السبت، 22 نوفمبر 2014

ختم النبوة : من كتاب الإسلام أصوله ومبادئه - د . محمد بن عبدالله بن صالح السحيم

ختم النبوة
من كتاب
الإسلام أصوله ومبادئه
د . محمد بن عبدالله بن صالح السحيم
تبين لك فيما سبق حقيقة النبوة، وأعلامها وآياتها، ودلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل الحديث عن ختم النبوة فلابد أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يرسل رسولاً إلا لأحد الأسباب التالية :
1 - أن تكون رسالة النبي خاصة بقوم ولم يؤمر هذا الرسول أن يبلغ رسالته إلى الأمم المجاورة فيرسل الله رسولاً آخر برسالة خاصة إلى أمة أخرى.
2 - أن تكون رسالة النبي المتقدم قد اندرست، فيبعث الله نبياً يجدد للناس دينهم.
3 - أن تكون شريعة النبي المتقدم صالحة لزمانها، وغير مناسبة للأزمنة اللاحقة فيبعث الله رسولاً يحمل رسالة وشريعة تناسب الزمان والمكان، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة عامة لأهل الأرض، مناسبة لكل زمان ومكان، وحفظها من أيدي التغيير والتبديل؛ لتبقى رسالته حية يحيا بها الناس، نقية من شوائب التحريف والتبديل، ولأجل ذلك جعلها الله خاتمة الرسالات ([1]).
وإن مما خص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده؛ لأن الله أكمل به الرسالات، وختم به الشرائع، وأتم به البناء، وتحقق بنبوته بشارة المسيح به حيث قال: (أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأساً للزاوية)([2])، وقد اعتبر القس إبرهيم خليل - الذي أسلم فيما بعد - هذا النص موافقاً لقول محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)([3]).
ولأجل ذلك جعل سبحانه الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مهيمناً على الكتب السابقة، وناسخاً لها، كما جعل شريعته ناسخة لكل الشرائع المتقدمة، وتكفل الله بحفظ رسالته؛ فَنُقِلَتْ نقلاً متواتراً، حيث نقل القرآن الكريم نقلاً متواتراً صوتاً ورسماً، كما نُقِلَتْ سنته القولية والفعلية نقلاً متواتراً،
ونقل التطبيق الفعلي لشرائع هذا الدين وعباداته وسننه وأحكامه نقلاً متواتراً.
ومن اطلع على دواوين السيرة والسنة علم أن صحابته رضوان الله عليهم قد حفظوا للبشرية سائر أحواله صلى الله عليه وسلم وجميع أقواله وأفعاله، فنقلوا عبادته لربه وجهاده وذكره له سبحانه واستغفاره، وكرمه وشجاعته، ومعاشرته لأصحابه وللوافدين عليه، كما نقلوا فرحه وحزنه، وظعنه وإقامته، وصفة مأكله ومشربه وملبسه، ويقظته ومنامه.. فإذا استشعرت ذلك؛ أيقنت أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له، وعلمت -حينئذ- أنه خاتم الأنبياء والمرسلين؛ لأن الله سبحانه أخبرنا أن هذا الرسول هو خاتم الأنبياء فقال سبحانه: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}([4])، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ([5]).
وهذا آوان التعريف بالإسلام وبيان حقيقته ومصادره وأركانه ومراتبه.
معنى كلمة الإسلام :
إذا راجعت معاجم اللغة، علمت أن معنى كلمة الإسلام هو "الانقياد  والخضوع والإذعان والاستسلام والامتثال لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض"، وقد سمى الله الدين الحق الإسلام لأنه طاعة لله وانقياد لأمره بلا اعتراض، وإخلاص العبادة له سبحانه وتصديق خبره والإيمان به، وأصبح اسم الإسلام عَلَماً على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
التعريف بالإسلام *[6]:
لماذا سمي الدين بالإسلام؟ إن جميع ما في الأرض من مختلف الديانات، قد سميت بأسمائها، إما نسبة إلى اسم رجل خاص، أو أمة معينة، فالنصرانية أخذت اسمها من "النصارى"، وتسمت البوذية على اسم بانيها: "بوذا"، واشتهرت الزرادشتية بهذا الاسم لأن مؤسسها وحامل لوائها كان "زرادشت"، وكذلك ظهرت اليهودية بين ظهراني قبيلة تعرف "بيهوذا"، فسميت باليهودية، وهلم جرا. إلا الإسلام، فإنه لا ينتسب إلى رجل خاص، ولا إلى أمة بعينها، وإنما يدل اسمه على صفة خاصة يتضمنها معنى كلمة الإسلام، ومما يظهر من هذا الاسم أنه ما عني بإيجاد هذا الدين وتأسيسه رجل من البشر، وليس خاصاً بأمة معينة دون سائر الأمم، وإنما غايته أن يحلي أهل الأرض جميعاً بصفة الإسلام، فكل من اتصف بهذه الصفة، من غابر الناس وحاضرهم فهو مسلم، ويكون مسلماً كل من سيتحلى بها في المستقبل.
حقيقة الإسلام :
من المعلوم أن كل شيء في هذا الكون، منقاد لقاعدة معينة، وسنة ثابتة، فالشمس والقمر والنجوم والأرض مسخرات تحت قاعدة مطردة، لا قبل لها بالحراك عنها والخروج عليها ولو قيد شعرة، حتى إن الإنسان نفسه إذا تدبرت شأنه تبين لك أنه مذعن لسنن الله إذعاناً تاماً، فلا يتنفس ولا يحس حاجته إلى الماء والغذاء والنور والحرارة إلا وفقاً للتقدير الإلهي الله المنظم لحياته، وتنقاد لهذا التقدير جميع أعضائه، فالوظائف التي تؤديها هذه الأعضاء لا تقوم بها إلا بحسب ما قرر الله لها.
فهذا التقدير الشامل، الذي يستسلم له ولا ينفك عن طاعته شيء في هذا الكون، من أكبر كوكب في السماء، إلى أصغر ذرة من الرمل في الأرض، هو من تقدير إله ملك جليل مقتدر. فإذا كان كل شيء في السموات وما بينهما منقاداً لهذا التقدير، فإن العالم كله مطيع لذلك الملك المقتدر الذي وضعه، ومتبع لأمره، ويتبين من هذه الوجهة، أن الإسلام دين الكون أجمع. لأن الإسلام معناه الانقياد والامتثال لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض كما عرفت آنفاً. فالشمس والقمر والأرض مستسلمة، والهواء والماء والنور والظلام والحرارة مستسلمة، والشجر والحجر والأنعام مستسلمة، بل إن الإنسان الذي لا يعرف ربه ويجحد وجوده وينكر آياته، أو يعبد غيره، ويشرك به سواه، هو مستسلم من حيث فطرته التي فطر عليها.
إذا أدركت هذا فتعال ننظر في أمر الإنسان، فستجد أن الإنسان يتنازعه أمران:
الأول : الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان من الاستسلام لله ومحبة التعبد له، والتقرب إليه، ومحبة ما يحبه الله من الحق والخير والصدق، وبغض ما يبغضه الله من الباطل والشر والجور والظلم، وما يتبع ذلك من دواعي الفطرة من محبة المال والأهل والولد، والرغبة في الأكل والشرب والنكاح، وما يتطلبه ذلك من قيام أعضاء الجسم بوظائفها اللازمة لها.
الثاني : مشيئة الإنسان واختياره وقد أرسل الله إليه الرسل وأنزل الكتب ليميز بين الحق والباطل والهدى والضلال والخير والشر، وأمده بالعقل والفهم ليكون على بصيرة في اختياره؛ فإن شاء سلك طريق الخير فقاده إلى الحق والهدى وإن شاء  سلك سبل الشر فقادته إلى الشر والبوار.
فإذا نظرت إلى الإنسان باعتبار الأمر الأول وجدته مجبولاً على الاستسلام، مفطوراً على التزامه ولا محيد له عنه شأنه شأن غيره من المخلوقات.
وإذا نظرت إليه باعتبار الأمر الثاني وجدته مختاراً يختار ما يشاء فإما أن يكون مسلماً وإما يكون كافراً {إما شاكراً وإما كفوراً}([7]).
ولذا تجد الناس على نوعين :
إنسان يعرف خالقه، ويؤمن به رباً ومالكاً وإلها يعبده وحده، ويتبع شريعته في حياته الاختيارية. كما هو مفطور على الاستسلام لربه لا محيد له عنه تابع لتقديره، وهذا هو المسلم الكامل الذي قد استكمل إسلامه، وقد أصبح علمه صحيحاً؛ لأنه عرف الله خالقه وبارئه الذي أرسل إليه الرسل وأولاه قوة العلم والتعلم، وأصبح عقله صحيحاً ورأيه سديداً؛ لأنه أعمل فكره ثم قضى ألا يعبد إلا الله الذي أكرمه  بموهبة الفهم والرأي في الأمور، وأصبح لسانه صحيحاً ناطقاً بالحق لأنه لا يقر الآن إلا برب واحد هو الله تعالى الذي أنعم عليه بقوة النطق والكلام.. فكأن حياته ما بقي فيها الآن إلا الصدق؛ لأنه منقاد لشرع الله فيما له الخيرة فيه من أمره، وامتدت بينه وبين سائر المخلوقات في الكون آصرة التعارف والتآنس، لأنه لا يعبد إلا الله الحكيم العليم، الذي تعبده وتذعن لأمره وتنقاد لتقديره المخلوقات كلها وقد سخرها من أجلك أيها الأنسان.
حقيقة الكفر :
وبإزائه إنسان آخر، ولد مستسلماً وعاش مستسلماً طول حياته، من غير أن يشعر باستسلامه أو يفطن له، ولم يعرف ربه، ولم يؤمن بشرعه، ولم يتبع رسله، ولم يستخدم ما منحه الله من العلم والعقل ليعرف من خلقه، وشق سمعه وبصره. فأنكر وجوده، واستكبر عن عبادته، وأبى أن ينقاد لشرع الله فيما أوتي فيه حق التصرف والاختيار من أمور حياته أو أشرك به غيره، وأبى أن يؤمن بآياته الدالة على وحدانيته، وهذا هو الكافر. ذلك بأن معنى الكفر هو الستر والتغطية والمواراة، يقال: كفر درعه بثوبه إذا غطاها به ولبسه فوقها، فيقال لمثل هذا الرجل "كافر" لأنه ستر  فطرته وغطاها بغطاء من الجهل والسفاهة. وقد علمت أنه ما ولد إلا على فطرة الإسلام، ولا تعمل أعضاء جسده إلا طبقاً لفطرة الإسلام. ولا تسير الدنيا حوله بأسرها إلا على سنن الاستسلام، ولكنه غطى بحجاب مستور من الجهل والسفاهة، وتوارت عن بصيرته فطرة الدنيا وفطرة نفسه، فتراه لا يستخدم قواه الفكرية والعلمية إلا فيما يخالف فطرته، ولا يرى إلا ما يناقضها، ولا يسعى إلا فيما يبطلها.
ولك أن تقدر الآن بنفسك ما  ارتكس فيه الكافر من الضلال البعيد والغي المبين([8]).
وهذا الإسلام الذي يطلب منك أن تمتثله ليس بالأمر العسير، بل هو يسير على من يسره الله عليه، فالإسلام هو ما سار عليه هذا الكون كله: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً}([9])، وهو دين الله كما قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}([10])، وهو إسلام الوجه لله كما قال جل ثناؤه: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن}([11])، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام فقال: (أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك لله، وتؤتي الزكاة المفروضة)([12])، (وسأل رجل الرسول صلىالله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)([13]). وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) ([14])، وقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ([15]).
وهذا الدين وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال الله تعالى عن نوح: {واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت إلى قوله: وأمرت أن أكون من المسلمين}([16])، وقال جل ثناؤه عن إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}([17])، وقال عز شأنه عن موسى: {وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}([18])، وقال في خبر المسيح: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون}([19]).
وهذا الدين - الإسلام - يستمد تشريعاته وعقائده وأحكامه من الوحي الإلهي -القرآن، والسنة- وسأذكر لك نبذة مختصرة عنهما.




([1]) انظر لما سبق العقيدة الطحاوية، ص 156، ولوامع الأنوار البهية، جـ2، ص 269،277، ومبادئ الإسلام، ص 64.
([2]) إنجيل متى 21 : 42.
([3]) انظر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن، تأليف المهتدي إبراهيم خليل أحمد ص 73. والحديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب 18 واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل حديث 2286 من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وهو في المسند، ج2، ص 256،312.
([4]) سورة الأحزاب ، الآية 40.
([5]) رواه الإمام أحمد في مسنده، ج 2 ، ص 411،412، ورواه مسلم في كتاب المساجد واللفظ له حديث 523.
*     لمزيد من التوسع ينظر كتاب "مبادئ الإسلام" تأليف الشيخ حمود بن محمد اللاحم. وكتاب "دليل مختصر لفهم الإسلام" تأليف إبراهيم حرب.
([7]) سورة الإنسان، الآية 3.
([8]) مبادئ الإسلام ص 3،4.
([9]) سورة آل عمران، الآية 83.
([10]) سورة آل عمران، الآية 19.
([11]) سورة آل عمران، الآية 20.
([12]) رواه الإمام أحمد جـ5، ص3، وابن حبان، جـ1، ص377.
([13]) رواه الإمام أحمد في مسنده، جـ4، ص114، وقال الهيثمي في المجمع جـ1، ص59، رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، ورجاله ثقات. انظر رسالة فضل الإسلام للإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ص 8. 
([14]) رواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث8.
([15]) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، واللفظ له، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، حديث39.
([16]) سورة يونس، الآيتان 71،72.
([17]) سورة البقرة ، الآية 131.
([18]) سورة يونس، الآيتان 84.
([19]) التدمرية، ص 109-110، والآية 111 من سورة المائدة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق