الخميس، 20 نوفمبر 2014

الباب الثاني - في الحدود – الكتاب الرابع : السرقة – المبحث الثالث : ما يترتب على ثبوت السرقة - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - الجزء الثاني / د . عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود

كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  

الدكتور عبد القادر عودة


الكتاب الرابع
السرقة

المبحث الثالث
ما يترتب على ثبوت السرقة


يترتب على ثبوت السرقة شيئان:
أولهما: ضمان قيمة المال المسروق.
ثانيهما: قطع السارق.
621- أولاً: الضمان: يسلم أبو حنيفة وأصحابه بأن الجانى إذا ثبتت عليه السرقة ملزم بضمان قيمة الشيء المسروق, وأنه يجب عليه القطع إذا تبين أنه سارق, ولكنهم يرون الضمان والقطع لا يحتمعان معًا, فإذا قطع السارق فلا ضمان عليه حتى ولو استهلك الشيء المسروق بعد القطع, وحجتهم أن نص القرآن جاء بالقطع فقط, وأن عبد الرحمن بن عوف روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قطع السارق فلا غرم عليه", ولهم حجة أخرى منطقية وهى: أن المضمونات تملك عندهم من وقت الأخذ عند أداء الضمان أو اختياره, فلو ضمن السارق قيمة المسروق فكأنه ملكه من وقت أخذه, وكأنه أخذ ما يملكه, فلو قطع مع الضمان لقطع فى ملك نفسه, والقطع لا يجب إلا بأخذ ملك الغير, ولكن بعض فقهاء الحنفية يفرقون بين حالة الاستهلاك قبل القطع وحالة الاستهلاك بعده, ويرون أن السارق يضمن المال المسروق إذا استهلكه بعد القطع, أما إذا استهلكه قبله فلا ضمان. وحجتهم أن المال المسروق حين بقى فى يد السارق بعد القطع بقى تحت يده على سبيل الأمانة ليرده للمجنى عليه, فإذا استهلكه ضمن قيمته (1) .
ويرى الحنفية عمومًا أن للمالك استرداد المسروق بعد القطع ما دام المسروق لم يستهلك, سواء كان المسروق فى يد السارق أو كان السارق قد تصرف فيه للغير, وللغير أن يرجع بالثمن على السارق, ولكن ليس له أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص84, 85.
(2/618)

يرجع عليه بالقيمة, لأن الرجوع بالقيمة معناه الضمان, وقد انتهى الضمان عن السارق بالقطع, أما الرجوع بالثمن فلا يوجب على السارق ضمانًا فى عين المسروق, وإن كان قد هلك فى يد المتصرف إليه فلا ضمان عليه ولا على السارق؛ لأن السارق قطع, والقطع ينفى الضمان, ولأن تضمين المتصرف إليه يعطيه حق الرجوع على السارق بالضمان, فتكون النتيجة تضمين السارق, وقطعه ينفى عنه الضمان, فإذا كان المتصرف إليه قد استهلك المسروق كان للمجنى عليه أن يرجع بقيمة المسروق على المتصرف إليه, لأنه قبض ماله بغير إذن واستهلكه وكان للمتصرف إليه أن يرجع على السارق بالثمن, والرجوع بالثمن ليس تضمينًا, وإنما التضمين هو الرجوع بالقيمة, وإذا غصب مال المسروق شخص من السارق كان للمجنى عليه أن يسترد المال من يد الغاصب, فإذا هلك المال فى يد الغاصب كان للمجنى عليه أن يرجع على الغاصب بقيمته على رأى, ولم يكن له على رأى آخر, لأن عصمة المال قد سقطت بالقطع (1) . واختلف فقهاء الحنفية فى حالة تعدد السرقات, وتعدد المجنى عليهم. والقاعدة أنه إذا تعددت السرقات قبل الحكم تداخلت الحدود وأجزأ أحدها, فيقطع السارق مرة واحدة فى كل السرقات.
والخلاف ليس على هذه القاعدة فهى مسلم بها من الجميع, وإنما اختلفوا فى الضمان إذا تعددت السرقات, ففريق يرى أن المجنى عليهم إذا حضروا جميعًا وخاصموا فلا ضمان على السارق, لأن مخاصمة السارق فى المسروق تقوم مقام الإبراء من الضمان, أما إذا خاصم أحدهم أو بعضهم ولم يخاصم الباقون فالضمان لمن لم يخاصم, وهذا هو رأى أبى يوسف ومحمد, وحجتهما أن المجنى عليه مخير بين أن يدعى المال فيستوفى حقه وهو الضمان, وبين أن يدعى السرقة فيستوفى حق الله تعالى فهو القطع ولا ضمان له, فسقوط الضمان أساسه عندهما الادعاء بالسرقة. أما الرأى المضاد فهو رأى أبى حنيفة, ويرى أن لا ضمان لأحد من المجنى عليهم؛ لأن القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص85.
(2/619)

وقع للسرقات كلها, فينتفى الضمان لأيهما (1) .
ويرى الشافعى وأحمد أن القطع والضمان يجتمعان دائمًا؛ لأن السارق يأتى بما يوجب القطع, ويأتى بما يوجب ضمان قيمة المسروق فى كل سرقة, فكان الواجب عليه هو القطع والضمان, ذلك أن كل سرقة هى اعتداء على حقين أولهما: حق الله تعالى الذى حرم السرقة أو حق الجماعة التى تضر بالسرقة, والثانى: حق العبد الذى اتلف ماله دون مبرر, وإذا كانت الجريمة اعتداء على حقين فليس ثمة ما يمنع أن تكون الجريمة مضمونة بضمانين, أى أن يكون الجانى مسئولاً عن هذين الحقين, كذلك فإن الجانى ضامن لرد العين كلما كانت باقية تحت يده, فيجب عليه ضمان قيمتها إذا كانت تالفة لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه", ولا يسلم الشافعية والحنفية بحديث عبد الرحمن بن عوف؛ لأن أحد رواته مجهول.
وعلى هذا يجب على السارق رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية, فإذا كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قُطع أو لم يقطع, موسرًا كان أو معسرًا. وإذا تعدد المجنى عليهم فى السرقة, فالسارق ضامن لكل منهم قيمة ما سرق منه أو مثله سواء خاصم أو لم يخاصم (2) .
وإذا تصرف السارق فى العين كان للمالك أن يسترد العين من هذا الغير وللأخير الرجوع على السارق بقيمتها.
ويرى مالك أن السارق يضمن قيمة المسروق إذا لم يحكم عليه بالقطع أيًا كان السبب فى عدم القطع, كأن كان لعدم تمام النصاب فى المال, أو فى الشهادة, أو لأنه سرق من غير حرز, أو لأن يده قطعت فى جناية أخرى عمدًا أو خطأ, أو فى حادث عرضي, وهو يضمن قيمة المال المسروق ولو كان قد تلف, وسواء كان التلف باختياره أو بالرغم منه, وسواء كان السارق موسرًا أو معسرًا,
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص85, 86.
(2) أسنى المطالب ج4 ص152, المغنى ج10 ص279.
(2/620)

أما إذا كانت العين باقية فعليه ردها. أما إذا قطع فى السرقة فعليه رد العين إن كانت موجودة, فإن لم تكن موجودة فعليه قيمتها أو مثلها بشرط أن يكون موسرًا وقت السرقة ويظل يسره حتى يقطع. فإن كان معسرًا وقت السرقة ثم أيسر بعد ذلك ولو قبل القطع فلا ضمان. وكذلك لو كان موسرًا وقت السرقة ثم أعسر بعد السرقة وقبل القطع ولو عاد إلى يساره بعد القطع.
وأساس هذه التفصيلات عند مالك هو ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه", ويفسر مالك هذا الحديث بأنه لا يجوز أن يجتمع على السارق عقوبتان: قطع يده, واتباع ذمته. ولكن مالكًا يرى أن اليسار المتصل كالمال القائم, فإذا ظل السارق فى يساره من وقت السرقة إلى وقت القطع فلا يعتبر أنه عوقب بتضمينه قيمة المسروق الذى تصرف فيه, فدخل ثمنه فى ماله أو استهلكه, انتفع به أم لم ينتفع. ورأى مالك استحسان على غير قياس (1) . وتطبق هذه القواعد فى حاله تعدد السرقات وتعدد المجنى عليهم, وللمالك إذا تصرف السارق فى العين لآخر أن يسترد العين من الآخر.
ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع مذهب أبى حنيفة, فالسارق إذا قطع لم يضمن (2) .
622- ثانيًا القطع.
أساس القطع: الأصل فى القطع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة:38] .
وعقوبة القطع لا يحوز العفو فيها لا من المجنى عليه ولا من رئيس الدولة, ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها. والأصل فى ذلك ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجافوا العقوبة بينكم, فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا", كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ العقوبة أو تعطيلها. وهذه المبادئ
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص107, 108, بداية المجتهد ج2 ص278.
(2) شرح الأزهار ج4 ص375.
(2/621)

متفق عليها ولا يخالف فيها إلا الشيعة الزيدية, حيث يرون أن القطع يسقط عن السارق بعفو المجنى عليه فى السرقة, فإذا تعدد المجنى عليهم وجب لسقوط القطع أن يعفو كل منهم (1) .
كذلك يرون أن للإمام مع وجوب إقامة الحد أن يسقط العقوبة عن بعض الناس لمصلحة, وله أن يؤخر إقامته إلى وقت آخر لمصلحة, على أن بعضهم يرى أن ليس للإمام إسقاط حد القذف ولا حد السرقة (2) .
623- محل القطع: اختلف الفقهاء فى محل القطع إلى حد كبير, ولهم فى ذلك آراء مختلفة, وأساس اختلافهم تأويل قوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , واختلافهم فى صحة ما أُثر عن الرسول, فرأى عطاء أن السارق إذا سرق قطعت يده فى السرقة الأولى ولا قطع بعد ذلك إن عاد للسرقة. وعلى هذا فإن جزاء السرقة هو قطع اليد اليمنى فى أول سرقة, أما السرقات الأخرى فلا قطع فيها, وإنما يعاقب السارق عقوبة تعزيرية. وحجة عطاء أن الله جل شأنه قال: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , ولو شاء أمر بقطع الرجل ولو يكن الله تعالى نسيًا (3) .
ويرى الظاهريون أن القطع واجب فى اليدين معًا, فإذا سرق قطعت إحدى يديه, فإذا عاد للسرقة قطعت يده الثانية, فإن سرق الثالثة عزر ومنع الناس ضره حتى يصلح حاله؛ أى حبس طويلاً حتى يصلح حاله. وحجتهم أن القرآن والسنة جاءا بقطع يد السارق لا بقطع رجله, فلا يجوز أن يقطع من السارق غير يديه (4) , ومحل القطع عند أبى حنيفة والشيعة الزيدية وعلى الرأى الأول
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص324.
(2) شرح الأزهار ج4 ص374, بدائع الصنائع ج7 ص55, كشاف القناع ج4 ص47, 87, المهذب ج6 ص287, 289, 292, 300, الأحكام السلطانية ص265, المدونة ج16 ص67, المحلى ج11 ص126 وما بعدها.
(3) المحلى ج11 ص354.
(4) المحلى ج11 ص357.
(2/622)

- وهو الراجح فى مذهب أحمد - وهو اليد اليمنى والرجل اليسرى, فتقطع اليد اليمنى فى السرقة الأولى, فإن عاد للسرقة قطعت الرجل اليسرى, فإن عاد فلا قطع بعد ذلك وإنما يحبس إلى مدة غير معينة حتى يموت أو تظهر توبته. وحجتهم فى ذلك: أولاً ما روى عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال فى السارق: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأن نص القرآن: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} قصد منه اليد اليمنى فقط بدليل قراءة عبد الله بن مسعود "فاقطعوا أيمانهم", ولا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه بل سماعًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فخرجت قراءته مخرج التفسير, ولأن القطع - قطع اليدين- يفوت منفعة الجنس, وكذلك قطع الرجلين معًا, فلا يستطيع أن يأكل أو يمشى أو يتطهر أو يدفع عن نفسه, ولأن عمر وعليًا لم يريا أن يقطعا أكثر من يد ورجل السارق, فقد أُتى على بسارق قطعت يده ورجله فلم يقطعه وقال: إنى لأستحى من الله ألا أدع يدًا يبطش بها, ولا رجلاً يمشى عليها. ولما أشار عليه الصحابة بقطعه قال: إذا قتلته وما عليه القتل, بأى شيء يأكل الطعام؟ بأى شيء يتوضأ للصلاة؟ بأى شيء يغتسل من جنابته؟ بأى شيء يقوم على حاجته؟
وروى عن عمر أنه أتى برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فاستودعه السجن بعد أن أشار عليه على بذلك (1) .
ومحل القطع عند مالك والشافعى وعلى الرأى الثانى فى مذهب أحمد هو اليدان والرجلان معًا, فتقطع اليد اليمنى أولاً, فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى, فإن عاد الثالثة قطعت اليد اليسرى, فإن عاد الرابعة قطعت رجله اليمني, فإن عاد بعد ذلك حبى حتى يموت أو تظهر توبته. وحجتهم أن الله تعالى قال: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , والأيدى اسم جمع والاثنان فما فوقهما جمع, وأن أبا هريرة روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى السارق: "السارق إن سرق
_________
(1) المغنى ج10 ص264, 272, بدائع الصنائع ج7 ص86, شرح الأزهار ج4 ص272.
(2/623)

فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله, ثم إن سرق فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأن أبا بكر وعمر قطعا فى خلافتهما اليدين والرجلين, وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللَّذَيْن من بعدى: أبى بكر وعمر" (1) .
ويشترط أبو حنيفة لقطع اليد اليمنى أن تكون اليد اليسرى صحيحة, فإن كانت مقطوعة أو شلاء مقطوعة الإبهام أو أصبعين سوى الإبهام فلا تقطع اليمنى لأن القطع للسرقة شرع للزجر لا للإهلاك, فإذا لم تكن اليسرى يمكن الانتفاع بها فإن قطع اليمنى يؤدى إلى تفويت منفعة اليدين, وهو إهلاك للنفس من وجه, وإذا كانت اليسرى كذلك فلا تقطع الرجل اليسرى أيضًا؛ لأن قطعها يؤدى إلى ذهاب أحد الشيئين على الكمال ففيه إهلاك النفس.
ويرى أبو حنيفة أيضًا أنه إذا كانت الرجل اليمنى مقطوعة أو شلاء أو بها عرج يمنع المشى عليها فلا تقطع اليد اليمنى؛ لأن فى ذلك فوات منفعة الشق, وكذلك لا تقطع رجلة اليسرى وإن كانت صحيحة؛ لأنه يبقى بلا رجلين فتفوت منفعة الجنس - أى منفعة المشي- وإن كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها, فإن كان يستطيع المشى عليها كلها تقطع اليد اليمني؛ لأن الجنس لا تفوت منفعته, وإن كانت يداه صحيحتين ولكن رجله اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع تقطع يده اليمني؛ لأن جنس المنفعة لا يفوت وليس فيه فوات الشق, وإن كانت اليد اليمنى شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع فإنها تقطع؛ لأن اليد السليمة تقطع فالمعيبة إذن أولى بالقطع.
ورأى أبى حنيفة فيما سبق يتفق فى مع رأى أحمد, ولكن الأخير يخالف فى أنه يعتبر اليد التى ذهب معظم نفعها فى حكم المعدومة, فلا يعتبر معدومة ما ذهب منها خنصر أو بنصر أو إبهام, أما أبو حنيفة فيعتبر فى حكم المعدوم
_________
(1) شرح الزرقانى ج2 ص92, 93, أسنى المطالب ج4 ص152 وما بعدها.
(2/624)

ما قطع منه أصبعان غير الإبهام, أو قطع منه الإبهام فقط, لأن ذلك فى رأيه يفوت منفعة البطش.
وفى مذهب أحمد رأى لا يرى قطع الشلاء أصلاً, والانتقال إلى غيرها, فإن كانت اليد اليمنى شلاء قطعت الرجل اليسرى, ولكن الرأى الأخر يرى قطع الشلاء إذا رأى أهل الخبرة أنها قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها. وفى المذهب رأى يرى ألا تقطع اليد إذا كانت كل أصابعها ذاهبة, ورأى يرى قطعها (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة كما ورد ذلك فى شرح الأزهار.
ويتفق مالك والشافعى كما ذكرنا من قبل فى قطع اليدين والرجلين, ولكن مالكًا يرى ألا قطع فى يد ولا قدم مشلولة شللاً ظاهرًا. وإذا قطع من اليد معظم أصابعها كثلاثة أو أربعة أصابع, اعتبرت عند مالك فى حكم المشلولة وكذلك الرجل.
أما الشافعى فإنه يرى قطع اليد أو الرجل ولو كانت شلاء, إلا إذا خيف من قطعها ألا يكف الدم, ويكتفى بقطع اليد ما دام فيها أصبع واحد, بل يرى بعض فقهاء المذهب الاكتفاء بالكف دون الأصابع (2) .
ومن المتفق عليه بين جميع الفقهاء أن القطع يسقط إذا ذهب العضو المستحق القطع بسبب وقع بعد السرقة لا قبلها, سواء كان الذهاب بآفة, أو قصاص, أو جناية. فمن حصل له حادث بعد السرقة فذهبت فيه يده اليمنى سقط عنه القطع ولم ينتقل للرجل اليسرى. ومن قطع يمنى شخص بعد السرقة فحكم له بقصاص, فقطعت يده اليمني, سقط عنه القطع للسرقة ولم ينتقل إلى الرجل اليسرى. أما إذا كانت الجناية التى حكم فيها بالقصاص وقعت قبل
_________
(1) المغنى ج10 ص268, 269, كشاف القناع, بدائع الصنائع ج7 ص87.
(2) أسنى المطالب ج4 ص152, 153, شرح الزرقانى ج8 ص92, 93.
(2/625)

السرقة فالقطع ينتقل للرجل اليسرى (1) .
وإذا قطع شخص عمدًا العضو المستحق القطع سقط القطع, وليس على العادى إلا التعزير, ويسقط القطع؛ لأن العضو المستحق ذهب بسبب نشأ بعد السرقة زلا قصاص على العادى؛ لأنه قطع عضوًا غير معصوم, وإنما يعزر لافتياته على الإمام ولو كان القطع قبل ثبوت السرقة. والحكم بالقطع ما دام الاعتداء حدث بعد السرقة, وما دامت السرقة قد ثبتت وكانت مما يجب فيه القطع, وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد, إلا أن بعض المالكية يشترط أن يكون الاعتداء بعد ثبوت السرقة لا بعد وقوعها (2) .
ويفرق الحنفية بين حالتين, حالة ما إذا كان الاعتداء قبل المخاصمة أو بعدها, فإن كان قبل المخاصمة فعلى المعتدى القصاص؛ لأن القطع لا يجب فى السرقة إلا بالمخاصمة فكان العضو حين قطع غير مستحق القطع, فقطع وهو معصوم. وينتقل القطع فى السرقة إلى الرجل اليسرى إذا كان المقطوع هو اليد اليمني, كأن سرق ولا يمين له. أما إذا كان الاعتداء بعد الخصومة, فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب. إلا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى؛ لأنه لما خوصم كان الواجب فى اليمين وقد فاتت, فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية, وإن كان بعد القضاء فلا قصاص على القاطع؛ لأنه احتسب لإقامة حد الله تعالى فكان قطعه عن السرقة (3) .
وإذا شهد بالسرقة فحسبه الحاكم لعدل الشهود, فقطعه قاطع, ثم عدلوا, فلا قصاص على القاطع عند الأئمة الثلاثة, وإن لم يعدلوا وجب القصاص. ولكن
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص153, المغنى ج10 ص269, شرح الزرقانى ج8 ص108, بدائع الصنائع ج7 ص88.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص88.
(2/626)

الحنفيين لا يرون القصاص, لأن صدق الشهود محتمل فيكون ذلك شبهة (1) .
وإن عدا شخص على السارق فقطع يسراه بعد السرقة عمدًا أو خطأ فعليه القصاص فى العمد والدية فى الخطأ, ولكن قطع اليمن يسقط عن السارق عند أبى حنيفة وأحمد والشيعة الزيدية, لأنه لو قطع لأدى قطعه إلى تفويت منفعة الجنس, ولكن مالكًا والشافعى لا يسقطان قطع اليمين عن السارق. لأنهما يجيزان قطع اليدين والرجلين, بينما لا يجيز أبو حنيفة وأحمد إلا قطع يد ورجل فقط (2) .
وإذا قطع الإمام أو الجلاد اليسرى بدلاً من اليمنى خطأ أجزأت, وليس على القاطع ضمان فى رأى البعض, وعليه الضمان فى رأى البعض الآخر, أما إذا قطعها عمدًا وهو عالم أن السنة قطع اليمين فعلى القاطع القصاص, ولا يسقط القطع عن السارق فنقطع يده اليمنى عند مالك والشافعي, وعليه التعزير عند أبى حنيفة والضمان. وكذلك يرى بعض الحنابلة, ولكن البعض الآخر يرى القصاص. ولكن الحنفيين عمومًا والحنابلة يرون أن قطع اليسار يمنع من قطع اليمين ويجزئ عنه؛ لأن قطع اليمين يفضى إلى تفويت منفعة الجنس, كما يؤدى إلى قطع اليدين فى سرقة واحدة.
ويرى أبو حنيفة ألا ضمان على القاطع فى هذه الحالة؛ لأن القاطع أتلف وأخلف خيرًا مما اتلف. أى أنه إذا كان فعل القاطع أدى إلى إتلاف اليسرى فقد أدى إلى لإبقاء اليمنى وهى خير من اليسرى (3) .
_________
(1) المغنى ج10 ص269, 270, حاشية ابن عابدين ج3 ص287, الزيلعى ج3 ص226, شرح فتح القدير ج4 ص251.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص87, أسنى المطالب ج4 ص153, شرح الزرقانى ج8 ص93, المغنى ج10 ص270, شرح الأزهار ج4 ص373.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص87, شرح الزرقانى ج8 ص93, 94, أسنى المطالب ج4 ص153, كشاف القناع ج4 ص88 المغنى ج10 ص270.
(2/627)

624- موضع القطع: موضع القطع من اليد هو مفصل الزند عند الأئمة الأربعة والظاهريين والشيعة الزيدية, وعند الشيعة الإمامية القطع من أصول الأصابع, فلا تقطع الكف, ويرى الخوارج القطع من المنكب.
وموضع قطع الرجل من مفصل الكعب, ولكن الشيعة الإمامية يرون القطع من مقعد الشراك ليبقى للسارق عقب يمشى عليه. وحجة الخوارج أن اليد تطلق على الذراع كله, وحجة الشيعة الإمامية أن عليًا قطع أصابع اليد دون الكف, وقطع القدم دون الكعب. وحجة القائلين القطع من مفصل الزند ومفصل الكعب: أن أقل ما يطلق على اليد هو الكف والأصابع, وأن العمل جرى من عهد الرسول على القطع من هذين المفصلين (1) .
625- التداخل: إذا سرق السارق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميع السرقات وتداخلت الحدود جميعًا؛ لأن السرقة حد من حدود الله تعالي, فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا. والقاعدة: أن ما تعلق بحق الله تداخل, وما تعلق به حق لآدمى لم يتداخل (2) . ويرى مالك أن التداخل يكون فى حالتين:
الأولى: إذا اتحد الموجب؛ أى اتفق قدر ما توجبه كل جريمة كالقذف والشرب, فعقوبة كل منهما ثمانون جلدة, وكالسرقة وقطع اليد اليمنى فالأولى عقوبتها القطع والثانية القصاص. فإذا أقيمت إحدى العقوبتين أو العقوبات التى تتحد فى الموجب سقطت العقوبات الأخرى ولو لم يقصد عند إقامة العقوبة التى أقيمت أن تجزئ عن غيرها, أو لم يكن يعلم أن هناك حدودًا أخرى واجبة على المحدود.
_________
(1) المحلى ج11 ص357, المغنى ج10 ص264, شرح الأزهار ج4 ص272, شرح الزرقانى ج8 ص 92, 93, بدائع الصنائع ج7 ص78, أسنى المطالب ج4 ص152, 153, بداية المجتهد ج2 ص278.
(2) المغنى ج10 ص268, أسنى المطالب ج4 ص152, 157, بدائع الصنائع ج7 ص85, شرح الزرقانى ج8 ص108.
(2/628)

الثانية: إذا تكررت موجبات الجريمة الواحدة كالسرقة مرارًا قبل الحد أو الشرب مرارًا قبل الحد. ويرى بعض الحنابلة أنه لو سرق جماعة وجاءوا متفرقين فإن الحدود لا تتداخل. ولعله يقيس ذلك على حد القذف, ولكن الصحيح أنها تتداخل؛ لأن القطع خالص حق الله تعالى وإن توقف على مخاصمة المالك, أما حد القذف فحق لآدمى ويتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقطه العفو عنه (1) .
626- من الذى يقيم الحد؟: يقيمه الإمام أو من ولاَّه من الحكام.
627- تعليق اليد بعد قطعها: يرى الشافعى وأحمد أن تعليق اليد المقطوعة وقتًا ما فى عنق السارق للزجر والتنكيل, أخذًا بما رواه الترمذى من أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أتى بسارق فقطعت يده ثم أمر فعلقن فى عنقه (2) .
ولم يحدد الحنابلة الوقت وحدده الشافعية بساعة, ويرى الشيعة الزيدية التعليق على أن يكون ثلاثة أيام (3) , ولا يذكر المالكية والحنفية شيئًا عن تعليق اليد.

628- مسقطات القطع:
إذا وجب القطع على السارق فلا مفر من تنفيذ العقوبة, إلا إذا سقطت بسبب ما, والأسباب المسقطة للقطع مختلف عليها بين الفقهاء, فما يراه البعض مسقطًا للعقوبة لا يراه البعض كذلك. وسنبين فيما يلى أسباب السقوط المختلف عليها والمتفق عليها:
1- تكذيب المسروق منه السارق فى إقراره بالسرقة أو تكذيبه الشهود فيما شهدوا به من سرقة: فهذا التكذيب يبطل الإقرار والشهادة, ويترتب على بطلانهما سقوط القطع, وهذا هو مذهب أبى حنيفة, ويستوى أن يكون التكذيب مبتدأ أو بعد المخاصمة والادعاء بالسرقة, ولكن مالكًا- وهو لا يعتبر المخاصمة- لا يرى فى تكذيب المجنى عليه لإقرار الجانى أو الشهود ما يسقط
_________
(1) المغنى ج10 ص268.
(2) أسنى المطالب ج4 ص153, المغنى ج10 ص266.
(3) شرح الأزهار ج4 ص372.
(2/629)

القطع ما دام الثابت أن التكذيب قصد به مساعدة الجاني, ولا يتفق مع الحقيقة, والأمر كذلك عند الشافعى وأحمد إذا كان التكذيب بعد المخاصمة والادعاء بالسرقة, أما إذا كان التكذيب مبتدأ فلا يجب القطع؛ لأنه لا يجب إلا المخاصمة, والتكذيب المبتدأ يمنع من المخاصمة.
ومذهب الظاهريين يتفق مع مذهب مالك فى هذه النقطة. أما مذهب الشيعة الزيدية فهو كمذهب أبى حنيفة؛ لأنهم لا يسقطون القطع بعفو المجنى عليه, فسواء كان التكذيب صحيحاُ أو مقصودًا به مساعدة الجانى فهو مسقط للحد عندهم (1) .
2- العفو عن السارق: على أن يكون من جميع المجنى عليهم, فإن كان من بعضهم دون البعض فلا يسقط القطع. وهذا رأى الشيعة الزيدية ولا تأخذ به المذاهب الأخرى المقارنة (2) .
3 - رجوع السارق عن إقراره صراحة أو ضمنًا إذا لم يكن دليل إلا الإقرار: فإذا كان دليل آخر فهو على ما بينا عند الكلام على الإقرار. وهذا متفق عليه إلا من الظاهريين وبعض الشافعية, فإنهم لا يرون الرجوع عن الإقرار مسقطًا للقطع.
وإذا اشترك فى السرقة شخصان فأقرا بالسرقة وعدل أحدهما عن إقراره دون الآخر سقط القطع عمن عدل دون غيره؛ عند مالك والشافعى وأحمد, وعند أبى حنيفة يدرأ القطع عن الآخر؛ لأن السرقة واحدة وشركتهما ثابتة ورجوع أحدهما يورث شبهة فى حق الشريك الآخر, وإذا اعترف أحدهما بالسرقة وأنكر الآخر ولم يكن عليه دليل فالقطع على المقر وحده عند الجميع. إلا أن أبا يوسف من فقهاء المذهب الحنفى يرى ألا يقطع المقر, لأنه أقر بسرقة واحدة بينهما على الشركة, فإذا لم تثبت فى حق شريكه بإنكاره
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص88, شرح الأزهار ج4 ص374, شرح الزرقانى ج8 ص97, المدونة ج16 ص95.
(2) شرح الأزهار ج4 ص374.
(2/630)

يؤثر ذلك فى حق صاحبه ضرورة اتحاد السرقة. وأصحاب الرأى المضاد يرون أن إقراره بالشركة فى السرقة إقرار بوجود السرقة من كل واحد منهما, إلا أنه لما أنكر صاحبه السرقة لم يثبت فعل السرقة بالنسبة له, وعدم الفعل منه لا يؤثر فى وجود الفعل من صاحبه, فيبقى إقراره على نفسه بالسرقة قائمًا فيؤخذ به (1) .
4- رد المسروق قبل المرافعة: يرون فى مذهب أبى حنيفة أن رد السارق للمسروق قبل المرافعة يسقط القطع أما بعد المرافعة فلا يسقطه؛ لأن الخصومة شرط لظهور السرقة الموجبة للقطع, فإذا رد السارق المسروق قبل المرافعة بطلت الخصومة, بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن الشرط وجود الخصومة لا بقاؤها.
وهناك رواية عن أبى يوسف بأن الرد قبل المرافعة لا يسقط القطع؛ لأن السرقة حين وجودها انعقدت موجبة للقطع, فرد المسروق بعد ذلك لا يخل بالسرقة الموجودة ولا يسقط القطع الواجب كما لو رده بعد المرافعة. وعند الشيعة الزيدية أن رد المسروق إلى الحرز بعد إخراجه يجب فيه القطع. وعند مالك والشافعى وأحمد أن الرد لا يمنع من القطع, لأن مالكًا لا يعتبر المخاصمة, ولأن المخاصمة كما يراها الشافعى وأحمد شرط للحكم لا شرط للقطع, فإذا خاصم المجنى عليه وجب القطع, ولو رد الجانى المسروق, ولو كان الرد قبل المرافعة (2) .
5- تملك السارق للمسروق قبل القضاء: يرى الحنفيون أن السارق إذا تملك المسروق قبل القضاء سقط القطع, فإذا تملكه بعد الحكم وقبل التنفيذ سقط القطع أيضًا عند أبى حنيفة ومحمد, ولا يسقط عند أبى يوسف, ويرى الشيعة الزيدية أن المسقط للقطع هو التملك قبل الشكوى, وعند الشافعى وأحمد الحكم
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص88, شرح الأزهار ج4 ص349, شرح الزرقانى ج8 ص107, كشاف القناع ج4 ص86, أسنى المطالب ج4 ص150, 151, المهذب ج2 ص364, المحلى ج8 ص250 وما بعدها.
(2) نفس المراجع السابقة.
(2/631)

كذلك, لأن من شرط الحكم بالقطع المطالبة بالمسروق, فإذا تملكه السارق قبل الشكوى امتنعت المطالبة, أما إذا كان التملك بعد الشكوى فلا يسقط القطع؛ لأن المطالبة وجدت فعلاً, أما عند مالك فالعبرة بتملك المسروق وقت السرقة, فإذا كان لا يملكه وقت السرقة قطع به, لأن مالكًا لا يشترط المطالبة ويرى القطع, ولو رد الشيء المسروق قبل الشكوى, ولو كانت الشكوى من أجنبي (1) .
6- ادعاء ملكية المسروق: إذا ادعى الجانى ملكية الشيء المسروق, فيرى البعض أن الادعاء يسقط القطع, وقد تكلمنا عن ذلك فيما سبق فليراجع.
الشفاعة فى السرقة: لا يرى الفقهاء بأسًا بالشفاعة فى السارق ما لم يبلغ الحادث الإمام, فإنه روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم, فما بلغنى من حد فقد وجب".
ومما يروى عن الزبير بن العوام أنه قال فى الشفاعة فى الحد: "يفعل ذلك دون السلطان, فإذا بلغ الإمام فلا أعفاه الله إن أعفاه", وقال مالك: إن السارق إذا لم يكن يعرف بشرِّ فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام.
وأما من عرف بشر وفساد فلا ينبغى أن يشفع له أحد, ولكن يترك حتى يقام الحد عليه.
واجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه؛ لأن ذلك إسقاط لحق وجب لله تعالى. وقد غضب النبى - صلى الله عليه وسلم - حين شفع أسامة بن زيد فى المخزومية التى سرقت وقال: "تشفع فى حد من حدود الله؟ ", وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى حكمه (2) .
ما يترتب على سقوط الحد: إذا سقط الحد بعد ثبوت السرقة ترتب على
_________
(1) المغنى ج10 ص277, المدونة ج16 ص89, شرح الزرقانى ج8 ص89.
(2) المغنى ج10 ص295, شرح الزرقانى ج8 ص108, المهذب ج2 ص300, المحلى ج11 ص151.
(2/632)

ذلك نتيجتان:
أولهما: دخول المسروق فى ضمان السارق عند من لا يجمعون بين القطع والضمان حتى ولو كان قد هلك فى يده أو استهلكه بنفسه, وسواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأن المانع من الضمان عندهم هو القطع وقد سقط, وإذا حلت عقوبة التعزير محل القطع فإنها لا تمنع الضمان.
ثانيهما: وجوب رد عين المسروق إن كان قائمًا, فإن لم يكن قائمًا كإهلاك أو استهلاك فعلى السارق قيمته.
وهاتان النتيجتان يترتب كلتاهما فى الحالات التى يجب فيها الضمان والرد, أما إذا لم يكن الضمان والرد واجبًا فلا وجود لهاتين النتيجتين. فمثلاً إذا كان السارق قد رد المسروق قبل التبليغ فلا ضمان ولا رد ما لم يكن رده ناقصًا. وإذا كان قد تملكه بعد السرقة فلا ضمان ولا رد (1) .
* * *
الشروع فى السرقة

629- للتفريق بين السرقة التامة والشروع فيها أهمية كبرى فى الشريعة الإسلامية؛ لأن القطع لا يكون إلا فى السرقة التامة, أما الشروع فلا قطع فيه بأى حال, وعقوبته دائمًا التعزير.
وتتم السرقة عند الظاهريين بمجرد استيلاء الجانى على الشيء استيلاء ماديًا؛ أى بمجرد وضع يده عليه وضعًا ماديًا ولو لم يخرجه من الحرز أو ينقله من مكانه, أما عند عامة الفقهاء فتتم السرقة بإخراج الشيء المسروق من حرزه بحيث يدخل فى حيازة الجانى ويخرج من حيازة المجنى عليه.
والحرز كما عرفناه نوعان: حرز بطبيعته وحرز بالحفظ. فيجب لتمام السرقة من حرز بطبيعته أن يخرج السارق بالمسروق من الحرز. فإن سرق من مسكن فلا تتم السرقة إلا بإخراج المسروق من المسكن. أما إخراج المسروق إلى ساحة الدار فلا يعتبر سرقة تامة إلا إذا كانت الغرفة المسروقة
_________
(1) راجع فى هذا الموضوع: بدائع الصنائع ج7 ص89, المغنى ج10 ص280.
(2/633)

تكون وحدها حرزًا مستقلاً, وكانت الساحة مشتركة لها وللغرف الأخرى.
أما السرقة من حرز بالحافظ فتعتبر تامة بمجرد انفصال السارق عن البقعة التى فيها الشيء المسروق, لأنه بذلك ينفصل عن الحرز. فمن سرق من نائم فى السجد ثوبًا يتوسده يعتبر فعله سرقة تامة بمجرد إخراج الثوب من تحت النائم, ومن أخذ ثوبًا لجالس فى المسجد من جواره يعتبر فعله سرقة تامة بمجرد انفصاله عن مكان الثوب ولو لم يخرج من المسجد, ومن نشل من إنسان نقودًا يعتبر مرتكبًا لسرقة تامة بمجرد انفصال النقود عن ملابس المجنى عليه ولو ظل واقفًا بجوار المجنى عليه.
ورأى جمهرة فقهاء الشريعة فى السرقة التامة يتفق إلى حد كبير مع الرأى الذى عليه جمهرة شراح القوانين الوضعية, والذى تأخذ به أكثر القوانين هو أن السرقة لا تتم إلا بالاستيلاء على الشيء المسروق استيلاءً تامًا يخرجه من حيازة صاحبه ويجعله فى قبضة السارق, فإن وقعت السرقة فى منزل مثلاً يعتبر سرقة تامة بمجرد رفع الشيء من مكانه أو الخروج به من الغرفة التى أودع فيها بل يجب أن يخرجه السارق من المنزل جميعه. على أنه قد تتم السرقة فى بعض الحالات بغير أن يخرج السارق بالشيء المسروق من المنزل, كما لو سرق خادم أو ضيف مثلاً متاعًا لصاحب المنزل ووضعه فى غرفته أو حقيبته, فإنه يعد مرتكبًا للسرقة التامة رغم استمرار بقائه فى المنزل. وأساس الخلاف بين الشريعة والقوانين فى هذه الحالة هو أن الشريعة تشترط إخراج المسروق من الحرز فوق إخراجه من حيازة المجنى عليه, والقوانين لا تشترط هذا الشرط. على أن هذا الخلاف قاصر على السرقات التى يجب فيها القطع, أما السرقات التى يعاقب فيها بالتعزير فلا يشترط فيها الإخراج من الحرز, وإنما يشترط فيها أن يكون الأخذ يخرج الشيء من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجانى. وفى هذه السرقات تتفق الشريعة مع القوانين فى تحديد السرقة التامة.
ورأى الظاهريين يتفق مع رأى يعض شراح القوانين الوضعية وهم الذين
(2/634)

يرون أن السرقة تتم برفع الشيء من مكانه, وبهذا الرأى يأخذ القانون الإيطالى. وقد أخذت المحاكم الفرنسية بما يراه أبو عبيدة الزبيرى , فحكمت باعتبار المتهم شارعًا فى السرقة بمجرد دق جرس الشقة للتأكد من خلوها من ساكنيها قبل أن يستعمل الآلات التى حملها معه, وحكمت بأن مجرد الترصد أمام المنزل يعتبر شروعًا فى السرقة (1) .
واتجاه الشريعة فى العقاب على الجرائم المشروع فيها يتفق مع ما يذهب إليه أصحاب المذهب الشخصى من شراح القوانين الوضعية. ولكن نظرية الشريعة تتسع لأكثر مما يتسع له المذهب الشخصي, لأن الشريعة تعاقب على كل ما يأتى الجانى إذا تكون مما أتاه معصية, سواء كان ما فعله الجانى مؤديًا حتمًا إلى الركن المادى للجريمة المقصودة أو غير مؤد إليه, كما بسطنا ذلك فى الجزء الأول من كتاب التشريع الجنائى الإسلامى.
630- الشروع فى السرقة: لم يهتم فقهاء الشريعة بوضع نظرية خاصة للشروع فى الجرائم عامة وفى السرقة بوجه خاص, ولم يعرفوا لفظ الشروع بمعناه الفنى كما نعرفه اليوم, ولكنهم اهتموا فقط بالتفرقة بين الجرائم التامة والجرائم غير التامة, وعلة ذلك أن قواعد العقاب على التعازير تمنع من وضع قواعد خاصة للعقاب على الشروع فى الجرائم؛ لأن قواعد التعازير كافية لحكم جرائم الشروع. فالقاعدة فى الشريعة أن التعزير يكون فى كل معصية ليس فيها حد مقدر ولا كفارة. أى أن كل فعل تعتبره الشريعة معصية هو جريمة يعاقب عليها بالتعزير ما لم يكن معاقبًا عليها بحد ولا كفارة. ولما كان الحد والكفارة لا يعاقب بهما إلا على جرائم معينة أتمها الجانى فعلاً, فإن كل شروع فى فعل محرم لا يعاقب عليه إلا بالتعزير, ويعتبر كل شروع معاقب عليه معصية فى حد ذاته؛ أى جريمة تامة, ولو أن جزء من الأعمال المكونة لجريمة لم تتم ما دام الجزء الذى تم محرمًا لذاته ولا
_________
(1) الأموال, للقللى ص64.
(2/635)

استحالة فى أن يكون فعل ما جريمة معينة إذا كان وحده, وأن يكون مع غيره جريمة من نوع آخر.
فالسارق إذا ما نقب البيت ثم ضبط قبل أن يدخله يكون مرتكبًا لمعصية تستوجب العقاب, وهذه المعصية تعتبر فى حد ذاتها جريمة تامة ولو أنها بدء فى تنفيذ جريمة السرقة, وعندما يتسلق السارق المنزل يريد أن يسرق منه يرتكب معصية, وإذا أذن له بدخول البيت فجمع متاعه ليسرقه فضبط قبل الخروج به فهو مرتكب لمعصية, وهكذا كلما أتى السارق فعلاً تحرمه الشريعة فهو مرتكب معصية أى جريمة تامة تستوجب العقاب إذا نظرنا إليها على حدة, ولو أن هذه المعصية تعتبر جزءًا من جريمة أخرى إذا نظرنا إلى جريمة السرقة التى لم تتم, فإذا أتم الجانى سلسلة الأفعال المكونة لجريمة السرقة وخرج بالمسروقات من الحرز فإن كل الأفعال التى أتاها تكون مجتمعة جريمة معينة هى السرقة, وبتمام جريمة السرقة تجب عقوبة الحد, وهى العقوبة المقررة للسرقة التامة, ويمتنع التعزير على ما دون التمام لأن كل الأفعال اندمجت وتكونت منها جريمة السرقة (1) .
631- متى يعتبر الفعل شروعًا فى الجريمة: يعتبر الفعل جريمة كلما كان معصية؛ أى اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد, وليس من الضرورى أن يكون الفعل بدءًا فى تنفيذ ركن الجريمة المادى بل يكفى أن يكون الفعل معصية, وأن يكون مقصودًا به تنفيذ الركن المادي, ولو كان لا يزال بين الفعل وبين الركن المادى أكثر من خطوة, فمثلاً فى السرقة يعتبر النقب والتسلق وكسر الباب وفتحه بمفتاح مصطنع؛ كل ذلك يعتبر معصية تستحق التعزير, وبالتالى شروعًا فى السرقة, ولو أن بين كل منهما وبين الفعل المادى المكون لجريمة السرقة خطوات هى دخول محل السرقة والاستيلاء على المسروقات وإخراجها من الحرز.
وكذلك يعزر الجانى باعتباره مرتكبًا لمعصية أو شارعًا فى السرقة إذا تعرض للنقب أو فتح الباب أو حاول التسلق ولو لم يتم ما تعرض له أو حاول فعله.
_________
(1) التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص298.
(2/636)

ويرى أبو عبد الله الزبيرى تعزير الجانى باعتباره مرتكبًا المعصية أو شارعًا فى السرقة إذا وجد بجوار المنزل المراد سرقته ومعه مِبْرَد ليستعمله فى فتح الباب أو مِثْقَب لينقب به الحائط, ولو أنه لم يبدأ فى فتح الباب أو نقب الحائط إذا ثبت أنه جاء بقصد السرقة, ويرى تعزير الجانى إذا وجد مترصدًا بجوار محل السرقة يترصد غفوة الحارس ليسرق المتاع الذى يحرسه.
فمقياس الفعل المعاقب عليه فى الشروع هو أن يكون ما أتاه المتهم مكونًا لمعصية كالنقب, ويستعان على معرفة ما إذا كان الفعل معصية أو غير معصية بنية الجانى وقصده من الفعل؛ لأن ثبوت هذه النية يزيل كل شك ويساعد على تحديد نوع المعصية.
وقد جعل أبو عبد الله الزبيرى فى الأمثلة التى ذكرناها سابقًا شأنًا كبيرًا للنية, فالترصد بجوار محل السرقة قد يكون للسرقة أو لعمل آخر مباح, ولكن نية الجانى وحدها هى التى أزالت الشك عن الفعل وعينت المعصية, ووجود الجانى بجوار محل السرقة ومعه مبرد أو مثقب يحتمل أن يكون الجانى قاصدًا سرقة هذا المحل أو غيره, ويحتمل أن يكون أراد السرقة أو أراد عملاً آخر غير محرم, ولكن نية الجانى هى التى أخرجت الفعل من حيز الاحتمال إلى حيز اليقين وعينت المعصية (1) .
* * *
_________
(1) التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص301, 302.
(2/637)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق