الاثنين، 17 نوفمبر 2014

الباب الثاني : في الحدود – الكتاب الثاني : القذف - تمهيد - كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة

الباب الثاني
في الحدود

الكتاب الثانى
القذف

كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي

 الجزء الثاني  


الدكتور عبد القادر عودة 


تمهيد:

557 - تعريف القذف: القذف فى الشريعة الإسلامية نوعان: قذف يحد عليه القاذف، وقذف يعاقب عليه بالتعزير.
فأما ما يحد فيه القاذف فهو رمى المحصن بالزنا أو نفى نسبه، وأما ما فيه التعزير فهو الرمى بغير الزنا ونفى النسب سواء كان من رمى محصنًا أو غير محصن، ويلحق بهذا النوع السب والشتم ففيهما التعزير أيضًا.
والكلام هنا مقصود به جريمة القذف المعاقب عليها بالحد وأن الكلام على هذا النوع من القذف يشمل القذف والسب الذى يجب فيه التعزير. وقد سكت الفقهاء عن بيان الفروق بين القذف بنوعيه وبين السب والشتم، ولكن الظاهر من تتبع أقوالهم وأمثلتهم فى أبواب الزنا والقذف والتعزير أنهم يعتبرون القول قذفًا كلما ً رمى القاذف المجنى عليه بواقعة تحتمل التصديق والتكذيب ويمكن إثباتها بطبيعتها كالرمى بالزنا والرشوة، ويعتبرون القول سبًا إذا كان مارمى به المجنى عليه ظاهر الكذب ولا يقبل الإثبات بداهة؛ كمن قال لآخر: يا كلب يا حمار، أو قال لبصير: يا أعمى، فرمى الإنسان بأنه كلب أو حمار ورمى البصير بأنه أعمى هو قول ظاهر الكذب ولا يقبل بداهة إثبات صحته.
558 - قاعدة الشريعة فى إثبات القذف والسب: القاعدة فى الشريعة أن من رمى إنسانًا بواقعة أو صفة محرمة ما، وجب عليه أن يثبت صحة ما رماه
(2/455)

به، فإن عجز عن إثباته أو امتنع وجبت عليه العقوبة، أما من سب إنسانًا أو شتمه فعليه العقوبة وليس له الحق فى إثبات صحة ما قال؛ لأن ما قاله ظاهر الكذب ولا يمكن إثباته بطبيعة الحال، أما من رمى شخصًا بما ليس معصية فلا يعفيه صحة القذف من العقاب لأنه بالرغم من صحة قوله قد آذى المقذوف والإيذاء محرم فى الشريعة، ولأن ما قذف به لا تحرمه الشريعة ولا تؤاخذ عليه فلا يصح أن يعزز به.
559 - بين الشريعة والقانون: يختلف قانون العقوبات المصرى عن الشريعة من هذه الوجهة كل الاختلاف، فالقاعدة فيه أن ليس لمن قذف إنسانًا بشىء أن يثبت صحة ما قذفه به وعليه العقوبة ولو كان الظاهر أن ما قاله صدق لا شك فيه، والأساس الذى يقوم عليه القانون المصرى هو حماية حياة الأفراد الخاصة وهو نفس الأساس الذى تقوم عليه القوانين الأوروبية؛ لأن مصدرها جميعًا واحد هو القانون الرومانى، فالقانون الوضعى يقوم فى جرائم القول على قاعدة النفاق والرياء ويعاقب الصادق والكاذب على السواء، والمبدأ الأساسى فى هذا القانون أنه لا يجوز أن يقذف امرؤ آخر أو يسبه أو يعيبه فإن فعل عوقب سواء كان صادقًاَ فيما قال أو مختلقًا لما قال.
وإذا كان هذا المبدأ يحمى البرآء من ألسنة الكاذبين الملفقين فإنه يحمى الملوثين والمجرمين والفاسقين من ألسنة الصادقين، وإذا كان هذا المبدأ قد عنى بحماية حياة الأفراد الخاصة فإنه قد أدى إلى إفساد الأفراد والجماعة على السواء؛ لأن القانون حين يعاقب على الصدق لا يمنع الصادق من قول الحق فقط وإنما يدفعه إلى الكذب ويشجعه على النفاق والرياء، كما أن القانون لا يصلح الفرد المعوج السيرة بحمايته وإنما يشجعه بهذه الحماية على الإمعان فى الفساد بل إنه ليغرى كثيرًا من الصالحين بسلوك طريق الفساد ما دام أنهم قد أمنوا من التشنيع والانتقاد، وهكذا تفسد الجماعة وتهدر الأخلاق الفاضلة لأن القانون يحمى من لا يستحق الحماية على الإطلاق.
(2/456)

بهذا المبدأ الذى قام عليه القانون ينعدم الفرق بين الخبيث والطيب والمسىء والمحسن وينعدم الحد بين الرذيلة والفضيلة، وبهذا المبدأ انحط المستوى الأخلاقى بين الشعوب فالطيب لا يستطيع أن ينتقد الخبيث، والخبيث سادر فى غيه ذاهب إلى نهاية طوره لأنه لا يخشى رقيبًا ولا حسيبًا من الجماهير. ولا يستطيع امرؤ طبقًا لهذا المبدأ القانونى أن يسمى الأسماء بمسمياتها وأن يصف الموصوفات بأوصافها، ولا يستطيع أن يقول للمفترى يا كاذب، فإن قالها فقد باء بالعقوبة وباء الزانى والسارق والكاذب - فوق حماية القانون - بالتعويض المالى على ما نسب إليهم من قول هو عين الحق والصدق.
ذلكم هو مبدأ القانون فى جرائم القول: يحرم على الناس أن يقولوا الحق، وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسئ ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان. وقد شعر واضعو القانون المصرى بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه فاستثنوا منه حالات أربع هى:
1 - حالة الطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية أو مكلف بخدمة عامة: فإن الطاعن لا يعاقب على طعنه إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة بشرط أن يثبت الطاعن حقيقة كل فعل أسنده إلى المقذوف (1) .
وقد تقرر هذا الاستثناء بإسقاط الموظف والنائب والمكلف بخدمة عامة إذ أن أعمالهم معرضة للانتقاد فيدعوهم ذلك إلى الإحسان ما استطاعوا.
2 - حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخاب يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح وأخلاقه أثناء المعركة الانتخابية بالرغم من تحريم قانون العقوبات لهذه الأقوال فى الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك
_________
(1) المادة رقم 302 من قانون العقوبات المصرى.
(2/457)

المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب ليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين ويختاروا من يصلح للنيابة عنهم بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه.
3 - حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤخذون على ما يبدون من الأفكار والآراء فى المجلسين طبقًا لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب. ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين فى أن القاذف فى الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقًا فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقًا فيما قال أو مختلقًا لما قال.
4 - حالة المحاكمة والتقاضى: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف والسب الذى يحدث من الخصوم أو وكلائهم فى دفاعهم الشفوى أو الكتابى أمام المحاكم ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية.
ويلاحظ أن القاذف والساب لا يعاقب جنائيًا على قذفه أو سبه سواء كان صادقًا أو كاذبًا فيما قال. هذا هو مبدأ القانون المصرى فى جرائم القول، وهو نفس المبدأ الذى تأخذ به القوانين الوضعية بصفة عامة، وهى مستثنيات المبدأ فى مصر، وهى لا تكاد تختلف كثيرًا عما فى معظم القوانين الوضعية.
والعيب الفنى فى نصوص القانون المصرى هو التناقض الظاهر وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسى يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد إذ بالاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة.
وبينما المبدأ الأساسى هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء إذ ببعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها يبيح القول الصادق والقول الكاذب معًا، وليس بعد هذا تناقض ولا اضطراب. والعيب الخلقى الاجتماعى أن القانون حين قرر حماية الحياة الخاصة للأفراد قد قضى بإفساد الحياة العامة
(2/458)

للجماعة؛ لأن الأفراد هم الذين يكونون الجماعة وإذا صلحوا صلحت الجماعة، ولا يمكن أن يتصور وجود جماعة صالحة أفرادها فاسدون، ولا شك أن حماية حياة الأفراد الخاصة تؤدى إلى إفساد أخلاقهم وهدم الوازع الأدبى فى نفوسهم فإنما يحاول إقامة بيت من لبنات تالفة غير متماسكة، فلا يكاد ينتهى من بنائه حتى يخر عليه من السقف أو ينقض من القواعد.
أما المبدأ الأساسى للجرائم القولية فى الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء وإباحة الصدق فى كل الأحوال، ولذلك فلا عقاب فى الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمى الأشياء بمسمياتها والموصوفات بأوصافها، ولا عقاب على من يقول للزانى يا زانى إذا أثبت أنه زانٍ، ولا عقاب على من يقول للسارق إنك سارق إذا أثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنك كاذب إذ لم يَعْدُ قول الحق.
وليس لهذا المبدأ استثناءات، فكل إنسان يستطيع أن يطعن فى أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة فى أعمالهم أو أشخاصهم.
ولم تحم الشريعة الإسلامية الحياة الخاصة للموظفين العموميين ومن فى حكمهم كما تفعل القوانين الوضعية، لأن الشريعة لا تحمى النفاق والرياء والكذب، ولأن الشخص الذى لا يستطيع أن يسير سيرة حسنة فى حياته الخاصة ليس أهلًا فى نظر الشريعة لأن يتولى شيئًا من أمور الناس فى حياتهم العامة.
وكل إنسان فى وقت الانتخابات وفى غير الانتخابات يستطيع طبقًا للشريعة أن يقول للمحسن هذا محسن وللمسىء هذا مسىء ما دام يستطيع أن يثبت إساءة المسىء، وكل إنسان سواء كان عضوًا فى البرلمان أو فى أى هيئة أخرى أو كان
(2/459)

عاطلًا من عضوية الهيئات على الإطلاق له الحق فى أن ينسب ما يشاء إلى من شاء ما دام يستطيع أن يثبت ما ينسبه إلى هؤلاء، فليس فى الشريعة - كما فى القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق فى وقت الانتخابات وتحريمه فى غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام ولا تحرمه فى أى ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان.
وليس فى الشريعة - كما فى القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق والكذب معًا لأعضاء البرلمان والمتقاضين؛ لأن ذلك يجعل الصدق والكذب بمنزلة سواء، والشريعة توجب الصدق كل الوجوب وتحرم الكذب كل التحريم فلا تجمع فى حكم واحد بين المتناقضين، ولأن أعضاء البرلمان هم أهل الرأى والشورى فإذا أُحل لهم الكذب وأمنوا العقوبة عليه كانوا أقرب إلى مظنة الوقوع فيه، وما قيمة الرأى والمشورة من قوم يظن فيهم أنهم لا يصدقون فى كل الأحوال ولأن الشريعة الإسلامية تقوم على المساواة، وفى تميز أعضاء البرلمان والمتقاضين خروج على مبدأ المساواة.
هذه هى الشريعة الإسلامية تقوم على حماية الحياة العامة من الغش والرياء وحماية الأفراد من مسايرة الأهواء، وترى الصدق فضيلة تستحق التشجيع لا العقاب، وترى أن الفرد الفاسد أحق بأن يتحمل وزر عمله وأن لا يتضرر من نتائجه، ومن ثَمَّ أباحت إثبات القذف، فإن استطاع القاذف إثبات ما قال فلا عقاب عليه، وليس للمقذوف أن يتضرر من القذف لأنه نتيجة عمله هو لا عمل القاذف، فإن عجز القاذف عن الإثبات فهو ظالم يستحق العقوبة، ويجب أن نلاحظ أن فى إيقاع العقوبة على القاذف بعد إباحة إثبات القذف له وعجزه عن الإثبات دليلًا قاطعًا على عدم صحة القذف، أما إيقاع العقوبة على القاذف مع منعه من إثبات القذف كما هو الحال فى القانون فإنه لا يبرئ مما يقذف به , ولا يقطع بكذب القاذف. ومن هذا يتبين أن نظرية الشريعة أكرم وأفضل للمجنى عليه والجانى من نظرية القانون الوضعى.
(2/460)

وإذا كان القاذف لا يعاقب على القذف إذا أثبت صحته فليس معنى ذلك إهدار المقذوف طول حياته بحيث يقذف ولا يعاقب قاذفه، وإنما للمقذوف أن يستعيد عصمته بتوبته وصلاحه، فإن تاب وصلح حاله عوقب قاذفه عقوبة تعزيرية إذا كان يعلم بتوبة المقذوف وانصلاح حاله وكان يقصد من القذف إيذاءه (1) .
بل إن قاذف أى شخص بمعصية يعزر على القذف ما دام المقذوف قد عوقب من قبل على معصيته لأن القذف كان لمجرد الإيذاء (2) .
560 - النصوص الواردة فى القذف: الأصل فى تحريم القذف الكتاب والسنة:
فأما الكتاب فقول الله تعالى: {واَلَّذِينَ يَرمْوُنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُنَ الْمُحْصَنَاتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
وأما السنة: فقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله , والسحر، وقتل النفس التى حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
* * *


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق