الأحد، 14 ديسمبر 2014

كتاب الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء - الباب الخامس في الوزارة

كتاب
الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء

العلامة
محمود بن إسماعيل بن إبراهيم الجذبتي


دار النشر / مكتبة نزار مصطفى الباز - الرياض - 1417هـ- 1996م
عدد الأجزاء / 1

الباب الخامس في الوزارة
قال الله تعالى ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ) ( طه 29 - 35 ) وقال النبي عليه السلام إذا أراد الله بملك خيرا جعل له وزيرا صالحا فإن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه اعلم أن الوزارة تابع السلطنة وركن أعظم المملكة ولا بد للملك من وزير صالح ذي رأي مشفق للرعية عالم عادل لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا محتاجين إلى الوزير كما أخبر الله تعالى عن حال موسى عليه السلام أنه طلب من الله تعالى وزيرا فقال - ( واجعل لي وزيرا ) ( طه 29 ) فبطريق الأولى أن يكون السلاطين والأمراء محتاجين إلى الوزير وقال النبي عليه السلام لي وزيران في السماء ووزيران في الأرض أما وزيراي في السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيراي في الأرض فأبو بكر وعمر رضى الله عنهما وعن باقي الصحابة أجمعين فإذا لم يكن للملك وزير كامل ذو حرمة عند الملك فليس لذلك الملك زين وشرف وطراوة وثبات في دولته

وينبغي للملوك والسلاطين أن ينصبوا على أبوابهم حاجبا أو صاحب قصة معتمدا متدينا خالص الاعتقاد كي يعرض الوزير أحوال أرباب الحوائج وأحوال المظلومين إلى الحاجب والحاجب يعرض جميع ذلك إما بالقصة أو بالرسالة إلى حضرة الملك وينبغي للملك أن يعلم أن قضاء حوائج الرعية من الأمور الواجبة عليه ويعد الملك قضاء حوائج الخلق غنيمة عظيمة على نفسه كما جاء في الخبر إذا أحب الله عبدا أكثر حوائج الخلق إليه فمهما كان لأحد من المسلمين حاجة إلى الملك ينبغي للملك ألا يشتغل بنوافل العبادات عن قضائها فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات وينبغي للملوك والسلاطين أن ينصبوا في ولايتهم قاضيا عالما متدينا محترزا عن أكل الحرام والشبهات ويكون صالحا ذا مروءة وإنصاف لا يطاول يده على مال الأيتام وميراثهم ولا يأخذ الرشوة ويقنع بوظيفة نفسه وعياله من بيت المال ويقطع طمعه عما في أيدي الناس وينبغي أيضا أن يكون خادم القاضي عالما متدينا صالحا زاهدا لا يجور في الدعاوى ولا يطمع طمعا فاسدا ولا يبطل الحق ولا يحق الباطل بل يجعل كتاب الله نصب عينه سئل أردشير بن بابك أي الأصحاب يصلح للملك فقال الوزير العاقل المشفق الأمين الصالح المدبر ليدبر الملك معه أمر المملكة ويسر إليه بما في نفسه

وترتيب الوزراء أنهم مهما أمكنهم إصلاح أمر الملك بالكتب يتجاوبون بالكتب فإن لم يصلح الأمر بالمكتب فبالاحتيال والتدبير فيجتهدون في تأني التدبير بإعطال الأموال وبذل الصلات ومتى انهزم عسكر الملك ينبغي للوزراء العفو عن ذنوب الجند ولم يستعجلوا بقتلهم لأنه قد يمكن قتل الأحياء ولا يمكن إحياء القتلى فإن الرجل يصير رجلا في أربعين سنة ومن أربعين رجلا يصلح رجل لخدمة الملوك وإن أسر أحد من الجند أو أخذ من أصحاب الملك كان على الوزير أن ينقذه ويفتديه ويخلصه ويشتريه ليسمع الجند بصنيع الوزير فيقوى قلوبهم إذا باشروا حروبهم وعلى الوزير أن يحفظ أرزاق الجند ويرتب جامكية كل إنسان على قدره وأن يهيئ الرجال الشجعان بآلات الحرب وأن يخاطبهم بأحسن الكلام ويلين للأجناد في الخطاب ويلطف لهم الجواب ويتحمل على فعلهم عليه فإن الجند قتلوا كثيرا من الوزراء في قديم الأيام وسالف الأعوام ومن سعادة السلطان ويمن طالعه وعلو جده أن يجعل الله تعالى له وزيرا صالحا ومشيرا ناصحا كما قال النبي عليه السلام إذا أراد الله - تعالى - بأمير خيرا قيض له وزيرا ناصحا صادقا صبيحا إن نسى ذكره وإن استعان به أعانه

وقال العتابي من عرض نفسه للدنية عرض نفسه للمنية وأن مما يعين على العدل ارتفاع من يؤثر التقى واطراح من يقبل الرشا واستكفاء من يعدل في القضية واستخلاف من يشفق على الرعية وقال أنو شروان ما عدل من جار وزيره ولا صلح من فسد مشيره وقال أردشير حقيق على كل ملك أن يتفقد وزيره ونديمه وكاتبه وحاجبه فإن وزيره قوام ملكه ونديمه بيان عقله وكاتبه دليل معرفته وحاجبه برهان سياسته قيل من تعزز بالله لم يذله السلطان ومن توكل عليه لم يضره إنسان من استغنى بالله عن الناس أمن عوارض الإفلاس ومن صح دينه صح يقينه قال أنو شروان شر الوزير من جرأ السلطان على الحرب وجرأه على القتال في موضع يمكن أن يصلح بغير حرب ولا خشونة لأن في الحرب تفنى ذخائر الأموال وتفنى كرائم النفوس وقال أيضا كل ملك كان وزيره جاهلا فمثله كمثل الغيم الذي يبدو ويظهر ولا يمطر
وعلى السلطان أن يعامل الوزير بثلاثة أشياء
أحدها إذا ظهرت منه زلة أو وجدت منه هفوة لا يعالجها بالعقوبة والثاني إذا استغنى في خدمة الملك لا يطمع في ماله وثروته والثالث إذا سأله حاجة لا يتوقف في قضاء حاجته

وينبغي للملك ألا يمنع الوزير من ثلاثة أشياء وهو أنه متى أحب أن يراه لا يمنعه من رؤيته وألا يسمع في حقه كلام مفسد ولا يكتم عنه شيئا من سره لأن الوزير الصالح حافظ سر السلطان ومدبر أمر الدخل وعمارة الولاية والخزائن وزينة المملكة وله الكلام على العمال واستماع الأجوبة وبه يكون سرور الملك وقمع أعدائه وهو أحق الناس بالاستمالة وتعظيم الأمر وتفخيم القدر وقال لقمان - عليه السلام - لولده أكرم وزيرك لأنه إذا رآك على أمر لا يجوز لمملكتك لا يوافقك عليه وينبغي للوزير أن يكون مائلا في الأمور إلى الخير متوقيا من الشر وإذا كان السلطان حسن الاعتقاد مشفقا على العباد كان له عونا على ذلك وآمرا له بالازدياد وإذا كان السلطان ذا حيف كان غير ذي سياسة كان على الوزير أن يرشده قليلا بألطف وجه ويهديه إلى الطريقة المحمودة وينبغي للملك أن يعلم أن أول إنسان يحتاج الملك أو السلطان إليه الوزير الصالح وسئل بهرام كور إلى كم من الأشياء يحتاج السلطان إليه حتى يتم سلطنته وتدوم بالسرور دولته فقال إلى ستة من الأصحاب الوزير الصالح ليظهر إليه سره ويدبر معه رأيه ويسوس أمره والفرس الجواد لينجيه يوم الحاجة إلى النجاة والسيف القاطع والسلاح الحصين والمال الكثير الذي يخف حمله كالجوهر واللؤلؤ والياقوت والزوجة الحسناء الصالحة لتكون مؤنسة لقلبه مزيلة لكربه والطباخ الخبير الذي إذا أمسك طبعه دبر شيئا يلطف طبعه

اعلم أن مثال المملكة كمثال خيمة والوزير الكامل كمثال عمود الخيمة ومثال أطناب الخيمة كمثال الأمراء تحت يد الملك سواء كان صغيرا أو كبيرا ومثال الأجناد كمثال الحلق التي تتصل بأذيال الخيمة وفي الحقيقة أوتاد الخيمة التي لا قوام للخيمة إلا بها مثل العدل للمملكة كما لا تستقر الخيمة في الأرض إلا بالأوتاد كذلك لا تستقر المملكة إلا بالعدل وإن كثرت الأجناد والأموال ولما كان الوزير للملك مثل العمود للخيمة كما ينبغي للعمود أربع خصال أحدها أن يكون مستقيما والثاني أن يكون عاليا والثالث أن يكون ثابتا والرابع أن يكون متحملا ينبغي للوزير أيضا أن يكون له ثلاثة أحوال أول حاله أن يكون بينه وبين الله تعالى وثاني حاله أن يكون بينه وبين السلطان وثالث حاله أن يكون بينه وبين الأجناد والرعايا ففي كل حال من هذه الأحوال الثلاثة ينبغي للوزير أن يعمل الخصال الأربعة المذكورة مناسبا لذلك الحال أول حال الوزير وهو أن يكون بينه وبين الله تعالى في الخصلة الأولى - وهي الاستقامة - هي أن يكون كما أمر الله - تعالى - لنبيه عليه السلام ( فاستقم كما أمرت ) ( هود 112 ) يعني لا تخرج عن جادة طريقة الشريعة لأن طريقة الشريعة هو الصراط المستقيم كما قال الله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) ( الأنعام 153 ) يعني راعو في جميع أوقاتكم جانب الحق وإن تركتم جانب الخلق فلا ضرر عليكم لأن من كان لله كان الله له وأما حال الوزير في الخصلة الثانية وهي العلو فينبغي للوزير أن تكون همته عالية ونفسه عزيزة عما في أيدي الناس من زخارف الدنيا والجاه والمال فلا يغتر الوزير بمال الدنيا نكتة ينبغي للعاقل أن يتصور أن زخارف الدنيا بمنزلة الزاد والراحلة للحاج ومدة العمر بمنزلة أشهر الحج ووقت الأجل بمنزلة يوم وقفة عرفة

ويتصور نفسه كالحاج الذي يقصد زيارة بيت الله تعالى ويعلم يقينا أنما أعطى الزاد والراحلة للعاقل ليقطع البادية ويزور بيت الله تعالى يعني إنما أعطى الله تعالى لعباده زخارف الدنيا ووسع أجله ليقطع بهما بادية صفات النفس الأمارة التي كانت حجابا بين العبد وبين الله تعالى فكما لا يوصل إلى الكعبة إلا بقطع البادية كذلك لا يوصل إلى رضاء الله تعالى ورحمته وجنته إلا بقطع بادية النفس الأمارة بالسوء وهي شهواتها النفسانية وأما إذا صرف الزاد والراحلة لأجل هواه وهو طرف شط بغداد ويشتغل كل يوم بمقتضى نفسه من شرب الشراب المسكر وغفل عن حال قوافل الحج وقد قصد أولا للحج فوصلت القافلة إلى الكعبة ووقفوا في عرفات وحصل مرادهم بإتمام الحج فانتبه الرجل عن نوم الغفلة كما قيل الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وتحسر وندم على غفلته وفوت الحج عنه واشتعل نار الندامة في جوفه فلم ينفع حينئذ الندم والتحسر كذلك من لم يصرف ما في يده من نعيم الدنيا على وجوه الخيرات ولم يصرف جميع عمره وأوقاته إلى طاعة الله تعالى فلما حضره الأجل ندم على صرف عمره في الغفلة فلم ينفع حينئذ الندم وأما حال الوزير في الخصلة الثالثة وهي الثبات فينبغي للوزير أن يكون اعتقاده في أمر الدين مستقيما وثابتا وكل عمل يعمله الوزير ينبغي له أن يعمله لرضاء الله تعالى فلا يحول وجهه عن ذلك الأمر لأجل خاطر الخلق ورضاء الخلق ولا يخاف عن شر جميع الخلائق إذا كان ذلك الأمر لأجل الله تعالى كما قال الله تعالى ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) ( المائدة 54 )

وأما حال الوزير في الخصلة الرابعة وهي التحمل فينبغي للوزير أن يتحمل الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض فعجزوا عن تحملها كما قال الله تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) ( الأحزاب 72 ) والمراد بالأمانة في هذه الآية على قول بعض المفسرين الفرائض التي افترضها الله تعالى على العباد وشرط عليهم أن من أداها جوزي بالإحسان ومن خان فيها عوقب وقيل العهد الذي يلزم الوفاء به ولا يخون الوزير في ذلك الأمانة كي لا يخجل عند رد الأمانة إلى أهلها كما قال الله تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ( النساء 58 ) واما الحالة الثانية للوزير وهي التي بين الوزير والأمير فينبغي للوزير أن يراعي في هذه الحالة أيضا أربعة خصال أحدها الاستقامة والثاني العلو والثالث الثبات والرابع التحمل أما حال الوزير في الاستقامة فينبغي للوزير أن يكون ظاهره وباطنه مع الأمير واحدا وأن يطهر الوزير قلبه عن الحسد والخيانة والغل والغش في حق الملك وأيضا ينبغي للوزير إذا دخل عند الملك أن يسكت ولا يبدأ الكلام حتى يتكلم الملك وكلما تكلم الملك من الكلام الطيب والردئ يقول الوزير صدق الأمير ويراعي الوزير مزاج الأمير والملك ولا ينافق الأمير والملك بأن يقول إذا خرج من عند الملك مساوئ الملك للناس وينكر أقوال الملك وأفعاله ويشكو الناس عن الملك ويقول إن الملك ظالم وجاهل ولا يسند الوزير طمعه في أموال الناس إلى الملك ويبرئ نفسه عن ذلك الطمع وكل ذلك من النفاق

وينبغي للوزير إذا تكلم الملك أن يصغي إلى كلام الملك ولا يكون عاشقا لكلام نفسه فإذا تكلم الملك كلمة غير موافق للحق يسمع الوزير ذلك الكلام ويكره في قلبه ولا يعترض للملك في ذلك الحال فإذا وجد فرصة في الخلوة يرد ذلك الكلام في نفس الملك ففي الجملة لا يستر الوزير الحق ولا يرضى المنكر في الشرع بل يقول للملك قولا لينا على وجه التأني والاعتراض في غير حالة الغضب ليرجع الملك عن ذلك الكلام المنكر وحكي عن أردشير أنه قال حقيق على الملك أن يكون طالبا أربعة أشياء فإذا وجدها يكون الملك أحفظهم من سائر الأنبياء الوزير الأمين والكاتب العالم والحاجب المشفق والنديم الناصح لأنه إذا كان الوزير أمينا دل على بقاء الملك وسلامته عن الزوال وإذا كان الكاتب عالما دل على عقل الملك ورزانته وإذا كان الحاجب مشفقا لم يغضب الملك على أهل مملكته وإذا كان النديم ناصحا دل على انتظام الأمر ومصلحته وأما حال الوزير في الخصلة الثانية وهي العلو مع الملك فهي أن يخدم الوزير الملك مع علو الهمة لا أن يقصد الوزير في خدمة الملك الطمع الفاسد من زخارف الدنيا وأن يكون الوزير عزيز النفس قانعا بأدنى شيء من المال ولا يطول يده في أموال الرعية بغير إذن الملك فإذا كان الوزير على هذه الصفات ينظر الملك إلى الوزير بنظر الفراسة ويكون الوزير في نظر الملك مقبولا وفي قلبه محبوبا وموقرا ومحترما وأما حال الوزير في الخصلة الثالثة وهي الثبات مع الملك فهي أن يكون الوزير في خدمة الملك صاحب وفاء وعهد وثابت القدم بحيث لو اجتمع جميع معاندي الملك عند الوزير واجتهدوا لا يقدرون على أن يغيروا الوزير عن خدمته بالصدق وإن عرضوا للوزير أموالا كثيرة

وأما حال الوزير في الخصلة الرابعة وهي التحمل مع الملك فينبغي للوزير التحمل إذا غضب الملك للوزير ولا يقع في قلب الوزير كدوره من ذلك الغضب ولا يكون الوزير عبوس الوجه من ذلك الحال ويتكلم مع الأمير كلمات ليطفيء نار غضب الملك ويحترز في المكالمة مع الأمير عن الكلام الذي يتولد منه الغضب والحقد ويجتهد الوزير ألا يخرج الملك إلى القتال إلا في غاية الضرورة فإن كان جند الخصم كثيرا وجند الملك قليلا ينبغي للوزير أن يقوي قلب الملك بقوله تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) ( البقرة 249 ) وأن يلقى الوزير في غالب الأوقات على قلب الملك أمور الدين والأمور التي فيها مصلحة الرعية وراحة الرعية ولا يلقى الوزير في قلب الملك الأمور التي فيها فساد الرعية وفساد الدين وأن يدل الوزير الملك على الخيرات فإذا كان الوزير متصفا بهذه الصفات الحميدة ومتزينا بهذه الآداب الشريفة ( والأخلاق المرضية ) يكون حينئذ عضد السلطنة والمملكة قويا كما قال الله تعالى ( سنشد عضدك بأخيك ) ( القصص 35 ) والله الموفق وأما الحالة الثالثة للوزير وهي التي بين الرعية والوزير فينبغي للوزير أيضا أن يراعي في هذه الحالة أربع خصال أيضا الأول الاستقامة والثاني العلو والثالث الثبات والرابع التحمل أما حال الوزير في الاستقامة مع الرعية فينبغي للوزير أن يعيش بين الرعية بالعدل والإنصاف ويكون أشفق الخلائق في كل أحوال الرعية ويشتغل في جميع عمره بالاعتناء بشأنهم كالحدقة للعين ويقبل الوزير الزحمة على نفسه لتكون الرعية في الراحة عن الأمور الشاقة وهذه المعاني إنما تحصل للوزير إذا كان الوزير حريصا على عمارة الولاية وزراعة الدهاقين والحال ألا يكون الملك حريصا في جمع المال فإن كان

الملك حريصا على جمع المال فلا بد أن يظلم الملك على الرعية ويضع البدع في الرعية وينقص وظائف الأجناد والعلماء والفقراء فحينئذ يخرب الرعية والولاية ويكون الرعية حينئذ كالعين بلا حدقة كما قال عليه السلام يكون في آخر الزمان الأمراء كالأسد والعلماء كالنمر والقضاة كالكلب والفقهاء كالذئب والناس كالشاة فكيف حال الشاة مع هؤلاء ( الوافر )
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها
فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
وقال عليه السلام سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القراء إلا بصوت حسن ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان وإذا كان كذلك سلط الله عليهم سلطانا لا علم له ولا حلم له ولا رحم له ولا عقل له وقال عليه السلام سيأتي على أمتي زمان لا يأتي المسجد إلا تاجر قلبه في صندوقه أو زارع قلبه في مزرعته فإذا سلم الإمام وثب كما وثب الصيد فإذا كان كذلك ابتلاهم الله تعالى بأربعة أشياء أولها سلطان جائر والخوف من الأعداء والزلزلة والقحط فإن تابوا تاب الله عليهم وإن لم يتوبوا زاد الله عليهم

فالحاصل إذا ظلم الملك في الرعية خربت الولاية ويتفرق الرعايا إلى الأطراف ويكون الملك في تزلزل واضطراب لأنها وقعت النفرة والتنفير في قلوب الرعية بسبب طمع الملك وظلمه على الرعية وحينئذ تقع الفتن المختلفة في الولاية ولا يدفع ذلك الفتن الخزائن العظمى أما إذا كانت المملكة على قراره والملك يقعد محله بالعدل والإنصاف ويجري أحكام الشريعة والسياسة على الرعية يكون جميع ما في الدنيا خزائن ذلك الملك وجميع الناس والملائكة أجناده وأعوانه ولا ينبغي للوزير أن يضع البدع على الرعية ليتقرب بها عند الملك فإن ذلك سبب عداوة الملك لأن بوضع البدع ينتشر اسم الملك في الدنيا بالظلم ويحصل للملك بسبب البدع في الآخرة عقاب أليم وتدعو الرعية على الملك بالسوء فيحصل حينئذ الاضطراب في المملكة وتزول دولة الملك وتنتزع المملكة من يده لأن الحكماء قالوا ينبغي للملك من الأجناد وأجناد الملك نوعان جند الليل وجند النهار أما جند الليل فهم الفقراء والمساكين والعلماء والزهاد والعباد ولهذا قالوا دعوة عجوز واحدة وقت السحر للملك يزيد عند الله أثره من شجاعة مائة فارس وأما أجناد النهار فهم الذين يجتمعون عند الملك وقت القتال وقال حكماء الهند لا ملك إلا بالرجال ولا رجال إلا بالمال ولا مال إلا بالرعية ولا رعية إلا بالعدل والسياسة فيكون العدل أصل جميع ذلك وينبغي للسلاطين والوزراء ألا يهملوا السياسة ويكونوا مع السياسة عادلين لأن السلطان خليفة الله في أرضه يجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية أو إذا كانوا بعيدا عنه خافوا منه وسلطان هذا الزمان يجب أن يكون أوفى سياسة وأتم هيبة لأن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين فإن زماننا

هذا زمان السفهاء والأشقياء وإذا كان السلطان - والعياذ بالله - بينهم ضعيفا أو كان غير ذي سياسة وهيبة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد وأن الخلل يعود على الدين والدنيا ولم يكن لذلك السلطان في أعين الناس خطر ولا يسمعون كلامه ولا يطيعون أمره ويكون الخلق عليه ساخطين اعلم أن من أكمل شرائط الوزارة أن يسعى الوزير باستزادة الدعوات الصالحات واستزادة الخيرات والصلات ويسعى في استراحة الرعية في إجراء أحكام الشريعة وإجراء الوقوف مصارفها على الشروط التي شرطها الواقفون في المبرات ويوصل الصدقات والصلات إلى الصادرين من الأئمة والعلماء والفقراء والسادات والزهاد والعباد وأهل التصوف والصلحاء وغيرهم ليزيد المملكة ويستديم السلطنة ببركة دعائهم في الدنيا وفي الآخرة يرفع درجاته وقربته إلى الله تعالى وينبغي للوزير أن تكون خيراته أزيد من خيرات الأمير ويكون بابه مفتوحا لأرباب الحوائج ولا يكون خلقه سيئا ولا قلبه ضيقا ولا يكون متكبرا على خلق الله تعالى وتكون معاشرته مع الخلائق بالرأفة والرحمة والأخلاق الحسنة والإكرام والإعزاز بأن يرحم الصغار ويوقر الكبار ويبجل العلماء كما قال النبي عليه السلام من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا ولم يبجل عالمنا فليس منا

وايضا ينبغي للسلاطين والوزراء أن يجتهدوا أولا في إحياء الخيرات والأوقاف التي أجريت في الزمان الماضي ثم بعد ذلك يجتهدون في ابتداء وضع الخيرات والأوقاف لأنفسهم كما حكي أن ملكا من الملوك الماضية كان اسمه صلاح الدين - رحمه الله - وكان من عادته كلما فتح بلدة ينشيء فيها بناء الخيرات وكان له وزير مع أنه كان قاضيا له صالحا فاضلا فلما فتح ذلك الملك المصر قال لوزيره أريد أن أبني في المصر خانقاها فقال الوزير للملك إني أريد أن يبنى لملك الإسلام في المصر ألف بقعة خير فقال الملك كيف يمكن أن يبنى ألف بقعة خير قال الوزير أدام الله - تعالى - دولة الملك إن في المصر ألف بقعة خير كله خراب الآن ومندرسة فإن قصد ملك الإسلام أن يأمر بأن يعمروا تلك البقاع الخربات ويأخذوا أوقاف تلك البقاع من أيد المستأكلة وينصب ملك الإسلام متوليا بارعا متدينا كي يصرف الأوقاف مصارفها على الشرائط التي شرطها الواقفون يحصل ثواب جميع ذلك لملك الإسلام كثواب الأوقاف التي أنشأها ملك الإسلام فأمر ملك الإسلام صلاح الدين - عليه الرحمة - بأن يعمروا رقبات الوقف ويصرفوا أوقافها على مصارفها ثم بعد ذلك وفق الله - تعالى - إياه أنشأ خيرات كثيرة تقبل الله منه وشكر سعيه

والمقصود من هذه الحكاية أنه ينبغي للوزير أن يكون مشفقا على أحوال الخلق كما يكون مشفقا على حال نفسه وحكى أن أصحاب الوظائف اجتمعوا في موضع واحد في زمن هارون الرشيد رحمه الله وكتبوا كتابا مضمونه نحن عباد الله وبعضنا أولاد الأكابر وبعضنا حفاظا وبعضنا من آل الرسول وبعضنا من أهل العلم وبعضنا من المشايخ وبعضنا فقراء وبعضنا من المساكين ولكل واحد منا نصيب من بيت المال وأنت كل يوم تأكل وتشرب وتلبس ما تشتهي ونحن ما نجد الخبز إن أنت تعطي نصيبنا فبها وإلا فنشكو من يدك إلى الله تعالى وندعو الله تعالى ليأخذ بيت المال من يدك ويعطي الرجل الذي لا يقطع وظائفنا ونصيبنا ويشفق علينا فلما علم هارون الرشيد مضمون القصة تغير لونه وحزن وذهب بيته الخاصة ثم سألته زوجته المسماة زبيدة عن حاله فقالت ما كان بك اليوم فأخبر مضمون الكتاب فقالت زبيدة انظر وتفكر كيف فعل قبلك الخلفاء المتقدمون والأمراء والأكابر الماضون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون فافعل أنت مثلهم ولا شك أن بيت المال لمصالح المسلمين وأنت تتصرف من بيت المال أكثر من نصيبك وحقك منه فينبغي لك أن تتصرف في بيت مال المسلمين كما يتصرف المسلمون في مالك وإن كانوا يتضرعون أن ينزع الله تعالى الملك من يدك ويعطيه في يد غيرك فالحق في أيديهم فإن الله تعالى يجيب دعوة المظلوم فلما ناما تلك الليلة رأى هارون الرشيد وزوجته في المنام أن القيامة قد قامت وأن جميع المخلوقات حضروا في موضع الحساب والنبي - {صلى الله عليه وسلم} - يشفع لأمته فلما قصد هارون وزوجته إلى حضرة الله تعالى للحساب فجاء ملك ومنعهم من الذهاب إلى عند النبي عليه السلام فقال هارون للملك لم تمنعنا من الذهاب إلى حضرة الله تعالى فقال الملك قال لي النبي عليه السلام

امنع هارون الرشيد عن المجئ عندي لأني أستحي من الله - تعالى - بسببه لأن هارون أكل مال الخلائق بغير حق وقطع أنصباء المستحقين وجعلهم محرومين عن حقوقهم والحال أنه جلس في الدنيا مكاني فلما انتبها من النوم حزن هارون الرشيد فسألت زبيدة عن حاله فأخبرها كما رأى في المنام فقالت زبيدة إني رأيت في المنام كذلك ثم شكر الله تعالى فلما كان الغد فتح هارون أبواب الخزائن ونادى المنادي في السوق فقال يا أصحاب الأوقاف والوظائف والأنصباء احضروا عند هارون الرشيد فحضروا عنده بغير حساب فقسم بيت المال جميعا لهم ولم يبق شيء من بيت المال فقالت زبيدة إن بيت المال حق الخلائق فلا شك أنهم يطلبون ذلك منك إما في الدنيا وإما في الآخرة فما أديت خرجت به من عهدة البعض الذي منعت وأما أنا إن أنفقت من مالي وجهازي فلوجه الله تعالى فأنفقت ألف ألف دينار في سبيل الله تعالى وأمرت أن يعمر من باب الكوفة إلى الكعبة منازل وآبارا ففعلت الخيرات في طريق الكعبة التي لم يفعلها قبل ذلك أحد وأمر لعمالها أن يشتروا بباقي أموالها آلات الغزاة ثم أمرت أن يشتروا بباقيها القرى والضياع والكروم والبيوت ليكون هؤلاء وقفا لمجاوري الكعبة والمدينة والقدس قيل إن القوم كتبوا هذه الحكاية ونقلوها إلينا قرنا بعد قرن ليعمل بها فإذا كان وجوب العمل ثابتا بالرؤيا فما جوابك إن قال الحكيم أما كان كتابي عندك منزلة الرؤيا وأما حال الوزير في الخصلة الثانية وهي العلو مع الرعية فينبغي للوزير أن يكون مع الرعية ذا همة عالية ولا يتوقع من الرعية شيئا ولا يأخذ من الرعية رشوة لأجل قضاء حوائجهم ويبذل مروءته وكرمه على الرعية ويوصل صلاته إليهم

وأما حال الوزير في الخصلة الثالثة وهي الثبات مع الرعية فينبغي للوزير أن يكون مع الرعية ثابت القدم في أحوال الرعية يعني كلما أعطى الأمير أحدا من الأجناد أو الرعية شيئا أو جعل الأمير أو السلطان أحدا على شغل من أشغال الإمارة أو فوض أحدا منصبا فلا يغير الوزير ذلك ولا يبدل كي لا يقع التهاون في أمر السلاطين بل يقرر ويثبت ما أمر السلطان ولا يسمع الوزير كلام صاحب الأغراض على الرعية بغير بينة كما قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ( الحجرات 6 ) وإذا ثبت جناية أحد مثل القصاص على أحد أو وجوب الحد على أحد فلا يؤخر الوزير ذلك إذا ثبت عند الحاكم أو عند الملك لقوله تعالى ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) ( النور 2 ) لأنه إذا أخر الوزير أو القاضي أو الملك زواجر الشرع عن مستحقه بالشفاعة أو بالرشوة يفشو الظلم والفساد في الرعية ويطول أيدي الظلمة في الرعية بالفساد وأخذ الأموال ويفتح أبواب الفسق وينبغي للسلاطين والوزراء أن يفوضوا كل أمر إلى مستحقه لأنه إذا لم يعط الأمر إلى مستحقه يفسد الدين والدنيا ويخرب الولاية ويتفرق الرعايا وأما حال الوزير في الخصلة الرابعة وهي التحمل مع الرعية فينبغي للوزير أن يكون في التحمل كعمود الخيمة يعني يتحمل الوزير جميع زحمات الرعية والمملكة بالهمة والشفقة والرحمة على الرعية وإن صدر عن الرعية ذنب صغير بالسهو أو الخطأ يعفو الوزير ذلك عنهم ولا يكون ملولا في وقت عرضهم أحوالهم عنده ويعرك أذن الفساق والظلمة ويؤدبهم ليكون نصيحة على غيرهم ويكون في قلبه أنه يفعل جميع الأشياء المذكورة لأجل رضاء الله تعالى لا لأجل رضاء الأمير ولا لأجل رضاء نفسه ولا لأجل رضاء غيرهما

اعلم أنه كما يجب على الوزير الأمور المذكورة يجب على القضاة والنواب وأصحاب القلم والعمال أن يراعوا في أمورهم الديانة والأمانة وجانب الحق ويجتهدوا في إجراء أحكام الشريعة وتخفيف الرعايا من المؤنات والأمور الشاقة ليستوجبوا بذلك المثوبة والقربة عند الله تعالى فإن الله تعالى يسألهم عن جميع ذلك وايضا ينبغي لهم أن يشتغلوا في الليل والنهار بذكر لا إله إلا الله والتسبيح والاستغفار وقراءة القرآن وفي الصبح بقراءة قل هو الله أحد عشر مرات وبقراءة سورة يس وسورة الواقعة وسورة ( تبارك الذي بيده الملك ) وسورة ( لا أقسم بيوم القيامة ) ولا يتركوا صلاة التهجد - وهي الصلاة في جوف الليل - وإن كانت ركعتين وصلاة الضحى وإن كانت ركعتين وينبغي لهم أن يعملوا بموجب هذا الحديث كل يوم وليلة وهو ما روي عن رسول الله - {صلى الله عليه وسلم} - أنه قال من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول ( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ) ( غافر 2 ) حفظ في يومه ذلك حتى يمسي فإن قرأها حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح
وعن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله ( إن الدين عند الله الإسلام ) ( آل عمران 19 ) و ( قل اللهم مالك الملك ) ( آل عمران 26 ) معلقات ما بينهن وبين الله حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه وأسكنته حضيرة القدس ونظرت بعين المكنون كل يوم سبعين مرة ولقضيت كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته منهم والله الموفق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق