الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

تفسير سورة الكوثر - إبن كثير

تفسير سورة الكوثر


إبن كثير

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
تفسير سورة الكوثر
وهي مدنية ، وقيل : مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ (3) }
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، عن المختار بن فُلْفُل ، عن أنس بن مالك قال : أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، إما قال لهم وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة". فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } حتى ختمها ، قال : "هل تدرون ما الكوثر ؟ " ، قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "هو نهر أعطانيه ربي ، عز وجل ، في الجنة ، عليه خير كثير ، تردُ عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يُخْتَلَج العبد منهم فأقول : يا رب ، إنه من أمتي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". (1)
هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثلاثي ، وهذا السياق.
وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة أنه يَشْخَب فيه ميزابان من السماء عن نهر الكوثر ، وأن عليه آنية عددَ نجوم السماء. وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي ، من طريق محمد بن فضيل ، وعلي بن مُسْهِر ، كلاهما عن المختار بن فُلْفُل ، عن أنس. ولفظ مسلم قال : "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد ، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما ، قلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : "أنزلت علي آنفا سورة" ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } ثم قال : "أتدرون ما الكوثر ؟" قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنه نهر وَعَدنيه ربي ، عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض تَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم (2) فَيختلجُ العبد منهم ، فأقول : رب إنه من أمتي. فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك". (3)
وقد استدل به كثير من القراء على أن هذه السورة مدنية ، وكثير من الفقهاء على أن البسملة من السورة ، وأنها منزلة معها.
فأما قوله تعالى : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } فقد تقدم في هذا الحديث أنه نهر في الجنة. وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى ، عن أنس فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا ثابت ،
__________
(1) المسند (3/102)
(2) في م ، أ : "عدد نجوم السماء".
(3) صحيح مسلم برقم (400) وسنن أبي داود برقم (4747) وسنن النسائي الكبرى برقم (11702).
(8/498)

عن أنس أنه قرأ هذه الآية (1) { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيتُ الكوثر ، فإذا هو نهر يجري ، ولم يُشق شقًا ، وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ ، فضربت بيدي في تربته ، فإذا مسكه ذَفَرة ، وإذا حصاه اللؤلؤ" (2)
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دخلت الجنة فإذا أنا بنهر ، حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء ، فإذا مسك أذفر. قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله ، عز وجل". (3)
ورواه البخاري في صحيحه ، ومسلم ، من حديث شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : لما عُرجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : "أتيتُ على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف (4) فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر". وهذا لفظ البخاري (5) رحمه الله.
وقال ابن جرير : حدثنا الربيع ، أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن هلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضى به جبريل في (6) السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فذهب يُشمَ تُرَابه ، فإذا هو مسك. قال : "يا جبريل ، ما هذا النهر ؟ قال : هو الكوثر الذي خَبَأ لك ربك". (7)
وقد تقدم [في] (8) حديث الإسراء في سورة "سبحان" ، من طريق شريك عن أنس [عن النبي صلى الله عليه وسلم] (9) وهو مخرج في الصحيحين. (10)
وقال سعيد ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر ، حافتاه قباب اللؤلؤ مُجَوف ، فقال الملك الذي معه : أتدري ما هذا ؟ هذا الكوثر الذي أعطاك الله. وضرب بيده إلى أرضه ، فأخرج من طينه المسك" (11) وكذا رواه سليمان بن طِرْخان ، ومعمر وهَمَام وغيرهم ، عن قتادة ، به.
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج (12) حدثنا أبو أيوب العباسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثني محمد بن عبد الله ، ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس قال : سُئل رسول
__________
(1) في م : "هذه السورة".
(2) المسند (2/247).
(3) المسند (3/103).
(4) في م ، أ : "المجوفة".
(5) صحيح البخاري برقم (4946).
(6) في م : "إلى".
(7) تفسير الطبري (30/207).
(8) زيادة من م.
(9) زيادة من م.
(10) انظر : تفسير أول سورة الإسراء.
(11) رواه الطبري في تفسيره (30/208) عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد ، به.
(12) في أ : "شريح".
(8/499)

الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فقال : "هو نهر أعطانيه الله في الجنة ، ترابه مسك ، [ماؤه] (1) أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجُزُر". فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ قال : "أكلها أنعم منها". (2)
وقال أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عبد الوهاب ، عن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أنس ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكوثر ؟ قال : "نهر في الجنة أعطانيه ربي ، لهو أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر". قال عمر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ قال : "أكلها أنعم منها يا عمر". (3)
رواه (4) ابن جرير ، من حديث الزهري ، عن أخيه عبد الله ، عن أنس : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فذكر مثله سواء. (5)
وقال البخاري : حدثنا خالد بن يزيد الكاهلي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة قال : سألتها عن قوله تعالى : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قالت : نهر [عظيم] (6) أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم ، شاطئاه عليه در مجوف ، آنيته كعدد النجوم. (7)
ثم قال البخاري : رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف ، عن أبي إسحاق.
ورواه أحمد والنسائي ، من طريق مُطرّف ، به. (8)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة قالت : الكوثر نهر في الجنة ، شاطئاه در مُجَوف. وقال إسرائيل : نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء.
وحدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يعقوب القُمي (9) عن حفص بن حميد ، عن شَمِر بن عطية ، عن شقيق (10) أو مسروق قال : قلت لعائشة : يا أم المؤمنين ، حدثيني عن الكوثر. قالت : نهر في بطنان الجنة. قلت : وما بطنان الجنة ؟ قالت : وسطها ، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت ، ترابه المسك ، وحصاؤه اللؤلؤ والياقوت.
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازي ، عن ابن أبي نجيح ، عن عائشة
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (30/209).
(3) المسند (3/220).
(4) في م : "ورواه".
(5) تفسير الطبري (30/209).
(6) زيادة من أ.
(7) صحيح البخاري برقم (4965).
(8) المسند (6/81) وسنن النسائي الكبرى برقم (11705).
(9) في أ : "العمى".
(10) في أ : "سفيان".
(8/500)

قالت : من أحب أن يسمع خرير الكوثر ، فَلْيَجعل أصبعيه في أذنيه. (1)
وهذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة ، وفي بعض الروايات : "عن رجل ، عنها". ومعنى هذا أنه يسمع نظير ذلك ، لا أنه يسمعه نفسه ، والله أعلم.
قال السهيلي : ورواه الدارقطني مرفوعا ، من طريق مالك بن مِغْوَل (2) عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (3)
ثم قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسًا يَزْعُمون أنه نهر في الجنة ؟ فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. (4)
ورواه أيضا من حديث هشيم ، عن أبي بشر وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير. (5)
[وقال الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير]. (6)
وهذا التفسير يعم النهر وغيره ؛ لأن الكوثر من الكثرة ، وهو الخير الكثير ، ومن ذلك النهر كما قال ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومحارب بن دِثَار ، والحسن بن أبي الحسن البصري. حتى قال مجاهد : هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
وقال عكرمة : هو النبوة والقرآن ، وثواب الآخرة.
وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا ، فقال ابن جرير :
حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا عمر بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل.
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، نحو ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن محارب بن دِثار ، عن ابن عمر أنه قال : الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الدر
__________
(1) تفسير الطبري (30/207) ، ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (67) من طريق محمد بن ربيعة ، عن أبي جعفر الرازي ، عن مجاهد ، عن عائشة مرفوعا.
(2) في م : "يزيد بن مغول".
(3) الروض الأنف للسهيلي (1/241).
(4) صحيح البخاري برقم (4966).
(5) صحيح البخاري برقم (6578).
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/207).
(8/501)

والياقوت ، ماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل.
وكذا رواه الترمذي عن ابن حميد ، عن جرير ، عن عطاء بن السائب ، به مثله (1) موقوفا. وقد روي مرفوعا فقال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن حفص ، حدثنا ورقاء قال... وقال عطاء [بن السائب] (2) عن محارب بن دِثار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، والماء يجري على اللؤلؤ ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل".
وهكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طريق محمد بن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، به مرفوعا (3) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُليَّة ، أخبرنا عطاء بن السائب قال : قال لي محارب بن دثار : ما قال سعيد بن جبير في الكوثر ؟ قلت : حَدثَنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير. فقال : صدق ، والله إنه للخير الكثير. ولكن حدثنا ابن عمر قال : لما نزلت : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، يجري على الدر والياقوت". (4)
وقال ابن جرير : حدثني ابن البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، أخبرني حَرَام بن عثمان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أسامة بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما فلم يجده ، فسأل امرأته عنه - وكانت من بني النجار - فقالت : خرج يا نبي الله آنفا عامدًا نحوك ، فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار ، أولا تدخلُ يا رسول الله ؟ فدخل ، فقدمت إليه حيسا ، فأكل منه ، فقالت : يا رسول الله ، هنيئا لك ومريئا ، لقد جئتَ وأنا أريد أن آتيك فأهْنيك وأمْريك ؛ أخبرني أبو عمارة أنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر. فقال : "أجل ، وعرضه - يعني أرضه - ياقوت ومرجان ، وزبرجد ولؤلؤ". (5)
حَرَام بن عثمان ضعيف. ولكن هذا سياق حسن ، وقد صح أصل هذا ، بل قد تواتر من طريق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ، وكذلك أحاديث الحوض [ولنذكرها هاهنا]. (6)
وهكذا رُوي عن أنس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وغير واحدٍ من السلف : أن الكوثر : نهر في الجنة. وقال عطاء : هو حوض في الجنة.
وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي : كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك
__________
(1) تفسير الطبري (30/207) ولم يقع لي في سنن الترمذي من هذا الطريق ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف.
(2) زيادة من م.
(3) المسند (2/158) وسنن الترمذي برقم (3361) وسنن ابن ماجة برقم (4334) وتفسير الطبري (30/210).
(4) تفسير الطبري (30/210).
(5) تفسير الطبري (30/210).
(6) زيادة من أ ، وكذا قال الحافظ ، ولم يقع في النسخ ذكر أحاديث الحوض ، وقد ذكرها الحافظ ابن كثير في كتابه (النهاية في الفتن والملاحم 1/374 - 412) ولولا خشية الإطالة لذكرناها هاهنا فلتراجع هناك.
(8/502)

النهرُ الذي تقدم صفته - فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونَحْرَك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له. كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام : 162 ، 163] قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : يعني بذلك نحر البُدْن ونحوها. وكذا قال قتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، والربيع ، وعطاء الخراساني ، والحكم ، وإسماعيل (1) بن أبي خالد ، وغير واحد من السلف. وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الآية [الأنعام : 121].
وقيل : المراد بقوله : { وَانْحَرْ } وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر. يروى هذا عن علي ، ولا يصح. وعن الشعبي مثله.
وعن أبي جعفر الباقر : { وَانْحَرْ } يعني : ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة.
وقيل : { وَانْحَرْ } أي : استقبل بنحرك القبلة. ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي (2) - سنة خمس وخمسين ومائتين - حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال رسول الله : "يا جبريل ، ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ " فقال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ، ارفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة.
وهكذا (3) رواه الحاكم في المستدرك ، من حديث إسرائيل بن حاتم ، به. (4)
وعن عطاء الخراساني : { وَانْحَرْ } أي : ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل ، وأبرز نحرك ، يعني به الاعتدال. رواه ابن أبي حاتم.
[كل هذه الأقوال غريبة جدا] (5) والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد (6) ثم ينحر نسكه ويقول : "من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك. ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له". فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول
__________
(1) في م : "وسعيد".
(2) في أ : "العامي".
(3) في م : "وقد".
(4) المستدرك (2/537) ، ورواه من طريق البيهقي في السنن (2/75) ، ورواه ابن حبان في المجروحين (1/177) من طريق إسرائيل بن حاتم ، به. وقال ابن حبان : "هذا متن باطل إلا ذكر رفع اليدين فيه ، وهذا خبر رواه عمر بن صبح ، عن مقاتل بن حيان ، وعمر بن صبح يضع الحديث فطفر عليه إسرائيل بن حاتم فحدث به عن مقاتل".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في م : "يصلي يوم العيد".
(8/503)

الله ، إني نَسكتُ شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم. قال : "شاتك شاة لحم". قال : فإن عندي عناقا هي أحب إليَّ من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : "تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك". (1)
قال أبو جعفر بن جرير : والصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة (2) وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير ، الذي لا كِفَاء له ، وخصك به. (3)
وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى : محمد بن كعب القرظي ، وعطاء.
وقوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } أي : إن مبغضك - يا محمد - ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين ، هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكْرُه.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : نزلت في العاص بن وائل.
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره. فأنزل الله هذه السورة.
وقال شَمِر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي مُعَيط.
وقال ابن عباس أيضا ، وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش.
وقال البزار : حدثنا زياد بن يحيى الحَسَّاني ، حدثنا بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر (4) المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ فقال : أنتم خير منه. قال : فنزلت : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
هكذا رواه البزار (5) وهو إسناد صحيح.
وعن (6) عطاء : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال : بُتِرَ محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل. وعنه : { إِنَّ شَانِئَكَ } يعني : عدوك. وهذا يَعُمُّ جميعَ من اتصفَ بذلك ممن ذكر ، وغيرهم.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (983) من حديث البراء ، رضي الله عنه.
(2) في م : "والأولاد".
(3) تفسير الطبري (30/212).
(4) في م : "هذا الضبر".
(5) مسند البزار برقم (2293) "كشف الأستار" ووقع فيه : "حدثنا الحسن بن علي الواسطي ، حدثنا يحيى بن راشد ، عن داود فذكر مثله ، ورواه أيضا النسائي في السنن الكبرى برقم (11707).
(6) في م : "وقال".
(8/504)

وقال عكرمة : الأبتر : الفرد. وقال السُّدِّي : كانوا إذا مات ذكورُ الرجل قالوا : بُتر. فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد. فأنزل الله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد (1) صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد.
آخر تفسير سورة "الكوثر" ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في م : "والتناد".
(8/505)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق