الاثنين، 8 ديسمبر 2014

القتل – المبحث الرابع : عقوبات القتل العمد – العقوبات البدلية للقتل العمد ..من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني – د. عبد القادر عودة


القتل

من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
الجزء الثاني


الدكتور: عبد القادر عودة




المبحث الرابع

عقوبات القتل العمد



العقوبات البدلية للقتل العمد


203- عقوبات القتل العمد البدلية ثلاثة: الدية، والتعزير، والصيام. والدية والتعزير بدل من القصاص والصيام بدل من الكفارة، وسنبين فيما يلى أحكام هذه العقوبات الثلاث واحدة بعد الأخرى.
_________
(1) المغنى ج10 ص41 , المهذب ج2 ص234.
(2) شرح الدردير ج4 ص254 , المغنى ج10 ص38 , 39 , نهاية المحتاج ج7 ص365 , 366 , بدائع الصنائع ج7 ص252.
(3) البحر الرائق ج8 ص293 , المغنى ج10 ص33 , المهذب ج2 ص234.
(2/175)
________________________________________
أولاُ: الدية:
204- الأصل فى وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] .
وأما السنة: فقد روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه: "وإن فى النفس مائة من الإبل". وأجمع أهل العلم على وجوب الدية فى الجملة.
205 - والدية فى القتل العمد ليست عقوبة أصلية: وإنما هى عقوبة بدلية قررت بدلاً من العقوبة الأصلية وهى القصاص، وتحل الدية محل القصاص كلما امتنع القصاص أو سقط بسبب من أسباب الامتناع أو السقوط بصفة عامة، مع مراعاة أن هناك حالات يسقط فيها القصاص ولا تحل محله الدية كحالة العفو مجانًا وكحالة موت الجانى عند مالك وأبى حنيفة، ولقد سبق أن بينا بتفصيل حالات سقوط القصاص، والآراء المختلفة فيها وما يحل محل القصاص.
ولا تعتبر الدية فى حالة قتل الأب ولده عقوبة أصلية؛ لأن العقوبة الأصلية للقتل هى القصاص، وإنما استثنى الأب منها لقوله عليه السلام: " لا يقاد الوالد بولده "، والتعبير بلفظ يقاد دليل على أن القود هو الأصل ولكن صلة الأبوة تمنع منه فحلت الدية محلة.
206- الأجناس التى تجب فيها الدية: تجب الدية عند مالك وأبى حنيفة فى ثلاثة أجناس: الإبل، والذهب، والفضة (1) .
ولا تجب الدية فيها كلها، وإنما فى واحد منها فإذا قضيت الدية من الإبل أو من الذهب أو من الفضة فالقضاء صحيح، لأن كل واحد من هذه الأجناس
_________
(1) وحجتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فى النفس المؤمنة مائة من الإبل " وأنه جعل دية كل ذى عهد على عهده ألف دينار.
(2/176)
________________________________________
يقوم مقام الآخر. ويرى أحمد ومعه أبو يوسف ومحمد أن الدية تجب فى ستة أجناس: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحُلَل (1) .
وكان الشافعى يرى قديمًا رأى مالك وأبى حنيفة ثم عدل عنه وقال: إن الدية تجب فى جنس واحد هو الإبل، وأساس رأى الشافعى الأخير أن الإبل هى الأصل فى الدية، وأن ما عدا الإبل من الذهب أو الفضة أو غيرها أبدال تزيد وتنقص بحسب زيادة قيمة الإبل ونقصها وليست هذه الأبدال أصولاً ثابتة كالإبل.
وحجة الشافعى حديث الزهرى قال: "كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، قيمة كل بعير أوقية، ثم غلت قيمة الإبل فصارت قيمة كل بعير أوقية ونصفًا ثم غلت فصارت قيمة كل بعير أوقيتين، فما زالت تغلو حتى جعلها عمر عشرة آلاف درهم أو أربعمائة دينار" ويستدل الشافعى على أن الأصل هو الإبل بأن التغليظ جاء فى الإبل لا فى غيرها فلو كان غيرها أصولاً لجاء فيها التغليظ أيضًا (2) .
وباقى الفقهاء يسلمون بأن الإبل هى الأصل فى الدية، وأن تقدير الذهب والفضة وغيرها روعى فيه وقت التقدير قيمة الإبل، ولكنهم لا يعتبرون ما عدا الإبل أبدالاً عنها، ويرون أن الذهب والفضة أصبحت أصولاً، أو يرون أنها والدية جميعًا أبدال من التلف وهو القتيل فصفتها واحدة ولا يتميز جنس منها عن جنس.
وأهمية اعتبار أحد هذه الأجناس أصلاً أو عدم اعتباره تظهر عند تسليم
_________
(1) وحجتهم عمل عمر رضى الله عنه فإنه قضى بالدية من هذه الأجناس جميعاً حين كان الديات على العواقل , وروى عن عمرو بن شعيب أنه قام: خطيباً فقال: ألا إن الغبل قد غلت , فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفاً , وعلى أهل البقر مائتى بقرة , وعلى أهل الشاء ألفى شاة , وعلى أهل الحلل مائتى حُلة.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص299 وما بعدها , المهذب ج2 ص209 وما بعدها.
(2/177)
________________________________________
الدية، فإذا اعتبرت الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل أصولاً لم يكن لولى الدم أن يمتنع عن تسلم أى شئ منها أحضره من عليه الدية، ويلزم الولى بأخذه دون أن يكون له المطالبة بغيره لأنها جميعًا أصول فى قضاء الواجب يجزى واحد منها، فالخيرة فيها لمن وجبت عليه الدية لا لمن وجبت له. أما إذا قيل إن الإبل هى الأصل خاصة فعلى القاتل تسليمها للولى سليمة من العيوب، وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها، وإذا أعوزت الإبل ولم توجد فعلى القاتل ثمنها مهما بلغت قيمة الإبل ولو زادت على ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم. وكان رأى الشافعى قديمًا كرأى مالك وأبى حنيفة يقضى فى حالة إعواز الإبل بدفع ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم لأنه كان يعتبر الإبل والذهب والفضة أصولاً كلها، وإذا قلت قيمة الإبل بحسب رأى الشافعى ولم تصل إلى ألف دينار فالولى ملزم بأخذها مهما قلت قيمتها لأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته كذوات الأمثال، ولأن حق الولى يتعين فى الإبل دون غيرها فليس له أن يطالب بأكثر منها (1) .
207 - مقدار الواجب من كل جنس: الواجب من الإبل هو مائة من الإبل، ومن الذهب ألف دينار والدينار مثقال من الذهب، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم طبقًا لرأى مالك وأحمد ورأى الشافعى القديم وعشرة آلاف درهم طبقًا لرأى أبى حنيفة، وأساس الخلاف أن الفريق الأول يجعل الدينار اثنى عشر درهمًا والفريق الثانى يجعله عشرة دراهم، ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفان ومن الحلل مائتا حلة. ونلاحظ مما ذكرنا عن الاتفاق والاختلاف على تقدير هذه الأجناس.
208- على من تجب الدية فى القتل العمد: من المتفق عليه أن دية القتل العمد تجب فى مال القاتل فلا يحملها غيره عنه، وهذا يتفق مع مبادئ
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص355 , شرح الدردير ج4 ص250 , المغنى ح9 ص488 , المهذب ج2 ص209.
(2/178)
________________________________________
الشريعة العامة التى تقضى بأن بدل التلف يجب على المتلف وأن أرش الجناية على الجانى، ويتفق مع قول الرسول عليه السلام: " لا يجنى جان إلا على نفسه " والواقع أن الجناية هى أثر فعل الجانى فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها.
مقدار ما يلزم به القاتل عن التعدد: إذا تعدد الجناة ولم يكن قصاص فعليهم دية واحدة للقتيل تقسم عليهم بحسب عددهم ولا يلتزم كل منهم بدية مستقلة، وإذا عفى عن بعض الجناة على الدية واقتص من البعض الآخر فعلى المعفو عنهم كل منهم حصته فقط من الدية مقسمة على عدد رءوس القاتلين من اقُتص منه ومن عُفى عنه.
وإذا نتج الموت من عدة أسباب كأن طعنه شخص عمدًا برمح وأصابه آخر خطأ وعقرته دابته بعد ذلك فمات من هذه الحالات الثلاثة، فعلى المتعمد ثلث الدية بغض النظر عن عدد ما أحدثه من إصابات، ولا يلتزم كل واحد من القاتلين بدية مستقلة حال العفو أو امتناع القصاص ولو أن عليهم القصاص جميعًا؛ ذلك لأن القصاص عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدد الفاعلين، أما لدية فبدل المحل المتلف وهو واحد (1) .
209 - ولكن الفقهاء مع هذا اختلفوا فيمن يحمل دية القتيل إذا كان القاتل حدثًا صغيرًا أو مجنونًا فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمدًا إذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما يتفق مع رأى باقى الأئمة وهو المرجوح، والثانى: يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما فكان عمدهما عمدًا كالبالغ العاقل، وعلى هذا تجب الدية فى مالهما (2) .
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص394 , 396.
(2) البحر الرائق ج8 ص341 , شرح الدردير ج4 ص210 , المغنى ج9 ص506 , المهذب ج2 ص210.
(2/179)
________________________________________
210- أوصاف الإبل فى دية العمد: يرى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية فى القتل العمد مائة من الإبل، تقسم أربعًا: خمسًا وعشرين بنات مخاض، وخمسًا وعشرين بنات لبون، وخمسًا وعشرين حقَّة، وخمسًا وعشرين جَذَعة.
ويرى الشافعى ومحمد بن الحسن من فقهاء مذهب أبى حنيفة ولأحمد رأى يتفق معهما أن دية العمد مائة من الإبل مثلثة، ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خَلفة فى بطونها أولادها، وحجة هؤلاء ما روى عمرو بن شعيب أن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية وهى ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم". وما رواه عبد الله بن عمرو من أن رسول الله قال: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها". وما رواه عمرو بن شعيب من أن رجلاً يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خَلفة (1) ، والخلفة الحامل، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فى بطونها أولادها" تأكيد، وقلما تحمل إلا ثَنيَّية وهى التى لها خمس سنين ودخلت فى السادسة، وأى ناقة حملت فهى خلفة تجزئ فى الدية ولو لم تبلغ السن؛ لأن لفظ خلفه مطلق، ولو أسقطت قبل قبضها فعلى القاتل بدلها.
211- هل تغلظ الدية من العمد؟: يرى مالك تغليظ الدية من العمد فى حالة واحدة هى قتل الوالد لولده ففى هذه الحالة تغلظ الدية وتكون مثلثة بدلاً من كونها مربعة، ويلزم القاتل بمائة من الإبل ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة (2) فإن لم تكن إبل فالتغليظ من الذهب أو الفضة وذلك بأن ينظر قيمة الإبل متغلظة وقيمتها غير مغلظة والفرق بينهما ثم تضاف مثل نسبة
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص236 , 237 , بدائع الصنائع ج7 ص254 , المهذب ج2 ص209 , المغنى ج9 ص488 , 489.
(2) شرح الدردير ج4 ص237.
(2/180)
________________________________________
هذا الفرق على الذهب أو الفضة، فمثلاً إذا كانت قيمة الدية من الإبل مخفضة ستمائة وقيمتها مغلظة ثمانمائة فالفرق بينهما يساوى ثلث المخفضة فيضاف على الذهب أو الورق ما يساوى ثلثه.
ويرى أحمد أن الدية تغلظ فى العمد لأسباب ثلاثة هى: القتل فى الحرم، والقتل فى الشهور الحرم، وقتل المحرم. واختلفوا فى المذهب فى التغليظ لقتل ذى رحم محرم، وصفة التغليظ عند أحمد أن يضاف لكل واحد من أسباب التغليظ ثلث الدية فإذا اجتمعت الأسباب الثلاثة وجبت ديتان. ولا يرى الشافعى التغليظ فى العمد وإنما يراه فى الخطأ كما سنرى فيما بعد.
وقد احتج عليه فقهاء مذهب أحمد بأنه إذا جاز التغليظ فى الخطأ فهو فى العمد أولى. والظاهر أن الشافعى لم ير التغليظ فى العمد لأنه جعل دية العمد مغلظة إذ جعلها مثلثة بينما جعلها أحمد مربعة (1) ، ولا يرى أبو حنيفة التغليظ فى العمد لأنه يرى دية العمد مغلظة بالنسبة لغيرها إذ هى مربعة بينما دية الخطأ مخمسة، ولأنها فى مال الجانى بينما دية الخطأ على العاقلة (2) .
212- وقت الدية فى العمد: يرى مالك والشافعى وأحمد أن الدية فى العمد تجب حالَّة غير مؤجَّلة، إلا إذا رضى ولى الدم بالتأجيل فيكون التأجيل مرجعه الاتفاق، وحجتهم أن الدية فى العمد بدل القصاص وهو حالٌّ فتكون مثله حالة، ولأن فى التأجيل تخفيفًا والعامد لا يستحق التخفيف (3) .
ويرى أبو حنيفة أن دية العمد تجب مؤجلة لثلاث سنوات كما هو الأمر فى دية الخطأ ويكفى العامد تغليظًا بتثبيت الدية وجعلها فى ماله (4) .
213- هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟: تختلف الديات لسببين، أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ. والأول متفق عليه والثانى مختلف فيه، وفيما عدا
_________
(1) المغنى ج9 ص499 وما بعدها , المهذب ج2 ص210.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص257.
(3) شرح الدردير ج4 ص250 , المغنى ج9 ص489 , نهاية المحتاج ج7 ص300.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص257.
(2/181)
________________________________________
هذين السببين فلا اختلاف. فدية الصغير كدية الكبير، ودية الضعيف كدية القوى، ودية المريض كدية الصحيح، ودية المتعلم كدية الجاهل، ودية الشريف كدية الوضيع.
214- الجنس: اتفق الفقهاء على أن دية المرأة فى القتل نصف دية الرجل أخذًا بما نسبه الرسول حيث كتب فى كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وقد أجمع الصحابة على هذا فيروى عن عمر وعلى وعثمان وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أنهم قالوا: إن دية المرأة على النصف من دية الرجل، ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليهم فيكون إجماعًا ولأن المرأة فى ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل فكذلك فى ديتها (1) .
215- التكافؤ: أساس التكافؤ عند من يقول به من فقهاء الشريعة الحرية والإسلام، فإذا تكافأ الأشخاص فقد تساوت دياتهم ولا عبرة بما بينهم من اختلافات طبيعية أو غير طبيعية، ولقد ألغى الرق من العالم فلا محل للكلام على الحرية ولكننا نستطيع أن نلخص رأى الفقهاء فى ذلك فنقول: إنهم كانوا يجعلون دية الرقيق قيمته التى يساويها وقت القتل، فإن كانت أكثر من دية حر فهى ديته وإن كانت أقل فهى ديته.
أما الإسلام فلا يراه أبو حنيفة مانعًا من التكافؤ لأن أساس التكافؤ عنده الحرية فقط، ومن ثم فدية المسلم عنده تساوى دية غير المسلم سواء كان كتابيًا أو غير كتابى كالمجوسى وعابد الوثن أو الشمس، وحجة أبى حنيفة أن الله تعالى قال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] فأطلق القول فى الدية فى جميع أنواع القتل من غير فصل فدل أن الواجب فى الكل على قدر واحد، كذلك فإن الرسول عليه السلام جعل دية كل ذى عهد فى عهده ألف دينار. وروى أن عمرو بن أمية الضمرى قتل منافقين فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص254 , المغنى ج9 ص531 , المهذب ج2 ص211 , شرح الدردير ج4 ص238.
(2/182)
________________________________________
فيهما بدية حرين مسلمين. وعن الزهرى أنه قال: قضى أبو بكر وعمر فى دية الذمى بمثل دية المسلم. وروى عن ابن مسعود أنه قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين. ثم إن وجوب كمال الدية أساسه كمال حال القتيل، فما رجع إلى أحكام الدنيا وهى الذكورة والحرية والعصمة وقد وجد كل هذا، أما الكفر فلا يؤثر فى أحكام الدنيا (1) .
ويرى مالك والشافعى وأحمد أن دية الكتابى على النصف من دية المسلم، وأن دية نسائهم على النصف من دياتهم، وحجتهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه السلام قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم " وفى لفظ آخر: "عقل الكتابى نصف عقل المسلم " ويرى أحمد وحده أن المسلم إذا قتل ذميًا تضاعف عليه الدية فتكون دية الذمى دية كاملة، وحجته أن عثمان قضى بهذا فى رجل قتل رجلاً من أهل الذمة.
ودية المجوس عند الأئمة الثلاثة ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف من دياتهم، وعبده الأوثان ومن لا كتاب له فيلحقون بالمجوسيين (2) ، وحجتهم أن بعض الصحابة قضى بهذا وأن المجوس ومن لا كتاب له أنقص مرتبة من الكتابى لنقصان دينه.
ونظرية أبى حنيفة فى التسوية بين الأشخاص دون نظر إلى أديانهم متفق مع الاتجاهات الحديثة فى التشريعات الوضعية الحديثة، فهى تسوى بين الأشخاص ولو اختلفت أديانهم فى المسائل التى لا تبنى على الدين والمتعلقة بالدنيا.
ثانيًا: التعزير:
216- يعتبر التعزير عقوبة بدلية فى القتل العمد: ويوجب مالك أن يعاقب القاتل تعزيرا كلما امتنع القصاص أو سقط عنه لسبب من الأسباب فيما عدا سقوطه بالموت طبعًا وسواء بقيت الدية أم سقطت هى الأخرى، ويرى أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص255.
(2) شرح الدردير ج4 ص238 , المغنى ج9 ص527 وما بعدها , المهذب ج2 ص211.
(2/183)
________________________________________
تكون العقوبة الحبس لمدة سنة والجلد مائة جلدة (1) .
ولا يرى باقى الأئمة هذا ويقولون: إن هذا حق الله تعالى أى حق للجماعة بعد سقوط القصاص وهى تأديب للقاتل يرجع نفعه للناس كافة. ونقل ابن رشد عن أبى ثور أن القاتل إذا كان معروفًا بالشر وسقط القصاص عنه بسبب عفو ولى الدم فإن الإمام يؤدبه على قدر ما يرى. والأئمة الثلاثة لا يوجبون عقوبة معينة على القاتل إذا سقط القصاص أو عفى عنه ولكن ليس عندهم ما يمنع من عقاب القاتل عقوبة تعزيرية بالقدر الذى تراه الهيئة التشريعية صالحًا لتأديبه وزجر غيره. ويلاحظ الفرق الظاهر بين عقوبة التعزير التى تحل محل القصاص وبين عقوبة التعزير على جرائم الشروع فى القتل الخائبة، فالعقوبة فى الحالة الأولى بدلية وفى الحالة الثانية أصلية. كذلك هناك فرق بين عقوبة التعزير التى توقع على الشركاء وبين العقوبة فى الحالة الأولى، فعقوبة الشركاء أصلية لأن الشريعة لا تعاقب الشركاء بالقصاص ولا الدية وإنما تعاقبهم بالتعزير عدا ما يراه مالك فى حالة الاشتراك بالمساعدة، أما عقوبة التعزير فى الحالة الأولى فهى بدلية ولو أنها واقعة على الفاعل الأصلى.
وليس فى الشريعة ما يمنع أن تكون عقوبة التعزير فى جريمة القتل الإعدام أو الحبس مدى الحياة.
ثالثًا: الصيام:
217- الصيام عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهى العتق: ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته، فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه وإن لم يجد وجب عليه الصيام.
218- ومدة الصوم شهران ويشترط فى الصيام أن يكون متتابعًا: فإذا كان متفرقًا لم يجزئ وتحتسب المدة بالأهلَّة إذا صام من أول الشهر ولو
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص268.
(2/184)
________________________________________
كان أحد الشهرين ناقصًا، فإذا صام من وسط الشهر تحتسب المدة بالأيام باعتبار الشهر ثلاثين يومًا (1) .
219- وإذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر: فيرى مالك وأبو حنيفة وبعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أن الصوم يثبت فى ذمته وليس عليه شئ آخر بدلاً من الصوم. ويرى بعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أن عليه إطعام ستين مسكينًا قياسًا على كفارة الظهار، فقد نُص فيها على العتق وعلى الصيام ثم الإطعام عند العجز عن العتق والصيام (2) .
220- ولا يجب الصيام أصلاً إلا على بالغ عاقل (3) : وترتب على هذا أن الصيام يجب تأخيره لحين البلوغ أو الإفاقة عند من يقول بأن الكفارة واجبة على الصبى والمجنون.
* * *




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق