الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

مجالس شهر رمضان -المجلس الثالث: في حكم صيام رمضان - محمد بن صالح العثيمين

مجالس شهر رمضان
تأليف:
محمد بن صالح العثيمين
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة

الرابعة، 1408هـ

المجلس الثالث: في حكم صيام رمضان

الحمد لله الذي لا مانع لما وهب، ولا معطي لما سلب، طاعته للعاملين أفضل مكتسب، وتقواه للمتقين أعلى نسب، هيأ قلوب أوليائه للإيمان وكتب، وسهل لهم في جانب طاعته كل نصب، فلم يجدوا في سبيل خدمته أدنى تعب، وقدر الشقاء على الأشقياء حين زاغوا فوقعوا في العطب، أعرضوا عنه وكفروا به فأصلاهم ناراً ذات لهب. أحمده على ما منحنا من فضله ووهب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هزم الأحزاب وغلب.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه الله وانتخب، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الفائق في الفضائل والرتب، وعلى عمر الذي فر الشيطان منه وهرب، وعلى عثمان ذي النورين التقيّ النقيّ الحسب، وعلى علي صهره وابن عمه في النسب، وعلى بقية أصحابه الذين اكتسبوا في الدين أعلى فخر ومكتسب، وعلى التابعين لهم بإحسان ما أشرق النجم وغرب، وسلم تسليماً.
إخواني: إن صيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" متفق عليه. ولمسلم: "وصوم رمضان، وحج البيت".
وأجمع المسلمون على فرضية صوم رمضان إجماعاً قطعياً معلوماً بالضرورة من دين الإسلام، فمن أنكر وجوبه فقد كفر، فيستتاب، فإن تاب وأقَرَّ بوجوبه، وإلا قُتل كافراً مرتداً عن الإسلام، لا يغسل ولا يكفن ولا يصلي عليه، ولا يدعي له بالرحمة، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإنما يحفر له بعيداً في مكان ويدفن لئلا يؤذي الناس برائحته ويتأذى أهله بمشاهدته.
فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكان فرض الصيام على مرحلتين:
المرحلة الأولى: التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام عليه.
المرحلة الثانية: تعيين الصيام بدون تخيير، ففي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع  رضي الله عنه  قال: لما نزلت
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي "يعني: فعل"، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، يعني بها قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فأوجب الله الصيام عيناً بدون تخيير.
ولا يجب الصوم حتى يثبت دخول الشهر، فلا يصوم قبل دخول الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم" رواه البخاري.
ويحكم بدخول شهر رمضان بواحد من أمرين:
الأول
: رؤية هلاله، لقوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" متفق عليه.
ولا يشترط أن يراه كل واحد بنفسه، بل إذا رآه من يثبت بشهادته دخول الشهر وجب الصوم على الجميع.
ويشترط لقبول الشهادة بالرؤية: أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً مسلماً موثوقاً بخبره؛ لأمانته وبصره.
فأما الصغير فلا يثبت الشهر بشهادته لأنه لا يوثق به، وأولى منه المجنون، والكافر لا يثبت الشهر بشهادته أيضاً، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: إني رأيت الهلال، يعني: رمضان. فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله ؟" قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمداً رسول الله ؟" قال: نعم، قال: "يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غداً" أخرجه الخمسة إلا أحمد.
ومن لا يوثق بخبره بكونه معروفاً بالكذب أو بالتسرع، أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته للشك في صدقه أو رجحان كذبه.
ويثبت دخول شهر رمضان خاصة بشهادة رجل، لقول ابن عمر  رضي الله عنهما:
"تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم.
ومن رآه متيقناً رؤيته وجب عليه إخبار ولاة الأمور بذلك، وكذلك من رأى هلال شوال وذي الحجة، لأنه يترتب على ذلك واجب الصوم والفطر والحج "وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وإن رآه وحده في مكان بعيد لا يمكنه إخبار ولاة الأمور فإنه يصوم ويسعى في إيصال الخبر إلى ولاة الأمور بقدر ما يستطيع.
وإذا أُعْلِنَ ثبوت الشهر من قبل الحكومة بالراديو أو غيره وجب العمل بذلك في دخول الشهر وخروجه في رمضان أو غيره، لأن إعلانه من قبل الحكومة حجة شرعية يجب العمل بها، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن في الناس معلناً ثبوت الشهر ليصوموا حين ثبت عنده صلى الله عليه وسلم دخوله، وجعل ذلك الإعلام ملزماً لهم بالصيام.
وإذا ثبت دخول الشهر ثبوتاً شرعيا فلا عبرة بمنازل القمر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم برؤية الهلال لا بمنازله، فقال صلى الله عليه وسلم:
"إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا" متفق عليه. وقال  صلى الله عليه وسلم: "إن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" رواه أحمد.
الأمر الثاني مما يحكم فيه بدخول الشهر: إكمال الشهر السابق قبله ثلاثين يوماً، لأن الشهر القمريّ لا يمكن أن يزيد على ثلاثين يوماً ولا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، وربما يتوالى شهران أو ثلاثة إلى أربعة: ثلاثين يوماً، أو شهران أو ثلاثة إلى أربعة: تسعة وعشرين يوماً، لكن الغالب شهر أو شهران كاملة والثالث ناقص
والثالث ناقص. فمتى تم الشهر السابق ثلاثين يوماً حكم شرعاً بدخول الشهر الذي يليه وإن لم ير الهلال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين" رواه مسلم، ورواه البخاري بلفظ: "فإن غُبِىَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". وفي صحيح ابن خزيمة من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يوماً ثم صام". وأخرجه أيضاً أبو داود والدار قطني وصححه.
وبهذه الأحاديث تبين أنه لا يصام رمضان قبل رؤية هلاله، فإن لم ير الهلال أكمل شعبان ثلاثين يوماً.
ولا يصام يوم الثلاثين منه سواء كانت الليلة صحواً أم غيماً، لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه:
"من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وذكره البخاري تعليقاً.
اللهم وفقنا لاتباع الهدى، وجنبنا أسباب الهلاك والشقاء، واجعل شهرنا هذا لنا شهر خير وبركة، وأعنا فيه على طاعتك، وجنبنا طرق معصيتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق