الخميس، 20 نوفمبر 2014

الباب الثاني - في الحدود – الكتاب الرابع : السرقة – المبحث الأول : أركان السرقة – الركن الثالث: أن يكون مملوكاً للغير - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة


الباب الثاني
في الحدود

كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة


الكتاب الرابع
السرقة

المبحث الأول
أركان السرقة

الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير
612- يشترط لوجود جريمة السرقة أن يكون الشيء المسروق مملوكًا لغير السارق, فإن كان مملوكًا للسارق فالفعل لا يعتبر سرقة ولو أخذه الفاعل خفية.
والعبرة بملكية السارق للمسروق وقت السرقة, فإن كان يملكه قبل السرقة ثم خرج من ملكه قبيل السرقة فهو مسئول عن السرقة وعليه القطع, وإن لم يكن يملكه ولكن دخل فى ملكه وقت السرقة فلا مسئولية عليه كأن ورثه أثناء السرقة, ويشترط لانعدام المسئولية أن يملكه قبل إخراجه من الحرز
_________
(1) شرح الزرقاتى ج8 ص 97.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص421, المحلى ج11 ص338.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص79.
(4) كشاف القناع ج4 ص78.
(2/588)

فإن ملكه بعد إخراجه من الحرز فلا يعفيه ذلك من المسئولية الجنائية (1) ؛ لأن الشيء وقت إخراجه من الحرز كان على ملك غيره ومن ثم يقطع بسرقته عند مالك مطلقًا, أما الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية فيفرقون بين ما إذا كان التملك قبل تبليغ السرقة والمطالبة بالمسروق أو بعد ذلك, فإن كان التملك قبل التبليغ فلا قطع ويعزر الجانى لأن مطالبة المجنى عليه بالمسروق شرط عندهم للقطع فإذا تملك الجانى المسروق قبل المطالبة لم تصح المطالبة بعد ذلك فلا يكون الحكم بالقطع ممكنًا عملاً, أما إذا كان التملك بعد المطالبة بالمسروق فلا يمنع التملك من الحكم بالقطع (2) , والفرق بين هؤلاء الفقهاء ومالك أن مالكًا لا يشترط للقطع مخاصمة المجنى عليه أو مطالبته بالمسروق فيكفى أن يبلغ بالسرقة أى شخص المجنى عليه أو غيره وليس من الضرورى أن يطالب المجنى عليه برد المسروق فالقطع واجب على السارق سواء بلَّغ المجنى عليه أو لم يبلغ, طالب المسروق أو لم يطالب (3) , أما هؤلاء الفقهاء فيشترطون للقطع أن يطالب المجنى عليه بالمسروق.
ويرى أبو حنيفة أن تملك المسروق قيل القضاء يسقط القطع عن السارق وإن كان لا يمنع من تقديره فإذا تملكه بعد القضاء وقبل الإمضاء فيرى أبو حنيفة ومحمد أن لا يقطع السارق لأن الإمضاء من تمام القضاء, فما يصلح مانعًا للحد قبل القضاء يصلح مانعًا بعده, ويرى أبو يوسف أن تملك المسروق بعد القضاء لا يمنع من القطع, فإن سارق رداء صفوان أُتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن يقطع, فقال صفوان: يا رسول الله إنى لم أرد هذا وهو عليه صدقة, فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فهل قبل أن تأتينى به" فدل ذلك على أن التملك بعد القضاء لا يسقط القطع (4) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص97.
(2) أسنى المطالب ج4 ص139, المغنى ج10 ص277, شرح الأزهار ج4 ص374.
(3) المدونة ج16 ص66- 69.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص88, 89, شرح فتح القدير ج4 ص256.
(2/589)

أما المذهب الظاهرى فيتفق مع مذهب أبى حنيفة فى هذه النقطة (1) .
ولا يكفى لتكوين جريمة السرقة أن يكون الشيء المأخوذ غير مملوك لآخذه بل يشترط أن يكون مملوكًا لغير السارق فإن لم يكن مملوكًا لأحد كالأموال المباحة أو المتروكة فإن أخذه لا يعتبر سرقة ولو كان خفية ولا يعتبر الشخص سارقًا للمال ولو لم يكن يملكه إذا له حق الانتفاع به, فالمستأجر الذى يأخذ الشيء المؤجر له والمستعير الذى يأخذ الشيء المعار والمرتهن الذى يأخذ الشيء المرهون كل هؤلاء لا يعتبر أحدهم سارقًا ولو أخذ الشيء خفية عن المالك ما دام أنه أخذه لاستفاء حقه المقرر على الشيء, على أن مالكًا يرى قطع صاحب المنفعة إذا أخذ الشيء خفية عن مالكه قبل القبض (2) .
ويجب أن يكون الشيء المأخوذ محلاً للملك حتى يكون محلاُ للسرقة فإن لم يكن محلاً للملك فلا يعتبر محلاً للسرقة, ولم يعد الإنسان بعد إبطال الرق محلاً للسرقة لأنه لم يعد محلاً للملك ومن ثم فلا يعتبر سرقة أخذ الأطفال خفية ولا أخذ الرجال والنساء بصفة عامة أيًا كان جنسهم أو لونهم أو دينهم, وقبل إبطال الرق كان العبيد والإماء محلاً للسرقة فى الشريعة باعتبارهم مالاً من وجه يمكن التصرف فيه كأى مال آخر, أما بعد إبطال الرق فلا يعتبر الإنسان مطلقًا محلاً للسرقة عند جمهور فقهاء المسلمين وعند أبى حنيفة والشافعى وعلى الرأى الراحج فى مذهب أحمد ومذهب الشيعة الزيدية, أما مالك فيخالف فى هذا الاتجاه ويعتبر سرقة يقطع فيها آخذ طفل خفية ذكرًا كان أو أنثى يمكن خداعه أو أخذ مجنونًا صغيرًا كان أو كبيرًا من حرز مثله كأن كان مع أهله أو مع كبير حافظ, فإن كان الطفل كبيرًا أو واعيًا أو لم يكن فى حرز مثله فلا قطع, ويرى الظاهريون كما يرى مالك القطع فى سرقة الحر الصغير وهو يوافق الرأى المرجوح فى مذهب أحمد ومذهب الشيعة الزيدية (3) .
ورأى
_________
(1) المحلى ج11 ص151.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص96, شرح الأزهار ج4 ص365.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص67, أسنى المطالب ج4 ص139, نهاية المحتاج ج7 ص438, المغنى ج10 ص245, شرح الزرقانى ج8 ص94, 103, المحلى ج11 ص337, شرح الأزهار ج4ص369.
(2/590)

القائلين بأن أخذ الأطفال لا يعتبر سرقة وإنما هو جريمة خاصة يتفق مع مذهب القانون المصرى والقانون الفرنسى ولكن يلاحظ أن القانون المصرى والفرنسى يعاقبان على خطف الأطفال بعقوبة أشد من عقوبة السرقة العادية وأن القانون الفرنسى يعبر عن خطف الأطفال باللفظ الذى يعبر به عن السرقة وهو Val, ولعل هذا أثر لما كان علية القانون الفرنسى قديمًا من اعتبار الفعل سرقة. ويكفى لوجود السرقة أن يكون الشيء مملوكًا للغير ولو كان المالك مجهولاً كسرقة مال شخص غير معروف أو كان المالك غير معين كسرقة المال الموقوف على الفقراء أو الأغراب أو التعليم, وهذا هو ما يراه مالك (1) , وهو ما يراه الظاهريون؛ لأنهم يرون قطع كل من سرق مالاً لا نصيب له فيه (2) , وعند الشافعى وأحمد أن أخذ مال مجهول خفية سرقة ولكن لا يقطع عندهما فيها لأنهما يشترطان للقطع مطالبة المجنى عليه بالمسروق وإذا كان المجنى عليه مجهولاً فلا مطالبة ولا قطع, أما سرقة مال الوقف ففيها القطع عندهما إذا لم يكن السارق من الموقوف عليهم فإن كان منهم فحكمه حكم الشريك فى المال وسنتكلم عليه فيما بعد, وفى مذهب أحمد رأى بان سرقة المال الموقوف مطلقًا لا قطع فيه بحجة أن المال الموقوف لا يملكه الموقوف عليه (3) .
والراحج فى مذهب الشيعة الزيدية فى هذه المسألة كمذهب الشافعى والرأى الراحج فى مذهب أحمد (4) , ويرى أبو حنيفة أن لا يقطع السارق إذا كان المجنى عليه مجهولاً ولو أقر الجانى بالسرقة لأن القطع مشروط بمطالبة المجنى علية ومخاصمته
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص96, مواهب الجليل ج6 ص309, 310, المدونة ج16 ص68.
(2) المحلى ج11 ص328.
(3) أسنى المكالب ج4 ص139, 140, المهذب ج2 ص298, 300, المغنى ج10 ص249, 277, 288, كشاف القناع ج4 ص77, 87.
(4) شرح الأزهار ج4 ص365, 369.
(2/591)

للجاني, ولكن أبا يوسف يرى القطع فى حالة الإقرار (1) , ولا قطع, كذلك إذا كان السارق ممن أُوقف عليهم المال المسروق فإن لم يكن منهم قطع, وهذا ما يقتضيه تعريف السرقة وتعريف المال الموقوف فى المذهب فهم يعرفون السرقة بأنها أخذ العاقل البالغ عشرة دراهم أو مقدارها خفية عمن هو مقصد للحفظ ما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير من حرز بلا شبهة (2) , ويعرفون الوقف بأنه حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة (3) , سواء سرق العين الموقوفة أو منفعتها فهو يسرق ملك الغير ولا شبهة له فى سرقته ما دام غير مستحق فيه فيقطع بالسرقة, ولا يعتبر الشخص سارقًا للمال إذا كان يملكه ولو كان للمجنى عليه حق الانتفاع به؛ فالمؤجر الذى يأخذ المال المؤجر من المستأجر, والمعير الذى يأخذ المال المعار من المستعير, والمدين الذى يأخذ المال المرهون من الدائن المرتهن أو الأمين على الرهن, والغاصب الذى يأخذ ماله المغصوب من الغاصب, وصاحب المال الذى يأخذ ماله المسروق من السارق - كل هؤلاء لا يعتبر سارقًا ولو أخذ المال خفية لأنه أخذ ما يملكه (4) .
ولا يقطع السارق إذا كان له شبهة الملك فى الشيء المسروق وإنما عليه التعزير فقط كسرقة الوالد من ولده لأن للوالد فى مال ولده تأويل الملك أو شبهة الملك لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (5) , ولا يقطع السارق عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة إذا سرق مالاً مشتركًا مع المجنى عليه لأن السارق يملك المسروق على الشيوع مع المجنى عليه فيكون هذا شبهة تدرأ القطع.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص83.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص219, حاشية ابن عابدين ج3 ص265.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص493.
(4) أسنى المطالب ج4 ص138, المغنى ج10 ص256, 259, كشف القناع ج4 ص84, 85, شرح الزرقانى ج8 ص97, بدائع الصنائع ج 7 ص70.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص98, أسنى المطالب ج4 ص140, المغنى ج10 ص284, بدائع الصنائع ج7 ص70, شرح الأزهار ج4 ص375.
(2/592)

ويرى المالك قطع الشريك إذا سرق المال المشترك بشرط أن يأخذ نصابًا أكثر من حقه. ويشترط أن يكون مال الشركة محجوبًا عنه أى محرزًا عنه, فإن كان المال المشترك مثليًا فلا قطع إلا أن يسرق نصابًا أكثر من نصف المال كله, وإن كان المال المشترك فيه قيميًا قطع إذا كان ما سرقه يبلغ نصابين ولو لم يكن المسروق كل المال المشترك لأن حقه فى المسروق نصاب واحد والنصاب الثانى يستحقه الشريك المسروق منه.
والقاعدة عند الظاهريين أن من سرق من شيء له فيه نصيب يقطع إذا أخذ زائدًا على نصيبه مما يجب فيه القطع فإن سرق أقل فلا قطع عليه, إلا أن يكون مُنع حقه فى ذلك أو احتاج إليه فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصًا فلا يقطع لأنه مضطرًا إلى أخذ ما أخذ إذ لم يقدر على تخليص مقدار حقه (1) . وفى مذهب الشافعى من يرى القطع على من يسرق نصابين من المال المشترك, وبعض أصحاب هذا الرأى يرى عدم القطع إذا كان المال المشترك قابلاً للقسمة ولم يأخذ السارق أكثر من حقه ويعتبرون الأخذ قسمه فاسدة, فإن أخذ أكثر من حقه نصابًا قطع, وكذلك إذا أخذ نصابين من المال ولم يكن المال قابلاً للقسمة, وهذا يتفق مع رأى مالك. ورأى القائلين بعدم القطع ليس معناه إعفاء الشريك من المسئولية الجنائية, فالمسئولية قائمة ولكن العقوبة على الفعل التعزير لا القطع؛ لأنهم يعتبرون الشركة شبهة تدرأ القطع.
وسرقة المال العام حكمها حكم المال المشترك عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية؛ لأن للسارق حقًا فى هذا المال, وقيام هذا الحق يعتبر شبهة تدرأ عنه الحد. أما مالك فيرى قطع السارق من بيت المال أو من مال المغنم, ويرى ذلك الظاهريون أيضًا بالشروط التى يشترطونها فى المال المشترك.
ويرى الشافعية القطع فى سرقة المال العام إذا خصص لطائفة لا يدخل فيها
_________
(1) المحلى ج11 ص328, 329, شرح الأزهار ج4 ص376, شرح الزرقانى ج8 ص97, 98, شرح فتح القدير ج4 ص235, كشاف القناع ج4 ص94, أسنى المطالب ج4 ص139, نهاية المحتاج ج7 ص423.
(2/593)

, كأن خصص للفقراء وليس منهم, فالقطع واجب إذا لم يكن له حق فى المال (1) . ويرى الحنابلة القطع فى مال المغنم بعد إخراج الخمس, فإذا سرق قبل إخراجه فلا قطع, وإذا قسم الخمس, فإذا سرق من خمس الله تعالى لم يقطع, وإن سرق من غيره قطع (2) .
سرقة مال المدين: ويرى مالك أنه لا قطع على من أخذ قدر حقه مدينه المماطل أو الجاحد, سواء كان ما أخذه من جنس حقه أو من عير جنسه, فإذا زاد ما أخذه على قدر حقه نصابًا قطع به, كذلك يقطع إذا لم يكن الدَّين حالاً أو لم يكن المدين مماطلاً أو جاحدًا (3) .
ولا يرى الشافعى قطع الدائن إذا أخذ أكثر من حقه نصابًا, والرأى الأرجح فى مذهب أحمد كمذهب الشافعي, أما الرأى المرجوح فيرى قطع الدائن, لأنه ليس له أن يأخذ قدر دينه. وإذا أخذ الدائن أكثر من حقه؛ فأصحاب الرأى الأول بعضهم يرى قطعه إذا أخذ نصابًا وهو رأى مالك, وبعضهم لا يرى قطعه وهو رأى الشافعي؛ لأن له شبهة فى هتك الحرز وأخذ ناله فصار كالسارق من غير حرز (4) .
ويطبق الظاهريون قاعدتهم التى سبق ذكرها عند الكلام على سرقه المال المشترك. وفى مذهب الشيعة الزيدية ثلاثة آراء: أولها قطع من يسرق مال المدين ما دام أنه سرق من جنس حقه وكان المسروق مساويًا للدين فى العدد والجنس, كأن سرق عشرة دراهم والمسروق منه مدين بعشرة دراهم, فإن كان الدين حالاً فلا قطع, لأن الأخذ مباح له, لأنه ظفر بجنس حقه, ومن له الحق إذا ظفر بجنس حقه يباح له أخذه, فإذا أخذه صار مستوفيًا لحقه. وكذلك الحكم لو أخذ أكثر من حقه, لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع ولا قطع فيه فلا
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص424.
(2) المغنى ج10 ص288, شرح الأزهار ج4 ص369.
(3) شرح الزرقانى ج2 ص98.
(4) المغنى ج10 ص258.
(2/594)

يقطع فى غيره كما هو الحال فى المال المشترك.
أما إذا كان الدَّين مؤجَّلاً فالقياس أن يقطع, ولكنهم يرون استحسانًا أن لا يقطع, لأن حق الأخذ ليس سببه حلول الأجل, وإنما سبب ثبوته هو قيام الدين فى ذمة المسروق منه, ووجود الأصل لا أثر له على قيام الدين وإنما أثره فى تأخير المطالبة بالدين, فقيام سبب ثبوت الدين يورث شبهة والشبهة تمنع القطع.
وإن سرق خلاف جنس حقه بأن كان عليه دراهم فسرق دنانير أو عروضًا قطع, لأنه لا يملكه بنفس الأخذ, بل بالاستبدال والبيع, فكان سارقًا ملك غيره, لكنه إذا دفع التهمة بأنه أخذه استيفاء لحقه فلا يرى البعض قطعه لأنه يعتبر متأولاً إذ اعتبر المعنى, وهو المالية لا الصورة, والأموال كلها فى معنى المالية متجانسة, وإذا كان الأخذ عن تأويل لا يقطع (1) .
وعن أبى يوسف أنه لا يقطع إذا أخذ خلاف جنس حقه, لأن بعض العلماء فى المذاهب الأخرى يجيزون لمن ظهر بغير جنس حقه أن يأخذه استفاء بحقه, ولكن المذهب على خلاف رأى أبى يوسف.
وإذا سرق الجانى من مدين أبيه أو من مدين ولده قطع ما لم يقم دليلاً على أنه وكيل عنه أو وصى عليه.
ويشترط أبو حنيفة أن يكون للمسروق منه يد صحيحة على الشيء المسروق, يد المالك أو يد الأمانه كالمودع, أو يد الضمان كيد الغاصب والقابض على رسوم الشراء, لأن منفعة يد الغاصب عائده للمالك, والمغصوب مضمون عليه, وضمان الغصب عند أبى حنيفة ضمان ملك, فأشبهت يد الغاصب يد المشترى, كذلك فإن المقبوض على رسوم الشراء مضمون على القابض. ويرتب أبو حنيفة على هذا الشرط ألا قطع على السارق من سارق, لأن يد الأخير ليست صحيحة فلا هى يد ملك ولا أمانه ولا ضمان, ولكن إذا درئ القطع عن السارق الأول قطع الثاني, لأن درء الحد عن السارق الأول يجعله ضامنًا للمسروق, ويد الضمان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71, 72, شرح فتح القدير ج4 ص336.
(2/595)

يد صحيحة, ويجعل أبو حنيفة السارق ضامنًا إذا درئ عنه القطع ولا يجعله ضامنًا إذا قطع, لأن القاعدة عنده أن القطع والضمان لا يجتمعان (1) .
ولا يشترط مالك شروطًا خاصة فى المسروق منه, وكل ما يشترطه مالك أن يكون المسروق ملك الغير, سواء سرق من يد المالك أو من يد غيره مطلقًا, لأن السارق يسرق ملك غيره فى كل حال, ويترتب على هذا أن مالكًا يقطع السارق من السارق, والسارق من الغاصب, والسارق ممن يقوم مقام المالك كالمودع والمرتهن والمستأجر (2) , والقاعدة عند مالك أن من سرق مالاً للغير من حرز لا شبهة فيه قطع.
ويرى أحمد أن يكون المسروق منه هو المالك أو من يقوم مقامه, فإذا أخذه من غيرهما فهو أشبه بما لو أخذ مالاً ضائعًا, والفرق بينه وبين السارق أن السارق يزيل يد المالك أو نائبه عن الشيء ويأخذه من حرزه, ويرتب أحمد على هذا أن السارق من المالك أو نائبه يقطع إذا توفرت كل شروط القطع. أما السارق من السارق أو الغاصب فلا قطع عليه ولو كان المال محرزًا (3) .
أما الشافعى ففى مذهبه رأيان: أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أحمد, ويعللون الرأى الأول بأن السارق يقطع؛ لأنه سرق مالاً لا شبهة له فيه من حرز مثله, ويعللون الرأى الثانى بأن السرقة من حرز لم يرضه المالك, وأن المحرز ليس هو المالك ولا نائبه (4) .
وأما الشيعة الزيدية فرأيهم يتفق مع مذهب الشافعي, فلا قطع عند بعضهم على السارق من السارق ولا الغاصب, وبعضهم يرى القطع (5) .
وعند الظاهرية أن السرقة هى الاختفاء بأخذ الشيء ليس له, وأن السارق
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص80.
(2) شرح الزرقانى ج2 ص96.
(3) المغنى ج10 ص257.
(4) المهذب ج2 ص299, أسنى المطالب ج4 ص138.
(5) شرح الأزهار ج4 ص369.
(2/596)

هو المختفى بأخذ ما ليس له, ويترتب على هذا التعريف أن يقطع السارق كلما أخذ ما ليس له, ولو كان أخذه من سارق أو غاصب (1) .
ويترتب على الحكام السابقة انه إذا سرق السارق من آخر فدرئ القطع عن الأول كان القطع على الثاني, لأن يده تصبح يد ضامن فى رأى أبى حنيفة, وإذا قطع السارق الأول فى مال فسرقه منه آخر فلا قطع على الآخر, لأن يد المسروق منه ليست يد ملك ولا أمانه ولا ضمان, إذ هو بالقطع لا يضمن المسروق, وعند أحمد لا قطع على السارق الثانى سواء قطع الأول أو درئ عنه القطع, لأن السرقة ليست من المالك أو من يقوم مقامه. وعند مالك يقطع السارق الثانى سواء قطع الأول أم لم يقطع, لأنه سرق مالاً للغير لا شبهة له فيه من حرزه ولو توالت السرقات وتعدد السراق (2) .
وكذلك الحكم عند الظاهرية, أما عند الشافعى والشيعة الزيدية, فبعضهم يرى القطع على السارق الثانى وبعضهم لا يراه, لأن منهم من يأخذ برأى يتفق مع رأى مالك, ومنهم من يأخذ برأى يتفق مع رأى أحمد, كما ورد ذلك فى المراجع السابقة.
وإذا سرق السارق مالاً فقطع فيه ورد المال لصاحبه فعاد نفس السارق وسرق نفس الشيء قطع أيضًا بالسرقة الثانية بهذا المال فى رأى مالك والشافعى وأحمد والظاهريين, لأن القطع عقوبة تتعلق بفعل السرقة, فتكرر العقوبة كلما تكرر الفعل, ولا عبره بالعين التى يقع عليها الفعل, ويستوى عندهم أن تكون العين قد بقيت على حالتها التى كانت عليها وقت السرقة الأولى أم تكون قد تغيرت (3) .
ويفرق الحنفيون بين ما إذا كان الشيء قد بقى على حاله أم تغير, فإن كان الشيء باقيًا على حاله فالقياس هو القطع, إلا أن بعض الفقهاء فى المذهب لا يرون
_________
(1) المحلى ج11 ص327.
(2) المدونة ج16 ص69.
(3) المدونة ج16 ص69, أسنى المطالب ج4 ص141, كشاف القناع ج4 ص85.
(2/597)

القطع استحسانًا, لأن عصمة المال تسقط بالسرقة الأولي, فإذا عادت العصمة بالرد فإنها تعود مع شبهة العدم, لأن السقوط لضرورة وجوب القطع, وأثر القطع قائم بعد الرد فيورث شبهة فى العصمة. أما إذا كان المال قد تغير فالقاعدة فى المذهب الحنفى أنه إذا كان المال قد تغير وأصبح فى حكم عين أخرى ففيها القطع, فإذا سرق غزلاً فرده للمالك فنسجه ثوبًا فعاد وسرق الثوب قطع به, ولو سرق بقرة فقطع فيها ثم ردت لمالكها فولدت عجلاً فسرق العجل يقطع به لأنه سرق عينًا أخرى (1) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أولهما يرى أن من عاد إلى سرقة ما قد قطع فيه لم يقطع, ورأى يرى أنه يقطع, وحجة من لا يرى القطع أن القطع الأول يصبح شبهة (2) .
ولا قطع فى مذهب أبى حنيفة على من ضمن المسروق قبل إخراجه من الحرز, لأن وجوب الضمان يؤدى إلى ملك المضمون من وقت وجود سبب الضمان, فكأنه ملكه قبل إخراجه من الحرز, واختلفوا فيمن سرق ثوبًا فشقه قبل الخروج به من الحرز أو ذبح شاة ثم أخرجها من الحرز مذبوحة, فقال أبو يوسف بعدم قطع السارق, لأنه شق الثوب وذبح الشاة فى الحرز يؤخذ منه سبب الضمان فى الحرز, ووجوب الضمان يوجب ملك المضمون من وقت وجود السبب, وذلك يمنع القطع. ويرى أبو حنيفة ومحمد قطع سارق الثوب, لأن السرقة تمت والثوب على ملك المجنى عليه إذ الملك لا يزول عنه إلا باختيار الضمان, فقبل الاختيار كان الثوب على ملكه وعلى هذا فيقطع, وكذا الأمر فى الشاة, إلا أنه لما أخرج الشاة من الحرز كانت لحمًا ولا قطع فى اللحم, أما لو أتلف الثوب إتلافًا يستهلكه فلا قطع عليه وإن كانت قيمه الثوب بعد إخراجه نصابًا, لأن التخريق أو الشق المستهلك يوجب استقرار الضمان من وقت الفعل, وهذا
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص72, 73.
(2) شرح الأزهار ج4 ص373.
(2/598)

بدوره يوجب ملك المضمون (1) .
ويرى مالك والشافعى أن العبرة بقيمة المسروق خارج الحرز, فإن بلغ نصابًا قطع السارق, وإن لم يبلغ نصابًا فلا قطع, فمن ذبح شاة أو أفسد طعامًا أو شق ثوبًا يقطع إذا بلغت قيمة ما خرج من الحرز نصابًا (2) .
والظاهريون يرون قطع السارق إذا أخذ خفية نصابًا, وهم لا يعترفون بالحرز ولا يشترطونه, ومذهب الشيعة الزيدية فى هذه المسالة كمذهب الحنفية (3) .
ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن ما يستهلكه السارق داخل الحرز أو يتلفه لا يعتبر سرقة, وإنما يعتبر إتلافًا عقوبته التعزير, ولكن مذهب الظاهريين يقتضى أن ما يستهلك داخل الحرز يعتبر سرقة ما دام قد أخذ على وجه الخفية (4) , ومن ثم لا تضاف قيمة المستهلك داخل الحرز أو المتلف إلى قيمة ما أخرج من الحرز لتكملة النصاب, فلو أكل السارق داخل الحرز من الطعام ما يساوى نصف نصاب ثم خرج ومعه من نفس الطعام نصف نصاب, فإنه لا يقطع, لأن ما خرج به من الحرز لم يبلغ نصابًا كاملاً, ولكنه يقطع عند الظاهريين لأنه أخذ نصابًا كاملاً.
وإذا ادعى السارق ملكية المسروق, فيرى مالك أن ادعاء ملكية المسروق فى ذاته ليس له قيمة ولا يدرأ عنه العقوبة ... إلا إذا أثبت صحة ما يدعيه, فإذا لم يكن دليل حلف المجنى عليه أن المتاع المسروق له وليس للسارق, فإن نكل حلف السارق ودفع إليه المتاع ولم تقطع يده (5) .
ويرى أبو حنيفة أنه إذا ادعى السارق ملكية المسروق درئ عنه القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص72, 73.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص99, أسنى المطالب ج4 ص138, المغنى ج10 ص261.
(3) شرح الأزهر ج4 ص364, 375.
(4) هكذا وجد فى الأصل, والظاهر أنها زيادة استغنى عنها بدليل السياق الذى بعدها.
(5) المدونة ج16 ص74.
(2/599)

لمجرد الادعاء دون حاجة لأن يقيم دليلاً على صحة ادعائه, وتكون العقوبة التعزير, لأن المسروق منه قد صار خصمًا له فى ملكية الشيء المسروق, فإن ادعى عليه ما لو أقر به لزمه ويتمكن من إثباته عليه بالبينة, وإن طلب يمينه كان له أن يستحلف عليه, وبعدما آل الأمر إلى الخصومة لا يستوفى الحد, لأن المسروق منه إذا وجه اليمين للمتهم على ملكية الشيء فامتنع عن حلفها قضى عليه بالنكول, وإن ردها على المسروق منه فحلفها قضى عليه باليمين, فالقول بالقطع عند الادعاء بملكية المسروق يؤدى إلى استفاء الحد باليمين والنكول (1) .
ويرى الشافعى أن ادعاء السارق بملكية المسروق أو ملكية الحرز, أو أنه أخذه من الحرز بإذنه, أو أنه أخذه والحرز مفتوح, أو صاحبه معرض عن الملاحظة, أو أنه دون النصاب, سقط عنه القطع بمجرد دعواه وإن ثبتت السرقة بالبينة لاحتمال صدقه فصار شبهة دارئة للقطع, لأنه صار خصمًا, ولا يستفصل بعد ثبوت السرقة عن كون المسروق ملكه, وإن كان فيه سعى فى سقوط الحد عنه أنه إغراء له بادعاء الباطل, ولكن مجرد ادعائه لا يثبت له المال وإن درأ عنه القطع إلا ببينة أو يمين مردودة, فإن نكل عن اليمين المردودة لم يجب القطع لسقوطه بالشبهة (2) .
وفى مذهب أحمد ثلاثة أراء: الرأى الأول كرأى مالك, والثانى كرأى الشافعى وهو الراجح فى المذهب, والرأى الثالث: إن كان معروفًا بالسرقة لم يسقط عنه القطع, وإن لم يكن معروفًا بها سقط عنه القطع (3) , ومذهب الشيعة الزيدية أن الادعاء بالملكية يسقط القطع دون الحاجة لإقامة الدليل على صحة هذا الادعاء (4) .
ويلاحظ أن سقوط القطيع ليس معناه إعفاء الجانى من المسئولية الجنائية بل يبقى مسئولاً عن جريمته ويعاقب عليها بعقوبة التعزير بدلاً من عقوبة القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71.
(2) أسنى المطالب ج4 ص139.
(3) المغنى ج10 ص301.
(4) شرح الأزهار ج4 ص374.
(2/600)

, ويشترط اتفاقًا فى المال المسروق أن يكون معصومًا فإذا لم يكن معصومًا كان مباحًا, ولا يعتبر أخذه سرقة كمال الحربى غير المستأمن ومال الباغي, فإنه غير معصوم, ولا قطع فى أخذه خفية.
على أن مال العادل إذا أخذه الباغى لا يقطع به, كذلك لا يقطع الحربى بسرقة مال المسلم والذمى. ويرى أبو حنيفة استحسانًا ألا قطع فى سرقة مال الحربى المستأمن وإن كان القياس أن يقطع لأنه سرق مالاً معصومًا, إذ الحربى يستفيد العصمة بالأمان, ووجه الاستحسان أن هذا مال فيه شبهة الإباحة, لأن الحربى المستأمن من أهل دار الحرب "أى مُنتمٍ إلى دولة محاربة", وإنما دخل دار الإسلام ليقضى حوائجه ثم يعود من قريب, فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة فى ماله, لأنه كان فى الأصل مباح المال وإنما ثبتت العصمة لنفسه وماله بأمان عارض هو على شرف الزوال, فعند الزوال يظهر أن العصمة لم تكن على الأصل المعهود, وكل عارض على أصل إذا زال يلحق بالعدم كأن لم يكن, فتصبح العصمة كأن لم تكن ثابتة من قبل, بخلاف الحال مع الذمى لأنه من أهل دار الإسلام, وقد استفاد العصمة بأمان مؤبد, فكان معصوم المال عصمة مؤبدة مطلقة ليس فيها شبهة الإباحة, ويرتب أبو حنيفة على رأيه هذا ألا قطع على الحربى المستأمن إذا سرق مال المسلم أو الذمي, لأنه أخذه على اعتقاد الإباحة, ولأنه لم يلتزم أحكام دار الإسلام, ولكن أبا يوسف يخالفه فى هذا ويرى قطع الحربى المستأمن إذا سرق مال مسلم أو غير مسلم. وفى مذهب أبى حنيفة: لا يقطع العادل فى سرقة مال الباغي؛ لأن ماله ليس بمعصوم فى حقه كنفسه, ولا الباغى فى سرقة مال العادل, لأنه أخذه عن تأويل؛ وتأويله وإن كان فاسدًا لكن التأويل الفاسد عند انضمام إليه يلحق بالتأويل الصحيح فى منع وجوب القطع (1) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71.
(2/601)

ويرى مالك قطع المستأمن إذا سرق مسلمًا أو غير مسلم, كما يرى قطع المسلم والذمى فى سرقة مال المستأمن (1) .
وفى مذهب الشافعى أقوال فى سرقة المعاهد والمستأمن والسرقة منهما. وأحسن هذه الأقوال أنه يقطع إذا اشترط فى العهد أو الأمان قطعه بسرقة, لأنه فى هذه الحالة يكون ملتزمًا بالأحكام, فإذا لم يشترط ذلك فلا يقطع لانتفاء التزامه ويكون حكمه حكم الحربى. ولا يقطع أيضًا مسلم أو ذمى بسرقتهما ماله إلا إذا اشترط قطعه فى السرقة لاستحالة قطعهما بماله دون قطعه بمالهما (2) . على أن البعض يرى ألا يقطع المستأمن والمعاهد بالسرقة ولو اشترط قطعهما بها, ولا يقطع لهما بسرقة مالهما (3) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أرجحهما أن يقطع المستأمن بسرقة المسلم والذمى ويقطعان بسرقته؛ لأن القطع حد يجب عليه كحد القذف, وإذا كان القطع واجبًا لصيانة الأموال فإن حد القذف واجب لصيانة الأعراض, فإن وجب أحدهما فى حق المستأمن وجب الآخر, فأما حد الزنا فلم يجب, لأنه يجب بالزنا قتله انقضه العهد, ولا يجب مع القتل حد سواه. وهذا رد على أصحاب الرأى الثانى الذين يقولون إن المستأمن لا يقطع بالسرقة, لأنه حد لله تعالى فلا يقام عليه حد كحد الزنا (4) .
سرقة الكفن: يرى أبو حنيفة ألا قطع فى سرقة الأكفان, وله فى ذلك حجتان: الأولى: أن الكفن مال تافه, لأن الطباع السليمة تنفر من ذلك, ولأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي, ففى مالية الكفن إذن قصور, والقصور فوق الشبهة والشبهة تدرأ بالحد, فالقصور أولى. الثانية: أن الكفن ليس مملوكًا لأحد
_________
(1) المدونة ج16 ص75, 91, شرح الزرقانى ج8 ص92, 97.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص440.
(3) أسنى المطالب ج4 ص150.
(4) المغنى ج10 ص276.
(2/602)

فهو ليس ملك الميت؛ لأن الميت لا ملك له, وهو ليس على ملك الورثة؛ لأن تكفين الميت وتجهيزه مقدم على حق الورثة, وإذن فهو غير مملوك لأحد (1) .
وأما مالك وأحمد والشافعى ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة فيرون قطع سارق الكفن, لأنهم لا يقرون نظرية التافهة التى يقول بها أبو حنيفة. وعندهم أن كل ما يباع ويشترى فهو مال متقوم يقطع فى سرقته, وعلى هذا فالكفن مال مسروق من حرز مثله وهو القبر, وهو على ملك الميت إن كان من ماله, أو على ملك الورثة على رأى, والأصل أن الميت لا يزول ملكه إلا عما لم يكن فى حاجة إليه أما الكفن فهو فى حاجة إليه فبقى على ملكه, ولكنهم يشترطون للقطع أن يكون الكفن مشروعًا وأن تبلغ قيمته نصابًا, فإن كان الكفن زائدًا عن الحد الشرعى فلا تدخل قيمة الزائد فى احتساب النصاب, وإنما تحتسب فقط قيمة الجزء المشروع, فإن قلت عن النصاب فلا قطع, وكذلك لا قطع فيما يوضع مع الميت فى قبره من الأشياء الثمينة كالمصوغات وغيرها؛ لأن الشرع لا يبيح وضع هذه الأشياء من ناحية, ولأن القبر ليس حرزًا لها من ناحية أخرى.
ويشترط الشافعيون أن يكون القبر فى بيت محرز أو فى مقبرة فى عمارة ولو فى جنب البلد, فإن كان القبر فى بيت غير محرز أو فى مفازة فلا قطع, ولكن الحنابلة يرون القبر حرزًا ولو بعد عن العمران ما دام القبر مطمومًا الطم الذى جرت به العادة (2) .
ويرى الظاهريون قطع سارق الكفن؛ لأن السارق هو الآخذ شيئًا لم يبح الله تعالى أخذه, فيأخذه ممتلكًا له مستخفيًا به, وتلك صفة النباش فهو السارق (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص69, 76.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص101, أسنى المطالب ج4 ص145, المغنى ج10 ص280, كشاف القناع ج4 ص82.
(3) المحلى ج11 ص730.
(2/603)

كذلك فإن الشيعة الزيدية ترى القطع فى سرقة الكفن (1) .
والقائلون من الفقهاء بقطع سارق الكفن يتفق مع رأيهم ما أخذت به المحاكم المصرية والفرنسية, إذ تعتبر الأشياء الموضوعة فى القبر من كفن وغيره على ملك الورثة أو واضعها, على أن هناك من يرى رأى أبى حنيفة, ويعتبر الأكفان من قبيل المتروكات التى لا عقاب على أخذها, أو يرى أن هذه الأشياء لا ملك لها (2) .
613- الأشياء المباحة: هى التى لا مالك لها أصلاً وتكون ملكًا لمن يضع يده عليها ويحتازها, كالماء فهو مباح أصلاً, ولكنه يصبح مملوكًا لمن يحتازه ويضع يده عليه, وكاللآلئ فى قاع البحر, وكالطيور والحيوانات البرية, وكالأسماك, فهذه كلها مباحة أصلاً, إذ لا مالك لها ولكنها تصبح مملوكة لمن يحتازها.
والاستيلاء على الأشياء المباحة لا يعتبر فى الشريعة سرقة لأنها مال لا مالك له ولأن شروط الأخذ خفية لا تتوفر فيها, فهى لا تؤخذ من حرز ولا تخرج من حيازة شخص إلى حيازة الجانى.
614- الأشياء المتروكة: هى الأشياء التى كانت مملوكة للغير ثم تخلى عنها مالكها كالملابس المستهلكة وبقايا الطعام وكناسة المنازل, وحكم الأشياء المتروكة هو حكم الأشياء المباحة, لأن الأشياء المتروكة تصبح بتركها لا مالك لها, وملك الشيء للغير واجب لاعتبار السرقة.
615- اللقطة: وهى ما يلتقط من مال ضائع, أو مال متروك على ملك تاركه, أو مال
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص371.
(2) أحمد بك أمين ص361, شرح قانون العقبات, القللى ص45.
(2/604)

ضال (1) , أو هى ما وجد من حق ضائع محترم لا يعرف الواحد مستحقه (2) , أو هى المال الساقط أو الحيوان الضال لا يعرف مالكه (3) , ويقابل تعبير اللقطة فى الشريعة ما نسميه اصطلاحًا بالأموال الفاقدة أو الضائعة.
ولا يعتبر أخذ اللقطة فى الشريعة سرقة, حتى ولو أخذها الملتقط بنية تملكها, وإنما يعتبر الملتقط مرتكبًا لجريمة أخرى هى كتمان اللقطة أو كتمان الضالة, ولهذه الجريمة عقوبة أخرى تختلف عن عقوبة السرقة, فعقوبة السرقة القطع, وعقوبة كتمان اللقطة أو الضالة التعزير وغرامته مثيلها على رأى.
ولم تلحق الشريعة كتمان اللقطة بالسرقة, ولو أن المال الملتقط له مالك؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين الالتقاط والسرقة. فالملتقط يعثر على المال مصادفة ولا ينتوى التقاطه إلا بعد العثور عليه, أما السارق فيقصد السرقة غالبًا قبل الأخذ خفية وقبل أن يعثر على المال المسروق. والملتقط يعثر على المال وهو غير محرز, أما السارق فيسرق غالبًا من حرز, والسارق يأخذ المسروق خفية, أما الملتقط فلا يختفى بأخذ اللقطة وليس ثمة ما يدعو للخفية. بل إن بعض الفقهاء يرى الالتقاط واجبًا لأنه يؤدى لحفظ المال وإن كان بعض الفقهاء يقول بكراهيته, فإنما يقول به لما يخاف من تقصير الملتقط فيما يجب عليه من تعريف اللقطة, والالتقاط فى ذاته لا تحرمه الشريعة وإنما المحرم هو كتمان اللقطة, ولكن السرقة محرمة لذاتها. كذلك الإبل فإنها لا تلتقط باتفاق.
ولهذه الفروق الظاهرة فرقت الشيعة بين السرقة والالتقاط وجعلت كلاً منهما جريمة مستقلة, وبهذا يأخذ كثيرًا من القوانين الوضعية الحديثة, كالقانون البلجيكى والقانون الإيطالي, ولكن القانون الفرنسى والقانون المصرى يجعلان
_________
(1) كشاف القناع ج2 ص421.
(2) أسنى المطالب ج2 ص487.
(3) بدائع الصنائع ج6 ص200.
(2/605)

الالتقاط فى حكم السرقة ويعاقبان عليه بعقوبة السرقة إذا حبس الملتقط الشيء بنية تملكه.
والأصل فى اللقطة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وِكاءَها وعِفاصَها ثم عرِّفها سنة, فإن لم تعرف فاستنفعها ولتكن وديعة عندك, فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه". وسئل عن ضالة الإبل فقال: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وغذاؤها, ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها", وسئل عن الشاة فقال: "خذها فإنما هى لك أو لأخيك أو للذئب".
وكتمان اللقطة محرم سواء انتوى الملتقط وقت الالتقاط تملك الشيء وكتمان اللقطه أو لم ينتو ذلك إلا بعد الالتقاط, لأن العقوبة على الكتمان وليست على مجرد الالتقاط, على أن للنية أثرها فى بعض حالات الضمان وإن لم يكن لها أثر على وجوب العقاب.
وللقطة أحكام خاصة فى الشريعة أهمها: أن يعرِّف الملتقط اللقطة ويعلن عنها لمدة معينة وله بعد ذلك أن يتصرف فى الشيء ويتصدق بثمنه أو ينفقه على نفسه ولو كان غنيًا على رأي, ولصاحب الشيء أن يسترده كلما كان موجودًا, وله إن لم يكن موجودًا الرجوع بثمنه على الملتقط (1) .
الركاز والكنز: الركاز هو المال المدفون فى الأرض, ويسمى الركاز الكنز أيضًا فى اصطلاح بعض الفقهاء, وأن البعض يسمى ما وجد عليه سيماء الجاهلية ركازًا, وما وجد عليه سيماء الإسلام كنزًا.
والأصل فى الركاز قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفى الركاز الخمس". والمال
_________
(1) بداية المجتهد ج2 ص55 وما بعدها, أنسى المطالب ج2 ص287 وما بعدها, المحلى ج8 ص257 وما بعدها, بدائع الصنائع ج6 ص200 وما بعدها, كشاف القناع ج2 ص421 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص58.
(2/606)

الذى يسمى ركازًا هو ما كان من دفن الجاهلية, ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصور أصنامهم ونحو ذلك, فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبى - صلى الله عليه وسلم - أو اسم أحد من خلفاء المسلمين أو والٍٍ من ولاتهم أو آية من قرآن أو نحو ذلك فالمال لقطة, وقد عرفنا فيما سبق حكم اللقطة. إذ المفروض فيه أنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفر فهو لقطة أيضًا.
والركاز الذى فيه الخمس هو كل ما كان مالاً على اختلاف أنواعه من الذهب أو الفضة والحديد والنحاس والرصاص والآنية إلى ذلك على رأي, وهو الذهب والفضة فقط على رأى آخر, أما ما عداهما فحكمه حكم المعادن التى توجد فى بطن الأرض, ويفرق رأى ثالث بين ما اختلط بالتراب ويعتبره معدنًا, وبين ما تدل حالته على أنه دفن بفعل آدمى ويعتبره ركازًا.
وهناك خلاف على ملكية الركاز. فالبعض يراه مملوكًا لواجده, والبعض يراه مملوكًا لمالك الأرض، على تفصيل لا محل لذكره هنا (1) .
وإذا اعتبر الركاز لمالك الأرض فإن أخذه واجده لا يعتبر سرقة ولو حفر عليه وأخذه, لأن مالكه لا يعرف شيئًا عنه فلا يعتبر أنه أحرزه, ولأن المال لا يمكن أن يؤخذ خفية, لأن البحث والحفر يقتضى العلانية فهو اختلاس أو غصب وفيه التعزير, ولا قطع فيه لما سبق, وحتى لو اعتبر سرقة فإن الخلاف على الملكية يعتبر شبهة تدرأ الحد.
* * *
_________
(1) مواهب الجليل ج2 ص339, شرح ملتقى الأنهر ج1 ص205, المغنى ج2 ص612, أسنى المطالب ج1 ص385, شرح الأزهار ج1 ص562, المحلى لابن حزم ج8 ص257 وما بعدها.
(2/607)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق