الأحد، 16 نوفمبر 2014

الباب الثانى : فى الحدود - الكتاب الأول : الزنا : الفصل الثاني : عقوبة الزنا - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

الفصل الثانى
عقوبة الزنا

من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
 الجزء الثاني
الدكتور عبد القادر عودة 

508 - التطور التشريعى لعقوبة الزنا: كانت عقوبة الزنا فى صدر الإسلام الحبس فى البيوت، والإيذاء بالتعيير أو الضرب، والأصل فى ذلك قوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 15، 16] .
وقد اختلف الفقهاء فى تفسير هذين النصين، فرأى لبعض أن النص الأول جاء بحكم النساء فقط وليس فيه حكم الرجال، وأن النص الثانى عطف على النص الأول عطفًا متصلاً بقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} ، فكان هذا حكمًا زائدًا للرجال مضافًا إلى ما قبله من حكم النساء، وعلى هذا فحكم النساء الزوانى كان الحبس فى البيوت حتى يَمُتْنَ أو يجعل الله لهن سبيلاً بحكم آخر، وحكم الرجال الزناة كان الأذى (1) .
ورأى البعض أن النص الأول مبين لعقوبة الثيب، وأن النص يبين عقوبة البكر، وحجتهم أن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: من الآية15] الثيب؛ لأن قوله من نسائكم إضافة زوجية كقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ، ولا فائدة نعلمها فى إضافته ههنا إلا اعتبار الثيوبة، كذلك فإن النصين قد جاءا بعقوبتين إحداهما أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والأخرى للأبكار كالرجم والجلد (2) .
_________
(1) المحلى [ج11 ص229 [وما بعدها.
(2) المغنى [ج10 ص119] .
(2/376)

وهناك فريق ثالث رأى أن النص الثانى وهو قوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: من الآية16] ناسخ لقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: من الآية15] ، والقائلون بهذا الرأى يحملون قوله عز وجل: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} على أن المراد به الزانى والزانية (1) .
ومن المتفق عليه أن هذين النصين نسخا بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2، 3] ، وبقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والشيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (2) .
وقد استقر الحكم بعد ذلك على جلد غير المحصن وتغريبه مع خلاف فى التغريب، وعلى رجم المحصن دون جلده مع خلاف فى الجلد، وسنتعرض لهذه الخلافات فيما بعد.
وعقوبة الرجم مسلَّم بها من جميع المسلمين، ولا ينكرها إلا طائفة الأزارقة من الخوارج، لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، على أن الرجم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل.
فأما قوله فهو: أ - ما ذكرنا: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً ... . إلخ".
ب - ما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد قالا: "إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لى بكتاب الله، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل، قال: إن ابنى كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته وإنى أخبرت أن على ابنى الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن على ابنى جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله
_________
(1) المحلى [ج11 ص229] .
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
(2/377)

- صلى الله عليه وسلم -: والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغْدُ يا أُنَيَسْ - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت بأمرها فأمرها فأمر بها رسول اله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت" (1) .
جـ - ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (2) .
وأما فعله: فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز والغامدية، كما أمر برجم يهوديين زنيا، وذلك كله ثابت مما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -:
أ - فقد روى أبو هريرة قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى المسجد فناده فقال: يا رسول إنى زنيت، فأعرض عنه حتى ردد أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به فارجموه. قال ابن شهاب: فأخبرنى من سمع من جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه" (3) .
ب - وروى سليمان بن بريدة عن أبيه، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرنى، فقال: "ويحك ارجعى فاستغفرى الله وتوبى إليه، فقالت: أراك تريد أن تردَّنى كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، قال: أنت؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعى ما فى بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية؟ فقال: إذن لا ترجمها وتدع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبى الله، قال: فرجمها" (4) .
_________
(1) رواه الجماعة.
(2) رواه الجماعة.
(3) متفق عليه.
(4) رواه مسلم والدار قطنى.
(2/378)

جـ - وروى ابن عمر أن اليهود أتوا النبى - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: "ما تجدون فى كتابكم؟ فقالوا: نسخم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وجاءوا بقارئ لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هى تلوح، فقال- أو قالوا -: يا محمد فيها الرجم، ولكننا كنا نتكاتمه فيما بيننا، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما، قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه" (1) .
وإذا كان الشارع قد فرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، فذلك لأن المحصن إذا زنا بعد أن توفرت موانع الزنا لديه كان زناه فى غاية القبح، ووجب أن تكون عقوبته فى غاية الشدة.
ونلخص مما سبق أن عقوبة الزنا نوعان:
(1) عقوبة البكر. ... ... ... (2) عقوبة المحصن.
* * *
المبحث الأول
عقوبة البكر

509 - عقاب البكر الزانى: إذا زنا البكر سواء كان رجلاً أو امرأة عوقب بعقوبتين: أولاهما الجلد، والثانية التغريب، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (2) .
ويلاحظ أن الشريعة تفرق بين عقوبة الأحرار وعقوبة الأرقاء فى الزنا، فتخفف عقوبة الرقيق وتشدد عقوبة الحر، مراعية فى ذلك ظروف كل منهما، ولكننا لن نتعرض هنا إلا للعقوبة المقررة للأحرار ناظرين فى ذلك إلى أن الرق ألغى فى كل أنحاء العالم، وأن لا حاجة تدعو إلى بيان عقوبة الرقيق.
510 - أولا: عقوبة الجلد: إذا زنا البكر عوقب بالجلد مائة جلدة
_________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
(2/379)

لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (1) .
وعقوبة الجلد حد، أى عقوبة مقدرة، فليس للقاضى أن ينقص منها أو يزيد فيها لأى سبب من الأسباب أو ظرف من الظروف، وليس له أن يوقف تنفيذها أو أن يستبدل بها غيرها، كما أن ولى الأمر لا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك العفو عنها كلها أو بعضها.
وسنتكلم عن طريقة الجلد وشروطه عند الكلام على تنفيذ العقوبة.
511 - ثانيًا: التغريب: إذا زنا البكر جلد مائة جلدة وغرب عامًا، والتغريب هو العقوبة الثانية للزانى، ولكن الفقهاء يختلفون فى وجوبها.
فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن التغريب ليس واجبًا، ولكنهم يجيزون للإمام أن يجمع بين الجلد والتغريب إن رأى فى ذلك مصلحة، فعقوبة التغريب عندهم ليست حدًا كالجلد وإنما هى عقوبة تعزيرية، ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) .
ويرى مالك والشافعى وأحمد وجوب الجمع بين الجلد والتغريب، ويعتبرون التغريب حدًا كالجلد، وحجتهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، وما روى عن عمر وعلىَّ أنهما جلدا وغربَّا ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة فصار عملهما إجماعًا (3) .
ومن يرى هذا الرأى الظاهريون فإنهم يرون التغريب حدًا بتصريح النص (4) .
512 - تغريب المرأة: ويرى مالك أن التغريب جعل للرجل دون المرأة، لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأن الأمر لا يخلو إن غُرِّبت أن تُغرَّب ومعها مَحرَم
_________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
(2) بدائع الصنائع [ج7 ص39] ، شرح فتح القدير [ج4 ص134، 136] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] .
(3) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المهذب [ج2 ص284] ، المغنى [ج10 ص133] .
(4) المحلى [ج11 ص183، 188] .
(2/380)

أو أن تغرب دون محرم، والأصل أنه لا يجوز أن تغرب دون محرم، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذى محرم"، ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفى من لا ذنب له، وإن كُلِّفت بحمل أجرته ففى ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد به الشرع، وبما لا يمكن أن يحدث مثله للرجل.
ولهذا يخصص المالكيون الخبر الوارد فى التغريب، ويجعلونه فى حق الرجل دون المرأة، إذ يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه على أنه ليس على الزانى أكثر من العقوبة المذكورة فيه، ووجوب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك، وفضلاً عما سبق فإن العمل بعموم النص يؤدى إلى فوات حكمته؛ لأن الحد وجب زجرًا عن الزنا، وفى تغريبها إغراء به وتمكين منه (1) .
ويرى الشافعى وأحمد والظاهريون أن التغريب عقوبة واجبة على كل من الرجل والمرأة (2) .
513 - ماهية التغريب: اختلف الفقهاء فى ماهية التغريب، فقال مالك وأبو حنيفة إن التغريب معناه الحبس، فيحبس المغرَّب فى البلد الذى يغرب إليه مدة لا تزيد على سنة، فالتغريب عند المالكيين والحنفيين معناه الحبس فى بلد غير البلد الذى وقعت فيه الجريمة، ومن هذا الرأى الزيديون (3) .
ويرى الشافعى وأحمد أن التغريب معناه النفى من البلد الذى حدث فيه الزنا إلى بلد آخر، على أن يراقب المغرَّب بحيث بالمراقبة فى البلد الذى غرب إليه، ولا يحبس فيه، فالتغريب عند الشفعيين والحنابلة هو الوضع تحت المراقبة
_________
(
1) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المغنى [ج10 ص133] .
(2) أسنى المطالب [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص134] ، المحلى [ج11 ص332] .
(3) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، شرح فتح القدير [ج4 ص270] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص203] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] .
(2/381)

فى بلد آخر (1) . ومن هذا الرأى الظاهريون (2) .
ويشترط بعض الفقهاء فى التغريب أن يكون لمسافة لا تقل عن مسافة القصر (3) . ويرى البعض أن يكون النفى من عمل الحاكم إلى عمل غيره دون التقيد بمسافة معينة، فلو نفى إلى قرية تبعد عن محل الحادث ميلاً لكفى، كما يجوز أن ينفى من مصر إلى مصر لأن النفى ورد مطلقًا فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم (4) .
والمقصود من المراقبة أن يمنع الزانى من العودة إلى بلدة قبل انتهاء المدة، أو إلى ما دون مسافة القصر على رأى البعض، ويرى البعض أن المراقبة مقصود بها إلزام المغرَّب بالإقامة فى البلد المغرب إليه، فلا يُمكَّن من الضرب فى الأرض (5) .
وإذا كانت القاعدة عند الشافعيين أن التغريب معناه النفى إلا أنهم يجيزون حبس المغرَّب إذا خيف رجوعه إلى البلد الذى غرب منه (6) .
ويرى الشافعيون إعادة تغريب المغرب إذا رجع إلى البلد الذى غرب منه، على أن تستأنف المدة من جديد ليتوالى الإيحاش وحتى لا تفرق السنة (7) . أما الحنابلة فيرون إعادة التغريب فى حالة الرجوع على أن يبنى على مدة التغريب السابقة بحيث يعاد تغريبه ليكمل ما بقى من الحول لا ليبدأ حولاً جديدًا (8) .
وإذا زنا المغرَّب فى البلد الذى غرب إليه جلد، وغرب إلى بلد آخر، ودخلت المدة الباقية من التغريب الأول فى مدة التغريب الثانية لتجانس الحدين. وهذا متفق عليه فى مذهب مالك والشافعى وأحمد، ولكن الظاهريين يرون أن
_________
(1) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المغنى [ج10 ص136] .
(2) المحلى [ج11 ص182] .
(3) مسافة القصر مختلف عليها، مذهب مالك والشافعى وأحمد وآخرون إلى أن الصلاة تقصر فى أربعة برد وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط، وقال أبو حنيفة والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاث أيام، وقال الظاهريون: إن المسافة ميل فأكثر. بداية المجتهد [ج1 ص131] ، المحلى [ج5 ص1] وما بعدها.
(4) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المهذب [ج2 ص288] ، المغنى [ج10 ص136] .
(5) أسنى المطالب [ج4 ص130] .
(6) أسنى المطالب [ج4 ص130] :

(7) أسنى المطالب [ج4 ص130] .
(8) الإقناع [ج4 ص252] .
(2/382)

تستتم مدة التغريب الأولى ثم تبدأ فى الثانية (1) ؛ لأن القاعدة عندهم أن ما وجب من حد لا يجزئ عنه حد آخر.
وإذا زنا الغريب غُرِّب إلى غير بلده، وإذا زنا فى البلد الذى غرب إليه غرب إلى بلد آخر غير الذى غرب منه، ويرى بعض المالكيين أن سجن الغريب فى البلدة التى زنا فيها يعتبر تغريبًا له، ولكن الشافعيين والحنابلة يشترطون أن يُغرَّب عنها (2) .
* * *
المبحث الثانى
عقوبة المحصن

514 - تشديد عقوبة المحصن: فرقت الشريعة بين المحصن والبكر فى عقوبة الزنا، وخففت عقوبة البكر وشددت عقوبة المحصن، وجعلت عقوبة البكر الجلد والتغريب وعقوبة المحصن الجلد والرجم، ومعنى الرجم القتل رميًا بالحجارة وما أشبهه.
وعلة التخفيف على البكر هى علة التشديد على المحصن، فالشريعة الإسلامية تقوم على الفضيلة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وتوجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلا وهو الزواج، كما توجب عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوة فعقابه أن يجلد مائة جلدة ويُغرَّب سنة، وشفيعه فى هذه العقوبة الخفيفة تأخيره فى الزواج الذى أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن ثم أتى الجريمة فعقوبته الجلد والرجم، لأن الإحصان يسد الباب على الجريمة، ولأن الشريعة لم تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج أبديًا حتى لا يقع
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص130] ، الإقناع [ج4 ص252] ، المحلى [ج11 ص134] .
(2) نفس المراجع السابقة.
(2/383)

فى الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة فى يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق فى كل وقت، وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التى تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التى تدعو لتخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بعقوبة الاستئصال التى لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
515 - الرجم: فأما الرجم فعقوبة معترف بها من جميع الفقهاء إلا طائفة الأزارقة من الخوارج لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، وعندهم أن عقوبة المحصن وغير المحصن هى الجلد مستندين لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .
والرجم هو قتل الزانى رميًا بالحجارة وما أشبهها.
والأصل فى الرجم كما بينا (1) هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فالرجم إذن سنة قولية وسنة فعلية فى وقت واحد.
516 - الجلد: والجلد هى العقوبة الثانية للزانى المحصن طبقًا للنصوص: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (2) .
لكن الفقهاء يختلفون على ما إذا كانت عقوبة المحصن هى الرجم وحده، أو هى الرجم والجلد معًا.
وحجة القائلين بالجلد مع الرجم أن القرآن جعل الجلد عقوبة أساسية للزنا، وذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم جاءت السنة بالرجم فى حق الثيب، والتغريب فى حق البكر، فوجب الجمع
_________
(1) تراجع الفقرة [508] وما كتبناه عن التطور التشريعى لعقوبة الزنا.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
(2/384)

بينهما، وقد فعل ذلك على بن أبى طالب حيث جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديث الرسول صريح فى الجمع بين الجلد والرجم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة"، وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله، وإذا كان نص الحديث قد جعل للبكر عقوبتين الجلد والتغريب، وجعل للمحصن عقوبتين الجلد والرجم، وقد سلمنا بعقوبتى البكر، فقد وجب التسليم بعقوبتى الثيب، فيجلد أولاً ثم يرجم ثانيًا، وبهذا الرأى قال بعض الفقهاء، منهم الحسن وإسحاق وابن منذر، وعليه مذهب الظاهريين والشيعة الزيدية، وهو رواية فى مذهب أحمد (1) .
وحجة القائلين بأن العقوبة هى الرجم دون الجلد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية ورجم يهوديين، ولم يرد عنه أنه جلد واحدًا منهم، وأن الرسول فى حادث العسيف قال: "اغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا اعترفت فارجمها" (2) ، ولم يأمر بجلدها، وكان هذا آخر الأمرين من رسول الله فوجب تقديمه. هذا من جهة النصوص. أما من جهة المعنى فإن القاعدة العامة أن الحد الأصغر ينطوى فى الحد الأكبر؛ لأن الحد إنما وضع لزجر، ولا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وأصحاب هذا الرأى هم جمهور الفقهاء. هم يسلمون بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم يعتبون الجلد منسوخًا أو داخلاً فى الرجم، ومن أصحاب هذا الرأى مالك وأبو حنيفة والشافعى، وهو رواية عن أحمد (3) .
وهناك رأى ثالث يرى أصحابه أن الثيب إن كان شيخًا جُلد ورُجم، وإن كان شيبًا رُجم ولم يجلد؛ لما روى عن أبى ذر قال: "الشيخان يجلدان ويرجمان، والثيبان يرجمان، والبكران يجلدان وينفيان" (4) ، وعن أبى بن كعب ومسروق مثل
_________
(1) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، المغنى [ج10 ص124] ، المحلى [ج11 ص233] وما بعدها، شرح الأزهار [ج4 ص2244] .
(2) رواه الجماعة.
(3) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص125] .
(4) المحلى [ج11 ص234] .
(2/385)

هذا (1) . ولعل أساس هذا الرأى أن زنا الشيخ مذموم، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" (2) .
517 - حالات مختلفة على عقوبتها: وهناك حالات بعينها مختلف على العقوبة الواجبة فيها، ويرجع هذا إما إلى الاختلاف على تكييف هذه الحالات، وإما إلى الاختلاف على النصوص التى تحكمها، وسنتكلم على هذه الحالات فيما يلى:
518 - حالة اللواط: يترتب على اعتبار اللواط زنًا أن يعاقب عليه بعقوبة الزنا، ولكن القائلين باعتبار اللواط زنًا اختلفوا فى عقوبته:
فقال مالك: إن عقوبة اللواط الرجم مطلقًا سواء الفاعل والمفعول به محصنين أو غير محصنين (3) .
وفى مذهب الشافعى وأحمد ثلاثة آراء (4) :
أولها: أن اللواط حكمه حكم الزنا، فيعاقب اللائط والملوط به بعقوبة الزنا، فمن كان محصنًا رجم ومن لم يكن محصنًا جُلد وغُرِّب. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو موسى الأشعرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" (5) ؛ ولأنه حد يوجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب.
ثانيها: أن اللائط هو الذى يرجم أما الملوط به فلا يرجم وإنما يُجلد ويُغرَّب فى كل الأحوال، سواء كان ذكرًا أو أنثى محصنًا أو غير محصن؛ لأن الإحصان
_________
(1) المحلى [ج11 ص234] .
(2) رواه مسلم والنسائى.
(3) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، مواهب الجليل [ج6 ص296] .
(4) نهاية المحتاج [ج7 ص403، 404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص161] ، الإقناع [ج4 ص253] .
(5) أخرجه البيهقى وأبو داود والطيالسى، وراجع: نيل الأوطار [ج7 ص30] .
(2/386)

جعل للقُبُل وهو يؤتى فى الدُبر ولا يتصور فى الدبر إحصان. وعلى هذا فالملوط به إذا اعتبر فعله زنًا فهو زنًا من غير محصن ما دام الإحصان لم يجعل للدبر.
ثالثها: أن عقوبة اللائط والملوط به القتل فى كل حال، أى سواء كان محصنًا أو غير محصن. وفى قتله رأيان: رأى يرى القتل رجمًا. ورأى يرى القتل بالسيف. وحجة القائلين بالقتل ما رواه ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (1) ، وقد كان إطلاق القتل فى الحديث حجة لمن قال بأن القتل يكون بالسيف فى كل حال. وفسر آخرون القتل بالرجم لأنه وطء يجب به الحد، فكان القتل بالرجم كما هو الحال فى الزنا.
ويرى أبو حنيفة أن اللواط ليس زنًا فلا يعاقب عليه بعقوبة الزنا وإنما يعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، ولا مانع عند أبى حنيفة من أن يحبس حتى يموت أو يتوب، وإذا اعتاد اللواط يقتل سياسة لا حدًا، أما أبو يوسف ومحمد فيريان اللواط زنًا يعاقب عليه بعقوبة الزنا فيجلد من لم يحصن ويرجم المحصن (2) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أحدهما أن حكم اللواط هو حكم الزنا، فيرجم المحصن، ويجلد من لم يحصن. والثانى أن يقتل الفاعل والمفعول به فى كل حال (3) .
أما الظاهريون فيرون اللواط شيئًا آخر غير الزنا، فهو معصية يُعزَّر عليها (4) .
519 - حالة وطء المحارم: يرى جمهور الفقهاء أن من وطئ محرمًا عوقب بعقوبة الزانى فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب. ولكن بعضهم يرى - وهو رأى لأحمد - (5) أن من وطئ ذات محرم حده القتل فى كل حال؛
_________
(1) رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه والبيهقى.
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، بدائع الصنائع [ج7 ص24] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص336] .
(4) المحلى [ج11 ص285] .
(5) المغنى [ج10 ص153] .
(2/387)

لما رواه البراء قال: "لقيت عمى ومعه الراية فقلت: إلى أين تريد؟ قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل ينكح امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه وآخذ ماله" (1) ، ولما رواه الجورجانى وابن ماجه بإسنادهما عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه" (2) .
ويرى الظاهريون أن من وقع على امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد فإنه يقتل محصنًا كان أو غير محصن، وبخمس ماله، وساء كانت أمه أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل. وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه بصهر أو رضاع فهو زان وعليه حد الزنا فقط (3) ، وعلة ذلك أن امرأة الأب ورد فيها نص صريح هو حديث البراء، أما من عداها من المحارم فلم يصح فى شأنهن نص خاص، فمن وقع على واحدة منهن كان زانيًا طبقًا للنصوص العامة.
520 - حالة وطء البهائم: لا يعتبر وطء البهائم والحيوانات على العموم زنًا عند مالك وأبى حنيفة والظاهريين، وإنما هو معصية فيها التعزير. وكذلك الحكم فى تمكين المرأة حيوانًا من نفسها. وعلى هذا الرأى الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد (4) .
أما الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى وأحمد فيرى أصحابه أن الفعل يعتبر زنًا ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال (5) ، لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوه البهيمة" (6) .
وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل المرأة، ويجعلون
_________
(1) رواه الخمسة، راجع: نيل الأوطار [ج7 ص28] .
(2) راجع: نيل الأوطار [ج7 ص31] .
(3) المحلى [ج11 ص256] .
(4) شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص152] ، المحلى [ج11 ص386، 388] .
(5) المغنى [ج10 ص163] ، نهاية المحتاج [ج7 ص405] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .
(6) رواه أحمد وأبو داود والترمذى.
(2/388)

عقوبة المحصن الرجم وعقوبة غير المحصن الجلد والتغريب (1) . وهذا الذى يراه بعض الشافعيين هو الرأى الراجح فى مذهب الشيعة الزيدية، وإن كان بعضهم يرى ما يراه مالك وأبو حنيفة (2) .
ويرى الشافعيون والحنابلة أن المرأة التى تمكِّن من نفسها حيوانًا عليها ما على واطئ البهيمة (3) ، وإن كان بعض الشافعيين يصرحون بأنه ليس على المرأة إلا التعزير (4) .
* * *
المبحث الثالث
الإحصان

521 - الإحصان شرط الرجم: رأينا فيما سبق أن الشريعة الإسلامية تفرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، وتعاقب الأول بالرجم دون الثانى، ومعنى هذا أن الشريعة تجعل الإحصان شرطًا للرجم، فإذا انعدم الإحصان امتنع الرجم.
وإذا كان الإحصان شرطًا فى الرجم، فإن الإحصان فى نفس الوقت مجموعة شروط تكون هيئة واحدة أو مجموعة أجزاء لعلة واحدة، وكل واحد من هذه المجموعة يعتبر بذاته شرطًا أو علة لوجوب الرجم.
522 - معنى الإحصان: الإحصان لغة معناه: الدخول فى الحصن أو المنع، قال تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] ، ويقال: أحصن إذا دخل فى الحصن.
وللإحصان فى القرآن أكثر من معنى، فقد جاء بمعنى التزويج فى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، وجاء بمعنى الحرية فى
_________
(1) نهاية المحتاج [ج7 ص405] .
(2) شرح الأزهار [ج4 ص336] .
(3) الإقناع [ج4 ص253] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .
(4) نهاية المحتاج [ج4 ص404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .
(2/389)

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، وجاء بمعنى العفة فى قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] ، وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة: 5] ، وجاء بمعنى الإسلام والزواج فى قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] ، وجاء بمعنى الحرية والبلوغ والعفة فى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
523 - أنواع الإحصان: الإحصان فى الجرائم على نوعين: إحصان الرجم، وإحصان القذف، وسنتكلم هنا على إحصان الرجم، أما إحصان القذف فمحل الكلام عليه جريمة القذف.
وإحصان الرجم شرعًا: هو عبارة عن اجتماع صفات اعتبرها الشارع لوجوب الرجم، أو هو مجموعة من الشروط إذا توفرت فى الزانى كان عقابه الرجم بدلاً من الجلد.
524 - شروط الإحصان: اتفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان فى جريمة الزنا، واختلفوا على البعض الآخر، وسنبين فيما يلى شروط الإحصان سواء منها ما اتفق عليه وما اختلف فيه:
أولاً: الوطء فىنكاح صحيح: يشترط لقيام الإحصان أن يكون وطء فى نكاح صحيح، وأن يكون الوطء فى القُبُل لقوله عليه السلام: "والثيب بالثيب الجلد والرجم"، والثيابة تحصل بالوطء فى القبل (1) .
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص131] ، بدائع الصنائع [ج7 ص37] ، المغنى [10 ص126] ، بداية المجتهد [ج2 ص364] ، شرح الأزهار [ج4 ص342] .
(2/390)

ولا خلاف فى أن عقد النكاح الخالى من الوطء لا يحصل به إحصان، ولو حصلت فيه خلوة صحيحة (1) أو وطء فيما دون الفرج، أو وطء فى الدبر، لأن كل هذا لا تعتبر به المرأة ثيبًا ولا تخرج عن حد الأبكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام.
والوطء الذى يؤدى إلى الثيابة هو الإيلاج فى القبل على وجه يوجب الغسل، أو هو تغييب الحشفة أو مثلها فى القبل سواء أنزل أو لم ينزل، ولا يكفى مثل هذا الوطء وحده لوجود الإحصان بل يجب أن يكون الوطء فى نكاح؛ لأن النكاح هو الإحصان لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] يعنى المتزوجات، فإن كان الوطء فى غير نكاح كالزنا ووطء الشبهة فلا يصير به الواطئ محصنًا دون خلاف.
ويشترط فى النكاح أن يكون صحيحًا، فإن كان فاسدًا فإن الوطء فيه لا يحصن كما يرى جمهور الفقهاء (2) .
ويشترط إذا كان الوطء فى نكاح صحيح أن لا يكون وطئًا محرمًا كالوطء فى الحيض أو الإحرام، فإن الوطء الذى يحرمه الشارع لا يحصن ولو كان فى نكاح صحيح (3) .
ثانيًا: البلوغ والعقل: وهما شرطا الأهلية للعقوبة، كما أنهما لازمان فى كل جريمة، ويجب توفرهما فى المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة طبقًا للقواعد العامة، إلا أنهما اشترطا أيضًا فى الإحصان لأن اشتراطهما وقت ارتكاب الجريمة لا يغنى عن اشتراطهما فى الإحصان، فيشترط إذن أن يكون
_________
(1) يرى الهادى من فقهاء الزيدية اعتبار الإحصان بالخلوة، ولكنهم يتأولون رأيه ويقولون إنه أراد الخلوة مع الدخول. شرح الأزهار [ج4 ص342] .
(2) المغنى [ج10 ص126 [، الإقناع [ج4 ص350] ، المهذب [ج2 ص283] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص130، 133] ، شرح الأزهار [ج4 ص343] .
(3) أسنى المطالب [ج4 ص128] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] .
(2/391)

الوطء الذى يحصن حاصلاً من بالغ عاقل، فإذا حصل الوطء من صبى أو مجنون ثم بلغ وعقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السابق محصنًا، وإذا زنا عوقب على أنه غير محصن (1) .
على أن بعض أصحاب الشافعى يرون - ورأيهم هو المرجوح فى المذهب - أن الواطئ يصير محصنًا بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون، فلو بلغ أو أفاق فزنا رجم دون حاجة إلى حصول وطء جديد بعد البلوغ والإفاقة، وحجتهم أن الوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون وطء مباح، فيجب أن يثبت به الإحصان؛ لأنه إذا صح النكاح قبل البلوغ فإن الوطء يصح تبعًا له.
ويرد على ذلك بأن الرجم عقوبة الثيب ولو اعتبرت الثيوبة حاصلة بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصغير والمجنون، وهذا ما لا يقول به أحد، كذلك فإن هناك فرقًا بين الإحصان والإحلال، وكل إحلال لا يترتب عليه إحصان، كما أن الإحصان شرط عقوبة الرجم، ولو كان الإحلال يقوم مقام الإحصان لما كان ثمة ما يدعو لاشتراط الإحصان (2) .
ثالثًا: وجود الكمال فى الطرفين حال الوطء: أو بتعبير آخر: ينبغى أن تتوفر شروط الإحصان فى الواطئ والموطوءة حال الوطء الذى يترتب عليه الإحصان، فيطأ مثلاً الرجل العاقل امرأة عاقلة، فإذا لم تتوفر هذه الشروط فى أحدهما فهما معًا غير محصنين. فإذا كان الجانى متزوجًا ودخل بزوجته فى نكاح صحيح ولكنها مجنونة أو صغيرة، فالجانى غير محصن ولو كان هو نفسه بالغًا عاقلاً، هذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد (3) .
ولكن مالكًا لا يشترط توفر شروط الإحصان فى الزوجين لإحصانهما معًا،
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص130، 131] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص128] ، شرح الأزهار [ج4 ص343] .
(2) المهذب [ج2 ص283] ، المغنى [ج10 ص128] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص130، 133] ، المغنى [ج11 ص128] .
(2/392)

وعنده أنه يكفى أن تتوفر شروط الإحصان فى أحد الزوجين ليكون محصنًا بغض النظر عما إذا كان الزوج الآخر تتوفر فيه هذه الشروط أم لا، فشرط تحصين الذكر عنده أن تتوفر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرة أو مجنونة، وتتحصن الأنثى عند مالك بتوفر الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنونًا (1) .
وفى مذهب الشافعى رأيان أحدهما يتفق مع رأى أبى حنيفة وأحمد، وثانيهما يتفق مع مذهب مالك (2) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية نفس الرأيين، ثم رأى ثالث يرى أن المجنون لا يحصن العاقل بأى حال (3) ، وإن أحصن البالغ من لم يبلغ.
والذين يشترطون اجتماع شروط الإحصان فى الزوجين يعللون ذلك بأن اجتماع هذه الصفات فى الزوجين يشعر بكمال حالهما وبكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين، ويرون أن تخلف أحد هذه الشروط أو بعضها يشعر بالنقص، فاقتضاء الشهوة من المجنونة والصغيرة قاصر ولا يبلغ بالرجل حد الكمال، والمحصن لا تغلظ له العقوبة إلا على أساس أنه فى حال الكمال تغنيه عن التفكير فى الحرام (4) .
رابعًا: الإسلام: ويجعل أبو حنيفة ومالك الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، وحجتهما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما استشاره حذيفة فى زواج كتابية: "دعها فإنها لا تحصنك". ولكن الشافعى وأحمد لا يريان الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، وحجتهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين، ولو كان الإسلام شرطًا فى الإحصان لما رجمهما، فضلاً عن أن الأديان عامة تحرم الزنا كما يحرمه
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] .
(2) المهذب [ج2 ص283] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص343، 344] .
(4) شرح فتح القدير [ج4 ص131] ، المغنى [ج10 ص128] .
(2/393)

الإسلام. ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب الشافعى وأحمد فى هذه الوجهة، أما المذهب الزيدى ففيه الرأيان وأرجحهما ما يقول به الشافعى وأحمد (1) .
ويترتب على هذا الخلاف أن المسلم المتزوج من كتابية إذا زنا لا يرجم فى رأى أبى حنيفة لأنه لا يعتبر محصنًا، إذ الكتابية لا تحصن المسلم، وكان يحب أن يكون هذا هو الحكم عند مالك لولا أنه لا يشترط الكمال فى الزوجين، ومن ثم فإن الكتابية فى رأيه تحصن المسلم، فإذا زنا المسلم المتزوج من كتابية رجم عند مالك، كما يرجم عند الشافعى وأحمد والظاهريين وبعض الزيديين؛ لأن هؤلاء لا يعتبرون الإسلام شرطًا من شروط الإحصان.
525 - زنا المحصن بغير محصن: بينا فيما سبق شروط الإحصان ما اتفق عليه منها وما اختلف فيه، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفر هذه الشروط فى كل من الزوجين لاعتبار أحدهما محصنًا، فإن الفقهاء جميعًا لا يشترطون إحصان كل من الزانيين لوجوب الرجم على أحدهما، ويرون رجم من توفرت فيه شروط الإحصان من الزانيين، فإذا كان أحد الزانيين محصنًا والثانى غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن.
* * *
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص129] ، المحلى [ج11 ص158] ، شرح الأزهار [ج4 ص344] .
(2/394)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق