الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

الباب الثاني - في الحدود – الكتاب الثالث : الشرب – المبحث الثاني : الأدلة على الشرب – من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة
الكتاب الثالث
الشرب




المبحث الثاني
الأدلة على الشرب

588- أولاً: شهادة الشهود: يثبت الشرب والسكر بشهادة الشهود ويشترط أن لا يقل عدد الشهود على رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة التى سبق ذكرها بمناسبة الكلام عن الزنا.
ويشترط أبو حنيفة وأبو يوسف أن تكون الرائحة قائمة وقت الشهادة أى رائحة الخمر أو السكر, فالشهادة عندهما مقيدة بوجود الرائحة ولا يشترط أن توجد الرائحة فعلاً وقت التحقيق ويكقى أن يشهد بها الشاهدان, فيجوز أن يشهد الشاهدان بالشرب أو السكر فيشم المحقق رائحة الخمر أو المسكر, ويجوز أن يشهد الشهود على الشرب أو على السكر وعلى وجود الرائحة وقت أخذ الجاني, أما محمد فلا يشترط وجود الرائحة مع الشهادة بالشرب أو السكر, وحجة أبى
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص186.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص209.
(3) الإقناع ج4 ص248، أسنى المطالب ج4 ص157.
(4) المدونة ج16 ص48.
(2/509)

حنيفة وأبى يوسف أن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة وأن ابن مسعود كان يشترط الرائحة ولا إجماع إلا برأيه (1) .
ويشترط أبو حنيفة وأصحابه لقبول الشهادة عدم التقادم أى مضى زمن على وقوع الجريمة, وقد تكلمنا عن التقادم على الكلام على الزنا, ولكن أبا حنيفة وأبا يوسف يجعلان مدة التقادم فى الشرب والسكر مقدرة بزوال الرائحة، فإذا سكت الشهود عن الحادث حتى زالت الرائحة فقد تقادمت الشهادة وامتنع قبولها.
ولكن محمداً يقدر مدة التقادم بشهر (2) . "على أنه من المسلم به لدى الجميع أنه لا تقادم إذا أخذ الشهود الجانى وريحها توجد فيه أو سكران من غيرها وريح ذلك الشراب يوجد منه وذهبوا به إلى الإمام فى مكان بعيد فانقطع الريح قبل أن ينتهوا به؛ لأن التأخير ليس أساسه سكوت الشهود على الجريمة وإنما يرجع لبعد المسافة فلا تهمة فى هذا التأخير. ومما يؤثر فى ذلك أن قوماً شهدوا عند عثمان على عقبة بشرب الخمر وكان بالكوفة فحمل إلى المدينة فأقام عليه الحد, ولا شك أن الرائحة قد زالت عندما وصل الشهود إلى المدينة ولكن التقادم لم يعتبر لأن التأخير كان بعذر وهو بعد المسافة عن الإمام" (3) .
ولا يسلم بقية الأئمة بنظرية أبى حنيفة فى عدم قبول الشهادة بالتقادم, وإن كان هناك رأى لأحمد يتفق مع رأى أبا حنيفة ولكنه غير معمول به فى المذهب, وقد سبق أن بينا ذلك عند الكلام عن الزنا.
589- ثانياً: الإقرار: تثبت الجريمة بإقرار الجاني, ويكفى فى الإقرار مرة واحدة فى المذاهب الأربعة, وإن كان أبو يوسف يرى أن كل إقرار يسقط بالرجوع بعدد الإقرار فيه كعدد الشهود (4) . ويسرى على
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص178 وما بعدها.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص164, 165.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص181.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص50.
(2/510)

الإقرار هنا ما يسرى على الإقرار فى الزنا. وإذا أقر الجانى وهو سكران فحكم إقراره [يراجع ما كتب فى القتل عن إقرار السكران] .
ويشترط أبو حنيفة وأبو يوسف أن لا يكون الإقرار قد تقادم, فإذا كان قد تقادم لم يقبل من المقر, وحد التقادم عندهما هو ذهاب الرائحة, فمن أقر بشرب الخمر أو السكر بعد ذهاب الرائحة لم يقبل إقراره, ولكن محمداً لا يرى بطلان الإقرار بالتقادم لأن عدم القبول للتقادم سببه التهمة والإنسان لا يتهم على نفسه فإذا أقر أخذ بإقراره مهما مضى على الحادث (1) .
590- الرائحة: يرى مالك أن الرائحة وحدها تعتبر دليلاً على الشبر ولو لم يشهد أحد برؤية الجانى وهو يشرب, فإن شهد شخصان بقيام الرائحة فى فم الشارب أو شهد أحدهما برؤيته يشرب وشهد الثانى بأنه شم من فيه رائحة الخمر فعلى الجانى الحد, وهذا الرأى رواية عن أحمد.
ولكن أبا حنيفة والشافعى ورأيهما الرواية الراجحة لأحمد يريان أن الرائحة لا تعتبر وحدها دليلاً على الشرب, ويرى أبو حنيفة كما قدمنا أن الرائحة يجب أن يثبت وجودها مع الشهادة بالشرب, وهو يخالف فى هذا الشافعى وأحمد, والقائلون بالحد بالرائحة يحتجون بأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد فيه رائحة الخمر, وبما روى عن عمر أنه قال: إنى وجد من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا, فقال عمر: إنى سائل عنه فإن كان مسكراً جلدته, ويحتجون بأن الرائحة تدل على الشرب فجرى مجرى الإقرار. أما الذين لا يقبلون الرائحة دليلاً فيرون أن الرائحة يجوز أن تكون من غير الشرب فيحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت فى فيه مجها, أو أكل نبتاً أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر, وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات (2) .
591- السكر: يعتبر أبو حنيفة وجود الشخص فى حالة سكر دليلاً
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص180, 181.
(2) المغنى ج10 ص332, شرح الزرقانى ج8 ص113, نهاية المحتاج ج8 ص14, شرح قتح القدير ج4 ص184.
(2/511)

على أنه سكر من غير الخمر, فإذا شهد اثنان على شخص بأنهما وجداه فى حالة سكر ووجدت فيه رائحة المسكر عند هذا الشخص أو شهد الشاهدان بأنهما اشتما رائحة المسكر وجب عليه حد السكر (1) . ولا يرى الشافعى فى السكر دليلاً على الشرب لاحتمال أنه احتقن أو استعط أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه (2) , ورأى الشافعى رواية فى مذهب أحمد (3) .
وإذا كان مالك يرى الحد لمجرد الرائحة كما يراه أحمد فى أحد رأييه فإن الحد يجب عندهما لوجود الشخص فى حالة سكر من باب أولى؛ لأن السكر لا يكون إلا بعد الشرب (4) .
592- القىء: لا يعتبر القىء وحده دليلاً عند أبى حنيفة لكن إذا ثبت من القىء وجود رائحة الخمر وكان الجانى أخذ فى حالة سكر أو شهد عليه شاهدان بالشرب فإن الجريمة تثبت عليه؛ لأن أبا حنيفة كما ذكرنا يشترط مع الشرب ومع السكر الرائحة (5) .
أما الشافعى فلا يرى القىء دليلاً على الشرب لما سبق ذكره, وهذا رأى لأحمد.
أما مالك وهو يوجب الحد بالرائحة كما يوجبه أحمد فى أحد رأييه فيجب أن يكون القىء عندهما دليلاً يثبت به الحد من باب أولى لأنه لا يتقيأ إلا بعد الشرب.
ومن يثبت الحد بالقىء فإنه يحتج بما حدث فى محاكمة قدامة والوليد بن عقبة فقد شهد علقمة الخفى على قدامة فقال: أشهد أنى رأيته يتقيؤها فقال عمر: من قاءها فقد شربها وضربه الحد.
أما ما حدث فى محاكمة الوليد بن عقبة فقد شهد عليه رجلان فشهد أحدهما أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها, فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها, وكان ذلك كله بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد فكان إجماعاً (6) , أما من
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص178 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج ج8 ص14.
(3) المغنى ج10 ص332.
(4) المغنى ج10 ص332.
(5) شرح فتح القدير ج4 ص178, 184.
(6) المغنى ج10 ص332.
(2/512)

لا يرى القىء دليلاً على الشرب فيرى أن هذا من عمر وعثمان اجتهاد وليس فيه إجماع (1) .
593- هل يقضى القاضى بعلمه؟: وليس للقاضى أن يقضى بعلمه فى الشرب والسكر ولو عاين الحادث بنفسه أو أقر له به الجانى ما دام ذلك فى غير مجلس القضاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق