الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

الباب الثاني – في الحدود – الكتاب الثاني : القذف – المبحث الثاني : دعوى القذف - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود
الكتاب الثانى
القذف

كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة 


المبحث الثانى
دعوى القذف

566 - يشترط فى إقامة دعوى القذف مخاصمة المقذوف، أى أن يتقدم المقذوف بشكواه، فإذا قدمت الشكوى من غيره لم يجزأن تقام الدعوى على أساس شكوى الغير؛ كذلك لو تقدم الشهود بشهادتهم حسبة لله لم تقبل منهم الشهادة لأن الشهادة لا تقبل قبل قيام الدعوى، والدعوى لا تقوم إلا بشكوى المقذوف.
ومن المسلم به بين الفقهاء أن القذف حد من حدود الله، والقاعدة العامة فى الشريعة أن خصومة المجنى عليه ليست شرطًا فى إقامة دعوى متعلقة بحد من الحدود، ولكنهم يستثنون من هذه القاعدة العامة حد القذف ويوجبون فى إقامة دعوى القذف خصومة المجنى عليه ناظرين إلى أن الجريمة وإن كانت حدًا إلا أنها تمس المقذوف مساسًا شديدًا وتتصل بسمعته وعرضه اتصالًا وثيقًا، ولأن للقاذف حق إثبات قذفه فلو أثبته أصبح المقذوف مسئولًا عن جريمة الزنا كلما رمى بهذه الجريمة ووجبت عليه عقوبتها، ولهذه النتائج الخطيرة كان من الحكمة أن يعلق رفع دعوى القذف على شكوى المقذوف.
567 - من يملك الخصومة؟ يملك المقذوف وحده حق الخصومة فى دعوى القذف إن كان حيًا، فلا تقبل الخصومة من غيره مهما كانت صلته بالمقذوف ولو كان فى القذف مساس به، اللهم إلا إذا كان القذف يعتبر قذفًا
(2/480)

مباشرًا له، فإذا قذف شخص بأنه زنا بامرأة معينة اعتبر الرجل والمرأة مقذوفين وكان لكل منهما حق الخصومة فى دعوى القذف، ولكن ليس لغيرهما أن يحرك الدعوى فليس لزوج المرأة أو ولدها أو أحد أبويها أن يحرك دعوى القذف ولو أن القذف يمسه لأن القذف لم يمسه إلا عن طريق الرأة المقذوفة وهى صاحبة الحق فى الخصومة، وليس لأبناء الرجل أو أبويه أو زوجته حق الخصومة فى دعوى القذف لنفس السبب.
وإذا حرك المقذوف دعوى القذف ثم مات قبل الفصل فى الدعوى سقطت الدعوى بموته فى رأى أبى حنيفة؛ لأن حق الخصومة فى دعوى القذف حق مجرد ليس مالا ولا بمنزلته فلا يورث (1) .
ولكن مالكًا والشافعى وأحمد يرون أن حق الخصومة يورث فيحل الورثة فى الدعوى محل المقذوف، فإذا لم يكن للمقذوف وارث سقطت الدعوى.
وفى مذهب مالك يرون فى حالة موت المقذوف دون وارث أن للمقذوف أن يوصى بشخص بأن يقوم مقامه فى الدعوى، فإذا أوصى على هذا الوجه حل الوصى محله فى الدعوى ولم تسقط الدعوى بموت المقذوف (2) .
وإذا مات المقذوف بعد القذف وقبل الشكوى سقط حق المخاصمة ولم يكن لورثة المقذوف أو عصابته أن يخاصموا القاذف إلا إذا كان المقذوف قد مات وهو لا يعلم بالقذف (3) ؛ لأن سكوته عن الشكوى يعنى أنه لا يريدها أو أنه عفا عن القاذف.
وإذا كان المقذوف ميتًا فجمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة يبيحون رفع الدعوى على القاذف بناء على شكوى ممن يملك حق المخاصمة فإذا لم يكن هناك من يملك هذا الحق امتنع رفع الدعوى إلا عند الشافعى كما قدمنا. ولكنهم اختلفوا فيمن يملك حق المخاصمة فى هذه الحالة، فرأى مالك أن أصول المقذوف وفروعه
_________
(1) المدونة ج16 ص 20.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 305.
(3) المدونة ج16 ص 20، مواهب الجليل ج 6 ص 305.
(2/481)

الذكور يملكون حق المخاصمة وأن أجداد المقذوف لأمه يملكون هذا الحق، فإن لم يكن أحد من هؤلاء كان حق المخاصمة للعصبة وللبنات والأخوات والجدات (1) .
ويرى أبو حنيفة أن الخصومة يملكها ولد المقذوف الميت ذكرًا كان أم أنثى وابن ابنه وبنت ابنه وإن سفلوا، ووالده وإن علا. ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف أن أولاد البنات يملكون الخصومة أيضًا ولا يرى محمد ذلك (2) .
ويرى الشافعى أن حق الخصومة يملكه كل وارث، وفى مذهب الشافعى رأى أن الخصومة لجميع الورثة إلا من يرث بالزوجية، ورأى آخر أن الخصومة للعصبات دون غيرهم (3) .
ويعلل الفقهاء إعطاء الورثة حق المخاصمة فى قذف الميت بأن معنى القذف هو إلحاق العار بالمقذوف والميت ليس محلا لإلحاق العار به فلم يكن معنى القذف راجعًا إليه بل إلى أهله الأحياء الذين يلحقهم العار بقذف الميت، ولما كان أهل الميت يتصلون به بصلة الجزئية وكان قذف الإنسان قذفًا لأجزائه فكأن القذف واقعٌ على أهل الميت من حيث المعنى، ولذلك تثبت لهم حق الخصومة لدفع العار عن أنفسهم. أما إذا كان المقذوف حيًا وقت القذف فقد أضيف إليه القذف وقت أن كان محلًا قابلًا للقذف صورة ومعنى فلحق العار به وانعقد القذف موجبًا حق الخصومة له خاصة (4) .
ويرجع اختلاف الفقهاء على من يملك حق المخاصمة إلى الاختلاف فى تقدير من يلحقهم عار القذف، فالبعض رأى أنه يلحق كل الورثة، والبعض رأى أنه يلحق الورثة إلا من يرث بالزوجية، والبعض رأى أنه لا يلحق إلا العصبات، والبعض رأى أنه لا يلحق إلا من يعتبر القذف نفيًا لنسبه.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 55، شرح فتح القدير ج4 ص 194.
(2) المهذب ج 2 ص 292.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص 55، الشرح الكبير ج 10 ص 230.
(4) مواهب الجليل ج 6 ص 305، المهذب ج2 ص 292، شرح فتح القدير ج 4 ص 195، المغنى ج10 ص 209.
(2/482)

ولكن الفقهاء مع هذا متفقون على أن من له حق المخاصمة يستطيع أن يخاصم دون توقف على غيره ممن له نفس الحق ولو كان هذا الغير أقرب درجة للميت؛ أى أن الأبعد درجة من الميت يستطيع أن يخاصم ولو لم يخاصم الأقرب (1) .
وإذا كان الفقهاء يعللون المخاصمة بأنها لدفع العار عن المخاصم من أصول الميت أو فروعه أو ورثته أو عصباته وكان للأبعد أن يخاصم مع وجود الأقرب فمعنى ذلك أن الدعوى قصد منها حماية الأحياء لا حماية الميت ودفع العار عنهم لا عنه خصوصًا وأن القذف يتعدى دائمًا المقذوف إلى غيره؛ إذ القذف فى الشريعة معناه رمى المقذوف بالزنا أو نفى النسب عنه فالمقذوف إذا رمى بالزنا تعداه القذف إلى غيره. ومن رمى امرأة بالزنا تعداها القذف على أقل تقدير إلى أولادها، والمقذوف إذا قذف بما ينفى نسبه تعداه القذف إلى أصوله وفروعه وورثته.
568 - بين الشريعة والقانون: الرأى السائد فى القوانين الوضعية اليوم أن القوانين توضع لحماية الأحياء دون الأموات، ومن ثم فقذف الميت لا عقاب عليه إلا إذا تعدى أثر القذف إلى الأحياء من ورثة المقذوف أو ذوى قرباه فلا مانع إذن من المحاكمة والعقاب. وبعض القوانين لا يعلق رفع الدعوى على شكوى المقذوف أو ورثته كما هو الحال فى القانون المصرى، ولكن بعض القوانين يشترط لرفع الدعوى شكوى المقذوف كما هو الحال فى القانون الفرنسى، فإذا مات المجنى عليه سقط بموته حق الشكوى، إلا إذا قصد من القذف المساس بكرامة أسرة المقذوف وذويه الأحياء فيحق لهم حينئذ أن يرفعوا الشكوى باسمهم. واتجاه القوانين الوضعية فى قذف الأموات لا يكاد يختلف عن اتجاه الشريعة. فدعوى القذف فى الشريعة تمس دائمًا أسرة المقذوف وأهله، فإذا
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 198.
(2/483)

أجازت الشريعة للورثة رفع الدعوى دون قيد فإن هذا يساوى تمامًا ما أجازته القوانين الوضعية للورثه من رفع الدعوى فى حالة مساس القذف بهم؛ لأن القوانين لا تقصر القذف على نسبة الزنا ونفى النسب كما هو الحال فى الشريعة، وإنما تعتبر القوانين قاذفًا كل من أسند لغيره واقعة توجب احتقاره، ومن المسلم به أن كثيرًا مما يعتبر قذفًا فى القوانين لا يمس ورثة المقذوف أو أهله الأحياء، أما نسبة الزنا للمقذوف ونفى النسب عنه فلا شك أنه يمسهم، ومن ثم يمكن القول أن القوانين تجيز دائمًا دون قيد لورثة المقذوف وأهله الأحياء أن يرفعوا الدعوى فى هاتين الحالتين على القاذف.
أما تعليق الدعوى على شكوى المقذوف فقد رأينا بعض القوانين كالقانون الفرنسى يتفق مع الشريعة فى هذا المبدأ، وأن قوانين أخرى منها القانون المصرى لا تعلق رفع الدعوى على شكوى القاذف.
569 - هل حد القذف حق لله أم حق للعبيد؟: يقسم الفقهاء الحقوق التى تنشأ عن الجرائم إلى نوعين: حقوق لله تعالى وحقوق للآدميين، ويعتبرون الحق لله كلما كان خالصًا لله أو كان حق الله فيه غالبًا، ويعتبرون الحق للعبد كلما كان خالصًا للعبد أو كان حق العبد غالبًا فيه. وتنشأ حقوق الله عن الجرائم التى تمس مصالح الجماعة ونظامها، وأما حقوق الآدميين فتنشأ عن الجرائم التى تمس الأفراد وحقوقهم.
وحين ينسب الفقهاء الحق لله يعنون بذلك أن الحق لا يقبل الإسقاط من الأفراد ولا من الجماعة، وتعتبر العقوبة فى الشريعة حقًا لله تعالى كلما استوجبتها المصلحة العامة وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم، فكل جريمة يرجع فسادها للعامة وتعود منفعة عقوبتها عليهم تعتبر العقوبة عليها حقًا لله تأكيدًا لتحصيل المنفعة ودفع المضرة والفساد، لأن اعتبار العقوبة حقًا لله يؤدى إلى عدم إسقاطها بإسقاط الجماعة والأفراد لها. ومع أن الفقهاء يقسمون الحقوق إلى حقوق لله وحقوق للأفراد إلا أن
(2/484)

الكثيرين منهم يرون بحق أن كل ما يمس حق الجماعة الخالص أو حق الأفراد الخالص يعتبر حقًا لله تعالى لأن كل حكم شرعى إنما شرع ليمتثل ويتبع، ومن حق الله على عباده
أن يمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه ويعملوا بشريعته، فكل حكم إذن فيه حق لله من هذه الوجهة، وإذا قيل إن حكمًا ما يرتب حقًا مجردًا للفرد فإن هذا القول لا يعتبر صحيحًا على إطلاقه وإنما يصح إذا غلبنا حق العبيد فى الأمور الدنيوية، كذلك فإن ما يعتبر حقًا خالصًا لله يمس دون شك مصالح الأفراد لأن الشريعة إنما وضعت لتحقيق مصالح الأفراد. وقد ينشأ الحقان معًا عن الجريمة الواحدة كما هو الحال فى جريمة السرقة، فإنه ينشأ عنها حق لله تعالى؛ أى حق للجماعة فى عقاب الجانى، وحق للمجنى عليه فى استرداد ماله المسروق أو أخذ مقابله.
وقد ينشأ عن الجريمة حق واحد فقط كما هو الحال فى جريمة الردة فإنه لا ينشأ عنها إلا حق واحد هو حق الجماعة فى عقاب الجانى. والأصل فى الشريعة أن فرض العقوبة واستيفاءها حق لله تعالى ولكن استيفاء بعض العقوبات جعلت استثناءً حقًا للأفراد وهى عقوبات جرائم الاعتداء على حياتهم
وأجسامهم أى القتل والجرح والضرب، فقد جعلت الشريعة استيفاء عقوبة القصاص وعقوبة الدية حقًا للأفراد ولهم أن يتمسكوا بها أو يتنازلوا عنها، فإذا تنازلوا عنها كان للجماعة أن تعاقب الجانى بالعقوبة الملائمة لظروف الجريمة والمجرم، وعلى هذا فإن جعل استيفاء بعض العقوبات من حق الأفراد لا يسلب الجماعة حقها فى فرض عقوبات أخرى على هذه الجرائم ولا يمنع من تنفيذ هذه العقوبات الأخرى.
ومن المتفق عليه أن جريمة القذف فيها حقان: حق لله تعالى وحق للمقذوف ولكن الفقهاء يختلفون على أى الحقين هو الأقوى، فأبو حنيفة يغلب حق الله على حق العبد ويجعل الجريمة متعلقة بحق الله تعالى، وبعض الحنفية يرى أن
(2/485)

حق القذف متعلق بحقوق الأدميين وحقوق الله وأن الحق الغالب فيه هو حق الآدميين (1) .
والشافعى وأحمد يغلبان حق العبد على حق الله ويجعلان الجريمة متعلقة بحقوق الآدميين. ومالك يغلب حق العبد قبل الشكوى ويغلب حق الله تعالى بعد الشكوى، فالجريمة عنده متعلقة بحقوق الآدميين قبل الشكوى ومتعلقة بحقوق الله تعالى بعد الشكوى. ويغلب الشافعى وأحمد حق العبد لأن العبد فى حاجة إلى حقه أكثر من حاجة الجماعة إلى حقها، ويغلب أبو حنيفة حق الجماعة على حق العبد لأن ذلك يؤدى إلىحفظ حق الجماعة وحق العبد معًا بينما تغليب حق العبد يؤدى إلى إهدار حق الجماعة (2) .
ولأن ولى الأمر يعتبر نائبًا عن الأفراد ونائبًا عن الجماعة فيستطيع أن يقوم على حق الجماعة وحق الفرد إذا غلب حقه لا يمثل إلا نفسه فلا يستطيع أن يرعى حق الجماعة، أما مالك فيغلب حق العبد قبل الشكوى باعتبار أن حق الجماعة لا يبدأ فى الظهور إلا بعد الشكوى فإذا لم تكن شكوى فلا حق إلا حق الآدمى، أما بعد الشكوى فيوجد حق الجماعة، وإذا وجد حق الجماعة تغلب على حقوق الآدميين (3) .
570 - ويترتب على الاختلاف فى تغليب أحد الحقين على الأخر نتائج كثيرة أهمها:
1 - أن تغليب حق الآدميين على حقوق الله يؤدى إلى القول بأن الحقوق الناشئة للمقذوف عن جريمة القذف تورث لأن الإرث يجرى فى حقوق العباد، بينما القائلون بتغليب حق الله على حق الآدمى لا يرون الإرث فى حق المخاصمة،
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 198.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 305.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص 198.
(2/486)

إذ الحد وإن كان والآدمى يرث الآدمى فيما كان مالا أو متصلا بالمال وحق المخاصمة ليس شيئًا من هذا.
2 - العفو: فمن غلب حق الله على حق الآدميين كأبى حنيفة رأى أن المقذوف ليس له أن يعفو عن القاذف بعد ثبوت الجريمة عليه، فإن عفا كان عفوه باطلا، لأن الحد حق من حقوق الله فليس للفرد أو الجماعة إسقاطه ولا يسقط بالعفو كسائر الحدود. ومن غلب حق العبد على حق الله كالشافعى وأحمد رأى المقذوف له أن يعفو عن القاذف إلى وقت إقامة الحد، فإن عفا عنه سقط الحد، على إنه إذا تعدد المقذوفين وكانت الجريمة محكومًا فيها بحد واحد فيشترط لسقوط الحد أن يكون العفو من جميع المقذوفين، فإذا عفا البعض دون البعض وجب الحد لمن لم يعف ولم يسقط بعفو من عفا (1) .
ولمالك آراء متعددة فى العفو أولها: أن العفو يصح إلى ما قبل التبليغ فإذا لم يعف المقذوف وبلغ عن الحادث فلا عفو بعدها. وثانيها: أن العفو يصح إلى ما قبل سماع الشهود، فإن أدى الشهود شهادتهم فلا عفو بعدها.
وثالثها: أن العفو جائز قبل التبليغ وبعده كلما قصد المقذوف من العفو أن يستر على نفسه (2) . والقائلون بالعفو يجيزون أن يكون العفو صريحًا أو ضمنيًا، ويرتبون على العفو قبل التبليغ عدم جواز رفع الدعوى لسقوط حق المقذوف فى الشكوى بالعفو.
* * *
_________
(1) المغنى ج10 ص 204، المهذب ج2 ص 292.
(2) المدونة ج 16 ص 16، مواهب الجليل ج 6 ص 305.
(2/487)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق