الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

الباب الثاني – في الحدود – الكتاب الثاني : القذف – المبحث الأول: أركان جريمة القذف - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

الكتاب الثانى
القذف

كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة 

المبحث الأول
أركان جريمة القذف

561 - ذكرنا أن القذف الذى يجب به الحد هو رمى المحصن بالزنا أو نفى النسب عنه.
وظاهر من هذا التعريف أن أركان جريمة القذف التى يجب بها الحد ثلاثة:
1 - الرمى بالزنا أو نفى النسب. ...
2 - أن يكون المقذوف محصنًا.
3 - القصد الجنائى.
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 204.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 300، 301.
(2/461)

الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:
562 - يتوفر هذا الركن كلما رمى الجانى المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه مع عجزه عن إثبات ما رماه به. والرمى بالزنا قد يكون نفيًا لنسب المجنى عليه وقد لا يكون، فمن قال لشخص يا ابن الزنا فقد نفى نسبه ورمى أنه بالزنا، ومن قال لشخص يا زانى فقد رماه بالزنا ولم ينف نسبه. فالرمى بالزنا يكون نفيًا لنسب المجنى عليه إذا تعدى القذف لأمه، أما نفى النسب فيقتضى دائمًا رمى أم المقذوف أو أحد أمهاته بالزنا. فمن نسب شخصًا إلى غير أبيه أو إلى غير جده فقد نسب الزنا لأم هذا الشخص أو جدته (1) .
وإذا كان القذف بغير الزنا أو نفى النسب فلا حد فيه، كالقذف بالكفر أو السرقة الزندقية أو شرب الخمر أو أكل الربا أو خيانة الأمانة إلى غير ذلك، ويعاقب على فعل هذا القذف بالتعزير، وكذلك يعزر على القذف بالزنا ونفى النسب إذا لم تستوف شروط الحد.
ويعزر أيضًا على كل قذف لا ينسب فيه للمقذوف معصية ولو كانت وقائع القذف صحيحة، إذا كان القذف مما يؤلم المقذوف ويؤذى شعوره، كأن ينسب للمقذوف أنه عنين أو عقيم أو مجنون أو مريض بالشلل أو السل، أو أنه أسود اللون أو بشع الخلقة، أو أنه من أسرة وضيعة.
والعبرة فى تحديد الإيلام والإيذاء بما جرى عليه العرف أى بما تعارف عليه الناس. ويعاقب القاذف فى هذه الحالة بالذات سواء صح ما نسب للمقذوف أو لم يصح؛ لأنه إذا صح ما نسبه للمقذوف فإنه ليس فيه ما يشين ولا ما تحرمه الشريعة،
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 190، 193، شرح الزرقانى ج8 ص 85، 86، المغنى ج10 ص 210، 215، المهذب ج2 ص 289، 291.
(2/462)

فالقذف ليس إلا إيذاء للمقذوف وإيلام له دون مبرر. وإذا لم يصح ما نسبه للمقذوف فإنه وإن لم يكن فيه ما يشين أو ما تحرمه الشريعة إلا أنه افتراء يؤلم المفترى عليه ويؤذيه والشريعة تعتبر الإيذاء دون مبرر شرعى جريمة يعاقب عليها.
والفرق بين هذه الحالة والحالات السابقة التى يعفى فيها من العقاب أن القاذف يؤذى المقذوف ويؤلمه فى كل الأحوال ولكنه يعفى من العقاب فى الأحوال السابقة لأن للإيذاء مبررًا شرعيًا وهو إتيان المقذوف ما تحرمه الشريعة، أما فى الحالة الأخيرة فليس هناك مبرر شرعى للإيذاء.
والرمى باللواط عند مالك والشافعى وأحمد حكمه حكم الرمى بالزنا؛ لأنهم يعتبرون اللواط زنًا واللائط زانيًا سواء كان فاعلا أو مفعولا به، امرأة أو رجلا، فإذا ثبت أن القاذف أراد من القذف أن المقذوف يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد. أما أبو حنيفة فلا يرى حد القاذف باللواط ويرى تعزيره لأنه لا يعتبر اللواط زنًا ومن ثم لا يعتبر الرمى باللواط رميًا بالزنا (1) .
وإذا نسب القاذف للمقذوف أنه لوطى وادعى أنه أراد أن المقذوف من قوم لوط فلا عبرة بادعائه ويجب حد القذف عند مالك ويحده أيضًا الشافعى إلا إذا أراد أنه على دين قوم لوط.
أما أحمد فاختلفت عنه الرواية، فروى عنه أنه يوجب الحد على القاذف إذا قال للمقذوف: يا لوطى وروى عنه أنه فرق بين ما إذا قال القاذف: أردت أن دينه دين لوط، وفى هذه لا حد عليه، وبين ما إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، وفى هذه عليه الحد. ووجه الإعفاء من الحد أن القاذف فسر كلامه بما لا يوجب الحد فاعتبر التفسير متصلًا بالقذف، والقاعدة أن مثل هذا التفسير لو اتصل بعبارة القذف من وقت القذف لم يجب الحد، أما الرواية الثالثة فيرى أحمد أن القاذف إذا كان فى غضب فهو أهل لأن يقام عليه الحد لأن الغضب قرينة تدل على
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص 209، شرح فتح القدير ج4 ص 150، 190.
(2/463)

إرادة القذف بخلاف حال الرضا. والراجح فى المذهب هو الرواية الأولى؛ لأن كلمة لوطى لا يفهم منها الآن إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فى اللواط صراحة لفظ الزانى فى الدلالة على الزنا ولأن قوم لوط لم يبق منهم باقية فلا يحتمل أن ينسب إليهم أحد (1) .
ومن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة فعلية الحد عند من يعتبر إتيان البهيمة فى حكم الزنا، وهذا ما يراه بعض الشافعية والحنابلة، ولا حد عليه ولكن يعزر عند من لا يعتبرون إتيان البهائم زنًا وهم مالك وأبو حنيفة وأكثر الشافعية والحنابلة (2) .
والقاعدة العامة عند الفقهاء أن كل ما يوجب حد الزنا على فاعلة يوجب حد القذف على القاذف به، وكل ما لا يجب حد الزنا بفعله لا يجب الحد على القاذف به، فمن قذف إنسانًا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطء بالشبهة فلا حد عليه وإنما عليه التعزير لأنه لم يقذفه بما فيه حد الزنا، ومن قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطء مستكرهة فلا حد عليه التعزير لأنه قذفها بما ليس فيه حد الزنا (3) . هذه هى القاعدة العامة عند الفقهاء ومتفق عليها ولكنهم يختلفون فى تطبيقها لاختلافهم فيما يوجب حد الزنا.
ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الوالد وإن علا إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحد سواء كان القاذف رجلا أو امرأة؛ لأن عقوبة القذف وإن كانت حدًا إلا أنها متعلقة بحقوق الأفراد، ولأن القذف حق لا تستوفى عقوبته إلا بالمطالبة فهو أشبه بالقصاص، ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص، وإذا كان من المسلم به أن الابن لا يقتص من الأب ولا يقطع فى سرقة
_________
(1) نفس المرجع السابق.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 78، شرح فتح القدير ج4 ص 152، نهاية المحتاج ج7 ص 405، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج10 ص 163، 210.
(3) المغنى ج10 ص 210، شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 193، المهذب ج2 ص 289.
(2/464)

ماله فأولى أن لا يحد فى قذفه. ويرتب أصحاب هذا الرأى على ما يقولون أن الوالد لو قال لولده من زوجته المتوفاه يا ابن الزانية لم يكن للولد أن يرفع على والده الدعوى، لكن إذا كان لها ابن آخر من غيره استطاع أن يرفع دعوى القذف لأن حد القذف يثبت لكل من المستحقين على الانفراد، ويترتب على هذا الرأى أيضًا أنه لو قذف الزوج زوجته فى حياتها فرفعت دعوى القذف ثم ماتت قبل الحكم فيها ولم يكن لها ورثة غير أولادها م الزوج القاذف فإن الدعوى تسقط حتى عند من لا يسقطون الدعوى بالوفاة؛ لأن ورثة المتوفاة أولاد القاذف وليس لهم أن يطالبوه بحد القذف "الدعوى تسقط دائمًا عند أبى حنيفة بالوفاة وليس للورثة أن يحلوا محل المقذوف لأن حق القذف ليس من الحقوق المالية التى تورث" (1) .
وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يتفق مع الرأى السابق، وثانيهما: للابن أن يطالب أباه بحد القذف لأن نص القذف عام فينطبق على الأب كما ينطبق على غيره، ولأن العقوبة حد والحد حق الله فلا يمنع من إقامتها قرابة الولادة، ولكن القائلين بهذا الرأى يسلمون بأن الابن يفسق بمطالبته بحد أبيه، أى أن عدالة الابن تسقط لمباشرته سبب عقوبة أبيه لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، ويقول: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] (2) .
ولا يشترط فى القذف أن يكون بلغة معينة فيصح أن يكون باللغة العربية ويصح أن يكون بغيرها من اللغات، ويشترط فى القذف أن يكون صريحًا وصريح القذف ما لا يحتمل غيره فإن احتمل غيره فهو كناية أو تعريض. فمن قال يا زانى أو أنت زان، فقد جاء بقذف صريح. وإن قال: أبوك زان أو أمك زانية أو يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية، فهو قذف صريح للأم والأب. وإن قال: يا ابن الزنا أو يا ولد الزنا كان قذفًا صريحًا أيضًا لأن معناه أنك مخلوق من ماء الزنا. أما
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص208.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المغنى ج10 ص 208، شرح الزرقانى ج8 ص 87.
(2/465)

إن قال: ما أنا بزان وليست أمى بزانية، أو قال: يا ابن منزلة الركبان أو ذات الراية، أو قال لامرأة: فضحت زوجك وجعلت له قرونًا أو أفسدت فراشه ونكست رأسه، فذلك هو التعريض أو الكناية.
ولا خلاف فى أن القذف الصريح معاقب عليه بعقوبة الحد، أما القذف القائم على التعريض والكناية فمختلف على عقوبته، فيرى أبو حنيفة - وما يراه رواية فى مذهب أحمد - أن لا حد على القذف بالتعريض أو الكناية وإنما فيه التعزير، وحجة أصحاب هذا الرأى ما روى أن رجلًا قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأتى ولدت غلامًا أسود؛ يعرض بنفيه، فلم يعاقبه الرسول على ذلك القول، وأن الله تعالى فرق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض بها فى العدة وحرم التصريح فقال جل شأنه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فىِ أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا} [البقرة: 235] فإذا كان الشرع قد فرق بين التعريض والتصريح فيما يعزر عليه فأولى أن يفرق بينهما من أن يعاقب عليه بعقوبة الحد التى تدرأ بالشبهات، وفضلًا عن ذلك فإن التعريض والكناية يحتمل غيره والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات (1) (19) .
والأصل عند الشافعى أن لا حد إلا فى القذف الصريح ولكنه يوجب الحد من القذف بالتعريض والكناية إذا ثبت أن القاذف نوى بما قال القذف لأن الكناية مع النية بمنزلة الصريح، أما إذا لم ينو بما قاله من تعريض أو كناية القذف لم يجب الحد سواء كان ذلك فى حال الخصومة أو غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفًا من غير نية (2) .
ويرى مالك الحد فى القذف بالتعريض أو الكناية إذا فهم منه القذف أو دلت القرائن على أن القاذف قصد القذف، ولكنه يستثنى من ذلك الأب فإذا
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213.
(2) المهذب ج2 ص 290.
(2/466)

عرض الأب بولده أو قذفه بالكناية فلا حد عليه لبعده عن التهمة فى قذف ولده أما إذا صرح فعليه الحد. ويعتبر مالك الخصام من القرائن على القذف، فمن قال فى خصام لآخر ما أنا بزان فكأنه قال يا زانى، أو قال: أما أنا فلست بلائط فكأنه قال يا لائط، أو قال: أما أنا فأبى معروف فكأنه قال: أبوك ليس بمعروف (1) .
وهناك رواية أخرى عن أحمد بأن القاذف تعريضًا أو كناية عليه الحد، وحجة أصحاب هذا الرأى أن النص عام فى عقاب القاذف فإذا ثبت القذف فقد وجب الحد سواء كان القذف صريحًا أو تعريضًا أو كناية، وأن هذا هو قضاء عمر فقد شاور عمر الصحابة فيمن قال لصاحبه: ما أبى بزان ولا أمى بزانية، قد مدح أباه وأمه، فقال عمر: قد عرض بصاحبه وجلده الحد. ومن المشهور عن عمر أنه كان يجلد الحد فى التعريض، وأنه قضاء عثمان. وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلًا قال لآخر يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض به بقذف الرجال، ولأن الأصل أن الكناية مع القرينة الصادقة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذى لا يحتمل إلا ذلك المعنى. ويرد هذا الفريق على القائلين بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب على التعريض بأن العقاب فى القذف معلق على الشكوى من المقذوف، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب من عرض بزوجته لأنها لم تتقدم بالشكوى (2) .
ولا يشترط لعقوبة الحد أن يتلفظ القاذف بعبارات القذف بل يكفى لعقابه أن يصادق عليها، فمن قال لآخر: أمك زانية، فقال ثالث صدقت، كان كلاهما قاذفًا وإذا قال رجل لآخر: أشهد أنك زان أو أنك تنسب لغير أبيك، فقال ثالث: وأنا أشهد بمثل ما شهدت به، كان الأول والثالث قاذفين وعليهما الحد (3) .
ولا يبقى القاذف من عقوبة الحد إن كان قذفه جاء ردًا لقذف وجهه إليه
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، مواهب الجليل ج6 ص 301.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 215.
(2/467)

المقذوف فمن قال لآخر: يا زانى، فقال له الآخر: لا بل أنت، فإنهما يحدان ولا يسقط الحد بتبادل القذف ولا بتكافؤ السيئات (1) .
ولكن القاذف يعفى من الحد إذا صدقه المقذوف، فمن قال لأجنبية عنه: أنت زانية، فقالت: بك زنيت، فلا حد عليه وعليها حدان، حد الزنا لاعترافها به وحد القذف لقذفها الرجل بالزنا. أما إذا صدر هذا القول من الرجل لزوجته فلا حد على أحدهما: لا حد على الرجل لأنها صدقته، ولا حد عليها لأنه يجوز أن تكون زانية حقيقية ولأنه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا، كما يقول الرجل لغيره سرقت، فيقول معك سرقت ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق، ولأنه يجوز أن يكون معناه: ما وطئنى غيرك، فإن كان ذلك زنًا فقد زنيت، فهذه الاحتمالات معناها الشبهة فى مؤدى قولها ولا حد مع شبهة (2) .
وإذا استعمل القاذف أفعل التفضيل فى القذف فقال مثلا: أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، فعليه الحد عن مالك وأحمد (3) .
أما فى مذهب أبى حنيفة فيرى البعض الحد ولا يراه البعض الآخر، وحجتهم أن أفعل يستعمل فىالترجيح للعلم فكأنه قال: أنت أعلم منى بالزنا، وحجة الفريق الأول أن استعمال أفعل التفضيل قذف لأن معناه أن فلانًا زان وأنت أزنى منه وأنه فى الناس زناة وأنت أزنى منهم (4) .
ويرى الشافعى أنه إذا قال لغيره: أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس، لم يكن قذفًا من غير نية؛ لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا فى أمر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية، وما ثبت أن فلانًا زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم، وإن قال:
_________
(
1) شرح فتح القدير ج4 ص 201، نهاية المحتاج ج7 ص 417.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 202، المهذب ج2 ص 290، شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10ص 216
(4) شرح فتح القدير ج4 ص 191، 211.
(2/468)

فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس، فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه (1) .
وإذا قال القاذف لشخص: أنت أزنى من فلان، فهو قاذف لهذا الشخص، ولكن هل يكون قاذفًا لفلان أيضًا؟ فيه وجهان: أولهما: يكون قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل للتفضيل فيقتضى اشتراك الاثنين فى اصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه، ثانيهما: قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى} [يونس: 35] ، وقال تعالى: {فَأَىُّ الْفَرِيقَيْن أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] .
وقوله على لسان لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أى من أدبار الرجال ولا طهارة فى أدبار الرجل.
ويلاحظ أن الشافعى يشترط لاعتبار القول قذفًا أن يريد القائل القذف، وأن بعض الفقهاء فى مذهب أبى حنيفة لا يعتبرون ذلك قذفًا كما ذكرنا فى الفقرة السابقة (2) .
وإذا استعمل القاذف فى القذف ألفاظًا مشتركة تفيد الزنا وتفيد غيره كقوله: زنأت فى الجبل؛ بالهمزة، فيرى بعض أن العبرة بما يفهمه عامة الناس من العبارة وأنه قذف لأن عامة الناس لا يفهمون من العبارة إلا أنها قذف، وقال البعض إنه قذف إذا كان القاذف عاميًا وكان المعنى العامى يستعمل فى القذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العلم باللغة فهو ليس قذفًا (3) .
استعمال صيغة المبالغة أو صيغة الترخيم لا ينفى وجوب الحد على القاذف، فمن قال لرجل: يا زانية، أو قال لامرأة: يا زانى، فهو قذف صريح، ذلك هو رأى مالك والشافعى وأحمد (4) .
_________
(1) المهذب ج2 ص 290، 291.
(2) المغنى ج10ص 216.
(3) المغنى ج10ص 216، شرح فتح القدير ج 4 ص200 , المهذب ج10 ص 291.
(4) مواهب الجليل ج6 ص 304، المهذب ج2 ص 291 المغنى ج10 ص 217.
(2/469)

ويرى أبو حنيفة وأصحابه حد القاذف لو قال لامرأة يا زانى؛ لأن الترخيم شائع ولا يمكن أن يفهم من هذا اللفظ إلا الرمى بالزنا، أما إذا استعمل القاذف صيغة المبالغة فقال للرجل يا زانية، فلا حد عليه عند أبى حنيفة وأبى يوسف وإنما عليه التعزير لأنه رماه بما يستحيل منه إذ الزانية هى المرأة وهى محل للوطء والرجل ليس محلًا له، ويرى محمد من أصحاب أبى حنيفة حد القاذف بصيغة المبالغة لأن التاء فى الزانية أضيفت للمبالغة وليست للتأنيث (1) .
وإذا رمى القاذف رجلا بالزنا وعيَّن المزنى بها كأن قال: زنيت بفلانة، فهو قاذف للرجل والمرأة معًا، أو قال له يا زانى ابن الزانى وكان الأب موجودًا فهو قاذف للأب وابنه، أو قال لامرأة يا زانية بنت الزانية فهو قاذف للمرأتين (2) .
ويشترط فى القذف أن يكون المقذوف معلومًا فإن كان مجهولا فلا حد على القاذف، فمن قال لجماعة: ليس فيكم زان إلا واحد، أو قال لرجلين: أحدكما زان، لم يحد لأن المقذوف مجهول وما جعل الحد إلا لدفع العار عن المقذوف (3) .
ويجب أن يكون القذف مطلقًا عن الشرط والإضافة إلى وقت معين، فإن كان كذلك فلا حد عليه فيه؛ لأن ذكر الشرط والوقت يمنع وقوعه قذفًا للحال، فمن قال لآخر: إن دخلت هذه الدار فأنت زان فدخلها فلا يعتبر قاذفًا. ومن قال لآخرين: من قال عنى كذا وكذا فهو زان فقال رجل أنا قلت ذلك؛ فلا حد، ومن قال لغيره: أنت زان أو ابن الزانية غدًا أو رأس الشهر، فجاء الغد أو رأس الشهر فلا حد عليه (4) .
ولا يعتبر نقل القذف قذفا من الناقل إذا نقله للمقذوف كلف بذلك أم لم يكلف به، بشرط أن يثبت أنه ناقل وأن تكون الصيغة دالة على أنه مكلف
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 191.
(2) المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42.
(3) المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص 46، المغنى ج10 ص 225.
(2/470)

بالنقل أو أنه يروى عن غيره، فمن قال لآخر: اذهب إلى فلان فقل له يا زانى، فذهب الآخر وقال ذلك للمقذوف، فلا حد عليه، أما إذا اقتصر على عبارة القذف فقط فهو قاذف. ويرى كل من أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن الناقل لا يعتبر قاذفًا إذا كذبه المنقول عنه حيث لم يثبت أنه ناقل (1) .
وإذا رمى القاذف بالزنا خصيًا أو مجبوبًا أو مريضًا فعليه الحد عند أحمد، وحجته أن نص القذف عام ينطبق على كل قذف وكل مقذوف فيستوى أن يكون المقذوف قادرًا على الوطء أو عاجزًا عنه، لأن إمكان الوطء أمر خفى لا يعلمه الكثير من الناس فلا ينتفى العار عند من لم يعلمه بدون الحد، ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن لا حد على قاذف أحد هؤلاء ما دامت الواقعة المقذوف بها تالية للعجز عن الوطء لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف والحد إنما يجب لنفى العار، ولكن امتناع الحد لا يمنع من تعزير القاذف لأنه آذى المقذوف (2) .
ويشترط أبو حنيفة لحد القاذف أن يكون القذف فى دار الإسلام فإن كان القذف فى دار الحرب أو فى دار البغى فلا حد على القاذف؛ لأنه لا ولاية للإمام على دار الحرب ولا على دار البغى وقت القذف (3) .
ولكن الأئمة الثلاثة يرون حد القاذف على قذفه ولو وقع فى دار الحرب أو دار البغى ما دام أنه يلتزم أحكام الإسلام. ومن نفى شخصًا عن أبيه كأن قال له لست لأبيك فإنه يحد باتفاق، ولكن أبا حنيفة يشترط أن تكون أم المنفى نسبه حرة مسلمة لأن القذف فى الحقيقة قذف للأم، ويفرق بين ما إذا كان النفى فى حالة الغضب فيوجد الحد وبين ما إذا
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 44، المهذب ج2 ص 293، المغنى ج10 ص 216.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 203.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص 45.
(2/471)

كان النفى فى غير حالة الغضب فلا يوجد الحد، لاحتمال أن يكون المراد بالنفى غير حقيقة كأن يكون المقصود المعايبة على عدم التشبه بالأب فى محاسن أخلاقه، وعلى هذا يتوقف الحد وعدمه على القرينة، وهذا يتفق مع رأى بعض الشافعية، أما البعض الآخر فهم يرون مع مالك وأحمد الحد سواء نفى النسب فى غضب أو غيره، ويرى أبو حنيفة أيضًا أن من نفى نسب شخص عن جده فقال لست ابن فلان لجده، فلا حد عليه لأنه صادق فى كلامه، لأن الإنسان ليس ابن جده. وكذلك إذا نسب شخصًا لعمه أو خاله أو زوج أمه لا يحد لأن كلًا منهم يسمى أبًا، فالعم يسمى أبًا لقوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيِلَ وإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وإسماعيل كان عمًا له، والخال أب، ولأن زوج الأم أب للتربية (1) .
ولكن مالكًا يرى الحد فى كل هذه الحالات (2) . ولا يشترط الشافعى وأحمد هذا الشرط، ويحد القاذف عندهما ولو لم تكن الأم حرة أو مسلمة، وقد توقف مالك فى حالة ما إذا كانت الأم كافرة أو أمَة، ورأى ابن القاسم أن يحد من ينفى النسب ولو كانت المكافرة أو أمة (3) ، أما من ينفى شخصًا عن أمه فلا حد عليه بالإجماع لأنه لم يقذف أحدًا بالزنا (4) ، ومن نفى شخصًا عن قبيلته فعليه الحد عند مالك وأحمد ولا حد عليه عند أبى حنيفة (5) ، وفى مذهب الشافعى قولان، ومن نفى شخصًا عن جنسه بأن قال له: أنت نبطى أو رومى أو لست عربيًا فعليه الحد عند مالك ولا حد عليه عند أبى حنيفة، وفى مذهب الشافعى وأحمد قولان: أحدهما: عليه الحد لأنه أراد نفى نسبه لأن الله تعالى علق الحد على الرمى بالزنا، والثانى: لا حد عليه لأنه يحتمل غير القذف احتمالاً كثيرًا (6) ، أما إذا كان المنفى جنسه غير عربى فلا حد عليه.
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 194، 200.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 300، 301.
(3) المغنى ج10 ص 215، المهذب ج2 ص 291، شرح فتح القدير ج4 ص 193، مواهب الجليل ج6 ص 298.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص 194.
(5) شرح فتح القدير ج4 ص 199، الغنى ج10 ص215..
(6) شرح الزرقانى ج8 ص88، 89 المهذب ج2 ص291، المغنى ج10 ص 215.
(2/472)

وإذا قذف الملاعنة أجنبى فعليه الحد عند مالك والشافعى وأحمد (1) ، ويفرق أبو حنيفة بين من لاعنت بولد ومن لاعنت بغير ولد، فمن قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد، أما من قذف ملاعنة بولد فلا حد عليه سواء كان الولد حيًا أو ميتًا وقت القذف (2) .
ومن قذف شخصًا بالزنا فحد لقذفه ثم قذفه ثانية بذلك الزنا فلا يحد بالقذف الثانى وإنما عليه التعزير عند الشافعى وأحمد؛ لأن نفى العار عن المقذوف وتكذيب القاذف قد تم بالحد الأول، ولأن أبا بكر شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضى الله عنه، ثم أعاد القذف فأراد أن يجلده ثانية فقال له علىٌّ: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك، فترك عمر رضى الله عنه جلده. ومعنى عبارة علىٍّ أنك إن أردت أن تجلده ثانية فقد جعلت شهادته شهادتين وإذا كانت شهادته شهادتين فقد كمل عدد شهود الزنا على المغيرة فوجب عليه الرجم لأن أبا بكر ومن معه حدوا لنقص عدد الشهود واحدًا (3) ، اما مالك فيرى أن يحد مرة ثانية إذا كرر قذفه بعد تنفيذ الحد الأول (4) .
الركن الثانى: إحصان المقذوف:
563 - يشترط فى المقذوف أن يكون محصنًا رجلًا كان أو امرأة: والأصل فى شرط الإحصان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصنَاَتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِناَتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْياَ واَلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] والمقصود
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص87، المغنى ج10 ص225، المهذب ج2 ص 293.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 203.
(3) المغنى ج10 ص 234، المهذب ج2 ص 293.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص88.
(2/473)

بالإحصان فى الآية الأولى العفة عن الزنا على رأى (1) ، والحرية على رأى (2) ومعنى الإحصان فى الآية الثانية: الحرية، فالمحصنات معناها الحرائر والغافلات معناها العفائف والمؤمنات معناه المسلمات، وقد استدل الفقهاء من النصين على أن الإيمان - أى الإسلام - والحرية والعفة عن الزنا شروط فى الإحصان.
وقد ورد لفظ المحصنات فى القرآن بمعانٍ متعددة، فوردت بمعنى العفائف على حسب ما بينا، وجاءت بمعنى المتزوجات فى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْماَنُكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {مُحْصَنَاتُ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] وجاءت بمعنى الحرائر فى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطْعِ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنِكحَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتاَبَ مِنَ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وقوله {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وجاءت بمعنى الإسلام فى قوله تعالى: {فَإذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] .
ويعتبر الشخص محصنًا إذا كان بالغًا عاقلا حرًا مسلمًا عفيفًا عن الزنا، والبلوغ والعقل شرطان عامان يجب توفرهما فى الجانى فى كل جريمة ولا يجب توفرهما أصلًا فى المجنى عليه، ولكن الفقهاء يشترطون البلوغ والعقل أيضًا فى المقذوف وهو المجنى عليه لإعتباره محصنًا يعاقب على قذفه بالحد، وعلة اشتراط البلوغ والعقل فى المقذوف أنه يرمى بالزنا وهو جريمة لا تقع إلا من بالغ عاقل ولأن زنا الصبى والمجنون لا يجب فيه الحد ولكن الفقهاء مع هذا يختلفون فى شرط البلوغ، فيرى أحمد فى رواية أن البلوغ شرط فى الإحصان لأنه أحد شرطى التكليف فأشبه العقل ولأن زنا الصبى لا يوجب حدًا فلا يجب الحد بالقذف به، ويرى أحمد فى رواية أخرى أن البلوغ ليس شرطًا فى الإحصان مادام المقذوف الواقعة التى قذف فيها فيستطيع الوطء إن كان ذكرًا ويطيق الوطء إن كان أنثى، فعلى هذه الرواية يجب أن يكون المقذوف كبيرًا يجامع مثله ولو لم يكن
_________
(1) المغنى ج10 ص 201.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 401.
(2/474)

بالغًا، ويحددون السن الأدنى للغلام بعشر سنوات وللجارية بتسع (1) .
ولا يشترط مالك البلوغ فى الأنثى ولكنه يشترطه فى الغلام، ويعتبر الصبية محصنة إذا كانت تطيق الوطء أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ فعلا (2) ؛ لأن الحد جعل لنفى العار ومثل هذه الصبية يلحقها العار. أما أبو حنيفة والشافعى فيشترطان البلوغ من المقذوف ذكرًا كان أم أنثى (3) .
ومن المتفق عليه أن يكون المقذوف مسلمًا رجلا كان أو امرأة، ولكنهم اختلفوا فى حالة نفى النسب إذا كانت أم المنفى نسبة رقيقًا أو غير مسلمة؛ لأن نفى النسب عن ولدها المسلم ليس إلا رميًا لها بالزنا، فاشترط أبو حنيفة فى حالة نفى النسب أن تكون الأم مسلمة وأن تكون حرة فإن لم تكن كذلك فلا حد على القاذف (4) .
وفى مذهب مالك لا يشترط فى أم المنفى نسبة أن تكون مسلمة أو حرة ويجب عندهم الحد على القاذف ولو كانت أم النفى نسبه كافرة أو أمة (5) وهو رأى ابن القاسم، أما مالك فقد توقف فى هذه المسألة، ورأى الشافعى وأحمد يتفق مع ما قال به ابن القاسم فى مذهب مالك (6) .
ومعنى العفة عن الزنا عند أبى حنيفة أن لا يكون المقذوف وطئ فى عمره وطئًا حرامًا فى غير ملك ولا نكاح فاسد فسادًا مجمعًا عليه، فإن كان قد فعل شيئًا من هذا سقطت عفته سواء كان الوطء زنًا موجبًا للحد أم لا. وإن كان وطئ وطئًا حرامًا ولكنه فى ملك أوفى نكاح صحيح أو فى نكاح فاسد فسادًا غير مجمع عليه فلا تسقط عفته، فإذا وطئ مثلًا امرأة زفت إليه غير امرأته سقطت عفته للوطء الحرام فى غير ملك ولا نكاح ولكنه لا يحد
_________
(1) المغنى ج10 ص 202.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 298، 300.
(3) المهذب ج2 ص 289، شرح فتح القدير ج4 ص 192.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص 193.
(5) مواهب الجليل ج6 ص300.
(6) المغنى ج10 ص 215.
(2/475)

على الزنا لقيام دليل ظاهر استباح به الفعل، أما إذا وطئ زوجته النفساء أو الحائض أو الصائمة أو المحرمة أو التى ظاهر منها لم تسقط عفته لقيام النكاح حقيقة ولو أن الوطء فى ذاته محرم (1) .
والعفة عند مالك هى سلامة المقذوف من فعل الزنا قبل قذفه وبعده ومن ثبوت حده عليه لأن ثبوت الحد يستلزم فعل الزنا (2) .
وعلى هذا يشترط فى المقذوف لاعتباره عفيفًا أن لا يكون قد وطئ وطئًا يوجب حد الزنا وأن لا يكون قد ثبت عليه حد الزنا، فإن كان قد فعل شيئًا من هذا أو ثبت عليه حد الزنا فهو غير عفيف. وإن كان قد وطئ وطئًا محرمًا لا حد فيه فهو عفيف.
ومعنى العفة عند الشافعى هى سلامة المقذوف قبل القذف وبعده عن فعل ما يوجب حد الزنا عليه فإن أتى ما يوجب حد الزنا فهو غير عفيف. أما إن وطئ فى غير ملك وطئًا محرمًا لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ فى نكاح مختلف فى صحته ففيه وجهان: أحدهما: أنه وطء محرم لم يصادف ملكًا فيسقط العفة والإحصان كالزنا، وثانيهما: أنه وطء لا يجب به الحد فلا يسقط العفة والإحصان كما لو وطئ زوجته وهى حائض (3) .
ولا يشترط أحمد العفة المطلقة كما يشترطها أبو حنيفة، ولا العفة الفعلية عن الزنا كما يشترطها مالك والشافعى، وإنما يكتفى بالعفة الظاهرة عن الزنا فمن لم يثبت عليه الزنا ببينة أو إقرار ومن لم يحد للزنا فهو عفيف وإن كان تائبًا من زنًا أو ملاعنة (4) .
ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن يكون الإحصان متوفرًا قبل القذف وبعده حتى تنفذ العقوبة، فمن قذف محصنًا فلا حد عليه إذا ارتكب المحصن قبل تنفيذ الحكم ما يجعله مثلًا غير عفيف وإنما على القاذف التعزير. ولكن أحمد
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص42.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 300.
(3) المهذب ج2 ص 290.
(4) الإقناع ج4 ص260.
(2/476)

يرى عليه الحد لأن الإحصان لا يشترط إلا وقت القذف ولا يشترط بعده (1) .
وحجة الأئمة الثلاثة أن شروط الإحصان تعتبر إلى حالة إقامة الحد بدليل أنه لو أرتد أو جن لم يقم عليه الحد ولأن وجود الزنا منه يقوى قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه.
أما أحمد فيرى أن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شروط الوجوب وأن القول باستدامة الشروط قول غير صحيح لأن هذه الشروط للوجوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب فقط. أما إذا جن من وجب له الحد فإن الحد لا يسقط وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة فأشبه ما لو غاب من له الحد، وإن ارتد من له الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه وأمواله تزول أو تكون موقوفة (2) .
وإذا تخلف شرط من شروط الإحصان فى المقذوف فلا حد على القاذف وإنما عليه التعزير إذا عجز عن إثبات القذف، فمن قذف مجنونًا أو كافرًا أو رفيقًا فعليه التعزير.
* * *
الركن الثالث
القصد الجنائى

564 - يعتبر القصد الجنائى متوفرًا كلما رمى القاذف المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه وهو يعلم أن ما رماه به غير صحيح. ويعتبر عالمًا بعدم صحة ما رماه به ما دام قد عجز عن إثبات صحته، ويعتبر العجز عن صحة القذف قرينة لا تقبل الدليل على علمه بعدم صحة القذف، فليس له أن يدعى أنه بنى اعتقاده على صحة القذف على أسباب مقبولة لأنه كان يجب عليه قبل أن يقذف المجنى عليه أن يكون الدليل المثبت للقذف حاضرًا فى يده، وهذا هو ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء: "ايت
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص 300، المغنى ج10 ص 219، شرح فتح القدير ج4 ص 204 وما بعدها.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 199، بدائع الصنائع ج7 ص 292.
(2/477)

بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد فى ظهرك" مع أن هلال شهد واقعة الزنا بنفسه ولم يخلصه من الحد إلا نزول حكم اللعان، وهذا هو ما يدل عليه نص القرآن الصريح فى قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعةِ شُهدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُلْئِكَ عِندَ الله هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
ولعل هذا هو الذى جعل جمهور الفقهاء يقولون بحد شهود الزنا باعتبارهم قذفة إذا كانوا أقل من أربعة، وإذا كان البعض لا يرى حدهم فإنه لا يرى حدهم إذا جاءوا مجئ الشهود أى إذا تقدموا للشهادة حسبة لله دون دافع شخصى، فأما إن جاءوا مجئ القذفة فلا خلاف فى حدهم.
ولا يشترط بعدما تقدم أن يقصد القاذف الإضرار بالمجنى عليه، ولا عبرة بالبواعث التى حملته على القذف.
هل تشترط العلانية فى القذف؟
565 - لا تشترط الشريعة الإسلامية العلانية فى القذف كما تشترطها القوانين الوضعية، ومن ثم تعاقب الشريعة القاذف سواء قذف المجنى عليه فى محل عام أو محل خاص على مشهد من الناس أو فيما بينهما فقط.
وأساس عدم اهتمام الشريعة بالعلانية أنها تزن كرامة الإنسان بميزان واحد وترى أن قيمة الإنسان لا تتغير بتغير الظروف، فقيمته أمام نفسه تساوى قيمته أمام الناس، وحرصه على كرامته فى السر يجب أن لا يقل عن حرصه على كرامته فى العلانية، والشريعة توجب على المرء أن يكون سره كعلنه وتعيب أناسًا بأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، وقاعدتها الأساسية تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق، وتدعو الناس أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه ولهذا فهى لا تميز بين جريمة ارتكبت فى السر وأخرى فى العلانية لأن الجريمة فى الشريعة محرمة لذاتها لا لظروفها، فمن ارتكب جريمة فى السر لم يشهدها أحد عوقب عليها كما لو ارتكبها علانية على ملأ من الناس.
(2/478)

أما القوانين الوضعية فلها شأن آخر إذ تميز بين أفعال القذف التى ارتكبت علنًا وأفعال القذف التى ارتكبت فى غير علانية، وتعاقب على الأولى دون الثانية، فهى تعاقب إذا عاقبت لأن القذف فى الغالب سمعه فريق من الناس، ولا تعاقب فى غير العلانية لأن القذف لم يصل إلى أسماع الكثيرين من الناس.
وهكذا تزن القوانين كرامة الإنسان بميزانين وتجعل له قيمتين، فتحافظ على كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت قيمته أمام الناس، وتهدر كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت دون أن يشتهر ذلك بين الناس.
وهكذا تفرض القوانين الوضعية على الناس حياة الرياء والنفاق وتصرفهم عن الجوهر وتغريهم وتجعل منهم أشخاصًا لا كرامة لهم ولا عزة فيهم، وتعلمهم أن يستحلوا لأنفسهم ما يشاءون فى الخفاء وأن يتظاهروا بالبراءة والطهارة، وأن لا يغضبوا لكرامتهم ولا يثوروا إذا مست فى الخفاء وأن يتظاهروا بالغضب إذا مست فى علانية.
والمبدأ الذى أخذت به القوانين الوضعية فى العلانية متمم لمبدأ عدم جواز إثبات القذف، وكلاهما أساسه فرض حياة الرياء والنفاق على الناس لأن معنى عدم جواز الإثبات هو أن يعاقب الصادق والكاذب على السواء وأن لا يستطيع إنسان أن يقول الحق ويصف الناس والأشياء وصف حق إلا إذا عرض نفسه للعقاب، فإذا لم يرد أن يكون عرضة للعقاب وجب عليه أن يعيش كاذبًا لا يقول الحق ولا يعرف الصراحة.
ومبدأ الشريعة فى عدم اشتراط العلانية متمم لمبدأ جواز إثبات القذف، كلاهما أساسه فرض الحياة الفاضلة على الجمهور وأخذه بالاستقامة والاعتزاز بالكرامة، وشتان بين توجيه الشريعة وتوجيه القانون، فالشريعة تعاقب على الجريمة لذاتها لا لظروفها، بينما القانون يعاقب على ظروف الجريمة ولا يهتم بذات الجريمة. والشريعة لا تحمى الفاسقين المفسدين من ألسنة الصادقين المصلحين بينما تحمى البرآء الغافلين من ألسنة الكاذبين المدعين. أما القانون فيتكفل بحماية
(2/479)

الفاسقين المفسدين ولو تبين فسقهم، ويعاقب الصادقين المصلحين ولو ثبت صدقهم وصلاحهم، ثم هو بعد ذلك لا يسمح للبرآء الغافلين أن يبرئوا أنفسهم مما ادعاه عليهم الكاذبون، لأن عقاب القاذف دون أن يسمح له بإثبات قذفه يؤدى إلى منع المقذوف من إثبات براءته فيعاقب القاذف لمجرد القذف سواء كان صحيحًا أم كاذبًا، ويبقى المقذوف البرئ وقد لصقت به الفرية لا يستطيع منها فكاكًا ولا خلاصًا.
* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق