السبت، 15 نوفمبر 2014

القسامة - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

القسامة

من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
الجزء الثاني  

 الدكتور عبد القادر عودة 


450- معنى القسامة: القسامة معناها لغة: القَسَم أى اليمين، وهى تعنى أيضًا الوسامة، فيقال: فلان قسيم أى وسيم، ويذهب أهل اللغة إلى أنها القوم الذين يحلفون سُمُّوا باسم المصدر، كما يقال: رجل رضًى ورجل عَدْل.
ومعنى القسامة فى اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة فى دعوى القتل، يقسم
_________
(1) تبصرة الحكام ج1 ص258 , 262 , حاشية الطهطاوى ج3 ص221 , 235 , أسنى المطالب ج4 ص360 , 363 , المغنى ج10 ص15 , 18.
(2) المغنى ج10 ص43 , أسنى المطالب ج4 ص105.
(2/321)

بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفى القتل عنه (1) .
مصدر القسامة التشريعى: كانت القسامة طريقًا من طرق الإثبات فى الجاهلية فأقرها الإسلام، فقد روى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى سلمة بن عبر الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أقر القسامة على ما كانت عليه فى الجاهلية.
وعن سهل بن أبى حَثْمَة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود إلى خيبر وهى يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومُحيِّصة وحوُيِّصة ابنا مسعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ، وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد شيئًا ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبى - صلى الله عليه وسلم - من عنده" رواه الجماعة. وفى رواية متفق عليها: "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم. قالوا: يا رسول الله قوم كفار ... " وذكر الحديث بنحوه، وهو حجة لمن قال: لا يقسمون على أكثر من واحد، وفى لفظ لأحمد: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا ثم نسلمه".
وفى رواية متفق عليها: "فقال لهم: تأتون بالبنية على من قتله. فقالوا ما لنا من بينة. قال: فيحلفون. قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة" (2) . وروى الإمام أحمد عن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص286 , أسنى المطالب ج4 ص98 , المغنى ج10 ص2 , طرق الغثبات الشرعية ص484 , نيل الأوطار ج6 ص311.
(2) نيل الأوطار ج6 ص311 , 312.
(2/322)

أبى سعيد الخدرى قال: وجُد قتيل بين قريتين فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - فذرع بينهما فوُجد إلى أحدهما أقرب فألقاه إلى أقربهما؛ أى حملهم ديته. وكذلك روى عن عمر رضى الله عنه فى قتيل وُجد بين وازعة وأرحب وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه عمر أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وازعة أقرب فأُلزموا القسامة والدية (1) . وأخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة والبيهقى عن الشعبى أن قتيلاً وُجد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل ما قتلته ولا علمت له قاتلاً ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج نحوه الدارقطنى والبيهقى عن سعيد بن المسيب، وفيه أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم (2) . وفى رواية أخرى أنهم قالوا: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال عمر: أما أيمانكم فلحقن دمائكم وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم (3) .
وأخرج البخارى والنسائى عن ابن عباس أن أول قسامة كانت فى الجاهلية فى بنى هاشم، كان رجل من بنى هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه فى إبله، فمر به رجل من بنى هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثنى بعقال أشد به عروة جوالقى لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالاً فشد به عروة جوالقة فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذى استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصًا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمين فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهده وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عنى رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فإذا شهدت فناد يا قريش، فإذا أجابوك فناد ى آل بنى هاشم، فإن أجابوك فسل عن أبى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص292 , طرق الغثبات الشرعية ص448.
(2) نيل الأوطار ج6 ص214.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص291.
(2/323)

طالب فأخبره أن فلانًا قتلنى فى عقال، ومات المستأجر، فلما قدم الذى استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك. فمكث حينًا ثم إن الرجل الذى أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بنى هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرنى فلان أن أبلغك رسالة أن فلانًا قتله فى عقال. فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدى مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بنى هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجير ابنى هذا برجل من الخمسين ولا تصير يمينه حيث تصير الأيمان، ففعل فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما منى ولا تصير يمينى حيث تصير الأيمان، فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا.
قال ابن عباس: فوالذى نفسى بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف (1) .
451- اختلاف الفقهاء فى شرعية القسامة: وبالرغم من النصوص السابقة فإن الفقهاء اختلفوا فى القسامة، فرأى الجمهور أن يعتبر القسامة كطريق من طرق الإثبات فى جريمة القتل وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة والمذهب الظاهرى والمذهب الشيعى، وأنكر بعض الفقهاء القسامة ومنهم سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علّية ويرى هؤلاء أنه لا يجوز الحكم بمقتضى القسامة لأنها مخالفة لأصول التشريع الإسلامى، إذ الأصل فى الشريعة أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتيل بل قد
_________
(1) نيل الأوطار ج6 ص312 , 313 , طرق الإثبات الشرعية ص478.
(2/324)

يكونون فى بلد والقتيل فى بلد آخر (1)
ومن حجتهم أن الأيمان ليس لها تأثير فى إشاطة الدماء وأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا يرى أصحاب هذا الرأى فى الأحاديث التى يستند إليها القائلون بالقسامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة وإنما كانت القسامة حكمًا جاهليًا فتلطف لهم رسول الله ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينًا - أعنى لولاة الدم وهم الأنصار - قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هى السنة، وإذا كانت هذه الآثار غير نص فى القسامة بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (2) .
ويرد الفريق الآخر على هذه الحجج بأن القسامة سنة مقررة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وأنه يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكانوا بالمدينة والقتيل بخيبر ولأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئًا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذى باعه، وكذلك
_________
(1) لذلك روى البخارى عن أبى قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه , فقال: ما تقولون فى القسامة؟ فأضب القوم , وقالوا: نقول إن القسامة القود بها حق , قد اقاد بها الخلفاء , فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونَصيَنَى للناس , فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد أرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه زنا بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا , قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفى بعض الروايات: = =قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهاتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز فى القسامة أنهم إن أقاموا شاهدى عدل أن فلاناً فأقده ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا (بداية المجتهد ج2 ص357 , طرق الإثبات الشرعية ص490) ..
(2) بداية المجتهد ج2 ص358.
(2/325)

إذا وجد شيئًا بخطه أو بخط أبيه جاز أن يحلف ولو أنه لا يعلمه أو لا يذكره، وكذلك إذا باع شيئًا لم يعلم فيه عيبًا فادعى عليه المشترى أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئًا من العيب، ولكن الحالف على كل حال لا يحلف إلا بعد الإثبات وغلبه ظن يقارب اليقين (1) .
452- وليس ثمة ما يمنع من أن تكون الأيمان سبيلاً لإشاطة الدماء - أى إهدارها - ما دامت الأيمان تؤدى إلى إثبات الجريمة على الجانى لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته" وفى رواية مسلم: "يسلم إليكم" وفى لفظ: "وتستحقون دم صاحبكم" وأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين. وإذا كانت القسامة طريق الإثبات العمد فقد وجب بها القصاص وهو عقوبة العامد كالبينة سواء بسواء، وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحوال أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة فى الطائف، وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعى مع يمينه احتياطًا للدم فإن لم يجب القود سقط هذا المعنى (2) . على أن أغلب القائلين بالقسامة لا يرون أن القسامة تؤدى للقصاص بل يرون أنها توجب الدية فقط، فالقسامة على رأى هؤلاء لا تؤدى لإشاطة الدماء.
453- وأما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فإن بعض القائلين بالقسامة لا يخرجون على هذا الأصل كالحنفيين، فإنهم يرون اليمين دائمًا فى جانب المنكر حتى فى القسامة فيحلفون المدعى عليه، وأما القائلين بتحليف المدعى فالقاعدة عندهم أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعين، فأى الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عرض القسامة أولاً على المدعين فلما أبوا جعلها فى جانب المدعى عليهم، وقد جعلت فى جانب المدعين لأن جانبهم ترجح باللوث (3) ، واليمين تكون
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص5.
(2) الشرح الكبير ج10 ص39 , 40.
(3) أعلام الموقعين ج1 ص118 , الشرح الكبير ج10 ص28 وما بعدها.
(2/326)

فى جانب المدعى عليه إذا لم يترجح المدعى بشئ غير الدعوى، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوله بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب الأصل فكانت اليمين من جهته، فإذا ترجح المدعى بلوث أو بنكول أو شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة فى جانب أقوى المتداعين فأيهما قوى جانبه شرعت اليمين فى حقه (1) .
وفضلاً عما سبق فإن حديث البينة على من ادعى واليمين على من أنكر روى عن ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالصيغة الآتية: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر إلا فى القسامة" فاستثنى الحديث القسامة وهذا الاستثناء زيادة فى الحديث يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة (2) .
454- لماذا شرعت القسامة؟: الأصل فى القسامة أنها شرعت لحفظ الدماء وصيانتها، فالشريعة الإسلامية تحرص أشد الحرص على حفظ الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، ولما كان القتل يكثر بينما تقل الشهادة عليه لأن القاتل يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت القسامة حتى لا يفلت المجرمون من العقاب وحتى تحفظ الدماء وتصان (3) .
ولقد كان من حرص الشريعة على حياطة الدماء ما دعا أحمد إلى القول بأن من مات من زحام الجمعة أو فى الطواف فديته فى بيت المال وبمثل هذا قال إسحاق، وقال به عمر وعلي؛ فإن سعيدًا يروى عن إبراهيم أن رجلاً قتل فى زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله، فقال على: يا أمير المؤمنين لا يُطَلُّ دم امرئ مسلم، إن علمتَ قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال. وقال الحسن والزهرى فيمن مات من الزحام: ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم (4) .
_________
(1) الطرق الحكيمة ص74.
(2) الشرح الكبير ج10 ص31.
(3) بداية المجتهد ج2 ص358.
(4) المغنى ج10 ص9 , 10.
(2/327)

ولعل فى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى قرر القسامة ما يؤيد هذا النظر، ففى رواية متفق عليها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "تأتون بالبينة على من قتله؟ فقالوا: ما لنا من بينة قال: فتحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطَلَّ دمه فوداه بمائه من إبل الصدقة" (1) ، وهذا ما جعل الحنابلة يرون أنه إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال، وما جعلهم يرون إلزام المدعى عليه الدية إذا نكل عن الحلف.
455- والقسامة عند أبى حنيفة شرعت فوق ما سبق لعلاج التقصير فى النصرة وحفظ الموضع الذى وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ لأن إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرًا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير، زجرًا عن ذلك وحملاً على تحصيل الواجب وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية؛ لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ. ولهذا يرى أبو حنيفة أن القتيل إذا وجد فى موضع اختص به واحد أو جمعة إما بالملك أو باليد ويتهمون أنهم قتلوه فعليهم شرعًا القسامة دفعًا للتهمة، والدية لوجود القتيل بين أظهرهم (2) .
456- هل شرعت القسامة للإثبات أم لنفى؟: يرى مالك والشافعى وأحمد أن القسامة شرعت لإثبات الجريمة ضد الجانى كلما انعدمت أدلة الإثبات الأخرى أو لم تكن كافية بذاتها لإثبات الجريمة على الجانى، فإذا لم يكن مثلاً إلا شاهد واحد على القاتل أو لم يكن هناك شهود ولكن وجدت قرينة على أن القتل حصل من المتهم كان لولاة القتيل أن يثبتوا الجريمة على المتهم بطريق القسامة (3) .
ويرى أبو حنيفة أن القسامة دليلاً مثبتًا للفعل المحرم وإنما هى دليل
_________
(1) نيل الأوطار ج6 ص312.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص290.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص59 , نهاية المحتاج ج7 ص376 , المغنى ج10 ص7.
(2/328)

نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل؛ لأن المدعين - طبقًا لرأيه - لا يحلفون وإنما يحلف أهل المحلة بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وفى الوقت ذاته تجب عليهم الدية لوجود القتيل بين أظهرهم ويأخذ أبو حنيفة بهذا الرأى لأنه يرى أن البينة دائمًا على من ادعى واليمين على من أنكر، فإذا لم يعترف أحد أهل المحلة بالقتل وأنكروا كانت عليهم القسامة لأنهم مدعى عليهم وهم يدفعون بالقسامة التهمة الموجهة إليهم فتكون القسامة دليل نفى لهم (1) .
457- الجرائم التى تجوز فيها القسامة: من المتفق عليه أن القسامة لا تكون إلا فى جريمة القتل فقط، فلا قسامة فى جرح ولا فى قطع عضو أو فقد منفعة ولا قسامة فى ضرب أو إيذاء أو اعتداء أيًا كان نوعه ما لم يؤد للموت، ويستوى أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، ففى كل قتل أيًا كان نوعه القاسمة (2) .
متى تكون القسامة؟: لا محل للقسامة عند أبى حنيفة إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلومًا فلا قسامة ويتبع فى إثبات الجريمة ونفيها طرق الإثبات العادية (3) .
458- أما مالك والشافعى وأحمد فمحل القسامة عندهم أن يكون القاتل معينًا وأن يكون هناك لَوْث، فإن كان القاتل مجهولاً فلا قسامة عند الأئمة الثلاثة، ولكن الغزالى وهو من الفقهاء الشافعيين يرى أن لا بأس من أن يكون القاتل مجهولاً بين معينين فإن حكمه حكم المعين كما إذا اتهم ولى القتيل عشرة وقال: القاتل أحدهم (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289 , 291.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص50 , بدائع الصنائع ج7 ص286 , نهاية المحتاج ج7 ص372 , الشرح الكبير ج10 ص3.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص288.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص50 , أسنى المطالب ج4 ص99 , نهاية المحتاج ج7 ص368 , المغنى ج10 ص4.
(2/329)

واللوث عند مالك والشافعى هو أمر ينشأ عن غلبة الظن بصدق المدعى (1) ، أو هو قرينة توقع فى القلب صدق المدعى (2) ، كوجود جثة القتيل فى محلة أعدائه، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو رؤية المتهم على رأس القتيل ومعه سكين، وقول واحد ممن تقبل شهادته لوث.
وهناك خلاف بين المالكية والشافعية على ما يعتبر لوثًا، فالمالكية يعتبرون ادعاء المجنى عليه على المتهم قبل وفاته لوثًا ولا يعتبره الشافعيون كذلك، والإشاعة المتواترة لوث عند الشافعيين وليست كذلك عند المالكيين (3) .
واللوث عند أحمد على الرواية المرجوحة هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغْنٌ يغلب على الظن أنه قتله.
واللوث على الرواية الراجحة هو ما يغلب على الظن صدق المدعى كالعداوة المذكورة سابقًا، وكأن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثًا فى حق كل واحد منهم، وكأن يزدحم الناس فى مضيق فيوجد فيهم قتيل، وكأن يوجد قتيل ولا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، وهذا الرأى الثانى موافق لما يراه مالك والشافعى (4) ، وتعدد اللوث لا يمنع من القسامة كما لو قال المجنى عليه قبل موته قتلنى فلان، وكان هناك شاهد عدل يشهد بأنه رأى المتهم يقتل المجنى عليه فالقسامة واجبة مع تعدد اللوث ولا ينفى تعدد اللوث عنها إلا عند من يأخذون بالقرائن ويرونها كافية وحدها لإثبات الجريمة (5) ، وإذا وجد قتيل ولم يكن لوث فلا قسامة عند مالك والشافعى وأحمد وإن عين أولياء القاتل، والدعوى فى هذه الحالة كسائر الدعاوى إن كانت بينة
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص50.
(2) أسنى المطالب ج4 ص98.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص69 , 371 , شرح الزرقانى ج8 ص50 , 55.
(4) المغنى ج10 ص7 , 12.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص94.
(2/330)

حكم للمدعين بها وإن كان إقرار حكم به وإلا فالقول قول المنكر، وهذا يخالف مذهب أبى حنيفة الذى يرى القسامة بوجود الجثة وبها أثر القتل.
459- وإذا أدعى أولياء القتيل القتل ولم توجد الجثة فى محل المدعى عليهم ولم تكن عداوة ولا لوث فلا قسامة عند الجميع. ويرى البعض فى هذه الحالة أن لا يحلف المدعى عليه. وحجة القائلين بهذا أن الدعوى لا يقضى فيها بالنكول فلا يستحلف فيها كالحدود، ويرى البعض أنه يستحلف والقائلون بهذا يحتجون بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" ويرون أن النص يوجب اليمين لعمومه وأن النص صريح فى انطباقه على دعوى القتل حيث يقول: "لادعى قوم دماء رجال وأموالهم" وادعاء الدماء هو ادعاء القتل. والقائلون بهذا يختلفون، فبعضهم يرى أن يحلف المدعى عليه يمنًا واحدة وهو الرأى الراجح، والبعض يرى أن يحلف خمسين يمينًا وهو الرأى المرجوح. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين فيرى البعض أنه لا يجب عليه شئ بنكوله، ويرى البعض أن النكول لا يجب به غير الدية، ويرى البعض أن ترد اليمين على المدعى إذا نكل المدعى عليه فتكون قسامة ويحلف المدعون خمسين يمينًا؛ لأن النكول يعتبر لوثًا فى هذه الحالة فتتوفر شروط القسامة (1) .
460- وظاهر مما سبق أن القسامة تكون عند مالك والشافعى إذا علم القاتل وانعدمت البينة المثبتة للقتل وكان لوث، فإن كانت بينة تثبت القتل أو كان إقرار فلا قسامة، ومعنى هذا أن القسامة عندهم دليل خاص مثبت للقتل إذا انعدم دليله الأصيل.
ويختص مالك بنوع من القسامة يوجبه مع توفر الدليل على القتل، وذلك فى حالة ما إذا أصيب المجنى عليه فى جريمة القتل فلم يمت فى الحال واستمر وقتًا ما يأكل ويشرب ويتكلم ثم مات بعدها فتجب القسامة على أولياء القتيل يحلفون
_________
(1) المغنى ج 10 ص3 , 7.
(2/331)

بالله أن القتيل مات من إصابته. وهذا النوع من القسامة ليس إلا دليلاً من نوع خاص على أن الوفاة نشأت عن الإصابة، وليس له معنى فى عصرنا الحاضر بعد أن أصبح الأطباء قادرين على تعيين سبب الوفاة.
أما القسامة عند أبى حنيفة فلا تكون إلا إذا وجدت جثة القتيل فى محلة وكان القاتل مجهولاً، وهى ليست دليلاً على القتل وإنما هى دليل نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل، فهم يحلفون بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وتجب عليهم الدية فى الوقت ذاته لوجود القتيل بين أظهرهم.
والقسامة عند ابن حزم تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يمينًا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود، وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلاً (1) .
فالقسامة عند ابن حزم تجمع بين مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك والشافعى وأحمد، فيأخذ من مذهب أبى حنيفة سبب وجوب القسامة، ويأخذ من مذهب الأئمة الثلاثة كيفية القسامة.
461- والقسامة عند أبى حنيفة أشبه ما تكون بما تفعله جيوش الاحتلال فى البلاد المحتلة فى عصرنا الحاضر فى حالة الاعتداء على رجال الجيش المحتل وفى حالة الثورات إذ تفرض غرامة على كل قرية قتل فيها جندى لم يعلن قاتله أو ارتكبت فيها جريمة هامة لم يعلم مرتكبها، وتحصل الغرامة من جميع سكان القرية على السواء.
والواقع أن القسامة عند أبى حنيفة تعتبر بحق وسيلة طيبة لإظهار الفاعلين فى حوادث القتل؛ لأن أهل القرية إذا علموا أنهم سيلزمون دية القتيل الذى لا يظهر قاتله اجتهدوا فى منع المشبوهين من الإقامة بين ظهرانيهم وأخذوا على أيدى سفهائهم ومجرميهم، كما أن كل من كان لديه معلومات عن القتل سابقة أو
_________
(1) بداية المجتهد ج2 ص360.
(2/332)

لاحقة لن يتأخر فى الغالب عن تبليغها للجهات المختصة، بل إنهم قد يحملون القاتل على أن يقدم نفسه ويعترف بجرمه.
462- كيفية القسامة: القسامة عند مالك والشافعى وأحمد على أولياء القتيل، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يحلف خمسون رجلاً منكم وتستحقون دم صاحبكم"، وعلى هذا أن يحلف أولياء القتيل ابتداء خمسين يمينًا.
ويستحب أن يستظهر فى ألفاظ اليمين فى القسامة تأكيدًا فيقول الحالف: والله الذى لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فإن اقتصر على لفظ والله كفى، ويصح أن يقول والله أو بالله وتالله وكل ما زاد على هذا تأكيدًا، ويشترط فى اليمين أن تكون على البت وأن تكون قاطعة فى ارتكاب المتهم الجريمة بنفسه أو بالاشتراك مع غيره، وعلى الحالف أن يبين ما إذا كان الجانى تعمد الفعل أم لم يتعمد فيقول مثلاً: "والله إن فلان ابن فلان قتل فلانًا منفردًا بقتله ما شركه غيره" وإن كانا اثنين قال: "منفردين بقتله ما شركهما غيرهما" ثم يقول: عمدًا أو خطأ.
فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ. ويشترط فى يمين المدعى عليه ما يشترط فى يمين المدعى من البت والقطع ببراءته فيقول مثلاً: والله ما قتلته ولا شاركت فى قتله ولا فعلت سببًا مات منه ولا كان سببًا فى موته ولا معينًا على موته.
فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا أيمان المدعى عليهم برئ المتهمون وكانت دية القتيل فى بيت المال على رأى أحمد، وهو رأى لا يأخذ به بقية الأئمة. وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا على رأى فى مذهب أحمد ولم يحبسوا على الرأى الآخر، وحبسوا لمدة سنة على رأى مالك، فإن لم يحلفوا عززوا. أما الشافعى فيرى أن ترد الأيمان على المدعين فإن لم يحلفوا فلا شئ على المدعى عليهم وإن حلفوا وجبت العقوبة على المدعى عليهم (1) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص55 , 59 , نهاية المحتاج ج7 ص373 , الشرح الكبير ج10 ص40 , 47.
(2/333)

أما أبو حنيفة فيرى أن القسامة على أهل المحلة ابتداء فإن حلفوا وجبت عليهم الدية. وعنده أن الحلف لحقن دماء الحالفين لأن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف فى المحلة عائد عليهم وهم المتهمون فى القتل فكانت القسامة والدية عليهم (1) .
ويحلف خمسون رجلاً من أهل المحلة: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، وإذا امتنع المدعى عليهم من الحلف حُبسوا حتى يحلفوا ولكن امتناعهم لا يسقط عنهم الدية (2) .
463- من يدخل القسامة؟: يدخل القسامة على رأى الشافعى كل الورثة سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ فتدخل الزوجة والبنت كما يدخل الابن والزوج، وتوزع الأيمان عليهم بحسب نصيبهم من الإرث. ويجبر الكسر؛ لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فلو حلف تسعة وأربعون حلف كلٌّ يمينًا، وفى قول: يحلف كل من الورثة خمسين يمينًا؛ لأن العدد يعتبر كيمين واحدة، فإذا ردت اليمين على المدعى عليهم حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا كاملة (3) .
464- وفى مذهب أحمد روايتان:
أولاهما: أن الأيمان تختص بالورثة دون غيرهم وبالرجال دون النساء، فعلى هذه الرواية تقسم الأيمان بين الورثة من الرجال سواء كانوا من ذوى الفروض أو العصبات كل على قدر إرثه إن كانوا جماعة وإن كانوا واحدًا حلفها وحده، فإن انقسمت الأيمان فى حالة التعدد من غير كسر مثل أن يرث المقتول ابنان أو أخ وزوج حلف كل منهما خمسًا وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم مثل زوج وابن، يحلف الزوج ثلاثة عشر يمينًا والابن ثمانية وثلاثين يمينًا؛ لأن تكميل الخمسين واجب لا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن البعض الآخر فوجب تكميل اليمين المنكسرة فى حق كل واحد منهم، وهناك من يرى أن يحلف كل وارث
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص291.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص289.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص379.
(2/334)

خمسين يمينًا سواء تساووا فى الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة فى سائر الدعاوى (1) .
ثانيتهما: أن يحلف من العصبة خمسون رجلاً كل واحد يمينًا، وهو قول لمالك، وعلى هذا يحلف الوارثون من العصبة فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة الأقرب منهم فالأقرب (2) .
465- ويفرق مالك بين حالة الخطأ وحالة العمد، ففى الخطأ يحلف أيمان القسامة من يرث القتيل وإن كان واحدًا ولو أخًا لأم أو امرأة، وإذا تعدد الورثة حلف كل وارث على قدر إرثه، فإن كان وارث واحد حلف الأيمان كلها وتجبر اليمين عند الكسر على أكثر كسرها، ولو كان صاحب الكسر الأكبر أقل نصيبًا فى الميراث كابن وبنت، على الابن ثلاثة وثلاثون يمينًا وثلث، وعلى البنت ستة عشر يمينًا وثلثان، فتحلف البنت سبعة عشر يمينًا والابن ثلاثة وثلاثين.
أما فى العمد فلا يحلف إلا العصبة، ولا يحلف فى العمد أقل من رجلين من العصبة، ويستوى أن يكون العاصب وارثًا أم غير وارث، ولا تحلف النساء فى العمد، وللولى إن كان واحدًا أن يستعين بعاصبه هو ولو لم يكن عاصبًا للقتيل، كامرأة مقتولة ليس لها عصبة غير ابنها وله إخوة من أبيه فله أن يستعين بهم (3) .
466- ويرى أبو حنيفة أن القسامة لا تجب إلا على الرجال، فلا تجب على صبى ولا مجنون ولو وجد القتيل فى ملك أحدهما؛ لأن القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين؛ ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة، فلا تجب القسامة عليهما وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل فى ملكهما. وهناك خلاف فى هذا المذهب على ما إذا كانا يدخلان فى الدية مع العاقلة، فيرى
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص32 , 33.
(2) الشرح الكبير ج10 ص40 , 41.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص56 , 57.
(2/335)

البعض دخولهما لأنهما مؤخذان بالضمان المالى لأفعالهما وهو الرأى الراجح، أما إذا وجد القتيل فى ملك غيرهما فمن المتفق عليه أنهما لا يدخلان فى الدية مع العاقلة.
ولا تدخل المرأة فى القسامة والدية فى قتيل وجد فى غير ملكها لأن وجوبها بطريق النصرة وهى ليست من أهلها وإن وجد فى دارها أو فى قرية لها لا تكون بها غيرها فعليها القسامة فتستحلف ويكرر عليها الأيمان على الرأى الراجح (1) .
ما يجب بالقسامة: تجب الدية بالقسامة فى الخطأ وشبه العمد، وهذا متفق عليه.
467- أما فى العمد فيرى مالك أن القصاص يجب بالقسامة إذا كان المتهم واحدًا، فإذا تعدد المتهمون وجب القصاص بالقسامة على واحد فقط يعينه أولياء القتيل ويحلفون أنه مات من ضربه أو جرحه.
ويرى ابن رشد أنه يجوز أن يقتص بالقسامة من أكثر من واحد إذا اختلفت الأفعال التى أدت للقتل، كمن يمسك شخصًا لآخر ثم يقول له اضربه اقتله فيفعل ذلك، فإنهما يقتلان معًا بالقسامة لأن الموت كان نتيجة لفعليهما معًا، ولأن فعل كل منهما يخالف فعل الآخر، أما إذا اتحد الفعل المؤدى للموت فلا يقتص إلا من واحد (2) .
468- ورأى الشافعى القديم جواز القصاص بالقسامة فى العمد، ولكن رأيه الآخر أنه لا تجب بالقسامة إلا الدية سواء كان الفعل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ.
والرأى الأول قائم على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تستحقون دم صاحبكم".
والرأى الثانى قائم على قوله: "إما أن يدوا صاحبكم، أو يؤذنوا بحرب من الله ورسوله" وقد فسرت عبارة "دم صاحبكم" بـ "بدل دم صاحبكم" جمعًا بين الدليلين (3) .
ويرى أبو حنيفة أنه لا يجب بعد القسامة إلا الدية فى العمد وغير العمد؛ لأن القسامة جعلت لحقن دماء المدعى عليهم.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص294 , 295.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص59.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص375.
(2/336)

ويرى أحمد أن يقتص بالقسامة فى العمد ما لم يمنع مانع شرعى من القصاص (1) .
469- شروط القسامة: لا تجب القسامة إلا إذا توفرت الشروط الآتية:
أولاً: أن يثبت أن الموت نتيجة القتل، فإن كان مات حتف أنفه أو تساوى احتمال موته حتف أنفه بموته قتيلاً فلا قسامة.
ثانيًا: أن يكون لَوْث، طبقًا لما يراه مالك والشافعى وأحمد، وقد بينا معنى اللوث، فإن لم يكن لوث فلا قسامة. أما أبو حنيفة فلا يشترط إلا أن توجد الجثة فى محلة وبها أثر القتل، فإن لم توجد الجثة على هذا الوجه فلا قسامة وإذا أصيب القتيل بجرح فى محلة فحمل إلى أهله فمات من تلك الجراحة وجبت القسامة والدية عند أبى حنيفة ولا يراهما أبو يوسف بحجة أنه أصيب فى المحلة ولم يمت فيها ولا قسامة فيما دون النفس. ويرد عليه بأن القتيل مات من الجراحة فكأن الجراحة وقعت قتلاً من وقت حدوثها.
ويشترط الحنفيون أن يوجد من القتيل أكثر بدنه، فإن وجد ففيه القسامة والدية لأن للأكثر حكم الكل فيسمى قتيلاً، أما إذا وجد عضو من أعضائه فلا قسامة فيه ولا دية، وإن وجد النصف الذى فيه الرأس ففيه القسامة والدية وإن وجد الرأس وحده فلا قسامه ولا دية. ولا يشترط بقية الأئمة هذه الشروط، فالقسامة واجبة سواء وجد كل الجثة أو وجد بعضها (2) .
ثالثًا: أن لا يعلم القاتل عند أبى حنيفة فإن علم فلا قسامة. أما عند مالك والشافعى وأحمد فيشترط للقسامة تعين القاتل، فإذا لم يعين فلا قسامة.
رابعًا: أن يتقدم أولياء القتيل بدعواهم أى باتهامهم لأن الدعوى لا تسمح على غير معين عند مالك والشافعى وأحمد ولأن القسامة يمين مقصود به دفع التهمة عند أبى حنيفة ولا تجب اليمين قبل الدعوى والاتهام (3) .
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص39.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص288.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص50 , نهاية المحتاج ج7 ص369 , الغقناع ج4 ص240 , بدائع الصنائع ج7 ص288.
(2/337)

خامسًا: أن لا يكون هناك ادعاء متناقض، كأن يكون الأولياء قد ادعوا على شخص أنه انفرد بالقتل ثم عادوا فادعوا على آخر بأنه هو القاتل، أو كأن يدعى بعض الأولياء أن شخصًا هو القاتل ويبرئه البعض الآخر من القتل أو يدعوه على غيره، فإذا وجد مثل هذا التناقض امتنعت القسامة ويشترط فى التناقض المانع من القسامة أن يكون بحيث ينفى الاتهام عن المتهم.
سادسًا: أن ينكر المدعى عليهم القتل فإذا اعترفوا به فلا قسامة.
سابعًا: ويشترط أبو حنيفة المطالبة بالقسامة لأن اليمين حق المدعى وحق المدعى يوفى بطلبه، ولذا كان الاختيار فى حال القسامة لأولياء القتيل لأن الأيمان حقهم فلهم أن يختاروا من يتهمونه ويستحلفون صالحى العشيرة الذين يعلمون أنهم لا يحلفون كذبًا، وإذا طولب من عليه القسامة باليمين فنكل عنها حبس حتى يحلف أو يقر لأن اليمين حق مقصود لنفسه وليست وسيلة للدية إذ الدية مفروضة مع اليمين ويرى أبو يوسف أن لا يحبس الناكل ويحكم بالدية (1) .
ثامنًا: ويشترط أبو حنيفة أيضًا أن يكون الموضع الذى وجدت فيه الجثة ملكًا لأحد وفى يد أحد، فإن لم يكن ملكًا لأحد ولا فى يد أحد فلا قسامة ولا دية.
وإذا وجدت الجثة فى مكان عام التصرف فيه للعامة لا لجماعة محصورين لا تجب القسامة وتجب الدية من بيت المال.
470- وإذا وجد القتيل فى فلاة لا يملكها أحد فلا قسامة ولا دية إذا كانت بحيث لا يسمع الصوت فى القرى والأمصار القريبة، فإذا كانت بحيث يسمع الصوت وجبت القسامة والدية على أقرب المواضع إلى الجثة، وإذا كان المكان قريبًا من عدة قرى وجبت القسامة والدية على أقرب القرى إليه، وإن كان قريبًا من المصر فعلى أقرب أحياء المصر الدية والقسامة، وهذا هو قضاء عمر بن الخطاب.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289.
(2/338)

ولا قسامة فى قتيل وجد فى المسجد الجامع ولا فى الشوارع أو الجسور أو الطرق العامة؛ لأنها محلات عامة بمعنى الكلمة، وتجب الدية فى بيت المال.
ولا قسامة فى قتيل وجد فى سوق عامة إلا إذا كان السوق ملكًا لفرد أو أفراد أو مستأجرًا لهم.
واختلف فى قتيل السجن، فرأى البعض القسامة على المسجونين ولم يرها البعض الآخر (1) .
* * *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق