الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

تفسير سورتي المعوذتين - إبن كثير

تفسير سورتي المعوذتين
إبن كثير

تفسير سورتي المعوذتين

وهما مدنيتان.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عاصم بن بَهْدَلة ، عن زر بنُ حُبَيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن ابن مسعود [كان] (1) لا يكتب المعوذتين في مصحفه ؟ فقال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل ، عليه السلام ، قال له : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " فقلتها ، قال : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " فقلتها. فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم (2) (3).
ورواه أبو بكر الحُميدي في مسنده ، عن سفيان بن عيينة ، حدثنا عبدة بن أبي لُبَابة وعاصم بن بهدلة ، أنهما سمعا زر بن حبيش قال : سألتُ أبي بن كعب عن المعوذتين ، فقلت : يا أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يَحُكهما من المصحف. فقال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "قيل (4) لي : قل ، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
وقال أحمد : حدثنا وَكيع ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر قال : سألتُ ابنَ مسعود عن المعوذتين فقال : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال : " قيل لي ، فقلت لكم ، فقولوا". قال أبي : فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نقول (6).
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عَبدَةُ بن أبي لُبَابة ، عن زر بن حُبَيش - وحدثنا عاصم عن زر - قال : سألت أبي بن كعب فقلت : أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال : إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "قيل لي ، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).
ورواه البخاري أيضًا والنسائي ، عن قتيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبدة وعاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب ، به (8).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الأزرق بن علي ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا الصَّلْت بن بَهرَام ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كان عبد الله يَحُك المعوذتين من المصحف ، ويقول : إنما
__________
(1) زيادة من المسند.
(2) في م : "عليه السلام".
(3) المسند (5/129).
(4) في م : "قال".
(5) مسند الحميدي (1/185).
(6) المسند (5/129).
(7) صحيح البخاري برقم (4977).
(8) صحيح البخاري برقم (4976).
(8/530)

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما ، ولم يكن عبد الله يقرأ بهما (1)
ورواه عبد الله بن أحمد من حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن (2) بن يزيد قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ، ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله - قال الأعمش : وحدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : سألنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "قيل لي ، فقلت" (3).
وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء : أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتواتر عنده ، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة ، رضي الله عنهم ، كتبوهما (4) في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك ، ولله الحمد والمنة.
وقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن قيس بن أبي حَازم ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (5).
ورواه أحمد ، ومسلم أيضا ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عقبة ، به (6). وقال الترمذي : حسن صحيح.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جابر ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، عن عقبة بن عامر قال : بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقب من تلك النقاب ، إذ قال لي : "يا عقبة ، ألا تَركب ؟ ". قال : [فَأجْلَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه. ثم قال : "يا عُقيب ، ألا تركب ؟ ". قال] (7) فأشفقت أن تكون معصية ، قال : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنيهة ، ثم ركب ، ثم قال : "يا عقيب ، ألا أُعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس ؟ ". قلت : بلى يا رسول الله. فأقرأني : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثم أقيمت الصلاة ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما ، ثم مر بي فقال : "كيف رأيت يا عقيب (8) اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت".
ورواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن المبارك ، كلاهما عن ابن جابر ، به (9).
__________
(1) ورواه البزار في مسنده برقم (2301) ، من طريق محمد بن أبي يعقوب ، عن حسان بن إبراهيم به ، وقال البزار : "وهذا لم يتابع عبد الله عليه أحد من الصحابة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة ، وأثبتنا في المصحف".
(2) في م : "عن عبد الله".
(3) زوائد المسند (5/129).
(4) في م : "أتبعوهما".
(5) صحيح مسلم برقم (814).
(6) المسند (4/144) وصحيح مسلم برقم (814) ، وسنن الترمذي برقم (2902) وسنن النسائي (2/158).
(7) زيادة من المسند.
(8) في م : "يا عقب".
(9) المسند (4/144) وسنن النسائي (8/253).
(8/531)

ورواه أبو داود والنسائي أيضًا ، من حديث ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن العلاء بن الحارث ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عقبة ، به (1).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني يزيد ابن عبد العزيز الرعيني وأبو مرحوم ، عن يزيد بن محمد القرشي ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن علي بن أبي رباح (2). وقال الترمذي : غريب.
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى (3) بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن مشَرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ بالمعوذتين ، فإنك لن تقرأ بمثلهما". تفرد به أحمد (4).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا حيوة بن شُرَيْح ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا بَحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن جُبَير بن نُفَير ، عن عقبة بن عامر أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له بغلة شهباء ، فركبها فأخذ عقبة يقودها له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) اقرأ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ". فأعادها له حتى قرأها ، فعرف أني لم أفرح بها جدًا ، فقال : "لعلك تهاونت بها ؟ فما قمت تصلي بشيء مثلها".
ورواه النسائي عن عمرو بن عثمان ، عن بقية ، به (6). ورواه النسائي أيضا من حديث الثوري ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين ، فذكر نحوه (7).
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، سمعت النعمان ، عن زياد أبي الأسد ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (8).
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن أبي عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن عقبة بن عامر قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا عقبة ، قل". فقلت : ماذا أقول ؟ فسكت عني ، ثم قال : "قل". قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فسكت عني ، فقلت : اللهم ، أردده على. فقال : "يا عقبة ، قل". قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فقال : "
__________
(1) سنن النسائي (8/252 ، 253) وسنن أبي داود برقم (1462).
(2) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (1523) ، وسنن الترمذي برقم (2903) وسنن النسائي (3/68).
(3) في م ، أ : "حدثنا محمد".
(4) المسند (4/146).
(5) في م ، أ : "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة".
(6) المسند (4/149) وسنن النسائي الكبرى برقم (7843 ، 7844).
(7) سنن النسائي (8/252).
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (7856).
(8/532)

" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال : "قل". قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ قال : " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : "ما سأل سائل بمثلهما ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما" (1).
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا محمد بن يسار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا معاوية ، عن العلاء بن الحارث ، عن مكحول ، عن عقبة بن عامر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاة الصبح (2).
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي عمران أسلم ، عن عقبة بن عامر قال : اتبعت (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب ، فوضعت يدي على قدمه (4) فقلت : أقرئني سورة هود أو سورة يوسف. فقال : "لن تقرأ شيئًا أنفع (5) عند الله من " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " (6).
حديث (7) آخر : قال النسائي : أخبرنا محمود بن خالد ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي عبد الله ، عن ابن عائش (8) الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "يا ابن عائش ، ألا أدلك - أو : ألا أخبرك - بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون ؟ ". قال : بلى ، يا رسول الله. قال : " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " هاتان السورتان" (9).
فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه ، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث.
وقد تقدم في رواية صُدَيّ بن عجلان ، وفَرْوَةَ بن مُجَاهد ، عنه : "ألا أعلمك ثلاثَ سُوَر لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان (10) مثلهن ؟ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ".
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا الجريري ، عن أبي العلاء قال : قال رجل : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، والناس يعتقبون ، وفي الظهر قلة ، فحانت نزلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلتي ، فلحقني فضرب [من بعدي] (11) منكبي ، فقال : " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه ، ثم قال : " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه ، فقال : "إذا صليت فاقرأ بهما" (12).
__________
(1) سنن النسائي (8/253).
(2) سنن النسائي (8/252).
(3) في م : "أتيت".
(4) في م ، أ : "على قدميه".
(5) في م : "أبلغ".
(6) سنن النسائي (8/254).
(7) في أ : "طريق".
(8) في أ : "عباس".
(9) سنن النسائي (8/251).
(10) في أ : "في القرآن".
(11) زيادة من المسند.
(12) المسند (5/24).
(8/533)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
الظاهر أن هذا الرجل هو عقبة بن عامر ، والله أعلم.
ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية ، به (1).
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن عبد الله بن سعيد ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عقبة بن عامر ، عن عبد الله الأسلمي - هو ابن أنيس - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : "قل". فلم أدر ما أقول ، ثم قال لي : "قل". قلت : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثم قال لي : "قل". قلت : " أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " حتى فرغت منها ، ثم قال لي : "قل". قلت : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " حتى فرغت منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هكذا فَتَعَوَذْ (2) ما تعوذَ المتعوذون بمثلهن قط" (3).
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي أبو حفص ، حدثنا بَدَل ، حدثنا شداد بن سعيد أبو طلحة ، عن سعيد الجُرَيري ، حدثنا أبو نَضْرة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ يا جابر". قلت : وما أقرأ بأبي أنت وأمي ؟ قال : "اقرأ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ". فقرأتهما ، فقال : "اقرأ بهما ، ولن تقرأ بمثلهما" (4).
وتقدم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهن ، وينفث في كفيه ، ويمسح بهما رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده.
وقال الإمام مالك : عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح بيده عليه ، رجاء بركتها.
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة - ومن حديث ابن القاسم ، وعيسى بن يونس - وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عُمَر ، ثمانيتهم عن مالك ، به (5).
وتقدم في آخر سورة : " ن " من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وعين الإنسان ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سواهما. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث حسن.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) }

__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (7859).
(2) في م : "فتعوذوا".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (7845).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (7854).
(5) الموطأ (2/942) وصحيح البخاري برقم (5016) وصحيح مسلم برقم (3902) وسنن أبي داود برقم (3902) وسنن النسائي الكبرى برقم (7549 ، 7544 ، 10847) وسنن ابن ماجة برقم (3529).
(8/534)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا حسن بن صالح ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : الفلق : الصبح.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { الْفَلَقِ } الصبح. ورُوي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، وابن زيد ، ومالك عن زيد بن أسلم ، مثل هذا.
قال القرظي ، وابن زيد ، وابن جرير : وهي كقوله تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ } [ الأنعام : 96 ].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { الْفَلَقِ } الخلق. وكذا قال الضحاك : أمر الله نبيه أن يتعوذ من الخلق كله.
وقال كعب الأحبار : { الْفَلَقِ } بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، ورواه ابن أبي حاتم ، ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا سهيل بن عثمان ، عن رجل سماه ، عن السدي ، عن زيد بن علي ، عن آبائه أنهم قالوا : { الْفَلَقِ } جب في قعر جهنم ، عليه غطاء ، فإذا كشف عنه خرجت منا (1) نار تصيح منه جهنم ، من شدة حر ما يخرج منه.
وكذا رُوي عن عمرو بن عَبَسَةَ (2) والسدي ، وغيرهم. وقد ورد في ذلك حديثٌ مرفوع منكر ، فقال ابن جرير :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي ، حدثنا نصر بن خزيمة الخراساني ، عن شعيب بن صفوان ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هُريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الْفَلَقِ } جُبّ في جهنم مغطى" (3) إسناده (4) غريب ولا يصح رفعه.
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : { الْفَلَقِ } من أسماء جهنم.
قال ابن جرير : والصواب القول الأول ، أنه فلق الصبح. وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه (5).
وقوله : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } أي : من شر جميع المخلوقات. وقال ثابت البناني ، والحسن البصري : جهنم وإبليس وذريته مما خلق.
{ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال مجاهد : غاسقُ الليلُ إذا وقبَ غُروبُ الشمس. حكاه البخاري عنه. ورواه ابن أبي نَجِيح ، عنه. وكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، وخُصَيف ، والحسن ، وقتادة : إنه الليل إذا أقبل بظلامه.
__________
(1) في م ، أ : "خرجت منه".
(2) في أ : "عنبسة".
(3) تفسير الطبري (30/225).
(4) في م : "إسناد".
(5) تفسير الطبري (30/225) وصحيح البخاري (8/741) "فتح".
(8/535)

وقال الزهري : { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الشمس إذا غربت. وعن عطية وقتادة : إذا وقب الليل : إذا ذهب. وقال أبو المهزم ، عن أبي هريرة : { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } كوكب. وقال ابن زيد : كانت العرب تقول : الغاسق سقوط الثريا ، وكان (1) الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها.
قال ابن جرير : ولهؤلاء من الأثر ما حدثني : نصر بن علي ، حدثني بكار بن عبد الله - ابن أخي همام - حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال : النجم الغاسق" (2).
قلت : وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير : وقال آخرون : هو القمر.
قلت : وعمدة أصحاب هذا القول ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو داود الحَفري ، عن ابن أبي ذئب ، عن الحارث ، عن أبي سلمة قال : قالت عائشة ، رضي الله عنها : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فأراني القمر حين يطلع ، وقال : "تَعوَّذِي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب".
ورواه الترمذي والنسائي ، في كتابي التفسير من سننيهما ، من حديث محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب ، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن ، به (3). وقال الترمذي : حسن صحيح. ولفظه : "تعوذي بالله من شر هذا ، فإن هذا الغاسق إذا وقب". ولفظ النسائي : "تعوَّذي بالله من شر هذا ، هذا الغاسق إذا وقب".
قال أصحاب القول الأول وهو أنه الليل إذا ولج - : هذا لا ينافي قولنا ؛ لأن القمر آيةُ الليل ، ولا يوجد له سلطان إلا فيه ، وكذلك النجوم لا تضيء ، إلا في الليل ، فهو يرجع إلى ما قلناه ، والله أعلم.
وقوله : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة والضحاك : يعني : السواحر - قال مجاهد : إذا رقين ونفثن في العقد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : ما من شيء أقرب من (4) الشرك من رقية الحية والمجانين (5).
وفي الحديث الآخر : أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكيت يا محمد ؟ فقال : "نعم". فقال : بسم الله أرْقِيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل حاسد وعين ، الله يشفيك (6).
__________
(1) في م : "وكانت".
(2) تفسير الطبري (30/227).
(3) المسند (6/61) وسنن الترمذي برقم (3366) وسنن النسائي الكبرى برقم (10138).
(4) في أ : "إلى".
(5) تفسير الطبري (30/227).
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (2186) من حديث أبي سعيد ، رضي الله عنه.
(8/536)

ولعل هذا كان من شكواه ، عليه السلام ، حين سحر ، ثم عافاه الله تعالى وشفاه ، ورد كيد السحرَة الحسَّاد من اليهود في رءوسهم ، وجعل تدميرهم في تدبيرهم ، وفضحهم ، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ، بل كفى الله وشفى وعافى.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن حَيَّان ، عن زيد بن أرقم قال : سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود ، فاشتكى لذلك أياما ، قال : فجاءه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عُقَدًا في بئر كذا وكذا ، فَأرْسِل إليها من يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [عليًا ، رضي الله تعالى عنه] (1) فاستخرجها ، فجاء بها فحللها (2) قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نَشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه [قط] (3) حتى مات.
ورواه النسائي عن هَنَّاد ، عن أبي معاوية محمد بن حَازم الضرير (4).
وقال البخاري في "كتاب الطب" من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : أول من حدثنا به ابنُ جُرَيْج ، يقول : حدثني آل عُرْوَة ، عن عروة ، فسألت هشاما عنه ، فحدثَنا عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر ، حتى كان يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر ، إذا كان كذا - فقال : "يا عائشة ، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيتُه فيه ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب. قال : ومن طَبَّه ؟ قال : لَبيد بن أعصم - رجل من بني زُرَيق حَليف ليهُودَ ، كان منافقًا - وقال : وفيم ؟ قال : في مُشط ومُشاقة. قال : وأين ؟ قال : في جُف طَلْعَة ذكر تحت رعوفة في بئر ذَرْوَان". قالت : فأتى [النبي صلى الله عليه وسلم] (5) البئر حتى استخرجه فقال : "هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نُقَاعة الحنَّاء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين". قال : فاستخرج (6). [قالت] (7). فقلت : أفلا ؟ أي : تَنَشَّرْتَ ؟ فقال : "أمَّا اللهُ فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا" (8).
وأسنده من حديث عيسى بن يونس ، وأبي ضَمْرة أنس بن عياض ، وأبي أسامة ، ويحيى القطان وفيه : "قالت : حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله". وعنده : "فأمر بالبئر فدفنت". وذكر أنه رواه عن هشام أيضًا ابن أبي الزَّناد والليث بن سعد (9).
وقد رواه مسلم ، من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير. ورواه أحمد ، عن
__________
(1) زيادة من المسند.
(2) في م : "فحلها".
(3) زيادة من المسند.
(4) المسند (4/367) وسنن النسائي (7/112).
(5) زيادة من صحيح البخاري.
(6) في أ : "فاستخرجه".
(7) زيادة من صحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (5765).
(9) صحيح البخاري برقم (5863 ، 6391 ، 5766).
(8/537)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)
عفان ، عن وُهَيب (1) عن هشام ، به (2).
ورواه الإمام أحمد أيضًا عن إبراهيم بن خالد ، عن رباح ، عن مَعْمَر ، عن هشَام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يُرى أنه يأتي ولا يأتي ، فأتاه ملكان ، فجلس أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما للآخر : ما باله ؟ قال : مطبوب. قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، وذكر تمام الحديث (3).
وقال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره : قال ابن عباس وعائشة ، رضي الله عنهما : كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبَّت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مُشطه ، فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها. وكان الذي تولى ذلك رجل منهم - يقال له : [لبيد] (4) بن أعصم - ثم دسها في بئر لبني زُرَيق ، ويقال لها : ذَرْوان ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يَذُوب ولا يدري ما عراه. فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فَقَعَد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طُبَ. قال : وما طُبَ ؟ قال : سحر. قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي. قال : وبم طَبَه ؟ قال : بمشط ومشاطة. قال : وأين هو ؟ قال : في جُفَ طلعة تحت راعوفة في بئر ذَرْوَان - والجف : قشر الطلع ، والراعوفة : حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح - فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورًا ، وقال : "يا عائشة ، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ؟ ". ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر ، فنزحوا ماء البئر كأنه نُقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقود ، فيه اثنتا عشرة (5) عقدة مغروزة بالإبر. فأنزل الله تعالى السورتين ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نَشطَ من عقال ، وجعل جبريل ، عليه السلام ، يقول : باسم الله أرْقِيك ، من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين الله يشفيك. فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نأخذ الخبيث نقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن يثير على الناس شرًا" (6).
هكذا أورده بلا إسناد ، وفيه غرابة ، وفي بعضه نكارة شديدة ، ولبعضه شواهد مما تقدم ، والله أعلم.
سورة الناس
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ

__________
(1) في م : "وهب".
(2) صحيح مسلم برقم (2189) والمسند (6/96).
(3) المسند (6/63).
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م ، أ : "فيه اثنا عشر".
(6) الكشف والبيان للثعلبي "ق 194 المحمودية".
(8/538)

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) }
هذه ثلاث صفات (1) من صفات الرب ، عز وجل ؛ الربوبية ، والملك ، والإلهية : فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له ، مملوكة عبيد له ، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات ، من شر الوسواس الخناس ، وهو الشيطان الموكل بالإنسان ، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَين له الفواحش ، ولا يألوه جهدًا في الخبال. والمعصوم من عَصَم الله ، وقد ثبت في الصحيح أنه : "ما منكم من أحد إلا قد وُكِل به قرينة". قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : "نعم ، إلا أن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير" (2) وثبت في الصحيح ، عن أنس في قصة زيارة صفية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، وخروجه معها ليلا ليردها إلى منزلها ، فلقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال رسول الله : "على رسلكما ، إنها صفية بنت حُيي". فقالا سبحان الله ، يا رسول الله. فقال : "إن الشيطان يجري من ابن آدم (3) مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا ، أو قال : شرًا" (4).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن بحر ، حدثنا عدي بن أبي عمَارة ، حدثنا زيادًا (5) النّميري ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان واضع خطمه (6) على قلب ابن آدم ، فإن ذكر (7) خَنَس ، وإن نسي (8) التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخناس" (9) غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عاصم ، سمعت أبا تميمة يُحَدث عن رَديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عَثَر بالنبي صلى الله عليه وسلم حمارهُ ، فقلت : تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تقل : تعس الشيطان ؛ فإنك إذا قلت : تعس الشيطان ، تعاظَم ، وقال : بقوتي صرعته ، وإذا قلت : بسم الله ، تصاغر حتى يصير مثل الذباب" (10).
تفرد به أحمد ، إسناده (11) جيد قوي ، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغُلِب ، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا الضحاك بن عثمان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحدكم إذا كان في المسجد ، جاءه الشيطان فأبس
__________
(1) في هـ : "صفة" والمثبت من م ، أ.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2814) من حديث عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه.
(3) في أ : "من الإنسان".
(4) صحيح مسلم برقم (2174) هو في صحيح البخاري برقم (2035 ، 6219 ، 7171) من حديث صفية ، رضي الله عنها.
(5) في م : "زياد" وهو الصواب.
(6) في أ : "خرطومه".
(7) في أ : "ذكر الله".
(8) في أ : "نسى الله".
(9) مسند أبي يعلى (7/278 ، 279) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/742) : "إسناده ضعيف" ؛ وذلك لضعف زياد النميري والكلام في عدي بن أبي عمارة.
(10) المسند (5/59).
(11) في م : "إسناد".
(8/539)

به كما يُبَس الرجل بدابته ، فإذا سكن له زنقه - أو : ألجمه". قال أبو هُرَيرة : وأنتم ترون ذلك ، أما المزنوق فتراه مائلا - كذا - لا يذكر الله ، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله ، عز وجل. تفرد به أحمد (1).
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } قال : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خَنَس. وكذا قال مجاهد ، وقتادة.
وقال المعتمر بن سليمان ، عن أبيه : ذُكرَ لي أن الشيطان ، أو : الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح ، فإذا ذكر الله خنس.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { الْوَسْوَاس } قال : هو الشيطان يأمر ، فإذا أطيع خنس.
وقوله : { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } هل يختص هذا ببني آدم - كما هو الظاهر - أو يعم بني آدم والجن ؟ فيه قولان ، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليبا.
وقال ابن جرير : وقد استعمل فيهم(رجَالٌ منَ الجنَ) فلا بدع في إطلاق الناس عليهم.
وقوله : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } هل هو تفصيل لقوله : { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } ثم بينهم فقال : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } وهذا يقوي القول الثاني. وقيل قوله : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } تفسير للذي يُوسوس في صدور الناس ، من شياطين الإنس والجن ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] ، وكما قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا المسعودي ، حدثنا أبو عُمَر الدمشقي ، حدثنا عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فجلست ، فقال : "يا أبا ذر ، هل صليت ؟ ". قلت : لا. قال : "قم فصل". قال : فقمت فصليت ، ثم جلست فقال : "يا أبا ذر ، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن".
قال : قلت : يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : "نعم". قال : قلت : يا رسول الله ، الصلاة ؟ قال : "خير موضوع ، من شاء أقل ، ومن شاء أكثر". قلت : يا رسول الله فما الصوم ؟ قال : "فرض يجزئ ، وعند الله مزيد". قلت : يا رسول الله ، فالصدقة ؟ قال : "أضعاف مضاعفة". قلت : يا رسول الله ، أيها (2) أفضل ؟ قال : "جُهد من مُقل ، أو سر إلى فقير". قلت : يا رسول الله ، أي الأنبياء كان أول ؟ قال : "آدم". قلت : يا رسول الله ، ونبي (3) كان ؟ قال : "نعم ، نبي مُكَلَّم". قلت : يا رسول الله ، كم المرسلون ؟ قال : "ثلثمائة وبضعة عشر ، جَمًّا غَفيرًا". وقال مرة : "خمسة عشر". قلت : يا رسول الله ، أيما أنزل عليك أعظم ؟
__________
(1) المسند (2/230) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/242) : "رجاله رجال الصحيح".
(2) في م : "فأيها".
(3) في م : "ونبيا".
(8/540)

قال : "آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
ورواه النسائي ، من حديث أبي عمر الدمشقي ، به (1). وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدًا أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، بطريق آخر ، ولفظ آخر مطول جدًا (2) فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن ذر بن عبد الله الهَمْداني ، عن عبد الله بن شداد ، عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أحدث (3) نفسي بالشيء لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به. قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر الله أكبر ، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".
ورواه أبو داود والنسائي ، من حديث منصور - زاد النسائي : والأعمش - كلاهما عن ذر ، به (4).
آخر التفسير ، ولله الحمد والمنة ، والحمد لله رب العالمين (5). وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين (6). ورضي الله عن الصحابة أجمعين (7). حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان الفراغ منه في العاشر من جمادي الأولى سنة خمس وعشرين وثمانين. والحمد له وحده (8).
__________
(1) المسند (5/178) وسنن النسائي (8/275).
(2) صحيح ابن حبان برقم (94) "موارد" ، (1/287) "الإحسان" من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني ، عن أبيه عن جده ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، وقد قال ابن عدي عن هذا الحديث : "هذا الحديث منكر من هذا الطريق".
(3) في م : "لأحدث".
(4) المسند (1/235) وسنن أبي داود برقم (5112) وسنن النسائي الكبرى برقم (10503).
(5) في أ : "والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى".
(6) في أ : "وسلم تسليما أبدا دائما إلى يوم الدين".
(7) في أ : "ورضي الله عن أصحاب رسول الله".
(8) في م : "آخر التفسير ويليه فضائل القرآن للمؤلف أيضا ، وبه يتم الكتاب إن شاء الله ، ولله الحمد والمنة على التمام ، إنه ولي الإنعام".



السبت، 20 ديسمبر 2014

تفسير سورة النبأ - إبن كثير

تفسير سورة النبأ

إبن كثير


بسم الله الرحمن الرحيم

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
تفسير سورة النبأ
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) }
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } أي : عن أي شيء يتساءلون ؟ من أمر القيامة ، وهو النبأ العظيم ، يعني : الخبر الهائل المفظع الباهر.
قال قتادة ، وابن زيد : النبأ العظيم : البعث بعد الموت. وقال مجاهد : هو القرآن. والأظهر الأول لقوله : { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } يعني : الناس فيه على قولين : مؤمن به وكافر.
ثم قال تعالى متوعدًا لمنكري القيامة : { كَلا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ } وهذا تهديدٌ شديد ووعيد أكيد.
ثم شرع وتعالى يُبَيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة ، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره ، فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا } ؟ أي : ممهدة للخلائق ذَلُولا لهم ، قارّةً ساكنة ثابتة ، { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } أي : جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.
ثم قال : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } يعني : ذكرًا وأنثى ، يستمتع كل منهما بالآخر ، ويحصل التناسل بذلك ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم : 21].
وقوله : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } أي : قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد (1) والسعي
__________
(1) في أ : "الاسترداد".
(8/302)
****************
في المعايش (1) في عرض النهار. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة "الفرقان" (2).
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي : يغشى الناس ظلامه وسواده ، كما قال : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [الشمس : 4] وقال الشاعر (3) :
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ ، أو حِينَ نَصَّبتْ... له مِن خَذا آذانِها وَهْوَ جَانِحُ...
وقال قتادة في قوله : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي : سكنًا.
وقوله : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } أي : جعلناه مشرقا مُنيرًا (4) مضيئًا ، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات ، وغير ذلك.
وقوله : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } يعني : السموات السبع ، في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها ، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } يعني : الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم.
وقوله : { وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } قال العوفي ، عن ابن عباس : { الْمُعْصِرَاتِ } الريح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو داود الحَفَري (5) عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } قال : الرياح. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وزيد بن أسلم : وابنه عبد الرحمن : إنها الرياح. ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } أي : من السحاب. وكذا قال عكرمة أيضا ، وأبو العالية ، والضحاك ، والحسن ، والربيع بن أنس ، والثوري. واختاره ابن جرير.
وقال الفراء : هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ ، كما يقال امرأة معصر ، إذا دنا حيضها ولم تحض.
وعن الحسن ، وقتادة : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } يعني : السموات. وهذا قول غريب.
والأظهر أن المراد بالمعصرات : السحاب ، كما قال [الله] (6) تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } [الروم : 48] أي : من بينه.
وقوله : { مَاءً ثَجَّاجًا } قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { ثَجَّاجًا } منصبا. وقال الثوري : متتابعًا. وقال ابن زيد : كثيرا.
__________
(1) في م : "في المعاش".
(2) عند تفسير الآية 47.
(3) هو ذو الرمة ، والبيت في تفسير الطبري (30/3).
(4) في أ : "نيرا".
(5) في أ : "الجوني".
(6) زيادة من م.
(8/303)
****************
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قال ابن جرير : ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج ، وإنما الثج : الصب المتتابع. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أفضلُ الحجّ العجّ والثجّ". يعني : صَبّ دماء البُدْن (1). هكذا قال. قلت : وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنعت لك الكُرسُفَ" - يعني : أن تحتشي بالقطن - : قالت (2) : يا رسول الله ، هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجًا (3). وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير ، والله أعلم.
وقوله : { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } أي : لنخرجَ بهذا الماء الكثير الطيب النافع المُبَارَك { حَبًّا } يدخر للأناسي والأنعام ، { وَنَبَاتًا} أي : خضرًا يؤكل رطبا ، { وَجَنَّاتٍ } أي : بساتين وحدائقَ من ثمرات متنوعة ، وألوان مختلفة ، وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذهلك (4) في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا ؛ ولهذا قال : { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } قال ابن عباس ، وغيره : { أَلْفَافًا } مجتمعة. وهذه كقوله تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } الآية [الرعد : 4].
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30) }
يقول تعالى مخبرًا عن يوم الفصل ، وهو يوم القيامة ، أنه مؤقت بأجل معدود ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل ، كما قال : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ } [هود : 104].
{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } قال مجاهد : زُمَرًا (5). قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، كقوله : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء : 31] (6).
وقال البخاري : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بين النفختين أربعون".
__________
(1) تفسير الطبري (30/5) ، وهذا الحديث جاء من حديث ابن عمر ، وأبي بكر ، وجابر ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، وانظر تخريجها والكلام عليها في : نصب الراية للإمام الزيلعي (3/33 - 35).
(2) في أ : "فقالت".
(3) حديث المستحاضة هو حديث حمنة بنت جحش ، وقد رواه الإمام أحمد في المسند (6/439) ، وأبو داود في السنن برقم (287) ، والترمذي في السنن برقم (128).
(4) في م ، أ : "ذلك".
(5) في م : "زمرا زمرا".
(6) تفسير الطبري (30/60).
(8/304)
****************

قالوا : أربعون يومًا ؟ قال : "أبيتُ". قالوا : أربعون شهرًا ؟ قال : "أبيت". قالوا : أربعون سنة ؟ قال : "أبيت". قال : "ثم يُنزلُ الله من السماء ماء فينبتُونَ كما ينبتُ البقلُ ، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى ، إلا عظمًا واحدا ، وهو عَجْبُ الذنَب ، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة" (1).
{ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } أي : طرقا ومسالك لنزول الملائكة ، { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا } كقوله : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل : 88] وكقوله : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة : 5].
وقال هاهنا : { فَكَانَتْ سَرَابًا } أي : يخيل إلى الناظر أنها شيء ، وليست بشيء ، بعد هذا تَذهب بالكلية ، فلا عين ولا أثر ، كما قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 105 - 107] وقال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47].
وقوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } أي : مرصدة مُعَدّة ، { للِطَّاغِينَ } وهم : المَرَدة العصاة المخالفون للرسل ، { مَآبًا } أي : مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا. وقال الحسن ، وقتادة في قوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } يعني : أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار ، فإن كان معه جواز نجا ، وإلا احتبس. وقال سفيان الثوري : عليها ثلاث قناطر.
وقوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } أي : ماكثين فيها أحقابا ، وهي جمع "حقُب" ، وهو : المدة من الزمان. وقد اختلفوا في مقداره. فقال ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مِهْران ، عن سفيان الثوري ، عن عَمَّار الدّهنِي ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهَجَري : ما تجدونَ الحُقْبَ في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة (2).
وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرة ، وعبد الله بن عَمرو ، وابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، وعَمرو بن ميمون ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والضحاك. وعن الحسن والسّدي أيضا : سبعون سنة كذلك. وعن عبد الله بن عمرو : الحُقبُ أربعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. رواهما ابن أبي حاتم.
وقال بُشَير (3) بن كعب : ذُكِر لي أن الحُقب الواحد ثلاثمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا (4) ، كل يوم منها كألف سنة. رواه ابن جرير (5) ، وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن عُمَر بن علي بن أبي بكر الأسْفَذْنيّ (6) : حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4935).
(2) تفسير الطبري (30/8).
(3) في أ : "وقال بشر".
(4) في م : "كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما".
(5) تفسير الطبري (30/8).
(6) في أ : "الأسعدي".
(8/305)
****************
قال : فالحقب [ألف] (1) شهر ، الشهر ثلاثون يوما ، والسنة اثنا عشر شهرا ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة (2). وهذا حديثٌ منكر جدًا ، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك.
وقال البزار : حدثنا محمد بن مِرْدَاس ، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال : سألت سليمان التيمي : هل يخرج من النار أحد ؟ فقال حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا". قال : والحُقْب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون (3).
ثم قال : سليمان بن مسلم بصري مشهور.
وقال السّدي : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } سبعمائة حُقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا ، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
وقد قال مقاتل بن حَيّان : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا }
وقال خالد بن مَعْدان : هذه الآية وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود : 107] في أهل التوحيد. رواهما ابن جرير.
ثم قال : ويحتمل أن يكون قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } متعلقًا بقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر. ثم قال : والصحيح أنها لا انقضاء لها ، كما قال قتادة والربيع بن أنس. وقد قال قبل ذلك.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم : سمعت الحسن يسأل عن قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال : أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار ، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقال سعيد ، عن قتادة : قال الله تعالى : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وهو : ما لا انقطاع له ، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده ، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
وقال الربيع بن أنس : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون. رواهما أيضا ابن جرير (4).
__________
(1) زيادة من إتحاف للبوصيري.
(2) ورواه ابن أبي عم العدني في مسنده كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق 218 سليمانية) عن مروان ، عن جعفر بن الزبير بنحوه ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/292) من طريق يعقوب بن كعب ، عن مروان ، عن جعفر ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : "الحقب الواحد : ثلاثون ألف سنة".
(3) مسند البزار برقم (2249) "كشف الأستار" ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (7029) من طريق زياد بن أبي زيد ، عن سليمان بن مسلم به نحوه ، وقال الهيثمي في المجمع (10/395) : "فيه سليمان بن مسلم الخشاب ، وهو ضعيف جدًا".
(4) تفسير الطبري (30/9).
(8/306)
****************
وقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } أي : لا يجدون في جَهنَّم بردًا لقلوبهم ، ولا شرابا طيبا يتغذون به. ولهذا قال : { إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } قال أبو العالية : استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق. وكذا قال الربيع بن أنس. فأما الحميم : فهو الحار الذي قد انتهى حره وحُموه. والغَسَّاق : هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم ، فهو بارد لا يستطاع من برده ، ولا يواجه من نتنه. وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة "ص" (1) بما أغنى عن إعادته ، أجارنا الله من ذلك ، بمنه وكرمه.
قال ابن جرير : وقيل : المراد بقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا } يعني : النوم ، كما قال الكندي :
بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فصدّني... عنها وَعَنْ قُبُلاتها ، البَرْدُ...
يعني بالبرد : النعاس والنوم (2) هكذا ذكره ولم يَعزُه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم ، من طريق السدي ، عن مرة الطيب. ونقله عن مجاهد أيضا. وحكاه البغوي عن أبي عُبَيدة ، والكسائي أيضا.
وقوله : { جَزَاءً وِفَاقًا } أي : هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا. قاله مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد.
ثم قال : { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } أي : لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون ، { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } أي : وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله ، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة.
وقوله : { كِذَّابًا } أي : تكذيبا ، وهو مصدر من غير الفعل. قالوا : وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة : الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار ؟ وأنشد بعضهم (3) :
لَقَد طالَ ما ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي... وعن حوج قضاؤها مِن شفَائيا...
وقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } أي : وقد عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم ، وكتبناهم عليهم ، وسنجزيهم على ذلك ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
وقوله : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } أي : يقال لأهل النار : ذوقوا ما أنتم فيه ، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسهِ ، { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص : 58].
قال قتادة : عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو قال : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } قال : فهم في مزيد من العذاب أبدا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري ، حدثنا خالد بن عبد
__________
(1) انظر تفسير الآية : 57 من سورة "ص".
(2) تفسير الطبري (30/9).
(3) البيت في تفسير الطبري (30/11).
(8/307)
****************
الرحمن ، حدثنا جَسر (1) بن فَرقد ، عن الحسن قال : سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار. قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } فقال : "هلك القوم بمعاصيهم الله عَزّ وجل" (2).
جسرُ (3) بن فَرقد : ضعيف الحديث بالكلية.
__________
(1) في أ : "حدثنا".
(2) ورواه البيهقي في البعث برقم (635) من طريق محمد بن غالب ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن جسر بن فرقد به ، فذكره موقوفا ، ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن به ، ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق مهدى بن ميمون ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسن ، عن أبي برزة مرفوعًا بنحوه.
(3) في أ : "حسن".
(8/308)
****************
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) }
يقول تعالى مخبرًا عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم ، فقال : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } قال ابن عباس والضحاك : متنزها. وقال مجاهد ، وقتادة : فازوا ، فنجوا من النار. الأظهر هاهنا قولُ بن عباس ؛ لأنه قال بعده : { حَدَائِقَ } وهي البساتين من النخيل وغيرها { وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } أي : وحورًا كواعب. قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد : { كواعب } أي : نواهد ، يعنون أن ثُدُيَّهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عُرُب أتراب ، أي : في سن واحدة ، كما تقدم بيانه في سورة "الواقعة".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الدّشتكيّ ، حدثني أبي ، عن أبي سفيان عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى ، حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي ، عن أبي أمامة : أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن قُمُص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله ، وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم : يا أهل الجنة ، ماذا تريدون أن أمطركم ؟ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب" (1)
وقوله : { وَكَأْسًا دِهَاقًا } قال ابن عباس : مملوءة متتابعة. وقال عكرمة : صافية. وقال مجاهد ، والحسن وقتادة ، وابن زيد : { دهاقا } الملأى المترعة. وقال مجاهد (2) وسعيد بن جبير : هي المتتابعة.
وقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } كقوله : { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] أي : ليس فيها كلام لاغٍ عَارٍ عن الفائدة ، ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام ، وكل ما فيها سالم من النقص.
__________
(1) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/195) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، عن أبي سفيان - عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى به.
(2) في م : "وقال قتادة".
(8/308)
****************
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وقوله : { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا } أي : هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه ، بفضله ومَنِّه وإحسانه ورحمته ؛ { عَطَاءً حِسَابًا } أي : كافيًا وافرًا شاملا كثيرًا ؛ تقول العرب : "أعطاني فأحسبني" أي : كفاني. ومنه "حسبي الله" ، أي : الله كافيّ.
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله ، وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.
وقوله : { لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } أي : لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه ، كقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ، وكقوله : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105]
وقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ } اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا ، ما هو ؟ على أقوال :
أحدها : رواه العوفي ، عن ابن عباس : أنهم أرواح بني آدم.
الثاني : هم بنو آدم. قاله الحسن ، وقتادة ، وقال قتادة : هذا (1) مما كان ابن عباس يكتمه.
الثالث : أنهم خَلق من خلق الله ، على صُور بني آدم ، وليسوا بملائكة ولا ببشر ، وهم يأكلون ويشربون. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو صالح والأعمش.
الرابع : هو جبريل. قاله الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك. ويستشهد لهذا القول بقوله : { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء : 193 ، 194] وقال مقاتل بن حيان : الروح : أشرف الملائكة ، وأقرب إلى الرب عز وجل ، وصاحب الوحي.
والخامس : أنه القرآن. قاله ابن زيد ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } الآية [الشورى : 52].
والسادس : أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات ؛ قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ } قال : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقًا.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا رَواد (2) بن الجراح ، عن أبي حمزة ، عن __________
(1) في م : "وهذا".
(2) في أ : "حدثنا داود".
(8/309)
****************
الشعبي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : الروح : في السماء الرابعة هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة ، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفًا وحده (1) ، وهذا قول غريب جدًا.
وقد قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرْس المصري ، حدثنا وهب [الله بن رزق أبو هريرة ، حدثنا بشر بن بكر] (2) ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عطاء ، عن عبد الله بن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن لله ملكا لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت" (3).
وهذا حديث غريب جدًا ، وفي رفعه نظر ، وقد يكون موقوفًا على ابن عباس ، ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات ، والله أعلم.
وتَوَقَّفَ ابنُ جرير فلم يقطَع بواحد من هذه الأقوال كلها ، والأشبه - والله أعلم - أنهم بنو آدم.
وقوله : { إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } كقوله : { لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105]. وكما ثبت في الصحيح : "ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل".
وقوله { وَقَالَ صَوَابًا } أي : حقا ، ومن الحق : "لا إله إلا الله" ، كما قاله أبو صالح ، وعكرمة.
وقوله : { ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } أي : الكائن لا محالة ، { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا } (4) أي : مرجعا وطريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه.
وقوله : { إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } يعني : يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا ، لأن كل ما هو آت آت.
{ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي : يعرض عليه جميع أعماله ، خيرها وشرها ، قديمها وحديثها ، كقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } [الكهف : 49] ، وكقوله : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13].
{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } أي : يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا ، ولم يكن خُلِقَ ، ولا خرج إلى الوجود. وذلك حين عاين عذاب الله ، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سُطَّرت عليه بأيدي الملائكة السَّفَرة الكرام البَرَرة ، وقيل : إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا ، فيفصل بينها
__________
(1) تفسير الطبري (30/15).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) المعجم الكبير (11/95) ، والمعجم الأوسط برقم (66) "مجمع البحرين" ، وقال في الأوسط : "لم يروه عن الأوزاعى إلا بشر ، تفرد به وهب" ، ووهب لم أر من ترجم له.
(4) في م : "سبيلا" وهو خطأ.
(8/310)
****************
بحكمه العدل الذي لا يجور ، حتى إنه ليقتص للشاة الجمَّاء من القرناء. فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها : كوني ترابا ، فتصير ترابا. فعند ذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } أي : كنت حيوانا فأرجع إلى التراب. وقد ورد معنى هذا في حديث الصّور المشهور (1) وورد فيه آثار عن أبي هُرَيرة ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهما.
[آخر تفسير سورة "عم" (2) ] (3)
__________
(1) حديث الصور تقدم بطوله عند تفسير الآية : 73 من سورة "الأنعام".
(2) في م : "النبأ".
(3) زيادة من م ، أ.


تفسير سورة النازعات - إبن كثير

تفسير سورة النازعات

إبن كثير

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
تفسير سورة النازعات
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) }
قال ابن مسعود وابن عباس ، ومسروق ، وسعيد بن جبير ، وأبو صالح ، وأبو الضحى ، والسُّدي : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } الملائكة ، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم ، فمنهم من تأخذ روحه بعُنف فَتُغرق في نزعها ، و[منهم] (1) من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط ، وهو قوله : { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس : { والنازعات } هي أنفس الكفار ، تُنزع ثم تُنشَط ، ثم تغرق في النار. رواه ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } الموت.وقال الحسن ، وقتادة : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } هي النجوم.
وقال عَطَاءُ بنُ أبي رَباح في قوله : { والنازعات } و { الناشطات } هي القسيّ في القتال. والصحيح الأول ، وعليه الأكثرون.
وأما قوله : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } فقال ابن مسعود : هي الملائكة. ورُوي عن علي ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وأبي صالح مثلُ ذلك.
وعن مجاهد : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } الموت.وقال قتادة : هي النجوم. وقال عطاء بن أبي رباح : هي السفن.
وقوله : { فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا } رُوي عن علي ، ومسروق ، ومجاهد ، وأبي صالح ، والحسن البصري : يعني الملائكة ؛ قال الحسن : سبقت إلى الإيمان والتصديق به. وعن مجاهد : الموت. وقال قتادة : هي النجوم وقال عطاء : هي الخيل في سبيل الله.
__________
(1) زيادة من م.
(8/312)
*****************
وقوله : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } قال علي ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو صالح ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي : هي الملائكة - زاد الحسن : تدبر الأمر من السماء إلى الأرض. يعني : بأمر ربها عز وجل. ولم يختلفوا في هذا ، ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك ، إلا أنه حكى في { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } أنها الملائكة ، ولا أثبت ولا نفى.
وقوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } قال ابن عباس هما النفختان الأولى والثانية. وهكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد.
وعن مجاهد : أما الأولى - وهي قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } - فكقوله جلت عظمته : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ } [المزمل : 14] ، والثانية - وهي الرادفة - فهي كقوله : { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة : 14].
وقد قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جاءت الراجفة ، تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه". فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : "إذًا يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك".
وقد رواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث سفيان الثوري ، بإسناده مثله (1) ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال : " يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه".
وقوله : { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قال ابن عباس : يعني خائفة. وكذا قال مجاهد ، وقتادة.
{ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي : أبصار أصحابها. وإنما أضيف إليها ؛ للملابسة ، أي : ذليلة حقيرة ؛ مما عاينت من الأهوال.
وقوله : { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } ؟ يعني : مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد ، يستبعدون وقوعَ البعث بعد المصير إلى الحافرة ، وهي القبور ، قاله مجاهد. وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها ؛ ولهذا قالوا : { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً } ؟ وقرئ : "ناخرة".
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : أي بالية. قال ابن عباس : وهو العظم إذا بلي ودَخَلت
الريح فيه. { قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ }
وعن ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والسدي ، وقتادة : الحافرة : الحياة بعد الموت. وقال ابن زيد : الحافرة : النار. وما أكثر أسمائها! هي النار ، والجحيم ، وسقر ، وجهنم ، والهاوية ، والحافرة ، ولظى ، والحُطَمة.
وأما قولهم : { تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } فقال محمد بن كعب : قالت قريش : لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن.
__________
(1) المسند (5/136) ، وسنن الترمذي برقم (2457) ، وتفسير الطبري (30/21).
(8/313)
*****************

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
قال الله تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } أي : فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد ، فإذا الناس قيام ينظرون ، وهو أن يأمر تعالى إسرافيلَ فينفخ في الصور نفخَة البعث ، فإذا الأولون والآخرون قيامٌ بين يَدَي الربّ عز وجل ينظرون ، كما قال : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 52] وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77].
قال مجاهد : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } صيحة واحدة.
وقال إبراهيم التيمي : أشد ما يكون الرب غَضَبًا على خلقه يوم يبعثهم.
وقال الحسن البصري : زجرة من الغضب. وقال أبو مالك ، والربيع بن أنس : زجرة واحدة : هي النفخة الآخرة.
وقوله : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال ابن عباس : { بِالسَّاهِرَة } الأرض كلها. وكذا قال سعيد بن جُبَير ، وقتادة ، وأبو صالح.
وقال عكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد : { بِالسَّاهِرَة } وجه الأرض.
وقال مجاهد : كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها. قال : و { بِالسَّاهِرَة } المكان المستوي.
وقال الثوري : { بِالسَّاهِرَة } أرض الشام ، وقال عثمان بن أبي العاتكة : { بِالسَّاهِرَة } أرض بيت المقدس. وقال وهب بن مُنَبه : { الساهرة } جبل إلى جانب بيت المقدس. وقال قتادة أيضا : { بِالسَّاهِرَة } جهنم.
وهذه أقوال كلها غريبة ، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا خَزَر بن المبارك الشيخ الصالح ، حدثنا بشر بن السري ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال : أرض بيضاء عفراء خالية كالخُبزَة النَّقِيّ.
وقال الربيع بن أنس : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } ويقول الله عز وجل : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم : 48] ، ويقول : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 105 ، 106]. وقال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47] : وبرزت الأرض التي عليها الجبال ، وهي لا تعد من هذه الأرض ، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ، ولم يَهرَاق عليها دم.
{ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) }
(8/314)

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) }
(8/314)
*****************
يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، أنه ابتعثه إلى فرعون ، وأيده بالمعجزات ، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه ، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر. وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به ؛ ولهذا قال في آخر القصة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }
فقوله : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ؟ أي : هل سمعت بخبره ؟ { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } أي : كلمه نداء ، { بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ } أي : المطهر ، { طُوًى } وهو اسم الوادي على الصحيح ، كما تقدم في سورة طه. فقال له : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : تجبر وتمرد وعتا ، { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } ؟ أي : قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تَزكَّى به ، أي : تسلم وتطيع. { وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ } أي : أدلك إلى عبادة ربك ، { فَتَخْشَى } أي : فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا بعدما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير. { فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى } يعني : فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قويةً ، ودليلا واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله ، { فَكَذَّبَ وَعَصَى } أي : فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة. وحاصلُه أنه كَفَر قلبُه فلم ينفعل (1) لموسى بباطنه ولا بظاهره ، وعلمُهُ بأن ما جاء به أنه حق لا يلزم منه أنه مؤمن به ؛ لأن المعرفة علمُ القلب ، والإيمان عمله ، وهو الانقياد للحق والخضوع له.
وقوله : { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } أي : في مقابلة الحق بالباطل ، وهو جَمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى ، عليه السلام ، من المعجزة الباهرة ، { فَحَشَرَ فَنَادَى } أي : في قومه ، { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى }
قال ابن عباس ومجاهد : وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص : 38] بأربعين سنة.
قال الله تعالى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } أي : انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [هود : 99] ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ } [القصص : 41]. هذا هو الصحيح في معنى الآية ، أن المراد بقوله : { نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } أي : الدنيا والآخرة ، وقيل : المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية. وقيل : كفره وعصيانه. والصحيح الذي لا شك فيه الأول.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي : لمن يتعظ وينزجر.
__________
(1) في أ : "فلم يفعل".
(8/315)
*****************
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (33) }
يقول تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه : { أَأَنْتُمْ } أيها الناس { أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ } ؟ يعني : بل السماءُ أشدّ خلقًا منكم ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57] ، وقال : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (1) } [يس : 81] ، فقوله : { بَنَاهَا } فسره بقوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } أي : جعلها عالية البناء ، بعيدة الفناء ، مستوية الأرجاء ، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء.
وقوله : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي : جعل ليلها مظلمًا أسود حالكا ، ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا.
قال ابن عباس : أغطش ليلها : أظلمه. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وجماعة كثيرون.
{ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي : أنار نهارها.
وقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فسره بقوله : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } وقد تقدم في سورة "حم السجدة" (2) أن الأرض خلقت قبل السماء ، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء ، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل. وهذا معنى قول ابن عباس ، وغير واحد ، واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، حدثنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المِنْهال بن عَمْرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { دَحَاهَا } وَدَحْيها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وشقق [فيها] (3) الأنهار ، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام ، فذلك قوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي : قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها ، وهو الحكيم العليم ، الرءوف بخلقه الرحيم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حَوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد ، فخلق الجبال فألقاها عليها ، فاستقرت فتعجبت الملائكةُ من خلق الجبال فقالت : يا رب ، فهل من
__________
(1) في م ، أ : "بلى إنه على كل شيء قدير" وهو خطأ.
(2) عند تفسير الآية : 9.
(3) زيادة من أ.
(8/316)
*****************

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم ، الحديد. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح. قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابن آدم ، يتصدق بيمينه يخفيها من (1) شماله" (2).
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابنُ حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ ، عن علي قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : تخلق عَلَيّ آدم وذريته ، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا ، فأرساها الله بالجبال ، فمنها ما ترون ، ومنها ما لا ترون ، وكان أول قَرَار الأرض كلحم الجزور إذا نحِر ، يختلج لحمه. غريب (3).
وقوله { مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } أي : دحا الأرض فأنبع عيونها ، وأظهر مكنونها ، وأجرى أنهارها ، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها ، وثبت جبالها ، لتستقر بأهلها ويقر قرارها ، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد ، وينقضي الأجل.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) }
يقول تعالى : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } وهو يوم القيامة. قاله ابن عباس ، سميت بذلك لأنها تَطُم على كل أمر هائل مفظع ، كما قال تعالى : { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر : 46].
{ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى } أي : حينئذ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره ، كما قال : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر : 23].
{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى } أي : أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا ، { فَأَمَّا مَنْ طَغَى } أي : تَمَرّد وعتا ، { وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : قدمها على أمر دينه وأخراه ، { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } أي : فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ، ومشربه من الحميم. { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }
__________
(1) في أ : "عن".
(2) المسند (3/124) ، ورواه الترمذي في السنن برقم (3369) عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون به ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه".
(3) تفسير الطبري (30/30).
(8/317)

أي : خاف القيام بين يدي الله عز وجل ، وخاف حُكْمَ الله فيه ، ونهى نفسه عن هواها ، ورَدها إلى طاعة مولاها { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } أي : منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.
ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } أي : ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق ، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ، { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } [الأعراف : 187] ، وقال هاهنا : { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } ولهذا (1) لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". (2).
وقوله { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } أي : إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه (3) ، فمن خشي الله وخاف مقامه (4) ووعيده ، اتبعك فأفلح وأنجح ، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك.
وقوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي : إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة الدنيا ، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم.
قال جُويْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أما عَشِيَّة : فما بين الظهر إلى غروب الشمس ، { أَوْ ضُحَاهَا } ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار.
وقال قتادة : وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.
[آخر تفسير سورة "النازعات"] (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) في م : "وهذا".
(2) هذا جزء من حديث جبريل الطويل وهو في صحيح مسلم برقم (8).
(3) في م : "وعقابه".
(4) في م : "وخاف عقابه"
(5) زيادة من م ، أ.
(6) زيادة من م.