنما يملكان حق الصلح فقط، وسلطة الولى عند الشافعى مقيدة بأن يعفو على الدية بشروط تكلمنا عنها سابقًا.
أما المجنى عليه البالغ العاقل فله أن يعفو مجانًا أو يعفو على الدية.
331- وإذا عفا المجنى عليه عن القصاص، أو عفا وليه على الدية عند الشافعى وأحمد فقد سقط القصاص بالعفو إذا برأ المجنى عليه من جراحة دون أن تسرى إلى عضو آخر، فإن سرت إلى عضو آخر كأن قطع إصبعه فعفا عنه ثم سرى الجرح إلى اليد فأتلفها، فيرى أبو حنيفة أن العفو صحيح سواء عن الجرح أو الجرح وما يحدث منه؛ لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها، أما الشافعى وأحمد فيفرقان بين ما إذا كان العفو شاملاً للجناية وما يحدث منها وفى هذه الحالة يصح العفو، وبين ما إذا كان العفو قاصرًا على الجرح فقط، ففى هذه الحالة يكون الجانى مسئولاً عن السراية، ولكن لا يقتص منه لأن القصاص فى الإصبع سقط بالعفو، ولا يجب فى الكف لأنها تلفت بالسراية مما يمتنع القصاص فيه، فإن كان العفو على الدية وجبت الدية فى اليد كلها، وإن كان العفو مجانًا وجبت الدية أو الأرش فيما سرت الجناية إليه فقط. والظاهر أن هذا هو الحكم عند مالك (1) .
* * *
الصلح
332- يجوز للمجنى عليه ولوليه ووصيه - إن كان غير بالغ أو غير عاقل - الصلح على القصاص بمقابل قد يساوى الدية وقد يزيد عليها، وليس للولى أو الوصى أن يصالح على أقل من الدية فإن صالح على أقل منها صح الصلح وسقط
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246 , المهذب ج2 ص212 , المغنى ج9 ص472 , مواهب الجليل ج5 ص86 , 87 , شرح الدردير ج4 ص235.
(2/259)

القصاص، ولكن للمجنى عليه أن يرجع على الجانى بما نقص عن الدية، ويشترط مالك للرجوع أن يكون الجانى معسرًا وقت الصلح.
وقد تكلمنا عن الصلح والفرق بينه وبين العفو ومن يملكه وشروطه وفصلنا الكلام فى هذا كله بمناسبة الكلام على الصلح على القصاص فى القتل العمد، وما قلناه هناك ينطبق هنا فليراجع.
* * *
العقوبات الأصلية الثانية
التعزير

333 - يرى مالك أن يعزر الجانى على ما دون النفس عمدًا سواء اقتص منه أم لم يقتص لدرء القصاص أو للعفو أو الصلح، على أن يراعى فى التعزير أن يختلف بحسب الأحوال، فمن اقتص منه عُزِّز بعقوبة مناسبة يراعى فى تقديرها أنه عوقب بعقوبة القصاص، ومن لم يقتص منه يعزر تعزيرًا شديدًا يردعه عن ارتكاب جريمته فى المستقبل. ويقرر مالك أنه يجب التعزير مع القصاص للردع والزجر ولتناهى الناس عن ارتكاب الجريمة، وأن الجانى إذا كان اقتص منه بمثل ما فعل فى المجنى عليه إلا أن هذا لا يمنع من تعزيره لأنه ظالم والظالم أحق أن يحمل عليه.
ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن لا تعزير مع القصاص؛ لأن الله قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ، فجعل العقوبة القصاص دون غيره فمن فرض غيرها فقد زاد على النص. وهذا ما يراه بعض الفقهاء فى مذهب مالك (1) .
ويلوح أن الرأى الأخير أقرب إلى المنطق لأنه إذا كانت عقوبة القصاص تعجز عن ردع الجانى فلا شك أن عقوبة التعزير أعجز عن ردعه وتهذيبه.
334- وإذا كان الأئمة الثلاثة لا يوافقون على جعل التعزير عقوبة أصلية فليس عندهم ما يمنع من جعل التعزير عقوبة بدلية فى حالة سقوط القصاص أو
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص247 , شرح الدردير ج4 ص324.
(2/260)

امتناعه لسبب من الأسباب إذا رأى أولياء الأمر ذلك، فيقضى بالتعزير سواء حلت الدية محل القصاص أو عفى عن الدية.
أما تقدير عقوبة التعزير وبيان نوعها فهذا متروك للسلطة التشريعية المختصة تختار نوع العقوبة وقدرها، أو تترك للقاضى يختار العقوبة من بين العقوبات التعزيرية المحددة، أو التى تحددها له.
* * *
العقوبات البدلية
أولاً: الدية
335- الدية: هى العقوبة البدلية الأولى لعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص لسبب من أسباب الامتناع أو سقط لسبب من أسباب السقوط وجبت الدية ما لم يعف الجانى عنها أيضًا.
336- والدية كعقوبة لما دون النفس تكون عقوبة بدلية إذا حلت محل القصاص وهو عقوبة الجناية على ما دون النفس عمدًا. وتكون الدية عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد لا عمدًا محضًا. وقد بينا من قبل أن الشافعى وأحمد يقولان بشبه العمد فيما دون النفس.
337- والدية سواء أكانت عقوبة أصلية أو تبعية يقصد منها - إذا أطلقت - الدية الكاملة وهى مائة من الإبل، أما ما هو أقل من الدية الكاملة فيطلق عليه لفظ الأرْش، على أن الكثيرين يستعملون لفظ الدية فيما يجب أن يستعمل فيه لفظ الأرش.
338- والأرش على نوعين: أرش مقدر وأرش غير مقدر، فالأول هو ما حدد الشارع مقداره كأرش اليد والرجل، والثانى هو ما لم يرد فيه نص وترك للقاضى تقديره، ويسمى هذا النوع من الأرش حكومة.
339- وتجب الدية بتفويت مصلحة الجنس على الكمال: كإتلاف اليدين، ففى إتلافهما تفويت لمنفعة الجنس على الكمال، أما الأرش فيجب فى تفويت
(2/261)

بعض منفعة الجنس دون بعضها الآخر كإتلاف يد واحدة أو إصبع واحدة، ففى اليد الأرش وفى الإصبع الأرش.
340- ما تجب فيه الدية الكاملة: تجب الدية الكاملة بتفويت منفعة الجنس وتفويت الجمال على الكمال، وهى تفوت بإبانة كل الأعضاء التى من جنس واحد أو بإذهاب معانيها مع بقاء صورتها، والأعضاء التى تجب فيها الدية أربعة أنواع: نوع لا نظير له فى البدن، ونوع فى البدن منه اثنان، ونوع فى البدن منه أربعة، ونوع فى البدن منه عشرة. وقد اختلف الفقهاء فى تحديد الأعضاء التى تدخل تحت هذه الأنواع ولكنه اختلاف محدود، وسنذكر ما تفق عليه وما اختلف فيه، وسنبين فيما بعد وجوه الاختلاف.
النوع الأول: ما لا نظير له فى البدن ويدخل تحته الأعضاء الآتية:
الأنف، اللسان، الذكر، الصلب، مسلك البول، مسلك الغائط، الجلد، شعر الرأس، شعر اللحية.
النوع الثانى: الأعضاء النى فى البدن منها اثنان وهى:
اليدان، الرجلان، العينان، الأذنان، الشفتان، الحاجبان، الثديان، الأنثيان، الشفران، الإليتان، اللحيان.
النوع الثالث: ما فى البدن منه أربعه وهو:
أشفار العينين - أى منابت الأهداب - الأهداب نفسها وهى الأشعار.
النوع الرابع: ما فى البدن منه عشرة وهو:
أصابع اليدين - أصابع الرجلين.
341- والمعانى تجب فى ذهابها الدية الكاملة، ومثلها: العقل والبصر والشم والسمع والذوق والجماع والإيلاد والمشى والبطش والكلام، وسنتكلم عن
(2/262)

المعانى بعد الكلام عن الأعضاء؛ فنستوفى الكلام عن إبانة الأعضاء ثم نتكلم عن إذهاب المعانى.
342- الأنف: تجب الدية فى مارن الأنف وهو ما لان من الأنف، لما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فى الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية" ولأنه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة، والأخشم كالأشم فى وجوب الدية لأن عدم الشم نقص فى خير الأنف فلا يؤثر فى دية الأنف. وقطع جزء من الأنف فيه من الدية بقدره فإن قطع نصف الأنف أو ثلثه فعليه نصف الدية أو ثلثها.
وإن قطع المارن وقصبة الأنف فيرى الشافعى ورأيه وجه فى مذهب أحمد أن على الجانى الدية فى المارن وحكومة فى القبضة، ويرى مالك وأبو حنيفة ورأيهما وجه فى مذهب أحمد أن على الجانى الدية فقط لأن المارن والقصبة عضو واحد إلا إذا قطع المارن فبرئ ثم قطع بعد البرء القصبة ففيها حينئذ حكومة (1) .
343- اللسان: تجب الدية فى اللسان لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى اللسان الدية"، ولأن فيه جمالاً ومنفعة. والدية تجب فى اللسان الناطق فإن جنى على لسانه فخرس وجبت عليه الدية كاملة ولو بقى اللسان لأنه أتلف المنفعة المقصودة، وإن قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه وجبت من الدية بقدر ما ذهب من الكلام فإن ذهب بنصف الكلام وجب نصفها وإن ذهب أقل من ذلك أو أكثر وجب بقدره، وإن ذهب نطق بعض الحروف وجب له ما يقابلها من الدية.
وفى لسان الأخرس حكومة عند مالك وأبى حنيفة، أما الشافعى فيفرق بين ما إذا كانت الجناية أذهبت ذوق الأخرس أم لم تذهبه، فإن كانت أذهبته ففى اللسان الدية، وإن كانت لم تذهبه ففى اللسان حكومة، وفى مذهب أحمد
_________
(1) المهذب ج2 ص216 , المغنى ج9 ص599 , مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 312.
(2/263)

من يرى أن الدية لا تجب فى لسان الأخرس إطلاقًا، ومنهم من يفرق بين ما إذا كانت الجناية أذهبت الذوق أم لا، فإن لم يكن الذوق أذهب فرأى يرى حكومة ورأى يرى ثلث الدية (1) . وفى لسان الطفل الذى لم ينطق بعدُ الدية عند مالك والشافعى وأحمد، ولكن أبا حنيفة يرى فيه حكومة.
344- الذكر: تجب فى الذكر الدية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الذكر الدية" ولأنه عضو لا نظير له فى البدن فى الجمال والمنفعة فكملت فيه الدية كالأنف واللسان. وفى شلل الذكر دية لأن الشلل يذهب بنفعه، وتجب الدية فى ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب، وفى قطع الحشفة وحدها الدية، لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع، وفى قطع بعض الحشفة بعض الدية بنسبة ما قطع إلى الحشفة على رأى، ونسبة ما قطع إلى كل الذكر على رأى آخر، وفى ذكر الخصى والعنين الدية عند الشافعى، وهو وجه فى مذهب مالك، ومذهب أحمد: العضو سليم فى نفسه والمانع من الجماع راجع لغيره، ويرى أبو حنيفة أن فى ذكر الخصى والعنين حكومة لأن العبرة عنده بالقدرة على الإيلاج، وهذا وجه فى مذهب مالك، أما الوجه الثانى فى مذهب أحمد لا يرى فى ذكر العنين والخصى حكومة وإنما يرى فى كل منهما ثلث الدية (2) , وفى عسيب الذكر - أى الذكر دون الحشفة - الحكومة بإجماع.
345- الصلب: وتجب فى الصلب الدية، لما روى الزهرى عن سعيد بن المسيب أنه قال: "قضت السنة أن فى الصلب الدية، وفى اللسان الدية، وفى الذكر الدية، وفى الأنثيين الدية"، ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة. وإذا
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص262 , البحر الرائق ج8 ص330 , المهذب ج2 ص117 وما بعدها , المغنى ح9 ص604 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص261 , 263 , البحر الرائق ج8 ص330 , المهذب ج2 ص222 , المغنى ج9 ص627.
(2/264)

كسر الصلب فلم ينجز الكسر ففيه الدية على رأى فى مذهب أحمد، وعلى الرأى الآخر الذى يتفق مع آراء باقى الفقهاء فيه حكومة ما دام لا يعطل منفعة المشى أو الجماع فإن ذهبت بالكسر منفعة المشى والجماع ففيه الدية. وإن أحدَوْدَب الظهر ولم تذهب منفعة ما ففيه حكومة، وإن ذهب المشى والجماع معًا ففريق يرى فيهما دية واحدة وفريق يرى فيهما ديتين (1) .
346- مسلك البول ومسلك الغائط: إذا أتلف مسلك البول فلم يعد يستمسك البول أو أتلف مسلك الغائط فلم يعد يستمسك الغائط؛ ففى كل واحد منهما الدية لأن كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة وليست فى البدن مثله، فوجب فى تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء التى لا نظير لها فى البدن، فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها؛ والنفع بهما كثير والضرر بغيرهما عظيم، فكان فى كل واحد منهما الدية كالسمع والبصر، وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجانى ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، ولكن فى مذهب مالك رأيًا بأن فى كل من المسلكين حكومة (2) .
347- الجلد: يرى الشافعى أن الدية تجب فى الجلد إن سلخ جميعه، ويندر أن يعيش إنسان يسلخ كل جلده، ويرى مالك أن الدية تجب فى الجلد إذا فعل الجانى فعلاً جزمه أو برصه أو سوده، ولا يشترط أن يعم التجزيم أو التبريص أو التسويد كل الجلد، كذلك يوجب مالك الدية فى جلد الرأس.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , المهذب ج2 ص222 , المغنى ج9 ص626.
(2) مواهب الجليل ج6 ص263 , شرح الدردير ج4 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , المهذب ج2 ص223 , المغنى ج9 ص633.
(2/265)

أما أبو حنيفة وأحمد فلا يوجبان الدية فى الجلد إطلاقًا ويريان الحكومة فى هذه الحالات (1) .
348- شعر الرأس وشعر اللحية والحاجبين: يرى أبو حنيفة أن الدية تجب فى إزالة شعر الرأس للرجل والمرأة وفى إزالة اللحية سواء كان ذلك بطريق الضرب فسقط الشعر، أو بطريق الحلق أو النتف، ويشترط ألا ينبت الشعر، وحجته أن الشعر للرجال والنساء جمال وفى إزالته وعدم إنباته تفويت للمنفعة على الكمال، وفى اللحية وحدها الدية، وفى شعر الرأس الدية، وما عدا ذلك من الشعور كشعر الشارب والحاجبين ففيه حكومة.
ويرى أحمد ما يراه أبو حنيفة، ولكنه يزيد عليه أنه يجعل الدية أيضًا فى شعر الحاجبين، ويشترط كأبى حنيفة عدم الإنبات (2) .
أما مالك والشافعى فلا يجب عندهما فى إتلاف الشعور إلا الحكومة؛ لأنه إتلاف جمال دون منفعة، والدية لا تجب إلا فى ما كان له منفعة (3) .
349- اليدان: تجب الدية فى اليدين لما روى معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى اليدين الدية" ويجب فى إحدى اليدين نصف الدية لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم حين أمره على نجران: "فى اليد خمسون من الإبل" واختلفوا فى معنى اليد، فرأى البعض أن لفظ اليد يطلق على كل الذراع إلى المنكب، ورأى البعض أنه يطلق على الكف فقط، وترتب على هذا الخلاف أنهم اختلفوا فى قطع اليد من بعد مفصل الكف كالقطع من نصف الذراع أو من المرفق أو من العضد أو من المنكب، فمن رأى أن اليد هى الكف قال فى اليد نصف الدية وفيما زاد عن الكف حكومة، وقال بهذا أغلب الفقهاء فى مذهب
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص242 , نهاية المحتاج ج7 ص314.
(2) المغنى ج9 ص597.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص312 , البحر الرائق ج8 ص331 , المهذب ج2 ص224 , المغنى ج9 ص597 , مواهب الجليل ج6 ص247 , شرح الدردير ج4 ص642.
(2/266)

الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، وقال به أبو حنيفة ومحمد. ومن رأى أن اليد اسم للجميع حتى المنكب قال بأن فى الكف وما زاد علها نصف الدية؛ لأن ما زاد على الكف كله معتبر يدًا، وقد أخذ بهذا الرأى مالك ومعظم الفقهاء فى مذهب أحمد وبعض فقهاء مذهب الشافعى وأبو يوسف من فقهاء مذهب أبى حنيفة. ومن المتفق عليه عند الجميع أن الحكومة فى قطع الساعد الذى لا كف فيه، والخلاف منحصر فى حالة قطعهما معًا.
ويجب فى كل إصبع عشر الدية، لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بأن فى كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، ولا يفضل إصبع على إصبع لما روى عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل" ولأنه جنس ذو عدد تجب الدية فيه فتقسم على أعداده، وفى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الإصبع، وفى كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع قسمت دية الإصبع على عدد أنامله. وإن جنى على يد فشلت أو على إصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب بشللها ما يجب فى قطعها؛ لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب فى إتلاف منفعتها ما وجب فى إتلافها. وإن قطع يدًا شلاَّء أو إصبعًا شلاء أو أنملة شلاء وجبت فيها الحكومة؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة (1) ، وفى مذهب أحمد رأى بأن فيها ثلث الدية.
350- الرجلان: يجب فى الرجلين الدية لما رواه معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فى الرجلين الدية" وفى أحد الرجلين نصف الدية لما رواه عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى الرجل نصف الدية" وفى الرجل نفس الخلاف الذى فى اليد، فالبعض يرى أن لفظ الرجل يشمل القدم حتى نهاية الفخذ،
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص332 - 336 , المهذب ج2 ص221 , المغنى ج9 ص620 , شرح الدردير ج4 ص242 , 246 , 247.
(2/267)

والبعض يرى أنه يطلق على القدم فقط، وترتب على هذا الخلاف نفس ما ذكرناه فى اليدين.
ويجب فى كل إصبع من أصابع الرجلين عشر الدية، ويجب فى كل أنملة غير الإبهام ثلث دية الإصبع، وفى كل دية من الإبهام نصف دية الإصبع، لما ذكر فى اليد. وتجب الدية فى قدم الأعرج ويد الأعْسَم إن كانتا سليمتين لأن العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص فى القدم، والعَسَم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس ينقص فى الكف، فلا يمنع هذا كمال الدية فى القدم والكف (1) .
351- العينان: تجب الدية فى العينين؛ لقوله عليه السلام من كتاب كتبه لعمرو بن حزم: "فى العين خمسون من الإبل" فأوجب فى كل عين خمسين فدل عل أنه يجب فى العينين مائة. وعين الأعور فيها نصف الدية عند أبى حنيفة والشافعى، وفيها الدية كاملة عند مالك وأحمد.
وتجب الدية بقلع العينين وبفقئهما، كما تجب بذهاب الإبصار مع بقاء العينين قائمتين.
352- الأذنان: تجب الدية فى الأذنين وفى أحدهما نصف الدية؛ لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الأذن خمسون من الإبل" فأوجب فى الأذن خمسين فدل على أنه يجب فى الأذنين الدية كاملة وهى مائة من الإبل، ولأن فى الأذنين جمالاً ظاهرًا ومنفعة مقصودة وهى أنها تجمع الصوت.
وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه الدية بقسطه؛ لأن ما وجبت الدية فى كله وجبت فى بعضه بقسطه كالأصابع.
وفى قطع الأذنين الدية ولو بقى السمع سليمًا، وهذا ما يراه أبو حنيفة والشافعى وأحمد وبعض فقهاء مذهب مالك، وحجتهم أن الأذنين فيهما منفعة
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص311 , 314 , المهذب ج2 ص221 , المغنى ج9 ص630 , شرح الدردير ج4 ص242 , 246 , 247 , البدائع ج7 ص214 , البحر الرائق ج8 ص331 , المهذب ج2 ص215 , المغنى ج9 ص585 , شرح الدردير ج4 ص242.
(2/268)

مقصودة هى أنها تجمع الصوت، ولكن بعض فقهاء مذهب مالك يرى فى قطع الأذنين مع بقاء السمع سليمًا حكومة؛ لأن الأذنين فى رأيهم ليس فيها منفعة وإنما فيها جمال فقط وليس فى الجمال إلا الحكومة (1) .
353- الشفتان: تجب الدية فى الشفتين؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الشفتين الدية"، ولأن فيهما جمالاً ظاهرًا ومنافع كثيرة، ويجب فى إحداهما نصف الدية لأن كل شفتين وجب فيهما الدية وجب فى إحداهما نصف الدية كالعينين والأذنين، وإن قطع بعض الشفة وجب فيه من الدية بقدره. فإن جنى عليهما فشلتا وجبت فيهما الدية لأنه أبطل منفعتهما، وإن تقلصتا شيئًا مع بقاء منفعتهما ففيهما حكومة (2) .
354- الحاجبان: يرى أبو حنيفة وأحمد أن فى الحاجبين الدية وفى أحدهما نصف الدية إذا أزيل الشعر بحيث لا ينبت. ويرى مالك والشافعى أن فى إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فلا تجب فيه الدية. أما أبو حنيفة وأحمد فيريان أنه جمال مقصود لذاته والمنفعة ثابتة له ففيه الدية (3) .
355- الثديان والحلمتان: تجب الدية فى ثديى المرأة لأن فيهما جمالاً ومنفعة وتجب فى إحداهما نصف الدية، وتجب الدية أيضًا كاملة فى الحلمتين إذا قطعتا دون الثديين وفى إحداهما نصف الدية؛ لأن فى الحلمتين منفعة الثديين. ويشترط مالك لوجوب الدية فى الحلمتين أن ينقطع اللبن أو يفسد، فإن لم يتوفر هذا الشرط ففى الحلمتين حكومة، أما باقى الأئمة فلا يشترطون هذا الشرط ويرون الدية فى الحلمتين مطلقًا.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص314 , المهذب ج2 ص216 , المغنى ج9 ص593.
(2) شرح الدردير ج4 ص242 , بدائع الصنائع ج7 ص214 , المهذب ج2 ص217 , المغنى ج9 ص603.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص311 , المغنى ج9 ص597 , المهذب ج2 ص224 , المواهب ج6 ص247.
(2/269)

أما ثديا الرجل فليس فيهما إلا الحكومة عند مالك والشافعى لأن فى ذهابهما ذهاب جمال من غير منفعة. وفى مذهب الشافعى من يرى فى ثديى الرجل وحلمتيه الدية، ولكن هذا الرأى ليس المذهب، ولكنه يتفق مع مذهب أحمد فهو يرى أن فى ثديى الرجل وحلمتيه الدية، وحجته أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل، ولأنهما عضوان يحصل بهما الجمال وليس فى البدن غيرهما.
ويرى أبو حنيفة أن فى ثديى الرجل وحلمتيه حكومة، وقد بنى رأيه على أن ثديى الرجل وحلمتيه ليس فيهما جمال ولا منفعة (1) .
356- الأنثيان: تجب الدية فى الأنثيين لما روى أن فى كتاب الرسول لعمرو بن حزم: " وفى البيضتين الدية " ولأن فيهما جمالاً ومنفعة فإن النسل يكون بهما وهما وكاء المشى، وفى كل واحدة منهما نصف الدية لأن وجوب الدية فى شيئين يوجب نصفها فى أحدهما. وإن أشل الأنثيين فعليه الدية كاملة حيث أذهب منفعتهما، فإن قطعهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة، ويرى أبو حنيفة ومن يقول من فقهاء مذهبى مالك وأحمد بأن ذكر الخصى والعنين فيه حكومة، ويرى هؤلاء جميعًا أنه إذا قطع الأنثيان مع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر قبل الأنثيين، أما إذا قطع الأنثييان قبل الذكر ففى الأنثيين الدية وفى الذكر حكومة لأنه يصبح بعد قطع الأنثيين ذكر خصى وذكر الخصى فيه حكومة، أما القائلون بأن ذكر الخصى والعنين فيه الدية وهم الشافعية وبعض فقهاء مذهبى مالك وأحمد فيوجبون فى قطع الذكر والأنثيين ديتان سواء قطعت الأنثيين قبل الذكر أم بعده (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص311 , 323 , شرح الدردير ج4 ص243 , المهذب ج2 ص223 , المغنى ج9 ص623.
(2) المغنى ج9 ص628 , 629 , المهذب ج2 ص223 , بدائع الصنائع ج7 ص324 , مواهب الجليل ج6 ص261.
(2/270)

357- الشفران: الشُّفْران أو الإسْكَتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم، وفى الشفرين دية كاملة إذا قطعا حتى ظهر العظم، وفى أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة فى المباشرة وليس فى البدن غيرهما من نوعهما (1) ، فإن جنى عليهما حتى أشلهما ففيهما الدية لأنه أزال المنفعة كما لو أنه قطعهما.
358- الإليتان: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الدية تجب فى الإليتين، وأن نصف الدية يجب فى الإلية الواحدة؛ لأنهما عضوان من جنس واحد ليس فى البدن نظيرهما، ولأن فيهما جمالاً ظاهرًا ومنفعة كاملة. والإليتان هما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين، وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذى تحتهما، وفى ذهاب بعضهما بقدره؛ لأن ما وجبت الدية فيه كله وجب فى بعضه بقدره، فإن جهل مقدار البعض وجبت فيه حكومة لأنه نقص تعذر تقديره.
ويرى بعض فقهاء مذهب مالك أن فى الإليتين حكومة فقط سواء أخذتا إلى العظم الذى تحتهما أو ذهب بعضهما (2) ، ويرى البعض الآخر أن فيهما الدية.
359- اللحيان: يرى الشافعى وأحمد أن فى اللحين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلي؛ لأن فيهما نفعًا وجمالاً وليس فى البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما فى البدن منه شيئان فى أحدهما نصف الدية، وإن قلنا بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان فى ديتهما (3) .
360- أشفار العينين: تجب الدية فى أشفار العينين أى جفونهما عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأن فيهما جمالاً ظاهرًا ونفعًا كاملاً وهى أربعة ليس
_________
(1) المغنى ج9 ص639 , المهذب ج2 ص223 , البحر الرائق ج8 ص307 , مواهب الجليل ج6 ص261.
(2) المغنى ج9 ص625 , المهذب ج2 ص222 , البحر الرائق ج8 ص307 , المدونة ج16 ص113 , مواهب الجليل ج6 ص262.
(3) المغنى ج9 ص619 , المهذب ج2 ص220.
(2/271)

مثلها فى البدن فتجب ربع الدية فى كل واحد منها، ويرى مالك أن فى الأشفار الاجتهاد أى الحكومة لأنه لم يرد نص (1) بأن فيها شيئًا مقدرًا والتقدير لابد من نص ولا يثبت بالقياس كما يرى بقية الأئمة.
361- أهداب العينين: يرى أبو حنيفة وأحمد أن فى أهداب العينين الأربعة الدية كاملة لأن فيها جمالاً ظاهرًا ونفعًا كاملاً، وفى ربع كل واحد منها الدية، لكن إذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففيها كلها دية واحدة؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدى مع الثدى والأصابع مع الكف.
ويرى مالك والشافعى أن فى الأهداب حكومة لأنها جمال لا منفعة فيه، وإذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففى مذهب الشافعى رأيان: رأى يرى أن لا شئ فى الأهداب لأنها شعر نابت فى العضو المتلف وهو الجفنين، ورأى يرى أن فى الجفنين الدية وفى الهدب الحكومة لأن فيه جمالاً (2) .
362- أصابع اليدين وأصابع الرجلين: تكلمنا عن أصابع اليدين والرجلين مع اليدين والرجلين فلا داعى لتكرار الكلام عنهما وفيما ذكر هناك الكفاية.
363- الأسنان: يجب فى كل سن خمس من الإبل؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى السن خمس من الإبل"، ولما رواه عمرو بن شعيب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فى الأسنان خمس خمس" ويستوى السن بالناب والناب بالضرس فأرشها سواء؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء".
ويجب الضمان فى سن من ثغر وهو الذى أبدل أسنانه وبلغ حدًا إذا قلعت
_________
(1) المغنى ج9 ص592 , المهذب ج2 ص215 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 324 , مواهب الجليل ج6 ص247.
(2) مواهب الجليل ج6 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 344 , المهذب ج2 ص219 , المغنى ج9 ص593.
(2/272)

سنه لم يعد بدلها، فأما سن الصبى الذى لم يثغر فلا يجب بقلعها فى الحال شئ لأن العادة عود سنه، فإن مضت مدة ييأس من عودها وجب أرشها وإذا عادت لم يجب فيها أرش، ولكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة، وإن عادت خارجة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها الدية، وإن كان ينتفع بها ففيها حكومة.
وإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها فى الحال فإن عادت لم تجب الدية وعليه ردها وإن كان قد أخذها، وهذا رأى أبى حنيفة وأحمد، ويرى مالك أنه لا يرد شيئًا لأن العادة أنها لا تعود فإن عادت فهى هبة مجردة وفى مذهب الشافعى يأخذ البعض برأى مالك والبعض بالرأى المضاد.
وتجب دية السن فيما ظهر من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنًا وما فى اللثة يسمى سنْخًا، فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السِّنْخ ففى السن أرشها وفى السنخ ححومة كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعت السن بسنخها لم يجب فيها أكثر من الأرش، وإن كسر بعض السن ففيه من أرشه بقدر ما كسر.
وإن قلع سنًا مضطربة لكسر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط العام وجب أرشها، وكذلك إذا ذهب بعض منافعها وبقى بعضها فى رأى أحمد، أما مذهب الشافعى ففيه رأيان: رأى يرى الأرش، ورأى يرى أن مقدار النقص يجهل قدره فيكون فيها الحكومة، أما إذا ذهبت منافعها كلها ففيها حكومة أو ثلث ديتها على رأى فى مذهب أحمد.
وإن قلع سنًا فيها داء أو أَكلَة فإن لم يذهب شئ من أجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة، وإن سقط من أجزائها شئ سقط من أرشها بقدر الذاهب ووجب الباقى.
وإن جنى عليه فتغير لون السن إلى السواد أو الخضرة أو الحمرة أو الصفرة ففى مذهب مالك فيها الأرش إن كان التغير إلى الخضرة والحمرة والصفرة يساوى
(2/273)

التغير إلى السواد وإلا فحكومة، ومذهب أبى حنيفة فيها الأرش إذا كانت الصفرة بمنزلة السواد، وعند الشافعى يجب فيها حكومة فى جميع الحالات فى رأى، وفى رأى تجب الدية فى السواد إذا زالت المنفعة وإلا فحكومة، وهذا أحد الرأيين فى مذهب أحمد، والرأى الثانى: فى التسويد الدية (1) .
وإذا جنى على أسنانه كلها دفعة واحدة ففيها مائة وستون من الإبل بحساب كل سن خمس من الإبل، وهذا رأى مالك وأبى حنيفة وأحمد، ولو أن هذا المقدار يزيد عن دية كاملة؛ لأن النص جعل أرش كل سن خمسًا من الإبل. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما: يأخذ بما يراه الأئمة الثلاثة وهو الرأى الراجح، وحجته أن ما ضمن على انفراد لا ينقص ضمانه بانضمام غيره إليه، وثانيهما: أنه لا يجب فى الأسنان كلها إذا قلعت دفعة واحدة إلا دية واحدة لأنه جنس ذو عدد فلا يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين.
إذهاب المعاني
364- القاعدة أن العضو إذا ذهب بمنفعته لم تجب فيه إلا دية واحدة: كالعينين إذا قلعتا فذهب ضوءهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة هى دية العينين لأن الضوء فيهما وهما محله. ومثل ذلك سائر الأعضاء إذا ذهبت بنفعها لم يجب فيها إلا دية واحدة وهى دية العضو لا المنفعة؛ لأن نفعها فيها فدخلت ديته وديتها، ولأن منافعها تابعة لها تذهب بذهابها فوجبت دية العضو دون المنفعة.
أما إذا بقى العضو وذهبت منفعته فتجب الدية فى المنفعة الذاهبة، فمن ضرب إنسانًا على رأسه فأذهب بصره أو سمعه وجبت عليه دية البصر أو السمع.
والمنافع كثيرة منها ما هو حاسة كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس، ومنها ما هو معنى كالمشى والبطش والعقل والنطق. وقد اختلف الفقهاء فى تحديد المعانى التى تجب فيها الدية كما سنبين لنا فيما بعد.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص263 , بدائع الصنائع ج7 ص310 , المهذب ج2 ص219 , المغنى ج9 ص611.
(2/274)

365- (1) السمع: فى السمع الدية لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى السمع الدية" ولما روى عن أبى قلابة أن رجلاً رمى آخر بحجر فى رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه، فقضى عمر رضى الله عنه بأربع ديات والرجل حى.
وإن أذهب السمع فى إحدى الأذنين وجبت نصف الدية، وإن قطع الأذنين فذهب السمع وجب عليه ديتان لأن السمع فى غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر، إلا أن بعض فقهاء مذهب مالك يرون فى السمع دية وفى الأذنين حكومة لأنهم يرون من الأصل أن الأذنين ليس فيهما إلا الحكومة (1) .
366- (2) البصر: وفى البصر الدية لأنه منفعة العينين، وكل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما، وفى ذهاب إبصار العين الواحدة نصف الدية، وليس فى إذهاب العينين بنفعهما أكثر من دية واحدة كاليدين لأن العينين هما محل البصر (2) .
367- (3) الشم: وفى الشم الدية لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "فى المشام الدية" وإن قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم فى غير الأنف فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر كالسمع مع الأذن والبصر مع أجفان العين والنطق مع الشفتين (3) ، وإن جنى عليه فذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب فى إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنيين.
368- (4) الذوق: يرى مالك وأبو حنيفة أن فى الذوق الدية، وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما: يرى فى الذوق الدية، والثانى لا يرى فيه الدية، وتجب الدية إذا ذهبت
_________
(1) المغنى ج9 ص595 , المهذب ج2 ص216 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 وما بعدها , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2) الشرح الكبير ج9 ص593 , المهذب ج2 ص215 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 وما بعدها.
(3) المغنى ج9 ص599 , 602 , المهذب ج2 ص217 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2/275)

حاسة الذوق تمامًا فإن ذهب بعضها دون بعض وجب من الدية بقدر ما ذهب فقط (1) .
369- (5) الكلام: تجب الدية فى الكلام، فإذا جنى عليه فخرس وجبت الدية كاملة وإن فقد بعض الكلام دون بعض وجب من الدية بقدر ما نقص (2) ، وإذا قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه ففيها جميعًا دية واحدة؛ لأن دية الكلام والذوق تدخل فى دية اللسان، أما إذا جنى عليه فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان ففيهما ديتان، مع مراعاة ما ذكرنا من الخلاف عند الكلام على الذوق.
370- (6) العقل: تجب الدية فى ذهاب العقل لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى العقل الدية" ولما كان العقل من أكبر المعانى قدرًا وأعظم أثرًا من جميع الحواس، وبه يتميز الإنسان من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدى به إلى مصالحه ويتقى ما يضره ويدخل فى التكليف، فقد رأى بعض الفقهاء أن يعطى العقل حكم النفس كأبى حنيفة وأصحابه والشافعى فى رأيه القديم. وإن ذهب العقل بجناية لا توجب أرشًا كاللطمة أو التخويف ونحوها ففيه الدية لا غير، وإن أذهبه بجناية لها أرش مقدر كالموضحة أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح أو الطرف عند مالك والشافعى طبقًا لرأيه الجديد وهو المذهب وكذلك عند أحمد، أما أبو حنيفة فيرى كما يرى الشافعى قديمًا والرأى الأخير فى مذهب مالك أن يدخل أرش الجرح أو الطرف فى دية العقل، لأن الواجب فى العقل دية النفس، والعقل يقوم مقام النفس من حيث المعنى، لأن جميع منافع النفس تتعلق به فكان تفويته تفويت النفس معنى، ولا شك أنه إذا أدت الشجة أو قطع الطرف إلى الموت دخلت الشجة والطرف فى دية النفس، فهكذا تدخل فى دية العقل، على أن زفر والحسن بن زياد لا يريان التداخل.
وإن جنى
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص593 , المهذب ج2 ص219 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2) المغنى ج9 ص604 وما بعدها , الشرح الكبير ج9 ص594 , 604 , المهذب ج2 ص218 , 219 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2/276)

عليه فأذهب عقله وشمه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح، مع مراعاة الخلاف السابق فى مذهب أبى حنيفة، ومع مراعاة أن أبا حنيفة ومحمد يقولان بالتداخل مع العقل فقط دون غيره من المعانى، أما أبو يوسف فيقول بالتداخل مع كل المعانى الباطنة كالعقل والشم والكلام والجماع والذوق، أما البصر فلا لأنه معنى ظاهر، ومن القضايا المشهورة فى عهد عمر أن رجلاً رمى آخر بحجر فأذهب عقله وسمعه وبصره وكلامه، فقضى عليه عمر بأربع ديات وهو حى، لكن إذا مات المجنى عليه من الجناية لم تجب إلا دية واحدة، لأن ديات المنافع كلها تدخل فى دية النفس كديات الأعضاء (1) .
371- المشى والجماع: إذا ذهب المشى أو القدرة على الجماع ففى كل منهما الدية كاملة، والمعروف أن الصلب يؤثر على هذين المعنيين، فإذا كسر صلبه وأبطل جماعه فعليه ديتان لا دية واحدة كما هو رأى مالك حيث لا يرى اندراج دية الصلب فيه، وقياسًا على هذا إذا أبطل صلبه فأبطل جماعه ومشيه وجبت عليه ثلاث ديات، فإذا لم يبطل صلبه فعليه ديتان، وعلة عدم الاندراج أن الصلب ليس هو محل المنفعة فعضو المشى الأقدام وعضو الجماع الذكر.
وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: رأى يرى أن فى ذهاب المشى والجماع ديتان لأنهما منفعتان مختلفتان، ورأى يرى أن فيهما دية واحدة لأنهما منفعة عضو واحد كما لو قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه، وقياس مذهب أبى حنيفة أن يكون فيهما دية واحدة (2) .
372- الصعر: وتجب الدية فى الصًّعَر، وهو أن يضربه مثلاً فيصير
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص594 وما بعدها , المهذب ج8 ص217 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2) الشرح الكبير ج9 ص596 , 597 , 605 , المهذب ج2 ص222 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص243.
(2/277)

الوجه إلى جانب، وأصل الصعر داء يأخذ البعير فيلتوى منه عنقه، قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أى: لا تعرض عنهم بوجهك تكبرًا كإمالة وجه البعير الذى به الصعر، فمن جنى على إنسان جناية تعوج عنقه حتى صار وجهه فى جانب، فيرى أبو حنيفة وأحمد أن فيه الدية، ويرى الشافعى فى الصعر الحكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، وهو قياس مذهب مالك (1) .
373- معان أخرى: يرى أبو حنيفة الدية فى البطش والإيلاد، وظاهر مذهبه أن كل معنى يفوت تجب فيه الدية (2) .
أما عند مالك فيحدد بعض الشراح المعانى بعشر وهى: العقل - والسمع - والبصر - والشم - والنطق - والصوت - والذوق - وقوة الجماع والنسل - وتغيير لون الجلد ببرص أو تسويد أو تجذيم - والقيام والجلوس (3) .
ولكن بعض الشراح لا يرى مانعًا من القياس على هذه العشر ويضيف إليها اللمس، ويرى أحمد أن فى تسويد الوجه الدية (4) ، وفى ذهاب القدرة على الأكل الدية (5) ، بينما يرى الشافعى فى تسويد الوجه حكومة جريًا على قاعدته التى لا توجب الدية إلا فى زوال منفعة.
ويرى الشافعى وجوب الدية فى إبطال الكلام وفى إبطال الصوت وفى إبطال قوة المضغ وفى إبطال قوة الإمناء وقوة الحبل والإحبال وإذهاب لذة الجماع ولذة الطعام (6) .
والظاهر من مذهب الشافعى وأحمد أن المعانى التى تجب فيها الدية ليست
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص598.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص296 , 311.
(3) مواهب الجليل ج6 ص260 , شرح الدردير ج4 ص241.
(4) الشرح الكبير ج9 ص596.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص321 , 323.
(6) نهاية المحتاج ج7 ص321 , 323.
(2/278)

محددة على وجه التعيين، فما ذكر فى الكتب أمثلة على المعانى التى تذهب وفيها الدية.
374- ويجب أن نلاحظ فى هذا المقام الفرق الظاهر بين اتجاه مالك والشافعى من ناحية فى تعيين المعانى التى تجب فيها الدية وبين اتجاه أبى حنيفة وأحمد، فالأولان لا يجعلان فى المعنى دية إلا إذا كان فى فوات المعنى فوات منفعة، أما الأخيران فيجعلان فى المعنى دية إذا كان فى فوات المعنى فوات الجمال ولو لم يكن قد فاتت به منفعة.
375- ما يجب فى فوات بعض المعنى: القاعدة عند الفقهاء أنه إذا فات المعنى كله وجبت فيه الدية، فإن فات بعضه وجب فيه بعض الدية بنسبة ما فات، هذا إذا كان التبعض معروفًا كذهاب الإبصار من عين دون أخرى، أو كذهاب السمع من أذن دون أخرى، أو كان الذاهب ممكن التقدير، أما إذا كان الغائب لا يمكن معرفة قدره فيرى الشافعى وأحمد أن فيه حكومة، وهذا هو قياس مذهب أبى حنيفة، أما مالك فيرى أن يقابل النقص بما يناسبه من الدية فى كل حال، وفى حالة تعذر التقدير الدقيق يقدر الناقص بأدنى ما يمكن وأكثر ما يمكن، وفى العمد يلزم المتعمد بالأكثر لأنه ظالم، والظالم أحق بأن يحمل عليه، وفى الخطأ يلزم المخطئ بأقل ما يمكن (1) .
ما يجب فيه أرش مقدر
376- يجب الأرش المقدر فى الأطراف وفى الشجاج والجراح:
الأطراف التى لها أرش مقدر: شمل كلامنا عما تجب فيه الدية من الأطراف الكلام عن الأطراف التى يجب فيها أرش مقدر، ففى كل اثنين من البدن فيهما كمال الدية وفى أحدهما نصف الدية، وهذا هو الأرش المقدر، كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والأنثيين والثديين، فأرش اليد المقدر نصف دية
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص243 , المهذب ج2 ص215 - 217 , 219 , المغنى ج9 ص596 , 599, الشرح الكبير ج9 ص599 , 602.
(2/279)

العينين معًا، وأرش الرجل نصف دية الرجلين معًا، وأرش العين الواحدة هو نصف دية العينين، وهكذا. ولكن مالكًا وأحمد يخالفان باقى الفقهاء فى عين الأعور.
وفى أصابع اليدين والرجلين فى كل إصبع عشر الدية، وما كان من الأصابع فيه ثلاث مفاصل ففى كل مفصل ثلث أرش الإصبع، وما كان فيه مفصلان ففى كل واحد منهما نصف الأرش، وما وجبت الدية فى أربعة منه ففى الواحد منه ربع دية وهذا هو أرشه المقدر، ففى أشفار العينين الدية، وفى ثلاثة منها ثلاثة أرباع الدية، وفى الاثنين نصفها، وفى الواحد ربع الدية، وهذا هو أرشه المقدر.
وفى كل سن - كما عرفنا - خمس من الإبل، وهذا هو الأرش المقدر للسن.
وهكذا نستطيع أن نعرف الأطراف التى فيها أرش مقدر إذا رجعنا للأطراف التى فيها الدية الكاملة والتى لها نظائر فى البدن، أما الأطراف التى لا نظائر لها فى البدن ففيها الدية الكاملة وحدها، والأرش المقدر يجب أن يكون أقل من الدية.
* * *
أرش الشجاج
377- عرفنا مما سبق عدد الشجاج وأسماءها وأن مكانها الرأس والوجه، وبقى أن نعرف إن كان لهذه الشجاج أرش مقدر أم لا.
ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر سواء على رأى القائلين بأنها خمسة أو القائلين بأنها ستة، وهناك رواية عن أحمد بأن فى الدامية بعيرًا وفى الباضعة بعيرين وفى المتلاحمة ثلاثة وفى السمحاق أربعة، وحجته أن زيد بن ثابت قضى بهذا، ولكن هذا الرأى ليس المذهب (1) .
أما ما يجب فيه أرش مقدر من الشجاج فهو الموضحة وما بعدها؛ أى الهاشمة والمنقلة والآمةَّ والدامغة.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص619 , شرح الدردير ج4 ص240 , بدائع الصنائع ج7 ص316 , المهذب ج2 ص212.
(2/280)

378- الموضحة: يجب فى الموضحة خمس من الإبل لما روى من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى الموضحة خمس من الإبل" ولما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى عليه السلام أنه قال: "فى المواضح خمس خمس". ويجب الأرش فى كل موضحة، فى الصغيرة والكبيرة، وفى البارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يقع على الجميع. وأرش موضحة الوجه والرأس سواء عند الأئمة الأربعة. ولكن لأحمد رأى مخالف يرى فيه أن يكون أرش موضحة الوجه مضاعفًا لأن شينها أكثر ولأنها ظاهرة ولا يسترها الشعر كما هو الحال فى موضحة الرأس (1) .
ولا يجب مع الأرش شىء آخر عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد ولو برئت الموضحة على شين، والمشهور عند مالك أنه إذا برئت على شين موضحة الوجه أو الرأس أُخذ من الجانى حكومة مقابل الشين، وهذه الحكومة علاوة على الأرش (2) .
ولا يجب الأرش إلا فى موضحة الرأس والوجه، أما موضحة الجسد فليس فيها شئ مقدر وإنما فيها الحكومة، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين. وإن أزال الحاجز بينهما قبل البرء فهما موضحة واحدة عليه أرشها، فإن اندملتا ثم أزال الحاجز فعليه أرش ثلاث مواضح؛ لأنه استقر عليه أرش الأولين بالاندمال، ثم لزمته الثالثة. وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو بسراية لأخرى، فعليه أرش موضحتين، أما إذا زال الحاجز بفعل المجنى عليه أو بفعل أجنبى فعلى الأول أرش موضحتين، وعلى الأجنبى أرش موضحة؛ لأن فعل كل لا ينبنى على فعل الآخر، فانفرد كل بحكم جنايته، وهذا هو مذهب الشافعى وأحمد.
وإذا شجه فى رأسه شجه بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة، لم يلزمه
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص621.
(2) شرح الدردير ج4 ص241.
(2/281)

أكثر من أرش موضحة؛ لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من ذلك فلأن لا يلزمه فى الإيضاح فى البعض أكثر من ذلك أولى (1) .
379 - الهاشمة: ويجب فى الهاشمة - وهى التى توضح العظم - عشر من الإبل، ولم يعرف عن النبى - صلى الله عليه وسلم - تقدير فيها، وإنما هو مروى عن زيد بن ثابت. والهاشمة فى الرأس والوجه والرأس خاصة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. أما مالك فلا يعرف الهاشمة إلا فى جراح البدن، ويضع بدلاً منها - أى الهاشمة - المنقلة فى الوجه والرأس (2) .
ولو ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففى مذهب أحمد والشافعى رأيان: أولهما يوجب الحكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح، والثانى يوجب خمسًا من الإبل لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر من الإبل وقد وجد الهشم ففيه خمس من الإبل (3) .
380 - المنقلة: وتجب فى المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى المنقلة خمس عشرة من الإبل" والمنقلة زائدة على الهاشمة فهى التى تكسر العظام وتزيلها عن مواضعها فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئم.
381- الآمة: وتسمى الآمَّة والمأمومة، وهى الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ، وأرشها ثلث الدية لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى المأمومة ثلث الدية"، ولما روى عكرمة بن خالد أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قضى فى المأمومة بثلث الدية.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص623 وما بعدها , المهذب ج2 ص212 , 213 , شرح الدردير ج4 ص240 , 241.
(2) شرح الدردير ج4 ص223 , الشرح الكبير ج9 ص625 , 626 , المهذب ج2 ص213 , بدائع الصنائع ج7 ص316.
(3) المهذب ج2 ص213 , الشرح الكبير ج9 ص625 , 626.
(2/282)

382- الدامغة: ويوجب الفقهاء فى الدامغة ثلث الدية، ويرى بعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أنه يجب فيهما ثلث الدية لمساواتها بالآمة وحكومة فيما زاد عنها لأنها تزيد عنها خرق جلدة الدماغ ولا يهتم الفقهاء كثيرًا بالدامغة لأنها تؤدى غالبًا للموت (1) .
* * *
أرش الجراح
383- الجراح كما علمنا على نوعين: جائفة وغير جائفة، فأما غير الجائفة فهى الجراحات التى لا تصل إلى جوف، والواجب فيها الحكومة، فإن أوضح عظمًا فى غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التى فى الرأس والوجه فى الاسم ولا تساويها فى الشين والخوف على المجنى عليه منها ولذلك لم تساوها فى تقدير الأرش.
أما الجائفة وهى التى تصل إلى الجوف من البطن أو الظهر أو الصدر أو الورك فالواجب فيها ثلث الدية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الجائفة ثلث الدية".
وإن خرقه من جانب فخرج من جانب آخر فهما جائفتان عند مالك وأبى حنيفة وأحمد، أما فى مذهب الشافعى فاختلفوا فى الثقب الحاصل من الداخل إلى الخارج فاعتبره بعضهم جائفة وهو الرأى الراجح فى المذهب لأنها جراحة نافذة للموت وتساوى الآتية من الخارج ومن ثم أوجبوا فيها أرش الجائفة، أما حجة الرأى المضاد فأوجبوا فى الجراحة الثانية حكومة، لأن الجائفة عندهم ما تصل من الخارج إلى الداخل (2) .
* * *
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص627 , 628 , وباقى المراجع كما هى.
(2) شرح الدردير ج4 ص240 , 241 , بدائع الصنائع ج7 ص318 , 319 , المهذب ج2 ص214 , الشرح الكبير ج9 ص629.
(2/283)

هل تتساوى الديات لكل الأشخاص الأنثى ثم بعدها التكافؤ
384- دية الأنثى فيما دون النفس: يرى أبو حنيفة والشافعى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل نفسًا وجرحًا وأطرافًا (1) ، فأرش إصبع الرجل عشرة من الإبل وأرش إصبع المرأة خمس من الإبل، وأرش الهاشمة فى الرجل عشر من الإبل وفى المرأة خمس، وأرش الجائفة فى الرجل ثلث ديته وأرش الجائفة فى المرأة ثلث ديتها، وهى على النصف من دية الرجل.
أما مالك وأحمد فعندهما أن أرش جراح المرأة يساوى أرش جراح الرجل إلى ثلث الدية فإن جاوز الأرش ثلث الدية فللمرأة نصف ما يجب للرجل، فمثلاً إذا قطع لامرأة ثلاث أصابع أخذت أرشها ثلاثين من الإبل كما يأخذ الرجل لأن الأرش لم يجاوز ثلث الدية، فإذا كان المقطوع أربع أصابع أخذت أرشها عشرين من الإبل لأن أرش الأصابع الأربع أربعون من الإبل، وهذا القدر يزيد على ثلث الدية فتأخذ النصف فقط (2) ، وهذه القاعدة مطلقة غير مقيدة بقيد عند أحمد، أما مالك فيقيدها بقيدين:
أولهما: اتحاد الفعل أو ما فى حكمه، ويقصد باتحاد الفعل الضربة الواحدة ولو أصابت أكثر من محل، كما لو ضرب الجانى المجنى عليها ضربة واحدة فأصابت يديها معًا أو يدها ورجلها، ويقصد بما فى حكم اتحاد الفعل تعدد الضربات فى فور واحد سواء أصابت محلاً واحدًا أم أكثر، فإذا اتحد الفعل أو كان فى حكم المتحد فإن للمجنى عليها أرش إصابتها كاملاً، وإذا لم يزد مجموعة على ثلث الدية فإن زاد فلها النصف فقط، ولا ينظر إلى كل إصابة وحدها فمثلاً لو ضربها ضربة واحدة أو ضربتين فى فور واحد فأصاب إصبعين من كل يد فمجموع أرش الاصابع الأربع أربعون من الإبل، وهذا المجموع يزيد على ثلث الدية فيكون المستحق لها النصف فقط، ولو ضربها فأصاب أربعة أصابع من يد واحدة فالحكم هو نفس ما سبق.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص312 , نهاية المحتاج ج7 ص303.
(2) شرح الدردير ج4 ص48.
(2/284)

والقيد الثانى: هو اتحاد المحل، ويراعى هذا القيد سواء اتحد الفعل أو لم يتحد الفعل، فمثلاً إذا ضربها فأصاب من يدها اليمنى ثلاث أصابع فدية الأصابع الثلاث ثلاثون من الإبل وهى لا تبلغ ثلث الدية فتستحقها كلها، فلو ضربها هو أو غيره مرة ثانية فأصاب إصبعًا أخرى من نفس اليد فأرشها خمس من الإبل لأن مجموع أرش هذه الإصبع مع أرش الثلاث المقطوعة سابقًا يزيد على ثلث الدية. وكذلك الحكم لو أصابت من المرة الثانية هذه الإصبع وإصبعين من اليد الأخرى فإنه يأخذ خمسًا من الإبل فى الإصبع الرابعة من اليد اليمنى وعشرين فى الإصبعين المقطوعين من اليسرى لأنه قطع بضربته ثلاث أصابع أرشها لا يبلغ ثلث الدية فتستحق عن كل إصبع عشرة من الإبل؛ لكن لما كان الإصبع الرابع من اليد اليمنى تطبق فيه قاعدة اتحاد المحل فلا تستحق فيه إلا خمسًا من الإبل، وتراعى قاعدة اتحاد المحل على الرأى الراجح فى الأصابع فقط ولا تراعى فى الأسنان ولا فى المواضح والمناقل، وتراعى قاعدة اتحاد الفعل وما فى حكمه فى كل الأحوال فلو شجت المرأة منقلتين فى فور واحد فأرشهما ثلاثون من الإبل لأن مجموع أرشهما لا يبلغ ثلث الدية، ولو شجت أربع مناقل فى فور واحد أو بضربة واحدة فمجموع أرشها ستون من الإبل وهو يزيد على ثلث الدية فيكون لها النصف من دية الرجل وهو ثلاثون من دية الإبل، فإذا أصيبت بعد شفائها بمنقلة أخرى أو منقلتين أخذت أرشهما كاملاً لأنه لا يبلغ ثلث الدية ولأن قاعدة اتحاد المحل لا تراعى فى المناقل (1) .
385- الأرش غير المقدر أو الحكومة: يجب الأرش غير المقدر فى الجنايات الواقعة على ما دون النفس مما لا قصاص فيها وليس لها أرش مقدر، ويسمى الأرش غير المقدر فى اصطلاح الفقهاء حكومة أو حكومة العدل.
ومعنى الحكومة عند الأئمة الأربعة: أن تقدر قيمة المجنى عليه باعتباره عبدًا قبل الجرح ثم تقدر قيمته بعد الجرح والبُرْء منه ثم تعرف نسبة النقص فى القيمة
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص249 , مواهب الجليل ج6 ص264 , 265.
(2/285)

ثم يؤخذ من الدية بنسبة هذا النقص، فذلك هو ما يستحقه المجنى عليه، ولكن يشترط أن لا تبلغ الحكومة أرش جرح مقدر. فمثلاً إذا كان الجرح مما قبل الموضحة كالسمحاق فلا يجوز أن يبلغ أرش الموضحة، وحكى عن مالك أنه ما تخرجه الحكومة كائنًا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت فى سائر البدن.
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أن يكون التقدير بالنسبة للعضو الذى حدثت به الإصابة لا بالنسبة لنفس، أى أنه علم نسبة النقص قدر النقص على أساس دية العضو الذى أصيب لا على أساس دية النفس، فإن كان النقص هو العشر مثلاً والجناية على اليد فالحكومة عشر دية اليد لا عشر دية النفس، وإن كانت الجناية على إصبع فالحكومة عشر دية الإصبع. وحجة هؤلاء أن اعتبار دية النفس قد يؤدى إلى أن تزيد الحكومة على دية الطرف الذى حدثت به الجناية.
وطريقة التقدير على أساس فرض المجنى عليه عبدًا لا تصلح اليوم لأن الرقيق أبطل من العالم فلا يمكن معرفة القيم المختلفة.
ولقد علمنا أن بعض الفقهاء فى مذهب أحمد والشافعى يرون أن ما قبل الموضحة إذا أمكن معرفة قدره من الموضحة وجب فيها على قدر ذلك من أرش الموضحة، ولعل هذه الطريقة يمكن استخدامها الآن فى تقدير الحكومة؛ فيقدر كل ما فيه حكومة على أساس ما فوقه مما له أرش مقدر.
ويشترط الفقهاء فى تقدير الحكومة أن يكون التقدير بمعرفة ذوى عدل من الفنيين فيأخذ القاضى بقولهما، وأن يكون التقدير بعد البرء لا قبله، ويصح أن يجتهد القاضى فى التقدير.
ومن المتفق عليه أن الحكومة تجب إذا شفى الجرح على شين، فإذا شفى على غير شين فقد اختلفوا، فيرى أحمد والشافعى أن الحكومة تجب ولو شفى الجرح على غير شين، ويرى مالك التعزير فقط، ويرى أبو يوسف أن فيها حكومة الألم، ويرى محمد أن فيها أجرة الطبيب (1) .
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص239 , 240 , بدائع الصنائع ج7 ص324 , المهذب ج2 ص224 , 225, الشرح الكبير ج9 ص637 , نهاية المحتاج ج7 ص327 , الإقناع ج4 ص223.
(2/286)

وحين يقول بعض الفقهاء إن الجروح إذا برئت على غير شين ليس فيها شئ فمعنى ذلك أن ليس فيها مال، أما التعزير فواجب فيها طبقًا للقواعد العامة؛ لأن الجناية اعتداء، وكل اعتداء ليس فيه حد مقدر فيه التعزير.
وكل جناية لم تترك أثرًا إطلاقًا كاللطمة واللكم والضرب بمثقل لا يترك أثرًا ولا يلون الجسم ليس فيها ضمان وإنما فيها التعزير.
386- مقدار الدية فيما دون النفس عمدًا هو مقدار الدية فى النفس عمدًا: مائة من الإبل، وهى مربعة على ما يرى مالك وأبو حنيفة وأحمد، ومثلثة على ما يرى الشافعى ومحمد بن الحسن كما ذكرنا قبلاً.
وإذا كان المستحق أقل من دية كاملة روعيت النسبة فى أوصاف الإبل، فمثلاً إذا كان الأرش عشرة من الإبل كان أرباعًا أو أثلاثًا على حسب الرأيين المختلفين اللذين ذكرناهما.
387- الأجناس التى تجب فيها الدية: هى نفس الأجناس التى سبق الكلام عليها فى العمد فى النفس.
388- تغليظ الدية: يرى بعض فقهاء مذهب أحمد أن الدية تغلظ فى العمد وفى الخطأ وفى النفس وما دون النفس، ويرى البعض أنها لا تغلظ إلا فى القتل الخطأ فقط وأنها لا تغلظ فيما دون النفس (1) .
ويرى مالك أنها تغلظ فيما دون النفس فى العمد فى حالة واحدة وهى جنايات الوالد على ولده، وكيفية لتغليظ عنده تثليث الدية (2) ، أما أبو حنيفة والشافعى فلا يريان التغليظ فيما دون النفس، ولكن الشافعى يرى التغليظ فى الخطأ فيما دون النفس كما هو الحال فى النفس، كما ورد ذلك فى الجزء السابع من نهاية المحتاج.
_________
(1) المغنى ج9 ص500 , الإقناع ج7 ص215.
(2) شرح الدردير ج4 ص37.
(2/287)

389- من يحمل الدية فى العمد؟: يحمل الدية فى العمد الجانى فى كل الأحوال باتفاق الفقهاء، ولكن مالكًا يستثنى فى حالة العمد أرش الجراح التى لا يمكن القصاص فيها خوف تلف الجانى كالجائفة والآمة وكسر العمد، ويرى أن العاقلة تحمل مع الجانى ما يبلغ ثلث دية الجانى والمجنى عليه من هذه الجراح بشرط أن لا تكون الجناية قد تثبتت على الجانى بالاعتراف لأن العاقلة لا تحمل اعترافًا (1) .
390- هل تجب الدية حالة؟: تجب الدية حالَّة فى العمد عند مالك والشافعى وأحمد، وتجب مؤجلة إلى ثلاث عند أبى حنيفة وما يحمله مالك للعاقلة من العمد يجب مؤجلاً إذا زاد على ثلث دية المجنى عليه أو الجانى (2) ، والمعتبر فى التأجيل أن الدية الكاملة تؤجل فى ثلاث سنوات، فلا يقل القسط عن ثلث الدية، وما زاد عن الثلث يدفع فى السنة الثانية، فإن كان الواجب أكثر من الثلثين دفع ما زاد عن الثلثين فى السنة الثالثة.
391- التداخل فى الديات: تكلمنا فيما سبق عن التداخل بمناسبة الكلام على ديات الأطراف والمعانى، ونرى أنه من الأفضل أن تجمع أحكام التداخل فى مكان ليكون ذلك أعوان على فهمها.
تداخل ديات الأطراف: لا تتداخل دية طرف فى طرف، وإنما تتداخل دية بعض الطرف فى دية بعضه الآخر إذا كانت دية البعض هى دية الكل، أو كانت دية الكل تشمل دية البعض.
فاليد طرف فيها دية واحدة إذا قطعت الكف مع الأصابع، وإذا قطعت الأصابع وحدها ففيها الدية، فإذا قطعت الكف بعد ذلك ففيها حكومة لأن ديتها
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص250 , بدائع الصنائع ج7 ص255 , المغنى ج9 ص488 , المهذب ج2 ص209.
(2) شرح الدردير ج4 ص250.
(2/288)

دخلت فى دية الأصابع ومثل اليد الرجل، والأجفان فيها الدية، والأهداب فيها الدية أيضًا على رأى، فإذا قطع الأجفان مع الهدب ففيهما دية واحدة لأنهما عضو واحد، وإذا قطعت الأهداب ففيها الدية فإذا قطعت الأجفان بعدها ففيها حكومة لأن ديتها دخلت فى دية الأهداب.
وفى الثدى الدية، وفى حلمة الثدى الدية، وإذا قطع الثدى والحلمة معًا ففيهما دية واحدة لأن العضو واحد، فإذا قطعت الحلمة وحدها فيها الدية، وإذا قطع الثدى بعد ذلك ففيه حكومة لأن ديته دخلت فى دية الحلمتين.
وفى الذكر الدية، وفى الحشفة الدية، فإذا قطع الذكر كله ففيه دية واحدة، وإذا قطعت الحشفة وحدها فلا دية للباقى، لأن ديته تدخل فى دية الحشفة.
وفى الأنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام فنصفه، وفى الظفر خمس دية الإصبع عند أحمد، فلو قطعت الأنملة من الظفر فأرش الأنملة هو الواجب، لأن أرش الظفر دخل فى أرش الأنملة.
تداخل ديات المعانى: لا تتداخل دية معنى فى معنى آخر ولو كان محلهما واحدًا، فكل معنى مستقل له دية مستقلة لا تدخل فى معنى غيره، وإنما تتداخل ديات المعانى فى ديات محلها من الأطراف، فإذا كان الطرف محلاً لمعنى فزال المعنى وحده وبقى الطرف وجبت الدية فى المعنى، وإذا زال الطرف مع المعنى دخلت دية المعنى فى دية الطرف ووجبت دية واحدة، فالعين محل الإبصار فإذا فقئت العين فزال الإبصار وجبت دية واحدة لزوال الطرف وهو العين ومعناه وهو الإبصار، وإذا بقيت العين قائمة وزال الإبصار وجبت دية واحدة للمعنى.
تداخل أروش الجراح والشجاج: لا تدخل أروش الجراح والشجاج بعضها فى بعض إلا إذا اتصل بعضها ببعض قبل الاندمال بفعل الجانى أو بالسراية، فمن أوضح آخر موضحتين أو أجافه جائفتين بينهما حاجز ثم خرق الحاجز أو ذهب الحاجز بالسراية فعليه أرش موضحة واحدة وجائفة واحدة، فإذا زال الحاجز بفعل غير الجانى وبغير السراية فعليه أرش موضحتين وجائفتين.
(2/289)

تداخل ما دون النفس فى النفس: وهناك بعد ذلك تداخل أعم، وهو تداخل ديات ما دون النفس فى دية النفس، ولكن لا تدخل دية ما دون النفس فى النفس إلا إذا كانت الأفعال كلها من نوع واحد كأن كانت كلها عمدًا أو خطأ أو شبه عمد، وكانت الجناية على النفس قبل برء الجنايات على ما دون النفس؛ فإذا توفر هذان الشرطان دخل ما دون النفس فى النفس ووجبت دية واحدة فقط. أما إذا برئ بعض ما دون النفس قبل الجناية على النفس فلا يدخل فى النفس إلا ما لم يندمل، وتجب ديات ما برئ قبل الجناية على النفس، ودية النفس. والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة أن ما برئ قبل النفس استقر حكمه وثبت فى ذمة الجانى، فإن قتل عمدًا والجنايات على الأطراف خطأ وجبت ديات الأطراف ودية النفس، وكذلك لو كان القتل خطأ والجنايات الأخرى عمدًا ولو كان الجانى واحدًا وهذا هو الرأى الراجح (1) .
* * *
العقوبات البدلية الثانية
التعزير

392- تكلمنا عن التعزير كعقوبة بدلية للقصاص فى حالة الجناية على النفس، وما قلناه هناك ينطبق مع مراجعة ما كتبناه عن التعزير كعقوبة أصلية.
عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ
393- عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ هى الدية أو الأرش: وهى العقوبة الأصلية الوحيدة وليس ثمة من عقوبة بدلية لازمة للدية، ولكن إذا شاءت الهيئة التشريعية أن تجعل لهذه الجناية عقوبة تعزيرية أصلية أو بدلية فليس فى نصوص الشريعة ما يمنع هذا. وإذا كان مالك يوجب التعزير فى العمد ولا يوجبه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص303 , نهاية المحتاج ج7 ص324 , المغنى ج9 ص386 , 396.
(2/290)

فى الخطأ فليس معنى ذلك أنه يمنع من التعزير فى الخطأ وإنما معناه أنه رأى عقوبة التعزير واجبة فى العمد للردع ولم يرها كذلك فى حالة الخطأ.
والدية يقصد منها الدية الكاملة، والأرش يقصد به ما هو أقل من الدية، والأرش مقدر وغير مقدر، وقد تكلمنا عن هذه المعانى جميعها بمناسبة الكلام على الدية فى العمد، ولا فرق بين ما قيل هناك وما يمكن أن يقال هنا.
394- ومقادير الدية وما تجب فيه كاملة وناقصة وما تجب فيه الحكومة كل ذلك قد تكلمنا عنه بمناسبة الكلام على الجناية على ما دون النفس عمدًا، والواقع أنه لا فرق بين عقوبة الدية فى العمد والخطأ من حيث الوجوب وما تجب فيه، والأجناس التى تجب فيها الدية، وغير ذلك من المواضع التى تكلمنا فيها بمناسبة الكلام على الدية، ونستطيع أن نحصر الفرق بين الديات فى الخطأ وبينها فى العمد فيما يأتى:
1- من يحمل الدية؟: يحملها فى العمد الجانى كما ذكرنا إلا ما استثناه مالك، ويحملها فى الخطأ باتفاق العاقلة، ويرى الشافعى وأحمد أن الجانى لا يحمل مع العاقلة شيئًا، ويرى أبو حنيفة ومالك أنه يحمل معها، والمقدار الذى تحمله العاقلة يختلف بحسب آراء الفقهاء لما ذكرنا فى القتل الخطأ.
2- أوصاف الإبل: الدية فى الخطأ تجب مخمسة باتفاق الفقهاء.
3- التغليظ فى الخطأ: يرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد كما يرى الشافعى التغليظ فيما دون النفس ولكن الظاهر (1) أن المذهب هو عدم التغليظ ولا يرى أحد من الأئمة الآخرين التغليظ فى الخطأ فيما دون النفس.
4- تأجيل الدية: تجب دية الخطأ مؤجلة فى ثلاث سنين إذا كانت كاملة.
* * *
_________
(1) المغنى ج9 ص500 , الإقناع ج4 ص215 , نهاية المحتاج ج7 ص301.
(2/291)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق