الاثنين، 8 ديسمبر 2014

القتل – المبحث الرابع : عقوبات القتل العمد – العقوبات الأصلية – القصاص ..من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني – د. عبد القادر عودة

القتل

من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
الجزء الثاني


الدكتور: عبد القادر عودة




المبحث الرابع

عقوبات القتل العمد


148 - للقتل العمد فى الشريعة أكثر من عقوبة: منها ما هو أصلى، ومنها ما هو تبعى. والعقوبات الأصلية هى:
1-  القصاص. ... 2 - الدية. ... 3 - التعزير والكفارة على رأى.

_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص278 , المغنى ج7 2559 , نهاية المحتاج ج7 ص350.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص273 , مواهب الجليل ج6 ص243 , نهاية المحتاج ج7 ص343.
(2/113)
________________________________________

والعقوبات التبعية اثنتان:
1- الحرمان من الميراث. ... ...
2 - الحرمان من الوصية.

149- القصاص:  تجب عقوبة القصاص بارتكاب جريمة القتل العمد فى الشريعة. ومعنى القصاص المماثلة؛ أى مجازاة الجانى بمثل فعله وهو القتل. ويستوى لتوقيع هذه العقوبة أن يكون القتل مسبوقًا بإصرار أو ترصد أو غير مسبوق بشىء من ذلك، كما يستوى أن يصحب القتل جريمة أخرى أو لا يصحبه شىء فالعقوبة على القتل العمد هى القصاص فى كل حال؛ إلا فى حالة الحرابة، أى عندما يقترن القتل بسرقة فالعقوبة فى هذه الحالة هى القتل والصلب، ولكن العقوبة لا تقع على الجانى باعتباره قاتلاً متعمدًا بل باعتباره محاربًا أى قاطع طريق.
150- وعقوبتا الدية والتعزير كلاهما بدل من عقوبة القصاص:  فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب الشرعية التى تمنع القصاص حلت محله عقوبة الدية مضافًا إليها التعزير إن رأت ذلك الهيئة التشريعية وإذا امتنعت عقوبة الدية لسبب من الأسباب الشرعية حلت محلها عقوبة التعزير، فالفرق بينهما أن عقوبة التعزير تكون أحيانًا بدلاً من القصاص وتكون أحيانًا بدلاً من بدل القصاص أى بدلاً من عقوبة الدية التى هى فى الأصل بدل من عقوبة القصاص، أما عقوبة الدية فهى بدل من القصاص فقط.

151- ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص نتيجتان: أولهما: أنه لا يجوز للقاضى أن يجمع بين العقوبتين جزاء عن فعل واحد، ولكن الجمع يجوز إذا تعددت الأفعال، فيجمع بينهما باعتبار القصاص عقوبة عن بعض الأفعال والدية عقوبة عن البعض الآخر، فمن قتل شخصًا عمدًا لا يصح أن يعاقب إلا بعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص فالعقوبة الدية والتعزير أو الدية فقط، فإن امتنعت الدية فالعقوبة التعزير. ومن قتل شخصين جاز أن يعاقب على قتل أحدهما بالقصاص وعلى قتل ثانيهما بالدية والتعزير إذا امتنع القصاص، وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية، فتكون نتيجة الحكم عليه أنه امتنع القصاص وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية فتكون نتيجة الحكم عليه أنه عوقب بالقصاص والدية والتعزير.
وخلاصة ما سبق: أنه لا يجوز الجمع بين عقوبة أصلية وعقوبة بدلية إذا كانت الأخيرة مقررة بدلاً من الأولى، أو بمعنى آخر: لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية
(2/114)
وبدلها، ولكن يجوز الجمع بين بدلين، كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين، فمثلاً يجوز الجمع بين الدية والتعزير وكلاهما بدل من عقوبة القصاص، ويجوز الجمع بين القصاص والكفارة وكلاهما عقوبة أصلية، ولا جدال فى أنه يجوز الجمع بين العقوبات الأصلية والعقوبات التبعية حيث لا يوجد ما يمنع من ذلك عقلاً وشرعًا.

152- ويترتب على أن القصاص أصل والدية والتعزير بدل أنه لا يجوز للقاضى أن يحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية ولسبب من الأسباب الشرعية التى تمنع القصاص، فإذا لم يكن هناك مانع وجب الحكم بالعقوبة الأصلية.

153- موانع القصاص: العقوبة الأصلية الأولى للقتل العمد هى القصاص فيحكم بهذه العقوبة على الجانى كلما توفرت أركان الجريمة، إلا إذا كان هناك سبب يمنع من الحكم بالقصاص. والأسباب التى تمنع الحكم بالقصاص ليس فيها سبب واحد متفق عليه فكلها مختلف فيه ولكن بعضها أخذ به معظم الفقهاء والبعض أخذ به أقلهم وسنذكرها جميعًا فيما يلى:
154- أولاً: أن يكون القتيل جزءًا من القاتل: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد (1) أنه إذا كان القتيل جزءًا من القاتل امتنع الحكم بالقصاص ويكون القتيل جزءًا من القاتل إذا كان ولده فإذا قتل الأب ولده عمدًا فلا يعاقب على قتله بالقصاص؛ لقوله عليه السلام: "لا يقاد الوالد بولده"، ولقوله: "أنت ومالك لأبيك". والحديث الأول صريح فى منع القصاص، والحديث الثانى وإن لم يكن صريحًا فى منع القصاص إلا أن نصه يمنع منه لأن تمليك الأب ولده وإن لم تثبت فيه حقيقة الملكية تقوم شبهة فى درء القصاص إذ القاعدة فى الشريعة "درء الحدود بالشبهات" أما الولد فيقتص منه لوالده سواء كان أبًا أو أمًا إذا قتله طبقًا للنصوص العامة، لأن النص الخاص لم يخرج من حكم النصوص العامة إلا الوالد فقط، ويعللون هذه التفرقة فى الحكم بين الوالد والولد بأن الحاجة إلى الزجر والردع فى جانب
---------------
(1) بدائع الصنائع ج9 ص235 , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج9 ص359 وما بعدها.
(2/115)
الولد أشهر منها فى جانب الوالد لأن الوالد يحب ولده لولده لا لنفسه دون أن ينتظر نفعًا منه إلا أن يحيى ذكره وهذا يقتضى الحرص على حياته، أما الولد فيحب والده لنفسه لا لوالده أى أنه يحبه لما يصل إليه من منفعة عن طريقه وهذا لا يقتضى الحرص على حياة والده لأن مال والده كله يؤول إليه بعد وفاته وحبه لنفسه يتعارض مع الحرص على حياة والده (1) . ويعلل البعض (2) التفرقة فى الحكم بأن الوالد كان سببًا فى إيجاد الولد فلا يصح أن يكون الولد سببًا فى إعدامه وهو تعليل يراه البعض بعيدًا عن الفقه؛ لأن إذا زنا بابنته يرجم فتكون سبب إعدامه مع أنه سبب وجودها. والحقيقة أن الابن والبنت ليسا سبب إعدام الأب وإنما ارتكاب الأب للجريمة فى كل حال كان سبب إعدامه (3) .
ويدخل تحت لفظى الوالد والولد باتفاق الفقهاء الثلاثة كل والد وإن علا وكل ولد وإن سفل فيدخل تحت الوالد الجد أب الأب والجد أب الأم وإن علا (4) ، ويدخل تحت الولد ولد الولد وإن سفلوا.
وحكم الأم هو حكم الأب، فإذا قتلت الأم ولدها فلا يقتص منها لأن النص جاء بلفظ الوالد وهى أحد الوالدين فاستوت فى الحكم مع الأب، فضلاً عن أنها أولى بالبر فكانت أولى بنفى القصاص عنها. ولأحمد رأى آخر غير معمول به، وهو قتل الأم بولدها ويعلل هذا الرأى بأن الأم لا ولاية لها على ولدها فتقتل به. ويرد على هذا الرأى بأن الولاية لا دخل لها فى منع القصاص بدليل أن الأب لا يقتص منه إذا قتل ولده الكبير مع أنه لا ولاية له على ولده (5)
والجدة كالأم فيما سبق سواء كانت من قَبل الأب أو من قبل الأم، فحكمها
(1) بدائع الصنائع ج9 ص235.
(2) المغنى ج9 ص259 , البحر الرائق ج8 ص296.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج2 ص250.
(4) يرى الحسن بن حى أن الجد لا يدخل تحت لفظ الوالد. ويرد عليه بأن الحكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد ومن ثم كان الجد والداً.
(5) المغنى ج9 ص361.
(2/116)
حكم الجد.
ويمتنع القصاص عن الوالد سواء كان مساويًا للولد فى الدين والحرية أو مخالفًا له فى ذلك؛ لأن انتفاء القصاص أساسه شرف الأبوة وهو موجود فى كل حال، فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل الرقيق ولده الحر فلا قصاص لشرف الأبوة ومكانتها (1) .
ولأحمد رأى آخر غير معمول به ملخصه: أن الابن لا يقتل بوالده لأنه مما لا تقبل شهادة له بحق النسب، فلا يقتل به كما لا يقتل الأب بولده حيث لا تقبل شهادة له. ورد هذا الرأى بأن النصوص العامة تقضى بأن يقتل كل منهما بالآخر لولا النص الخاص الذى جاء قاصرًا على الولد، وأن الوالد أعظم حرمة وحقًا على الابن من أى شخص أجنبى، فإذا كان الابن يقتل بالأجنبى فبالأب أولى، كذلك فإن الابن يحد بقذف الأب فيقتل به (2(
ويخالف مالك الفقهاء الثلاثة، ويرى قتل الوالد بولده كلما انتفت الشبهة فى أنه أراد تأديبه أو كلما ثبت ثبوتًا قاطعًا أنه أراد قتله، فلو أضجعه فذبحه أو شق بطنه أو قطع أعضاءه فقد تحقق أنه أراد قتله وانتفت شبهة أنه أراد من الفعل تأديبه ومن ثَمَّ يقتل به، أما إذا ضربه مؤدبًا أو حانقًا ولو بسيف أو حَذَفَه بحديدة أو ما أشبه فقتله فلا يقتص منه لأن شفقة الوالد على ولده وطبيعة حبه له تدعو دائمًا إلى الشك فى أنه قصد قتله، وهذا الشك يكفى لدرء الحد عنه (3) فلا يقتص منه، وإنما عليه دية مغلظة.
والقتل - كما جاء فى المدونة - من العمد لا من الخطأ فهو فى حال القاتل لا تحمل العاقلة منه شيئًا (4(
والأصل أن الخطأ فيه دية مخففة لا دية مغلظة وأن الدية المغلظة هى العقوبة البدلية التى تحل محل القصاص، أى عقوبة العمد فهل اعتبر مالك
_________
(1) المغنى ج9 ص361.
(2) المغنى ج9 ص365.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , المدونة ج16 ص106 - 108.
(4) المدونة ج16 ص107 , 108.

(2/117)
الفعل قتلاً عمدًا ودرأ القصاص للشبهة طبقًا لقوله عليه السلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" ومن ثم رأى القضاء بالدية المغلظة بدلاً من القصاص؟ أم أنه اعتبر الفعل قتلاً خطأ ورأى تغليظ الدية لشناعة الجريمة؟ الراجح أن الفعل يعتبر قتلاً عمدًا وأن القصاص درء للشبهة المتمكنة فى القصد كما سنبينه بعد، على أنه يمكن القول باعتبار الفعل خطأ ثم تغليظ الدية لشناعة الجريمة، والأم فى ذلك مثل الأب فى الحكم فى حالة تغليظ الدية، ومثل الوالد الجد ومثل الولد ولد الولد.
وهناك رأى ثالث بأن مالكًا اعتبر الفعل قتلاً شبه عمد وأنه لم يسلم بالقتل شبه العمد إلا فى هذه الحالة، وهو رأى له سند فى المذهب وإنما جاء به أصحابه تعليلاً للحكم ولا شك أن أحد العقابين السابقين أجدر منه بالقبول واقرب إلى المبدأ الذى قام عليه المذهب.
وبهذه المناسبة يحسن أن نفصل القول عن تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات فى جريمة القتل، فمعنى هذه القاعدة أن كل شبهة قامت فى فعل الجانى أو قصده يترتب عليها درء الحد إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، ويعاقب الجانى بدلاً من عقوبة الحد بعقوبة تعزيرية ومن السهل تطبيق هذه القاعدة فى جرائم الحدود جميعًا على هذه الصورة ولكن تطبيق القاعدة فى جرائم القتل نادر مع وبهذه المناسبة يحسن أن نفصل القول عن تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات فى جريمة القتل، فمعنى هذه القاعدة أن كل شبهة قامت فى فعل الجانى أو قصده يترتب عليها درء الحد إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، ويعاقب الجانى بدلاً من عقوبة الحد بعقوبة تعزيرية ومن السهل تطبيق هذه القاعدة فى جرائم الحدود جميعًا على هذه الصورة ولكن تطبيق القاعدة فى جرائم القتل نادر مع إمكانه فهى تقريبًا معطلة التطبيق وإن كانت فى الواقع تطبق معنًى لا صورة لأن القتل وهو فعل واحد قسم إلى أنواع مختلفة: عمد، وشبه عمد، وخطأ ففى العمد إذا قامت الشبهة فى الفعل فإنه لا يمكن درء الحد بالشبهة لأن الفعل بعد قيام الشبهة يكون قتلاً خطأ أو جرحًا وإذا قامت الشبهة فى القصد فإن الفعل يكون قتلاً شبه عمد، وهكذا يمنع تنوع القتل من تطبيق القاعدة وكذلك إذا كان الفعل قتلاً شبه عمد فقامت الشبهة فى الفعل أو القصد فإن الفعل يعتبر قتلاً خطأ أو جرحًا وإذا قامت الشبهة فى القتل الخطأ فإن الفعل يعتبر جرحًا خطأ فالشبهة فى القتل تحولّ نوع القتل إلى ما هو أدنى منه وتدرأ الحد الأعلى بالحد الأدنى فكأن القاعدة تطبق معنًى لا صورة.
(2/118)
وليس لتطبيق القاعدة مجال عند مالك لأنه يقسم القتل إلى نوعين فقط عمد وخطأ، لأن ما لا يعتبر عمدًا عنده يعتبر خطأ فإذا قامت الشبهة فى القصد أو الفعل اعتبر العمد قتلاً خطأ أو جرحًا.
قتل الرجل بزوجته: ويقيس الليث بن سعد والزهرى الزوج على الأب. فالابن وماله ملك لأبيه طبقًا لحديث الرسول، والزوجة ملك للزوج بعقد النكاح فهى أشبه بالأمَة، فإذا منعت شبهة الملك القصاص هناك منعته كذلك هنا. ولكن جمهور الفقهاء لا يرون هذا الرأى وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة. فعندهم أن الزوجين شخصان متكافئان فيقتل كل منهما الآخر كالأجنبيين، وما يقال من أن الزوج يملك الزوجة غير صحيح، فهى حرة ولا يملك منها الزوج إلا متعة الاستمتاع فهى أشبه بالمستأجرة وفضلاً عن هذا فإن النكاح ينعقد لها عليه كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعًا سواها وتطالبه فى حق الوطء بما يطالبها ولكن له عليها فضل القوامة التى جعل الله عليها بما أنفق من ماله اى ما وجب عليه من صداق ونفقة، ولو أورث هذا شبهة لأورثها فى الجانبين لا فى جانب واحد.

155- ثانيًا: يشترط مالك والشافعى وأحمد أن يكون المجنى عليه مكافئًا للجانى :  فإن لم يكن مكافئًا امتنع الحكم بالقصاص ويعتبر المجنى عليه مكافئًا عندهم إذا لم يفضله الجانى بحرية أو إسلام فإذا تساويا فى الحرية والإسلام فهما متكافئان، ولا عبرة بعد ذلك بما بينهما من فروق أخرى؛ فلا يشترط التساوى فى كمال الذات، ولا سلامة الأعضاء ولا يشترط التساوى فى الشرف والفضائل فيقتل سليم الأطراف بمقطوعها، والصحيح بالمريض والأمثل، والكبير
بالصغير، والقوى بالضعيف، والعالم بالجاهل، والعاقل بالمجنون، والأمير بالمأمور، والذكر بالأنثى ... الخ.
ولا خلاف بين الفقهاء فى قتل الرجل والأنثى بالأنثى لقوله تعالى:

(2/119)
[الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178] ، ولكنهم اختلفوا فى تفسير هذه الآية فمنهم من رأى أنها تعرضت لحكم النوع إذا قتل نوعه؛ ولكنها لم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل النوع الآخر، ومن ثم فقد اختلفوا فى ذلك إلى رأيين.
الرأى الأول، وهو رواية عن على بن أبى طالب: يرى أصحاب هذا الرأى بأن الرجل يقتل بالمرأة ويُعطى أولياؤه نصف الدية. وحجة هذا الفريق أن النص لم يتعرض إلا لحكم النوع إذا قتل نوعه، وأن دية المرأة نصف دية الرجل، فإذا قتل بها بقى له بقية فيستوفى ممن قتله (1) ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة.
وإذا قتلت امرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها.
ويقول القرطبى: إن أبا عمر علق على هذا الرأى بقوله: إذا كانت المرأة لا تكافئ الرجل ولا تدخل تحت قول النبى: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فلم قتل الرجل بها وهى لا تكافئه؟ وكيف تؤخذ نصف الدية مع القتل وقد أجمع العلماء على أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن قبول الدية يحرم دم القاتل ويمنع القصاص؟ (2( وأصحاب الرأى الثانى يرون أن الذكر يقتل بالأنثى كما تقتل الأنثى بالذكر. ومن هذا الرأى الأئمة الأربعة وحجتهم قوله تعالى: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} وقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وأنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بكتاب الفرائض والسنن وذكر فيه أن الرجل يقتل بالمرأة والرجل والمرأة شخصان يحد كل منهما بقذف الآخر، فيقتل كل منهما بالآخر كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص واجب، فلا تجب معه الدية كسائر القصاص، واختلاف الديات لا عبرة به فى القصاص، بدليل أن الجماعة تقتل بالواحد، والنصرانى بالمجوسى مع اختلاف دينهما، والعبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما.
____
(1) المغنى ج9 ص337 , 378.
(2) القرطبى ج2 ص248.

(2/120)

ومذهب الشيعة الزيدية أنه إذا قتلت امرأة رجلاً وجب أن تقتل المرأة بالرجل ولا يزيد شىء على قتلها، وإذا قتل الرجل المرأة قتل الرجل بها، ويستوفى ورثته - أى أولياء الدم - نصف دية، ولا يجب القصاص إلا بشرط التزامهم ذلك.
ويشترط التكافؤ فى المجنى عليه لا فى الجانى، فإذا كان المجنى عليه لا يكافئ الجانى امتنع القصاص؛ كأن يكون القاتل مسلمًا والقتيل كافرًا، أو كان القاتل حرًا والقتيل عبدًا ولكن التكافؤ لا يشترط فى الجانى، فإن كان الجانى لا يكافئ المجنى عليه فإن هذا لا يمنع القصاص، لأن شرط التكافؤ وضع لمنع قتل الأعلى بالأدنى ولم يوضع لمنع قتل الأدنى بالأعلى، فإذا قتل الكافر مسلمًا أو العبد حرًا قُتل به على الرغم من انعدام التكافؤ بينهما؛ لأن النقص فى الجانى وليس فى المجنى عليه، والنقص هو الكفر والعبودية والزيادة هى الإسلام والحرية.

أ - الحرية:  يرى الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من السنة أن لا يقتل حر بعبد" أو كما يروى عن ابن عباس: "لا يقتل حر بعبد" ويرون أن العبد منقوص بالرق فلا يكافئ الحر. والمكافأة بالحرية شرط عندهم فى المجنى عليه لا فى الجانى، فإذا كان المجنى عليه حرًا والجانى عبدًا اقتص من الجانى، وإذا كان المجنى عليه عبدًا والجانى حرًا لم يقتص من الجانى (1(
أما أبو حنيفة فيرى القصاص بين الأحرار والعبيد ولا يشترط التكافؤ فى الحرية للقصاص، ويستوى عنده أن يكون الحر هو القاتل للعبد أو العبد هو القاتل للحر، فالقصاص واجب الحكم به على الجانى فى الحالين.
ولكن أبا حنيفة (2) يرى استثناء أن لا يقتل السيد بعبده فإذا كان القتيل مملوكًا للقاتل أو كان للقاتل فيه شبهة الملك، امتنع القصاص من القاتل؛ لقوله
----------
(1) مواهب الجليل ج6 ص236 وما بعدها , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج9 ص248.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص235.

(2/121)

صلى الله عليه وسلم -: "لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده" وعلة المنع أنه لو وجب القصاص لوجب للسيد ولا يمكن أن يكون القصاص له وعليه هذا إذا كان يملكه كله، فإن كان يملك بعه فلا يقتص منه؛ لأن القصاص عقوبة لا تتبعض فلا يمكن استيفاء بعضها دون بعض. وإذا كان له شبهة الملك فيه لا يقتص منه؛ لأن الشبهة فيما يقتص منه تلحق بالحقيقة درءًا للحد. أما إذا قتل العبد سيده فإنه يقتص منه؛ لأن معنى القصاص عام، ولم يستثن منه إلا قتل السيد لعبده. وظاهر مما سبق أن أبا حنيفة يتفق مع الأئمة الثلاثة فى قتل السيد لعبده ويختلف معهم فيما عدا ذلك.
وهناك من يرى أن يقتص من السيد إذا قتل عبده فالنخعى وداود يريان قتل السيد بعبده؛ لما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه" (1(
هذه خلاصة آراء الفقهاء فى التكافؤ بين الحر والعبد رأينا الإتيان بها لإعطاء فكرة عن أحكام الشريعة فى هذه الناحية ونحن نعلم أن الرق قد أبطل اليوم، فلا سيد ولا مسود ولعل أول شريعة دعت إلى إبطال الرق وحثت عليه هى الشريعة الإسلامية.
ب - الإسلام.  قتل المسلم بغيره: يرى مالك والشافعى أن المسلم لا يقتل بكافر أيًا كان إذا قتله، لأن الكافر لا يكافئ المسلم ولكن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله لأنه قتل الأدنى بالأعلى ويرون تطبيق هذا الحكم على الذميين ولو أنهم يؤدون الجزية، وتجرى عليهم أحكام الإسلام.
وحجتهم أن التكافؤ فى الإسلام شرط وجوب القصاص وأن الكفر نقصان فإذا وجد الكفر امتنعت المساواة ويمتنع وجوب القصاص لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر"
--------
(1) المغنى ج9 ص349

(2/122)
ولأن فى عصمة الذمى شبهة العدم لثبوتها مع قيام المنافى وهو الكفر، والأصل فى الكفر أنه مبيح للدم، ولكن عقد الذمة منع الإباحة فبقاء الكفر يورث الشبهة والشبهة تدرأ الحد، وإذا كان المسلم لا يقتل بالمستأمن وهو كافر فكذلك الذمى (1)
ويرى أبو حنيفة أن المسلم يقتل بالذمى وأن الذمى يقتل بالمسلم؛ لأن النصوص التى جاءت بعقوبة القصاص عامة، فالله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى} [البقرة: 178] ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، ويقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ، فهذه النصوص عامة لم تفصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم، فمن ادعى التخصيص والتقييد فهو يدعيه بلا دليل، ولقد قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ، وتحقيق معنى الحياة فى قتل المسلم بالذمى أبلغ منه فى قتل المسلم بالمسلم؛ لأن العدواة الدينية تحمله على القتل خصوصًا عند الغضب فكانت الحاجة إلى الزاجر أمسّ وكان فرض القصاص أبلغ فى تحقيق معنى الحياة.
ويخالف الإمام مالك زميله فيرى قتل المسلم بالذمى إذا قتله غيلة، والغيلة هى أن يخدعه غيره ليدخله موضعًا يأخذ ماله.
والقتل الغيلة هو نوع من الحرابة عند مالك، ولا يعترف به الشافعى وأحمد وأبو حنيفة (2) ، فإن للقتل الغيلة حكمًا خاصًا فهو قتل فيه القصاص إن توفرت شروطه وإذا كان مالك يقيسه على الحرابة فإنهم لا يرون ذلك (3)
كذلك يحتجون بما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه أقاد مؤمنًا بكافر وقال: "أنا أحق من وفَى بذمته" ويفسرون حديث: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد فى عهد" بأن المراد من "الكافر" المستأمن، وأن "ذو عهد" معطوف
_______
(1) مواهب الجليل ج6 ص236 وما بعدها , المهذب ج2 ص185 , المغنى ج9 ص341 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص333.
(3) الشرح الكبير ج9 ص383.
(2/123)

على "مؤمن"، فمعنى الحديث: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بكافر.
ويردون على القول بأن فى عصمة الذمى شبهة العدم: بأن دم الذمى حرام لا يحتمل الإباحة بحال مع قيام الذمة، وأنه بمنزلة دم المسلم مع قيام الإسلام، وأن الكفر ليس مبيحًا على الإطلاق، وأن الكفر المبيح هو الكفر الباعث على الحرب، وكفر الذمى ليس بباعث على الحرب فلا يكون مبيحًا. كذلك فإن المساواة فى الدين ليست بشرط للقصاص، لأن الذمى إذا قتل ذميًا ثم اسلم القاتل فإنه يقتل به قصاصًا، كما يسلم به الجميع، ولا مساواة بينهما فى الدين وقد قال على رضى الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا، وذلك بأن تكون معصومة بلا شبهة كعصمة دم المسلم وماله، ولهذا يُقطع المسلم بسرقة مال الذمى ولو كان فى عصمته شبهة لَماَ قُطع المسلم كما لا يقطع فى سرقة مال المستأمن، لأن المال تبع للنفس وأمر المال أهون من النفس فلما قطع بسرقته كان أولى أن يقتل بقتله لأن أمر النفس أعظم من المال (1)
ورأى أبى حنيفة يتفق مع القوانين الوضعية الحديثة، فهى لا تفرق فى العقوبة لاختلاف الدين، والقانون المصرى لا يفرق بين ذمى ومسلم فكلاهما يقتل بالآخر.
قتل المسلم فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة أنه إذا قتل مسلم حربيًا اسلم وبقى فى دار الحرب، فلا قصاص على القاتل، لأنه وإن قتل مسلمًا إلا أن المقتول من أهل دار الحرب، فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة فى عصمته لأنه إذا لم يهاجر إلى دار الإسلام فهو مكثر سواد الكفار، ومن كثر سواد قوم منهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو وإن لم يكن منهم دينًا فهو منهم دارًا وهذا هو الذى أورثه الشبهة. ولو كانا مسلمين تاجرين أو أسيرين فى دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فلا قصاص أيضًا (2) للشبهة ولتعذر الاستيفاء.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص237 , البحر الرائق ج8 ص296.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص133 , 237.
(2/124)


أما الأئمة الثلاثة فيرون القصاص، سواء كان القتل فى دار الحرب أو دار الإسلام، وسواء هاجر القتيل أم لم هاجر (1)
قتل الكافر بغيره: وإذا قتل الذمى مسلمًا قتل به اتفاقًا لأنه فى رأى أبى حنيفة قتل داخل تحت النصوص العامة، وعند الأئمة الثلاثة يقتل به مع وجود التفاوت؛ لأنه تفاوت إلى النقصان ولا يمنع القصاص إلا التفاوت إلى زيادة ولا يعتبر قتل الذمى للحربى جريمة اتفاقًا؛ لأن الحربى مباح الدم على الإطلاق (2)
ولا يقتل الذمى بالمستأمن عند أبى حنيفة؛ لأن عصمة المستأمن ليست مطلقة بل هى مؤقتة إلى غاية مقامه فى دار الإسلام، إذ المستأمن أصلاً من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام لعارض على أن يعود إلى وطنه الأصلى فكانت فى عصمته شبهة العدم. ويرى أبو يوسف أنه يقتل به قصاصًا لقيام العصمة وقت القتل (3)
ويقتل المستأمن بالمستأمن عند أبى حنيفة قياسًا، ولا يقتل قياسًا لقيام المبيح (4)
ويرى مالك والشافعى وأحمد أن الكفار يقتلون بعضهم ببعض دون تفريق فالذمى يقتل بأى كتابى أو مجوسى أو مستأمن (5) ولو اختلفت ديانتهم. 156-   ثالثًا: إذا لم يباشر الجانى الجناية ولكنه عاون عليها أو حرض عليها: محل هذا الشرط أن يتعدد الجناة؛ لأن الجانى الواحد يباشر الجناية بنفسه سواء كان القتل مباشرة أو تسببًا، أما إذا تعدد الجناة فإن بعضهم قد يباشر الجناية بنفسه، وبعضهم قد يعين المباشرين وبعضهم قد يحرض على الجناية.
_________
(1) المغنى ججج9 ص335.
(2) المغنى ج9 ص347.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص236.
(4) البحر الرائق ج8 ص296.
(5) مواهب الجليل ج6 ص237 , الشرح الكبير ج4 ص214 , المغنى ج9 ص342.
(2/125)
ومن المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أن تعدد الجناة لا يمنع من الحكم عليهم بالقصاص ما دام كل منهم قد باشر الجناية (1) ، وإذا كان القصاص يقتضى المماثلة فإن المماثلة شرط فى الفعل لا فى عدد الجناة والمجنى عليهم، وأحق ما يجعل فيه القصاص إذا قتل الجماعة الواحد لأن القتل لا يوجد عادة إلا على سبيل الاجتماع، فلو لم يجعل فيه القصاص لانسد باب القصاص، إذ كل من رام قتل غيره استعان بغيره يضمه إليه ليبطل القصاص عن نفسه، وفى هذا ما يفوت الغرض من فرض القصاص وهو الحياة ومنع القتل، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .
وهناك رواية عن أحمد: بأن القصاص يسقط عن الجناة إذا تعددوا وتجب عليهم الدية. ويرى ابن الزبير وابن سيرين وآخرون: أن يقتل من القاتلين واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وحجتهم فى عدم القصاص من الجمع أن كل واحد منهم مكافئ للجانى، فلا يستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد وأن الله تعالى قال: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} ، و {النَّفْسَ بالنَّفْس} ومقتضاه أن لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة (2)
وإذا كان الفقهاء الأربعة قد اتفقوا على القصاص من الجماعة للفرد إذا باشروا القتل، فإنهم اختلفوا فى حالة الإعانة على القتل أو التحريض عليه، والمسائل المختلف عليها أربع:
أولها: الإعانة فى حالة التمالؤ.
ثانيها: إمساك القتيل للقاتل.
ثالثها: الأمر بالقتل.
رابعها: الإكراه على القتل.
أولاً: الإعانة فى حالة التمالؤ:   ذكرنا قبلاً أن التمالؤ عند أبى حنيفة هو التوافق. وأن باقى الأئمة يرون التوافق قتلاً على الاجتماع لا تمالؤ فيه، وأن التمالؤ عندهم هو الاتفاق السابق على ارتكاب جريمة القتل، والفرق بين الحالتين أن المباشرين فى حالة الاتفاق يعتبر
_________
(1) راجع الفقرات من 52 إلى 54.
(2) المغنى ج9 ص336 , 337.
(2/126)
كل منهم قاتلاً، ولو كان فعله بالذات غير قاتل، ما دام الموت كان نتيجة أفعال الجميع أما فى حالة التوافق فلا يعتبر المباشر قاتلاً إلا بشروط بيناها عند الكلام على القتل على الاجتماع.
ولا خلاف فى أن القاتل فى الحالتين يقتص منه ولو تعدد المباشرون سواء كان اجتماعهم على القتل نتيجة اتفاق سابق أو توافق غير منتظر.
ولكن الخلاف فى حكم من اتفق ولم يحضر القتل، أو أعان عليه ولم يباشره فأبو حنيفة والشافعى وأحمد يرون القصاص من المباشر فقط، وتعزير من لم يباشر.
ومالك يرى قتل من حضر ولم يباشر ومن أعان ولم يباشر، كأن كان ربيئة أو حارسًا للأبواب، أما من اتفق ولم يحضر فعليه التعزير فى الراجح. ويشترط فيمن حضر أو من أعان أن يكونوا بحيث لو استعان بهم أعانوا، أو إذا لم يباشره أحد المتماثلين باشره الآخر فشرط القصاص إذن أن يكون المتمالئ غير المباشر فى محل الحادث أو على مقربه منه، وليس من الضرورى أن يباشر القتل بنفسه (1)
وقد جاء فى فتاوى ابن تيمية (2) أمثلة على هذه الحالات المختلفة ففيها إذا اشترك جماعة فى قتل معصوم "أى محرم القتل" بحيث أنهم جميعًا لو باشروا قتله، وجب القود - أى القصاص - عليهم جميعًا، وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم بحرس المباشر ويعاونه ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبى حنيفة والشافعى وأحمد، والثانى: يجب على الجميع وهو قول مالك.
وجاء فى الفتاوى أيضًا: أنه إذا اشترك أولاد رجل مع أجنبى فى قتل والدهم جاز قتلهم جميعًا، فقتل المباشر باتفاق الأئمة، وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت ... الأبواب ونحو ذلك، ففى قتلهم قولان وقتلهم مذهب مالك

(1) مواهب الجليل ج6 ص242 , الشرح الكبير ج4 ص218 , القصاص ص127 وما بعدها , أحكام المرأة ص584 وما بعدها.
(2) فتاوى ابن تيمة ج4 ص187 , 188 طبعة سنة 1329 هـ بمصر مطبعة كردستان.
(2/127)
وغيره. وجاء فى الفتاوى أيضًا: إذا وعد رجل رجلاً آخر على قتل معصوم بمال معين فقتله وجب القتل على الموعود وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا وعند بعضهم يجب عليه القود.
ثانيًا: إمساك القتيل للقاتل: إذا أمسك رجل آخر فجاء ثالث فقتله فلا مسئولية على الممسك إذا لم يمسكه بقصد القتل أو لم يكن يعلم أن القاتل سيقتله أما إذا أمسكه بقصد القتل فقتله الثالث فلا خلاف فى القصاص من الثالث أى مباشر القتل، ولكنهم اختلفوا فى الممسك على الوجه الذى سنبينه بعد.
فمالك (1) يرى الممسك قصاصًا إذا أمسك القتيل لأجل القتل فقتله الطالب وهو يعلم أن الطالب سيقتله لأنه بإمساكه تسبب فى قتله ويشترط البعض أن يكون لولا الإمساك ما أدركه الطالب، ولا يشترط البعض هذا الشرط (2) . فإن أمسكه ليضربه الطالب ضربًا معتادًا أو لم يعلم أنه يقصد قتله لعدم رؤيته آلة القتل معه مثلاً، أو كان قتله لا يتوقف على الإمساك فعقاب الممسك هو التعزير وليس القصاص.
ويلحق مالك بالممسك الدال على القتيل إذا ثبت أنه لولا دلالته ما قتل المدلول عليه (3)
ويرى أبو حنيفة (4) والشافعى (5) تعزير الممسك ولو أمسك المجنى عليه بقصد القتل وهو عالم بأنه سيقتل لأنه فعل الطالب مباشرة وفعل الممسك تسبب وقد تغلبت المباشرة على السبب وقطعت أثره كما أن السبب غير ملجئ.
وفى مذهب أحمد (6) رأيان:
أولهما: يرى القصاص من الممسك، لأنه لو لم
_________
(1) الشرح الكبير ج4 ص217.
(2) القصاص ص132.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217.
(4) البحر الرائق ج8 ص345.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص244.
(6) الشرح الكبير ج9 ص235 وما بعدها.
(2/128)
يمسك القتيل ما قدر الطالب على قتله، فالقتل حاصل بفعلهما معًا فهما شريكان فيه وعليهما القصاص، وإذا كان فعل الطالب مباشرة وفعل الممسك تسببًا فإنهما قد تعادلا واشتركا فى إحداث الموت. وهذا الرأى يتفق مع مذهب مالك، وهو الرأى المرجوح فى مذهب أحمد.
أما الرأى الثانى: فيرى أصحابه حبس الممسك حتى الموت، لما روى عن ابن عمر عن النبى عليه السلام قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذى قتل ويحبس الذى أمسك لأنه حبسه إلى الموت" ولأن عليًا رضى الله عنه قضى بقتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت.
ويرى البعض أن مدة الحبس متروك تقديرها لولى الأمر، لأن الحبس نوع من التعزير وليس حدًا (1) . وإذا اعتبرنا الحبس تعزيرا لا حدًا، فإن الرأى الثانى فى مذهب أحمد يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى.
ويفسر الفقهاء الإمساك بمعناه الأعم، فلا يقصرونه على الإمساك باليد؛ فيدخل تحته منع القتيل من مبارحة مكانه بأى وسيلة كانت حتى يتمكن منه القاتل، أو حبس القتيل فى مكان لا يستطيع الخروج منه، فإذا اتبع رجل آخر ليقتله فهرب منه فقابله ثالث فقطع رجله ثم أدركه الطالب فقتله فإن كان الثالث قطع رجله ليحبسه عن الهرب حتى يلحق به الطالب فحكمه حكم الممسك فيما يتعلق بالقتل لأنه حبسه بفعله على القتل، ثم هو مسئول بعد ذلك عن القطع عمدًا (2)
ثالثًا: الأمر بالقتل:  يفرق الفقهاء بين الأمر بالقتل والإكراه على القتل ففى الأمر بالقتل لا يكون المأمور مكرهًا على إتيان الجريمة فيأتيها مختارًا وإذا كان قد أمر بإتيانها فإن الأمر ليس له أثر على اختياره، وقد يكون الأمر ذا سلطان على المأمور كالأب يأمر ولده الصغير، والحاكم يأمر من هو
_________
(1) أحكام المرأة ص583 , مجلة القانون والاقتصاد , السنة السادسة.
(2) الشرح الكبير ج9 ص344.
(2/129)
تحت إمرته، وقد لا يكون له سلطان عليه، وفى هذه الحالة الأخيرة يكون الأمر مجرد تحريض على إتيان الجريمة، ولكل حالة من هذه الحالات حكمها.
فإذا كان المأمور غير مميز كالصبى أو المجنون، فيرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من الآمر، لأنه هو المتسبب فى القتل، وإن كان المأمور هو الذى باشره فما هو إلا آلة للآمر يحركها كيف شاء (1) ، ولا يرى أبو حنيفة القصاص من الآمر لأنه تسبب فى القتل ولم يباشره والتسبب عند أبى حنيفة لا قصاص فيه.
وإذا كان المأمور بالغًا عاقلاً ولا سلطان للآمر عليه، فيرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من المأمور، أما الآمر فعليه التعزير ويرى مالك القصاص من الآمر أيضًا إذا حضر القتل، وهذا يتفق مع رأيه فى التمالؤ فإذا لم يحضره فعليه التعزير، وينبغى أن يلحق بحضور القتل الإعانة عليه لأن المعين عند مالك يقتص منه (2(
وإذا كان المأمور بالغًا عاقلاً وكان للآمر سلطان عليه بحيث يخشى أن يقتله لو لم يطع الأمر، فيقتص من الآمر والمأمور معًا عند مالك لأن الأمر فى هذه الحالة يعتبر إكراهًا، فإن لم يكن المأمور يخشى القتل إذا لم يطع الأمر فالقصاص على المأمور وحده ويعزز الآمر إذا كان المأمور يعلم أن القتل بغير حق، فالقصاص على الآمر دون المأمور لأنه معذور فى طاعة الأمر، هذا إذا كان الأمر من حق الآمر كوال أو سلطان، فإن لم يكن من حقه فالقصاص على المأمور؛ لأن الطاعة لا تلتزمه ولأن الآمر ليس له الأمر بالقتل، بخلاف السلطان فله الأمر بالقتل وطاعته واجبة فى غير معصية (3)
ويتفق رأى أحمد فيما سبق مع رأى مالك تماما الاتفاق (4) ، ويتفق رأى الشافعى معهما كذلك إلا أنه فى المذهب رأيان فى المأمور فى حالة اعتبار الأمر
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج9 ص324 , المهذب ج2 ص189 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص218.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) الشرح الكبير للدردير ج9 ص342 , المدونة ج16 ص43 , 44.
(4) الشرح الكبير ج9 ص342 , 343.

(2/130)

إكراهًا، أحدهما يرى أصحابه القصاص من الآمر دون المأمور، والثانى - وهو الأصح - يرى أصحابه القصاص منهما معًا (1)
وعند أبى حنيفة يقتص من الآمر فى حالة الإكراه فقط لأن المأمور كان معه كالآلة يحركها كيف يشاء فكأنه باشر القتل بنفسه، فإذا لم يكن الأمر إكراهًا فلا قصاص على الآمر لأنه لم يباشر القتل بنفسه أما المأمور فيقتص منه إذا لم يكن مكرهًا وكان الأمر صادرًا له ممن لا حق فيه، فإن كان صادرًا ممن يملكه فلا قصاص ولو كان المأمور يعلم أن الأمر غير محق لأن الأمر يكون شبهة تدرأ القصاص (2)
رابعًا: الإكراه على القتل: تكلمنا عن الإكراه فى الجزء الأول من هذا الكتاب ولا نرى ما يدعو لتكرار القول، ولكننا نلخص آراء الفقهاء فى نوع عقوبة كل من الحامل - أى المكره - والمباشر، وذلك ما نحن فى حاجة إليه فى هذا المقام.
مذهب مالك وأحمد والرأى الصحيح فى مذهب الشافعى على أن القصاص واجب على المكره، والمكره معًا؛ لأن الحامل - أى المكره - تسبب فى القتل بمعنًى يفضى إليه غالبًا، ولأن المباشر - أى المكرَه - قتل المجنى عليه ظلمًا لاستبقاء نفسه فأشبه ما إذا اضطر للأكل فقتله ليأكله، والقول بأنه ملجأ غير صحيح لأنه يستطيع أن يمتنع عن القتل ولكنه لم يفعل إبقاء على نفسه (3(
وعند أبى حنيفة ومحمد أن القصاص يجب على الحامل دون المباشر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وعفو الشىء عفو عن موجبه، فظاهر الحديث يدل على أن الفعل المستكره عليه معفو عنه بالنسبة لمن باشره، ولأن الحامل هو القاتل معنًى وإن كان المباشر هو الذى قتل صورةً، إذ المباشر كان آلة للحامل يحركه كما يشاء (4) وهذا الرأى يتفق مع الرأى الضعيف
_________
(1) المهذب ج2 ص189.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص236 , القصاص ص133 , 134 , أحكام المرأة ص582.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216 , المغنى ج9 ص331 , المهذب ج2 ص189.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص180.
(2/131)

فى مذهب الشافعى.
ويرى زفر أن القصاص على المباشر فقط لأنه هو القاتل حقيقة حسًا ومشاهدة (1(
ويرى أبو يوسف أن لا قصاص على الحامل ولا على المباشر؛ لأن المكره مسبب للقتل ولا قصاص على متسبب، وإذا لم يجب القصاص على الحامل فأولى أن لا يجب على المباشر (2(
التفرقة بين الفاعل والشريك: ونخلص مما سبق أن الفقهاء يفرقون بين المباشر للجريمة ومن اتفق أو أعان أو حرض عليها، فالمباشر هو من ارتكب الجريمة وحده أو مع غيره أو أتى عملاً من الأعمال المكونة للجريمة، ومن المتفق عليه أن عقوبة المباشر هى القصاص، أما من اتفق أو أعان أو حرض، أى من اشترك فى الجريمة، فحكمهم ليس واحدًا، فمن اتفق أو حرض فجزاؤه التعزير عند الأئمة عدا مالكًا، أما من أعان فجزاؤه القصاص عند مالك والتعزير عند باقى الأئمة.
والقانون المصرى يفرق بين عقوبة المشاركين فى القتل وعقوبة الفاعلين الأصليين، إذ تنص المادة (235) عقوبات على أن المشاركين فى القتل الذى يستوجب الحكم على فاعله بالإعدام يعاقبون بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة. أى أن القانون المصرى يخالف بين عقوبة الفاعل والشريك ولا يسوى بينهما، وهذه هى وجهة نظر الفقهاء فكأن نص القانون فى هذه المسألة تطبيق لنظرية فقهاء الشريعة، وإذا كان القانون قد أجاز الحكم بالإعدام فإن عقوبات التعزير من ضمنها عقوبة الإعدام.
157- هل يؤثر إعفاء أحد الفاعلين من القصاص على عقوبة الباقين؟: علمنا مما سبق أن تعدد القاتلين لا يمنع من الحكم عليهم بعقوبة القصاص جزاء على جريمة القتل العمد، ولكن يحدث أن يكون بين الفاعلين من لا يمكن نسبة القتل العمد إليه كمن يحدث بالمجنى عليه إصابة قاتلة خطًا أدت مع إصابات المتعمدين
_
(1) بدائع الصنائع ج7 ص179.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص179.
(2/132)

إلى الوفاة، لذلك يحدث أن يكون بين الفاعلين من لا يمكن أن يعاقب بالقصاص طبقًا للقواعد كالصغير والمجنون فهل يؤثر إعفاء المخطئ والصغير والمجنون من عقوبة القصاص على مركز بقية الفاعلين فلا يقتص منهم أيضًا؟ ذلك ما سنفصله فيما يأتى:
إن إعفاء أحد الفاعلين أو بعضهم من القصاص يرجع إلى حالتين لا ثالث لهما:
الأولى: أن يكون الإعفاء راجعًا إلى صفة الفعل.
الثانية: أن يكون الإعفاء راجعًا إلى صفة الفاعل.
الحالة الأولى: امتناع القصاص لصفة فى الفعل: يمتنع القصاص عن الفاعل إذا لم يكن فعله موجبًا للقصاص كأن كان فعله قتلاً خطأ أو قتلاً شبه عمد، فإذا كان فعله هكذا قلنا إن القصاص امتنع عنه لصفة فى فعلة أو لعدم إيجاب الفعل للقصاص.
وقد انقسم الفقهاء إزاء هذه الحالة قسمين: الأول يرى أن امتناع القصاص عن أحد الفاعلين لأن فعله لا يوجبه يستلزم منع القصاص عن بقية الفاعلين ولو كان فعلهم موجبًا للقصاص، كالعامد مع المخطئ فإن المخطئ لا يقتص منه أصلاً لأن فعله لا يوجب القصاص والعامد يقتص منه لأن فعله يوجب القصاص، ولكنهما إذا اشتركا معًا فى قتل امتنع القصاص عن العامد بامتناعه عن المخطئ لأنه من المحتمل أن يكون فعل المخطئ هو الذى أدى للقتل كما يحتمل أن يكون فعل العامد هو الذى أدى للقتل، وقيام هذا الاحتمال شبهة توجب درء الحد عن العامد تطبيقًا لقاعدة: ادرؤوا الحدود بالشبهات. وهذا الرأى هو مذهب أبى حنيفة والشافعى والرأى الراجح فى مذهبى مالك وأحمد (1(
والثانى يرى أن إعفاء أحد الفاعلين من عقوبة القصاص لأن فعله لا يوجبها لا يؤثر شيئًا على عقوبة القصاص التى يستحقها باقى الجناة بأفعالهم، وما دام أنهم
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص235 , نهاية المحتاج ج7 ص262 , مواهب الجليل ح6 ص243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص28 , 219 , المغنى ج9 ص379 وما بعدها.
(2/133)
تشاركوا فى القتل عادين متعمدين فعليهم عقوبة القصاص؛ لأن كل إنسان يؤاخذ بفعله ولا أثر لفعل غيره عليه. وهذا هو الرأى المرجوح فى مذهبى مالك وأحمد.
وقد اتفق الفريق الأول فى تطبيق القاعدة التى أقرها على العامد مع المخطئ فأجمع على عدم القصاص من شريك المخطئ ولو كان عامدًا، ولكنهم اختلفوا فيما عدا ذلك وأساس اختلافهم هو تطبيق القاعدة لا غير، فمنهم من رأى تطبيقها فى كل حالة لا يعاقب فيها أحد الشركاء وهؤلاء هم الحنفية أو بعض فقهاء المذاهب الأخرى، ومنهم من رأى تطبيقها فقط إذا كان فعل المعفى غير متعمد فإن كان متعمدًا فلا تنطبق القاعدة.
ومن المسائل التى اختلفوا عليها شريك نفسه وشريك السبع، فأبو حنيفة يرى أن لا قصاص على الشريك لأنه شارك من لا يجب عليه القصاص فلا يلزمه القصاص كشريك المخطئ، ويرى هذا الرأى أيضًا بعض فقهاء المذاهب الثلاثة، أما البعض الآخر فيرى القصاص على الشريك لأنه شارك من فعله عمد.
الحالة الثانية: امتناع القصاص لصفة فى الفاعل: تختلف هذه الحالة عن الحالة الأولى فى أن القصاص هنا يمتنع عن أحد القاتلين لصفة فيه لا لصفة فى الفعل، وهذه الصفة المتوفرة فى الفاعل يترتب عليها شرعًا أن لا يعاقب بالقصاص، ومثال ذلك اشتراك الأب فى قتل ولده مع أجنبى فإن الأب لا يقتص منه لقتل ولده لصفة الأبوة القائمة فيه. ومثاله أيضًا أن يقطع شخص يد آخر قصاصًا أو دفاعًا عن نفسه فيجئ ثالث ويجرح المقطوع جرحًا يؤدى مع القطع إلى موته، فإن المقتص أو الدافع لا قصاص عليهما لصفة القصاص والدفاع المتوفرة فيهما والتى يترتب عليها شرعًا امتناع القصاص منهما.
وقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه الحالة أيضًا: فأبو حنيفة يرى أن امتناع القصاص فى حق أحد الشركاء يترتب عليه منع القصاص فى حق الآخرين لاحتمال أن يكون القتل من فعل المعفى من القصاص وهذا الاحتمال شبهة تدرأ الحد عمن
(2/134)

يجب عليهم القصاص. ولأحمد رواية مرجوحة فى المذهب تتفق مع هذا الرأى. ومن هذا الرأى أيضًا بعض فقهاء مذهب مالك (1(
ويرى الشافعى وفريق من فقهاء مذهب مالك ومذهب أحمد (2) أن إعفاء أحد الشركاء من القصاص لا يمنع القصاص عن الآخرين؛ لأن القصاص امتنع عن الشريك لمعنًى يخصه ولا يتوفر فى باقى الشركاء فلا يتعدى إليهم ما دام أنه غير قائم فيهم. ولكن أصحاب هذا الرأى اختلفوا فى الصبى والمجنون، فبعضهم يرى أن شريك الصبى والمجنون لا يقتص منه والقائلون بهذا ينظرون إلى فعل الصبى والمجنون ويقولون إن من المتفق عليه بين أغلب الفقهاء أن عمد الصبى والمجنون خطأ فإذا كان فعلهما يوصف بأنه خطأ ولا قصاص فى الخطأ فشريكهما يأخذ حكم العامد مع المخطئ ولا يقتص منه. فهذا الفريق يغلب صفة الفعل على صفة الفاعل. والفريق الثانى يأخذ برأى الشافعى وهو أن عمد الصبى والمجنون عمد ويرى أن الإعفاء من القصاص أساسه صفة الفاعل وإذن فلا يستفيد منه الشريك. والفريق الثالث يرى أن العبرة بفعل الشريك فما دام أنه تعمد الفعل وجبت عليه عقوبة العامد دون النظر إلى فعل شريكه أو صفته (3) 
158- رابعًا: القتل بالتسبب:  يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن القتل بالتسبب لا وجب الحكم بالقصاص لأن القصاص قتل بطريق المباشرة فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتل بطريق المباشرة ما دام أن أساس عقوبة القصاص المماثلة فى الفعل (4) ، ويوجب الدية بدلاً من القصاص. ولكن الأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين القتل بالتسبب والقتل المباشر فكلاهما قتل يعاقب عليه بالقصاص، ورأيهم يتفق مع القانون المصرى وغيره من القوانين الوضعية.

_________
(1) البحر الرائق ج2 ص301 , مواهب الجليل ج6 ص242 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص218 , 219.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص262 وما بعدها , المغنى ج9 ص373 وما بعدها , المهذب ج2 ص297.
(3) المغنى ج9 ص379 وما بعدها.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص239.
(2/135)
________________________________________
159- خامسًا: أن يكون الولى مجهولاً: إذا كان ولى القتيل مجهولاً لا يجب الحكم بالقصاص فى رأى أبى حنيفة؛ لأن وجوب القصاص وجوب للاستيفاء والاستيفاء من المجهول متعذر فتعذر الإيجاب له (1) . ويخالف فى ذلك باقى الأئمة.
160- سادسًا: أن لا يكون القتل فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة أن لا قصاص من القاتل إذا كان القتل فى دار الحرب، وهو يفرق بين حالتين: حالة ما إذا كان القتيل من أهل دار الحرب ثم أسلم ولم يهاجر إلى دار الإسلام، وحالة ما إذا كان القتيل من دار الإسلام ولكنه دخل دار الحرب بإذن كالتاجر أو مضطرًا كالأسير، ففى الحالة الأولى لا عقاب على القاتل، وفى الحالة الثانية عليه الدية فى حالة التاجر ولا تجب عليه فى حالة الأسير، ويخالفه فى هذا محمد وأبو يوسف وأساس التفرقة بين الحالين أن العصمة فى الحالة الأولى محل شبهة لأن القتيل وإن كان مسلمًا فهو من أهل دار الحرب لقوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] فكونه من أهل دار الحرب أورث شبهة فى عصمته، ولأنه إذا لم يهاجر إلينا مكثر سواد الكفار ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله، وهو وإن لم يكن منهم دينًا فهو منهم دارًا، والخلاصة إن إسلامه لا يعصمه لأن العصمة عند أبى حنيفة لا تكون بالإسلام فقط وإنما بالإسلام وبمنعة الدار. أما الحالة الثانية فليس فيها قصاص لأن الجريمة وقعت فى مكان لا ولاية للمسلمين عليه، والحدود يشترط للحكم بها عند أبى حنيفة القدرة على الاستيفاء وقت وقوع الجريمة (2) .
أما مالك والشافعى وأحمد فيرون القصاص من القاتل سواء كان القتيل فى دار الإسلام أو فى دار الحرب، وسواء هاجر المقتول من دار الحرب أو لم يهاجر ما دام القاتل قد قتل وهو يعلم بإسلام القتيل لأنه قتل معصومًا بالإسلام ظلمًا (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص240.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص133 , 237.
(3) الشرح الكبير ج9 ص382 , 383.
(2/136)
________________________________________
161- مدى لزوم القصاص: وعقوبة القصاص لازمة إلا إذا رأى ولى القتيل العفو فإن عفا فلا قصاص. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن لولى القتيل أن يقتص من القاتل أو يعفو عنه إما على الدية أو مجانًا، ولكنهم اختلفوا فى حالة ما إذا عفا الولى عن القصاص على أن يأخذ الدية، فرأى مالك وأبو حنيفة أن عفو الولى لا يلزم الجانى بالدية إلا إذا قبل أن يدفعها فى مقابل العفو، عنه ورأى الشافعى وأحمد أن عفو الولى عن القصاص إلى الدية ملزم للجانى ولو كان العفو بغير رضاه. وأساس الاختلاف أن مالكًا وأبا حنيفة يريان أن القصاص واجب عينًا بينما الشافعى وأحمد يريان أن القصاص ليس واجبًا عينًا وأن الواجب هو أحد الشيئين غير عين؛ إما القصاص وإما الدية وللولى خيار التعيين إن شاء استوفى القصاص وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضاء القاتل وعلى اعتبار التعزير بدلاً من الدية.
ويترتب على اعتبار الدية والتعزير بدلاً من القصاص نتيجتان: أولاهما: أنه لا يجوز للقاضى أن يجمع بين عقوبة وبدلها جزاء عن فعل واحد سواء كانت العقوبة المبدل بها عقوبة أصلية أو بدلاً من عقوبة أصلية لأن الجمع بين البدل والمبدل يتنافى مع طبيعة الاستبدال، ولكن يجوز الجمع بين عقوبتين بدليتين كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين فمن ارتكب جريمة قتل لا يجوز الحكم عليه بالقصاص والدية أو القصاص والتعزير؛ لأن الدية والتعزير كلاهما بدل من القصاص فلا يحكم بهما إلا إذا امتنع الحكم به، فإذا امتنع الحكم بالقصاص جاز الحكم بالدية والتعزير مجتمعين أو منفردين لأن كلاهما بدل من القصاص، كما يجوز الجمع بين القصاص وبين الكفارة وكلاهما عقوبة أصلية.
ويجوز الجمع بين العقوبة البدلية والعقوبة الأصلية مع بقاء القاعدة سليمة وذلك إذا تعددت الأفعال ولم تكن العقوبة البدلية المحكوم بها بدلاً عن عقوبة أصلية محكوم بها، كمن قتل ثلاثة أشخاص فحكم عليه بالقصاص لقتل أحدهم، وبالدية لقتل الثانى لوجود مانع عن الحكم بالقصاص كأن كان القتيل ولد القاتل، وبالتعزير لقتل الثالث لامتناع الحكم بالقصاص والدية كأن عفا ولى القتيل عن القاتل عفوًا
(2/137)
________________________________________
مطلقًا، ففى هذه الحالة اجتمع القصاص مع الدية والتعزير والأول عقوبة أصلية وكل من الثانى والثالث عقوبة بدلية وقد جاز الجمع لأن العقوبات المحكوم بها ليس فيها عقوبة بدلاً من أخرى وإنما العقوبة البدلية تمثل عقوبة لم يحكم بها.
162- تعدد القتلى: وتظهر أهمية التفرقة بين هذين الرأيين المختلفين فى حالة تعدد القتلى إذا كان القاتل واحدًا. فمالك وأبو حنيفة يريان أن الواحد إذا قتل جماعة قتل بهم قصاصًا ولا يجب مع القتل شئ من المال، سواء كان الجانى قتلهم مرة واحدة أو قتلهم على التعاقب، وسواء كان الأولياء قد طلبوا كلهم قتله أو طلب بعضهم قتله وطلب بعضهم الدية، وإن بادر أحد الأولياء فقتل الجانى قبل إبداء الآخرين رأيهم فقد سقط حق الباقين فى القصاص ولا دية لهم، وهذا تطبيق دقيق للقول بأن القصاص يجب عينًا، لأن حق الجميع تعلق بالقصاص فإذا قتل الجانى فقد استوفوا حقهم كاملاً وليس لأحدهم أن يطالب بالدية، لأن تنازله عن القصاص لا قيمة له ما دام أحد الأولياء يريد القصاص، وإنما تجب الدية بدلاً من القصاص إذا امتنع القصاص، وهنا لا يمكن امتناعه ما دام أحد الأولياء يطلبه، لأن محل القصاص واحد بالنسبة للجميع (1) .
ويرى الشافعى (2) أن حقوق الأولياء لا تتداخل، فإن قتل الجانى واحدًا بعد واحد اقتص منه للأول لأن له مزية بالسبق، وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثانى، وإن سقط حق الثانى اقتص للثالث، وهكذا. وإذا اقتص من الجانى لواحد بعينه تعين حق الباقين فى الدية؛ لأن القصاص فاتهم بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل، وإن قتلهم دفعة واحدة أو أشكل الحال، أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة، وإن عفا عمن خرجت له القرعة أعيدت القرعة للباقين لتساويهم،
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص239 , مواهب الجليل ج6 ص248.
(2) المهذب ج2 ص195.
(2/138)
________________________________________
وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبادر غيره واقتص صار مستوفيًا لحقه، وإن أساء فى التقدم على من هو أحق منه.
واختلف فقهاء مذهب الشافعى فى المحارب الذى قتل جماعة فى المحاربة، فرأى البعض أن الحكم هو ما سبق، كما لو قتلهم فى غير المحاربة. ورأى البعض أنه يقتل بالجميع لأن القتيل فى المحاربة حق الله تعالى ولا يسقط بالعفو فتتداخل العقوبات، بعكس ما إذا كانت حقًا لآدميين فإنها لا تتداخل.
ويتفق مذهب أحمد مع مذهب الشافعى ولا يختلف معه إلا فى أنه يجيز للأولياء أن يتفقوا على قتل القاتل، فإذا اتفق اثنان أو أكثر على قتله قتل وليس لهم غير ذلك، وإن أراد البعض القود والبعض الدية، قُتل لمن أراد القود وأُعطى الباقون الدية، وحجته فى ذلك أن محل القصاص وهو القاتل تعلقت به حقوق لا يتسع لها معًا، فإذا اكتفى المستحقون بمحل القصاص فيكتفى به. فأساس فكرته أنه ما دام المستحقون قد اكتفوا بالقصاص فقد تنازلوا عما عداه (1) .
وإن قطع يد رجل ثم قتل آخر فسرى القطع إلى النفس - أى نفس المقطوع اليد - فمات فهو قاتل لهما، ويقتص منه أولاً عن قتله، لأن وجوب القتل عليه أسبق، إذ القطع لم يصح قتلاً إلا بالسراية وهى متأخرة عن قتل الآخر، لكن لما كان استيفاء القطع ممكنًا وكان فى القتل تفويت للقصاص من القطع، فيستوفى القطع قبل القتل، ولولى المقطوع نصف الدية عند الشافعى وأحمد، ولا شئ له عند مالك وأبى حنيفة، وإذا لم يسر القطع - أى قطع اليد - إلى النفس فيقتص للقطع أولاً، سواء تقدم القطع القتل أو تأخر عنه وهذا متفق عليه عند أحمد وأبى حنيفة والشافعى، ويرى مالك أن يقتل فى كل الأحوال ولا يقطع لأنه بالقتل يتلف الطرف فيسقط القصاص بتلف محله (2) ، وكذلك الحكم لو تأخر القطع عن القتل.
_________
(1) المغنى ج9 ص405 - 408.
(2) المغنى ج9 ص408 , شرح الدردير ج9 ص236 , المهذب ج2 ص195 , بدائع الصنائع ج7 ص303.
(2/139)
________________________________________
وأساس الاختلاف فى هذا كله هو اختلافهم فى العقوبة الواجبة بالقتل العمد، فأبو حنيفة ومالك يريان - كما قلنا من قبل - أن الواجب هو القصاص عينًا وأن عفو ولى القتيل لا يلزم الجانى بالدية إلا إذا رضى الجانى بذلك، والشافعى وأحمد يريان أن الواجب بالقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية، ولولى القتيل أن يختار أى العقوبتين شاء دون حاجة لموافقة الجانى.
* * *
استيفاء القصاص فى القتل
163- مستحق القصاص: عند مالك: العاصبُ الذكَر، فلا دخل فيه لزوج، ولا لأخ لأم، ولا لجد لأم، ويقدم الابن فابن الابن، ثم يليهم الأقرب فالأقرب من العَصبَة والجد والاخوة سواء فى ولاية القصاص، ويعتبر كلاهما فى مرتبة الآخر. وأبناء الاخوة أقل مرتبة من الجد، لأنه بمنزلة أبيهم، والمراد بالجد الجد القريب فهو الذى يتساوى مع الاخوة فى الدرجة، أما الجد العالى فلا شأن له مع الاخوة كما أن بنى الاخوة لا شأن لهم مع الجد القريب (1) . ويستحق القصاص عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد الورثة الذين يرثون مال القتيل رجالاً ونساء، ولا يشترط لاستحقاقهم القصاص أن يرثوا شيئًا فعلاً، فمن قُتل وعليه دين محيط بتركته أو لم يترك شيئًا، فالقصاص لوارثيه الذين كان يحتمل أن يرثوه لو ترك شيئًا (2) .
وعند مالك: ترث المرأة القصاص إذا توفرت فيها شروط ثلاثة: أولاً: أن تكون وارثة كبنت أو أخت. ثانيًا: أن لا يساويها عاصب فى الدرجة بأن لم يوجد أصلاً أو وُجد أنزلُ منها درجة كالعم مع البنت أو الأخت، وعلى هذا تخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ فلا كلام لواحدة
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص227.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص242 , المهذب ج2 ص196 , الإقناع ج4 ص182.
(و) فى مذهب الشافعى رأيان آخران: أحدهما أن القصاص للعصبة , والثانى لمن ورث بالنسب لا بالسبب , راجع: نهاية المحتاج ج7 ص284.
(2/140)
________________________________________
منهما معه فى عفو ولا قود، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، فلها الكلام معه، لأنه وإن ساواها فى الدرجة أنزل منها فى القوة.
ثالثًا: أن تكون بحيث لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب، وعلى هذا تخرج الأخت للأم والزوجة والجدة للأم (1) .
164- هل يملك الوارث حق القصاص على سبيل الشركة أم على سبيل الكمال؟: إذا كان الوارث واحدًا فهو يملك القصاص على سبيل الكمال إذ لا شريك له فيه، أما إذا تعدد الورثة فهناك نظريتان:
النظرية الأولى: ويقول بها مالك وأبو حنيفة، وهى قول لأحمد، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الكمال لا على سبيل الشركة. وحجتهم أن المقصود من القصاص فى القتل هو التشفى، وأن الميت لا يتشفى ولكن الورثة هم الذين يتشفون فهو حقهم ابتداء، أى أن القتيل لا يثبت له حق القصاص، وأن القتيل لا يثبت له هذا الحق ما دام حيًا ولكنه يثبت بوفاته فإذا ثبت لم يكن القتيل أهلاً لتملك الحقوق، فيثبت الحق للورثة ابتداء، ويثبت لكل وارث على سبيل الكمال، كأن ليس معه غيره لأنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، إذ الشركة المعقولة هى أن يكون البعض لهذا والبعض لذاك كشريك الأرض والدار، ولكن ذلك محال فيما لا يتبعض، والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة وقد وجد سبب ثبوته فى حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره، كولاية النكاح (2) .
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص229.
(2) الشرح الكبير لدردير ج4 ص227 , بدائع الصنائع ج7 ص242 , المغنى ج9 ص459.
(2/141)
________________________________________
النظرية الثانية: ويقول بها الشافعى وأحمد، وأبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفى، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الشركة. وحجتهم أن القصاص يجب بالجناية، وأنها وقعت على المقتول فكان ما يجب بها حقًا له، إلا أنه بالموت عجز عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ويكون القصاص مشتركًا بينهم (1) .
وأهمية الخلاف تظهر إذا ورث القصاص كبير أو صغير. فطبقًا للنظرية الأولى يكون للكبير حق الاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصغير؛ لأن القصاص حق كل وارث على سبيل الاستقلال فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير. وطبقًا للنظرية الثانية ليس للكبير أن ينفرد بالقصاص وعليه أن ينتظر بلوغ الصغير؛ لأن حق القصاص مشترك بينهما، وليس لأحد الشريكين أن ينفرد بالتصرف فى حق مشترك دون رضاء شريكه.
165- وإذا لم يكن للقتيل ولى فمن المتفق عليه أن السلطان يتولى القصاص: لأن السلطان ولى من لا ولى له. ولكن أبا يوسف يرى أن السلطان ليس له أن يقتص إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام، وله أن يأخذ الدية وحجته فى ذلك أن المقتول من أهل دار الإسلام لا يخلو عن ولى عادة إلا أنه لا يعرف، ولا ولاية للسلطان إلا إذا انعدم الولى الوارث، بخلاف الحربى إذا دخل دار الإسلام فأسلم لأن الظاهر أن لا ولى له فى دار الإسلام (2) .
166- من يلى الاستيفاء؟: يختلف الحكم فى هذه المسألة بحسب ما إذا كان مستحق القصاص واحدًا أو أكثر.
_________
(1) المهذب ج2 ص196 , المغنى ج9 ص458 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص228 , ج9 ص394 , بدائع الصنائع ج7 ص243 , 245 , المهذب ج2 ص196.
(2/142)
________________________________________
167- فإذا استحق القصاص واحد وكان كبيرًا فله أن يستوفيه إن شاء: لقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْلِ} [الإسراء: 33] ولوجود سبب الولاية فى حقه على الكمال، وهو وراثة القصاص دون مزاحم.
أما إذا كان مستحق القصاص صغيرًا أو مجنونًا: فيرى الشافعى (1) وأحمد (2) انتظار بلوغ الصبى وإفاقة المجنون إلا أنه إذا كانت إفاقة المجنون ميئوسًا منها قام وليه مقامه (3) لأن القود للتشفى، ولا يحصل باستيفائه بمعرفة ولى الصبى أو المجنون ولا بمعرفة الحاكم. وفى مذهب أبى حنيفة (4) رأيان: أحدهما: يرى أصحابه ما يراه الشافعى وأحمد. وثانيهما: يرى أصحابه أن يقوم القاضى أو الحاكم بالاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصبى أو إفاقة المجنون. ويرى مالك (5) أن لولى الصغير والمجنون ووصيهما الاستيفاء نيابة عنهما فلا حاجة لانتظار البلوغ أو الإفاقة.
ويرى أبو حنيفة أن الأب والجد يستوفيان القصاص الواجب للصغير دون الوصى، لأن ولايتهما ولاية نظر ومصلحة.
أما أبو يوسف فيرى الانتظار، ومالك يرى الاستيفاء للوصى والوالى.
سلطة ولى الصغير والمجنون: ومن يعطى الولى حق الاستيفاء عن الصغير والمجنون يعطيه حق الصلح أو العفو عن القصاص على مال بشرط أن لا يقل عن الدية، وأن يكون أصلح من القصاص للصغير، أو على الأقل تتساوى مصلحة القصاص بمصلحة العفو، فإن صالح أو عفا على أقل من الدية كان للصغير بعد بلوغه الرجوع على القاتل بما نقص من الدية، ما لم يكن القاتل معسرًا وقت الصلح كما يرى مالك. وليس للولى أن يتنازل عن القصاص مجانًا، فإن فعل فتنازله باطل (6) .
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص285.
(2) الإقناع ج4 ص181.
(3) كما ورد ذلك فى حاشية الجزء السابع من نهاية المحتاج للشرامسلى.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص243.
(5) مواهب الجليل ج6 ص252.
(6) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230 , مواهب الجليل ج6 ص252 , البحر الرائق ج8 ص299 , 300.
(2/143)
________________________________________
ومن لا يعطى الولى حق الاستيفاء يعطى ولى المجنون حق العفو عن القصاص إلى الدية، بشرط أن يكون المجنون محتاجًا إلى النفقة، فإن لم يكن محتاجًا فالعفو باطل كما لو عفا على غير مال. أما الصبى فقد اختلفوا فى شأنه: فأجاز بعضهم أن يكون للولى حق العفو عن القصاص إلى الدية إذا كان محتاجًا إلى النفقة ولم يجز البعض الآخر ذلك للولى. وأساس التفرقة بين الصبى والمجنون أن بلوغ الصبى ينتظر بعد وقت معين ولكن إفاقة المجنون ليس لها وقت ينتظر (1) . وأبو حنيفة لا يعطى ولى الصغير والمعتوه حق العفو لأن العفو لا يكون إلا من صاحب الحق والحق للصغير والمعتوه وليس لهما، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وهب للصغير، وولايتهما مقيدة بالنظر للصغير والعفو ضرر محض لأنه إسقاط حق أصلاً ورأيًا فلا يملكانه وإنما لهما حق الصلح على مال. وأبو حنيفة متأثر فى هذا بنظريته التى تقضى بأن حق الولى فى القصاص عينًا وأن العفو للدية يقتضى رضاء الجانى، ويظهر أن أبا حنيفة يرى أن العفو لا يكون عفوًا ما دام متوقفًا على رضاء الجانى وإنما يكون صلحًا ولذلك فهو لا يتكلم إلا عن العفو المطلق دون قيد. أما عند مالك فيعتبرون التنازل عن القصاص إلى الدية عفوًا ولو أن الأمر معلق على رضاء الجانى، ويعبر عنه هكذا ويعبر عنه أكثر الشراح بالصلح، ومن عبر عنه بالعفو عبر عنه أكثر من مرة بأنه صلح، مما يدعو إلى الاعتقاد بأن لفظ العفو تجاوز فى التعبير، وقد جاء هذا التعبير فى الشرح لا فى المتن مما يؤكد فكرة التجوز فى التعبير أو الخطأ (2) .
هل يصح قصاص الصغير والمجنون؟: الأصل فى تأخير القصاص حتى يبلغ الصبى ويفيق المجنون، أن القصاص حق وأن استعماله يقتضى فى المستعمل الأهلية والصبى والمجنون كلاهما غير أهل لاستيفاء الحقوق، لكن إذا فرض أن الصبى أو المجنون وثب على القاتل فقتله فهل يعتبر كلاهما مستوفيًا لحقه
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص380 , نهاية المحتاج ج7 ص284.
(2) مواهب الجليل ج6 ص252.
(2/144)
________________________________________
أم لا؟ (1) فصار كما لو أتلف وديعة له فلا مسئولية على المودع لديه. يرى البعض أنه بقتل القاتل صار مستوفيًا لحقه لأنه عين حقه وأتلفه بعمله. ويرى البعض أنه ليس من أهل الاستيفاء فلا يعتبر مستوفيًا لحقه وتجب له الدية فى مال الجانى الذى قتله ولأولياء الجانى الرجوع على عاقلة الصبى والمجنون بدية قتيلهم. أى أن أصحاب هذا الرأى يعتبرون فعل الصبى والمجنون جريمة قتل عمد يدرأ فيها القصاص للصغر والجنون (2) ، ولا شك أن الرأى الأول أقرب للعدالة والمنطق من الرأى الثانى.


 168- تعدد مستحقى الاستيفاء: إذا تعدد مستحقو الاستيفاء: فإما أن يكون جميعهم كبارًا، وإما أن يكون فيهم صغير أو مجنون وإما أن يكونوا جميعًا حاضرين وإما أن يكون بعضهم غائبًا.
169- فإذا تعدد مستحقو الاستيفاء وكانوا جميعًا كبارًا حاضرين: فالأصل أن لكل منهم ولاية استيفاء القصاص حتى إذا قتله أحدهم صار القصاص مستوفًى للجميع؛ لأن القصاص إن كان حق الميت كما يرى أبو يوسف ومحمد، فكل واحد من الورثة خصم فى استيفاء حق الميت كما هو الحال فى المال، وإن كان القصاص حق الورثة ابتداء كما يرى مالك وأبو حنيفة، فكل من الورثة يملك حق القصاص على الكمال، هذا هو الأصل، إلا أن الفقهاء يشترطون اتفاق مستحقى القصاص عليه قبل الاستيفاء وحضورهم لاحتمال أن يعفو بعضهم، ولأن العفو يسقط حق الآخرين فى القصاص.
فإذا بادر أحد المستحقين بقتل الجانى قبل اتفاقهم على القصاص، فمذهب مالك وأبى حنيفة أن القصاص صار مستوفى للجميع؛ لأن الأصل أن لكل من المستحقين ولاية استيفاء القصاص، وليس لباقى الورثة شئ من المال، لأن حقهم فى القصاص قد استوفاه أحدهم. وهذا تطبيق نظرية مالك وأبى حنيفة فى أن
_________
(1) فى هذه النقطة فراغ يبدو أنه كلام لم يتم ولم يكتب.
(2) الشرح الكبير ج9 ص385 , المهذب ج2 ص196.
(2/145)
________________________________________
القصاص يجب عينًا (1) ، إلا أن المقتص يعزَّر لافتياته على الإمام.
أما الشافعى وأحمد فيريان أن المبادر بالقصاص ممنوع من قتل الجانى لأن بعض الجانى غير مستحق له، فإذا استوفى دون اتفاق فهو مستوف لحق غيره دون إذنه. والراجح أنه لا يجب القصاص عليه بفعله (2) لأنه يستحق القصاص على وجه الشركة، ولأن الجانى مستحق عليه القصاص، كما لا يجب الحد على أحد الشريكين فى وطء الجارية المشتركة لكنه يلزم - على رأى - بحق شركائه فى الدية، لأنه هو الذى أتلف محل حقهم ويلزم - على الرأى الآخر - لورثة الجانى بدية مورثهم إلا قَدْرَ حقه منها، على أن يكون لباقى مستحقى القصاص الرجوع بحقهم فى الدية على تركة الجانى. ولرأى الشافعى وأحمد تطبيق لنظريتهما فى أن القصاص يثبت للمورث ابتداء ثم ينتقل منه للورثة، كما هو تطبيق لنظريتهما فى أن الواجب بالقتل أحد شيئين غير عين القصاص والدية (3) .
170- وإذا تعدد مستحقو القصاص، وكانوا كبارًا وصغارًا، أو فيهم مجنون، أو بعضهم غائبًا: فيرى مالك وأبو حنيفة أن لا ينتظر البلوغ ولا إفاقة المجنون، وللعقلاء الكبار استيفاء القصاص لأن القصاص ثابت للورثة ابتداء فهو حق كل منهم على سبيل الكمال والاستقلال، لاستقلال سبب ثبوته فى حق كل مستحق، ولعدم قابليته للتجزئة، ويؤيدون رأيهم بأن عليًا رضى الله عنه أوصى الحسن بعد أن ضربه ابن ملجم فقال له: إن شئت فاقتله وإن شئت فاعف عنه، وإن تعفو خير لك فقتله الحسن، وكان فى ورثة على صغار، والاستدلال من وجهين: أحدهما: بقول علي؛ لأنه خيَّر الحسن فى القتل أو العفو
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص212 , البحر الرائق ج8 ص300 , 301.
(2) فى مذهب الشافعى رأى مرجوح , ملخصه أن على المستحق القصاص إذا قتل الجانى قبل اتفاقه مع باقى المستحقين؛ لأنه اقتص فى أكثر من حقه , ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة؛ فإذا اشترك شخصان فى قتل اقتص منهما لأن كلاً منهما قاتل لبعض النفس.
(3) الشرح الكبير ج9 ص386 , 387 , المهذب ج2 ص197.
(2/146)
________________________________________
مطلقًا فلم يقيده ببلوغ الصغار، والثانى: لأن الحسن قتل ولم ينتظر. وكل ذلك كان فى حضور الصحابة ولم ينكره أحد فيكون إجماعًا.
ولكنهما يريان مع ذلك انتظار عودة الغائب لاحتمال عفوه، ولأنه قد يعفو دون أن يشعر الحاضر بعفوه، فإذا أجيز للحاضر أن يستوفى، استوفى حقًا قد سقط بعفو الغائب.
ويفرقون فى مذهب أبى حنيفة بين احتمال العفو من الصغير والمجنون وبين احتمال العفو من الغائب، فإن احتمال العفو من الغائب الكبير ثابت أما احتمال عفو الصغير أو المجنون فميئوس منه حال استيفاء القصاص، لأنه ليس من أهل العفو.
ويفرقون فى مذهب مالك بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة الميئوس منها؛ أى من عودة صاحبها ويرون الانتظار فى الغيبة القريبة دون البعيدة، وهذا هو الرأى الراجح وهناك رأى لا يفرق بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة (1) .
أما الشافعى وأحمد ومعهما محمد وأبو يوسف فيريان أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين، فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه، أو مجنون تنتظر إفاقته، أو غائب ينتظر قدومه (2) ؛ لأن القصاص حق مشترك بينهم، فمن استوفى قبل اتفاق كل الشركاء فقد استوفى غير حقه وأبطل حق غيره ولأن القصاص أحد بدلى النفس، فإذا لم يجز انفراد أحد المستحقين بأحد البدلين وهو الدية لم يجز له أن ينفرد بالبدل الآخر وهو القصاص، ويستدلون على أن للصغير والمجنون حقهما فى القصاص بأربعة أمور:
أحدهما: أنه لو كان منفردًا لاستحق القصاص، ولو نافاه الصغير مع غيره لنافاه منفردًا.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص250 , 251 , شرح الدردير ج4 ص288 , بدائع الصنائع ج7 ص243 , 244 , البحر الرائق ح8 ص300 , 301.
(2) هناك رواية عن أحمد بأن للكبار العقلاء الاستيفاء دون انتظار الصغير والمجنون , ولكن هذه الرواية ليست المذهب.
(2/147)
________________________________________
الثانى: أنه لو بلغ لاستحق بلا خلاف، ولو لم يكن مستحقًا عند موت المورث لم يكن مستحقًا عند البلوغ.
الثالث: لو سقط القصاص وآل الأمر للدية لاستحق، ولو لم يكن مستحقًا للقصاص لما استحق بدل القصاص وهو الدية.
الرابع: لو مات الصغير لاستحق ورثته، ولو لم يكن حقًا لم يرثه كسائر ما لا يستحقه (1) .
171- هل يطلق سراح الجانى حتى يحضر الغائب أو يبلغ الصغير ويفيق المجنون؟: من المتفق عليه أن تأخر الاستيفاء لا يؤدى إلى إطلاق سراح الجانى، بل يحبس مهما تأخر الاستيفاء، فيحبس حتى يحضر الغائب أو يبلغ الصغير أو يفيق المجنون، وقد حبس معاوية بن أبى سفيان هدية بن خشرم فى قصاص حتى بلغ ابن القتيل - فى عصر الصحابة - فلم ينكر عليه ذلك، ويعللون بقاءه محبوسًا بأن فى تخليته تضييعًا للحق، لأنه لا يؤمن هربه ولأنه مستحق القتل وفيه تفويت نفسه ونفعه، فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لإمكانه، ولا يقبل من القتيل أن يقدم كفيلاً ليخلى سبيله له، لأن الكفالة لا تصح فى العقوبات لأن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إذا تعذر إحضار المكفول ولا يمكن استيفاء القتل من غير القاتل (2) .
172- ومهما تعدد مستحقو القصاص فلن يستوفيه إلا أحدهم فقط يوكلونه عنهم: ويشترط أن يكون خبيرًا قادرًا على القصاص، فإن لم يكن فيهم من يحسن القصاص أو لم يتفقوا على واحد منهم، أناب الحاكم من يحسنه، وليس ثمة ما يمنع أن يكون موظفًا يتناول أجره من خزانة الحكومة. ويرى الشافعى
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص392 , 393 , نهاية المحتاج ج7 ص284.
(2) الشرح الكبير ج9 ص384 , 385 , مواهب الجليل ج6 ص250 , المهذب ج2 ص196.
(2/148)
________________________________________
الاقتراع بين مستحقى القصاص إذا كانوا جميعًا يحسنونه ولم يتفقوا فمن اختارته القرعة قام بالاستيفاء (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك أن الحاكم مخير بين أن يستوفى بنفسه القصاص أو أن يسلمه لولى المقتول ليقتص منه، والأصل فى الشريعة أن لا يمكَّن إنسان من استيفاء حقه بنفسه، لأن استيفاء الحقوق متروك للحكام، ولكن جاز أن يستوفى الفرد حقه فى القتل بدليل خاص هو تسليم الرسول للقاتل المستحق (2) ولما كان من شروط الاستيفاء عدم الحيف وأن لا يُعذِّب المقتص القاتل وأن يحسن قتلته (3) ، فإن القصاص يجب أن يتم تحت إشراف السلطة التنفيذية وليس ثمة ما يمنع من أن تتولاه السلطة التنفيذية اليوم لضمان التنفيذ على الوجه المطلوب.
173- الأمن من التعدى إلى غير القاتل: يشترط فى الاستيفاء أن لا يتعدى إلى غير القاتل فإذا وجب القصاص على حامل قبل وجوبه أو حامل بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع ولدها، وليس فى هذا اختلاف؛ لقوله تعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْل} [الإسراء:33] وقتل الحامل إسراف، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا قتلت المرأة عمدًا لم تقتل حتى تضع ما فى بطنها إن كانت حاملاً وحتى تكفل ولدها، وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما فى بطنها وحتى تكفل ولدها"، ولقد قال الرسول للغامدية التى زنت: "ارجعى حتى تضعى ما فى بطنك" فلما وضعته قال لها "ارجعى حتى ترضعيه" وهذه القاعدة مسلم بها فى القصاص إطلاقًا سواء كان فى النفس أو الطرف أما فى النفس فلما سبق، وأما فى الطرف فلأننا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى غير الجانب وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولأن فى القصاص من لحامل قتلاً لغير الجانى وهو محرم إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص285.
(2) الشرح الكبير للدردير ج9 ص230.
(3) الشرح الكبير ج9 ص397 وما بعدها , نهاية لمحتاج ج7 ص286 , 287.
(2/149)
________________________________________
وإذا وضعت الحامل لم تقتل حتى تسقى ولدها اللِّبَأ، لأن الولد يتضرر لتركه ضررًا كبيرًا ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أوان فطامه، وإن وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء من الأم، لأن الولد يستغنى عنها بلبن المرضعة، وكذلك إذا أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها، أو وجد له مرضعة غير راتبة أو نساء يتناوبن رضاعه، ولكن يستحب فى هذه الحالات أن يؤخر الولى القصاص لما على الولد من ضرر فى اختلاف اللبن وشرب لبن البهيمة.
وإذا ادعت المرأة الحمل فلا يستوفى منها إلا بعد التحقق من خلوها من الحمل، وتعرض على أهل الخبرة فإن تبين حملها أو أشكل الأمر أُخرت حتى تضع أو حتى يتبين أمرها، وإن ثبت أنها غير حامل لم تؤخر، وإذا تبين الحمل أو أشكل الأمر فتحبس حتى تضع، ويستوى أن تكون حاملاً من زوج أو زنًا (1) ، وتأخير التنفيذ على الحامل هو المبدأ الذى تأخذ به القوانين الوضعية اليوم، فالقانون المصرى ينص فى المادة 263 على أنه "إذا أخبرت المحكوم عليها بالإعدام أنها حبلى يوقف تنفيذ الحكم، ومتى تحقق قولها لا ينفذ إلا بعد الوضع".
174- كيفية الاستيفاء: لا يستوفى القصاص إلا بالسيف عند أبى حنيفة، ورواية عن أحمد، سواء كان الجانى قتل بسيف أم بغير سيف، وسواء كان القتل نتيجة لحز الرقبة أم لسراية جراح، أو نتيجة الخنق أو التغريق أو التحريق، أو غير ذلك وحجة القائلين بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قود إلا بالسيف" والقود هو القصاص، والقصاص هو الاستيفاء، فمعنى الحديث نفى القصاص بغير السيف.
وإذا كان الموت نتيجة قطع اتصلت به السراية، فالقود بالسيف؛ لأنه تبين أن فعل الجانى وقع قتلاً من وقت وجوده فلا يقتص منه إلا بالقتل؛ لأنه
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص394 وما بعدها , نهاية المحتاج ج7 ص288 , 289 , مواهب الجليل ج6 ص253 , شرح فتح القدير ج4 ص130 , بدائع الصنائع ج7 ص59.
(2/150)
________________________________________
لو قطع عضوًا من الجانى لتحقق التماثل، ثم عاد فحز رقبته إذا لم يمت من القطع كان ذلك جمعًا بين القطع والحز، ولم يكن مجازاة بالمثل، ولا يعتبر حز الرقبة متممًا للقطع؛ لأن المتمم للشىء يكون من توابعه، والحز قتل وهو أقوى من القطع فليس من توابعه كذلك فإن القصاص فى النفس يقصد منه إتلاف النفس فإذا أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز إتلاف أطرافه، لأن إتلافها يعتبر تعذيبًا لا استيفاء.
وعلى هذا فمن قطع يد إنسان فمات، أو أجافه جائفة أو أوضحه مُوضِحة فمات فليس له أن يقطعه أو يجيفه أو يوضحه ثم يقتله - طبقًا لرأى أبى حنيفة وأحد رأيى أحمد - وله فقط أن يقتله بالسيف.
وإذا أراد الولى أن يقتص بغير السيف لا يمكَّن من ذلك، وإذا فعله عُزِّر لافتياته على السلطات العامة، إلا أنه يعتبر مستوفيًا لحقه فى القصاص بأى طريق قتله سواء قتله بالعصا أو الحجر أو ألقاه من سطح أو أرداه فى بئر أو ساق عليه دابة حتى مات، ونحو ذلك لأن القتل حقه، فإذا قتله فقد استوفى حقه إلا أنه يفتات إذا استوفى بغير السيف لاستيفائه بطريق غير مشروع فيعزر على هذا الافتيات (1) .
وعند مالك والشافعى وهو رواية عن أحمد (2) : أن القاتل أهل لأن يفعل به كما فعل، فإذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن السيف أوحى الآلات - أى أسرعها - فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه فى القتل وقد قتل وعذب.
فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه أو منعه الطعام والشراب فمات، فللولى أن يقتص بمثل ذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص302 , الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 2256 , المهذب ج2 ص199 , الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها.
(2/151)
________________________________________
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ولما رواه البراء عن الرسول عليه السلام قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" ولأن القصاص موضوع على المماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفى بها القصاص.
وللولى أن يقتص بالسيف فى هذه الأحوال لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه وهو جائز له.
وإن قتله بما هو محرم كاللو اط وسقى الخمر فيرى البعض أن يفعل به مثل فعله صورة بما هو غير محرم؛ فيفعل به فى اللو  اط مثل ما فعل بخشبة لتعذر مثل فعله حقيقة، ولسقى الماء بدلاً من الخمر حتى يموت، ويرى البعض أن يكون القصاص بالسيف كلما كان القتل بما هو محرم لنفسه، وإن ضرب رجلاً بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأنه قتل مستحق وليس ها هنا ما هو أوحى من السيف فيقتل به.
وإن قتله بمثقل أو رماه من شاهق أو منعه الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ما فعل فلم يمت فيرى البعض أن يكرر عليه ذلك حتى يموت، ويرى البعض الآخر أنه يقتل بالسيف لأنه فعل مثل ما فعل وبقى إزهاق الروح فوجب بالسيف.
وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه وأوضح رأسه فمات فللولى أن يستوفى القصاص بما جنى فيقطع كفه ويُوضِح رأسه؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فإن مات فقد استوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر، ولا أن يوضح فى موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحين بموضحة.
وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه، فيرى البعض أن يقتل بالسيف، ويخالف مالك الشافعى فى أنه يرى أن يكون القصاص بالسيف دائمًا كلما ثبت القتل بقسامة أو كان القتل بما يطول أمره كمنع الطعام والشراب، ولا يقتص فى الجائفة ولا فى قطع الساعد لأن كليهما
(2/152)
________________________________________
جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفى بها القصاص كاللو.اط  ، ويرى البعض أن يقتص فى الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها فى غير القصاص لمجاز القتل بها فى القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة، فإن اقتص بالجائفة وقطع الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضو آخر فيصير جائفتان وقطع عضوين بعضو.
175- حكم الفعلين: وإذا قطع طرف رَجُل كَيد أو رِجْل ثم قتله فإذا كان القتل بعد بُرء الإصابة الأولى فيرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن يقتص منه الولى بمثل ما فعل فيقطع طرفه ثم يقتله إن شاء وله أن يكتفى بقتله فقط. أما مالك فيرى أن الطرف يندرج فى القتل فليس للولى إلا القتل فقط. أما إذا كان القتل قبل برء الإصابة الأولى فيرى أبو حنيفة والشافعى وقولهما رواية عن أحمد أن للمستوفى أن يقطع الطرف ثم يقتل لأن حق المجنى عليه فى المثل والمثل هو القطع والقتل والاستيفاء بصفة المماثلة ممكن، فإذا قطع الولى طرفه ثم قتله كان مستوفيًا للمثل وكان الجزاء مثل الخيانة جزاء وفاقًا. ويرى مالك هذا الرأى بشرط أن يكون القطع قصد به التمثيل (1) ، ويرى أبو يوسف ومحمد وهو قول فى مذهب أحمد بأن الطرف يدخل فى النفس فللولى أن يقتل الجانى وليس له أن يقطع يده؛ لأن الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها البُرءْ لا حكم لها مع الجناية على النفس فى الشريعة بل يدخل ما دون النفس فى النفس، ويرى مالك هذا الرأى إذا لم يكن الجانى قصد من قطع الطرف التمثيل بالمجنى عليه (2) .
176- حضور المستحقين الاستيفاء: يرى أبو حنيفة أن مستحقى القصاص يجب أن يحضروا الاستيفاء ولا يكفى أن يحضر وكيل عنهم بل يجب
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص195 , المغنى ج9 ص386 - 396 , مواهب الجليل ج6 ص256.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص303 , مواهب الجليل ج6 ص256.
(2/153)
________________________________________
حضور الموكل بنفسه، ولا يجوز للوكيل استيفاء القصاص مع غيبة الموكل أو الموكلين لاحتمال أن الغائب قد عفا، ولأن فى اشتراط حضور الموكل رجاء العفو منه عند معاينة حلول العاقبة بالقاتل (1) ، ولا يشترط باقى الأئمة هذا الشرط وليس عندهم مانع من أن يتم الاستيفاء بمعرفة الوكيل فى غياب الموكلين.
177- تفقد آلة القتل: وإذا أراد الوالى الاستيفاء بنفسه فعلى السلطان أن يتفقد الآلة التى يستوفى بها، فإذا كانت كالَّة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول، وإن كانت مسمومة منعه الاستيفاء بها لأنها تفسد البدن، وإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عُزِّر، فالولى الذى يستوفى يجب أن يكون خبيرًا بالاستيفاء، وأن تكون الآلة التى يستوفى بها صالحة للاستيفاء. وكل ذلك قصد منه أن لا يعذب الجانى وأن تزهق روحه بأيسر ما يمكن، وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة وليُحدَّ أحدكم شفرته وليُرحْ ذبيحته" (2) .
178- هل يجوز الاستيفاء بما هو أسرع من السيف؟: الأصل فى اختيار السيف أداة للقصاص أنه أسرع فى القتل، وأنه يزهق روح الجانى بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف واقل إيلامًا فلا مانع شرعًا من استعمالها فلا مانع من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسى الكهربائى وغيرهما مما يفضى إلى الموت بسهولة وإسراع، ولا يتخلف الموت عنه عادة، ولا يترتب عله تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسى الكهربائى فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص243.
(2) المهذب ج2 ص197 , الشرح الكبير ج9 ص397.
(3) من فتوى للجنة الفتوى بالأزهر , راجع: القصاص ص208.
(2/154)
________________________________________
179- هل يجوز للسلطان اليوم أن يستأثر باستيفاء القصاص؟: الرأى الراجح عند الفقهاء أن لا يترك الولى ليستوفى بنفسه القصاص فى الجراح (1) ؛ لأن القصاص فى الجراح يقتضى خبرة ودقة فوق ما يجب فيه من البعد عن الحيف والتعذيب ولما كانت الخبرة لا تتوفر فى معظم الأولياء فقد رأى الفقهاء أن يتولى القصاص خبراء يوكلهم الأولياء، ولا مانع من أن يأخذ هؤلاء الخبراء أجرهم من خزانة الدولة أما الاستيفاء فى القتل فقد ترك للولى إذا كان يحسن الاستيفاء وإذا استوفاه بآلة صالحة، فإذا لم يكن يحسنه، فحق الولى فى الاستيفاء بنفسه متوقف على إحسانه وعلى استعمال الآلة الصالحة. ولقد كان الناس قديمًا يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالبًا، أما اليوم فيقل أن تجد من يحسن استعمال السيف، بل قد لا تجد فى القرية كلها سيفًا واحدًا صالحًا للاستعمال، فإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسى الكهربائى أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت من التجربة وأن المقصلة أو غيرها لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد وأنها فى حيازة الدولة وإذا روعى هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تمنع من ترك الولى يستوفى حقه على الطريقة القديمة، وأنها تقضى بحرمان الأولياء من استيفاء القصاص بأنفسهم وترك الاستيفاء لمن تعينهم الدولة من الموظفين الخبيرين، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص أو لا يأذنوا إذا رأوا العفو.
* * *




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق