الأحد، 16 نوفمبر 2014

الباب الثانى : فى الحدود - الكتاب الأول : الزنا : الفصل الأول أركان جريمة الزنا - من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني - الدكتور عبد القادر عودة


الباب الثانى
 فى الحدود
مسائل عامة عن الحدود

من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
 الجزء الثاني
الدكتور عبد القادر عودة 

الكتاب الأول
الزنا

تمهيد:
480 - الزنا فى الشريعة والقانون: تختلف جريمة الزنا فى الشريعة الإسلامية عنها فى القوانين الوضعية، فالشريعة الإسلامية تعتبر كل وطء محرم زنًا وتعاقب عليه سواء حدث من متزوج أو غير متزوج، أما القوانين الوضعية فلا تعتبر كل وطء محرم زنًا، وأغلبها يعاقب بصفة خاصة على الزنا الحاصل من الزوجين فقط كالقانون المصرى والقانون الفرنسى، ولا تعتبر ما عدا ذلك زنًا وإنما تعتبره وقاعًا أو هتك عرض.
ولا يعاقب القانون المصرى على الوقاع إلا فى حالة الاغتصاب، فإن كان بالتراضى فلا عقاب عليه ما لم يكن الرضا معيبًا.
ويعتبر القانون المصرى الرضا معيبًا إذا لم يبلغ المفعول به ثمانية عشر عامًا كاملة - ولو وقت الجريمة بناء على طلبه هو - فإن بلغها اعتبر رضاه صحيحًا، والعقوبة فى حالة الرضا العيب بسيطة لأن الفعل يعتبر جنحة.
ويدخل اللواط فى هتك العرض طبقًا لقانون العقوبات المصرى سواء لاط الفاعل بامرأة وبرجل.
ويعاقب القانون المصرى الرجل والمرأة معًا فى حالة الزنا، أما فى الوقاع وهتك العرض فلا يعاقب القانون إلا طرفًا واحدًا هو الفاعل سواء أتى المفعول به فى القبل أو فى الدبر، وعلة ذلك أن القانون يبيح الفعل طالما كان مصحوبًا برضاء المفعول به، فإن كان رضاه منعدمًا أو معيبًا اعتبر مجنيًا عليه لا جانيًا
(2/346)

481 - أساس عقوبة الزنا فى الشريعة والقانون: وتعاقب الشريعة الإسلامية على الزنا باعتباره ماسًا بكيان الجماعة وسلامتها، إذ أنه اعتداء شديد على نظام الأسرة، والأسرة هى الأساس الذى تقوم عليه الجماعة، ولأن فى إباحة الزنا إشاعة للفاحشة وهذا يؤدى إلى هدم الأسرة ثم إلى فساد المجتمع وانحلاله، والشريعة تحرص أشد الحرص على بقاء الجماعة متماسكة قوية.
أما العقوبة فى القوانين الوضعية فأساسها أن الزنا من الأمور الشخصية التى تمس علاقات الأفراد ولا تمس صالح الجماعة، فى معنى للعقوبة عليه ما دام عن تراضٍ إلا إذا كان أحد الطرفين زوجًا ففى هذه الحالة يعاقب على الفعل صيانة لحرمة الزوجية.
482 - الواقع يشهد للشريعة: ولعل ما حدث فى أوربا والبلاد الغربية عامة يؤيد نظرية الشريعة، فقد تحللت الجماعات الأوربية وتصدعت وحدتهم وذهب ريحها وما لذلك من سبب إلا شيوع الفاحشة والفساد الخلقى والإباحية التى لا تعرف حدًا تنتهى إليه، وما أشاع الفاحشة وأفسد الأخلاق ونشر الإباحية إلا إباحة الزنا وترك الأفراد لشهواتهم واعتبار الزنا من الأمور الشخصية التى لا تمس صالح الجماعة.
ولعل أشد ما تواجهه البلاد غير الإسلامية اليوم من أزمات اجتماعيه وسياسية يرجع إلى إباحة الزنا، فقد قل النسل فى بعض الدول قلة ظاهرة تنذر بفناء هذه الدول أو توقف نموها، وترجع قلة النسل أولا وأخيرًا إلى امتناع الكثيرين عن الزواج، وإلى العقم الذى انتشر بين الأزواج.
ولا يمتنع الرجل عن الزواج إلا لأنه يستطيع أن ينال من المرأة ما يشاء فى غير حاجة إلى الزواج، ولأنه لا يثق فى أن المرأة ستكون له وحده بعد الزواج، وقد اعتاد أن يجدها مشاعًا بينه وبين الغير قبل الزواج.
والمرأة التى كانت أمنيتها الأولى الزواج، ووظيفتها التى خلقت من أجلها إدارة البيت وتربية الأولاد، هذه المرأة أصبحت فى كثير من الأحوال تنفر من
(2/347)

الزواج ولا ترضى أن تستأسر لرجل تنال ما عنده، بينما هى تستطيع أن تنال ما عند عشرات الرجال دون أن تثقل نفسها بالقيود والأغلال.
وقد أدى شيوع الزنا إلى مقاومة الحمل من جهة وانتشار الأمراض السرية من جهة أخرى، وإذا كانت مقاومة الحمل تؤدى فى كثير من الأحوال إلى عقم النساء، فإن انتشار الأمراض السرية يؤدى فى الغالب إلى عقم الرجال والنساء على السواء.
وكانت المرأة تعيش فى كنف الرجل فى ظل الزواج، فلما أضرب الرجال عن الزواج كان لابد للمرأة من أن تعيش، فاضطرت إلى مزاحمة الرجل فى ميدان العمل لتنال قوتها، فأدى هذا إلى تفشى البطالة وشيوع المبادئ الهدامة وألقى بشعوب أوربا فى بحر لجى يزخر بالفوضى والاضطراب.
ويستطيع الإنسان أن يرتب على هذه المفاسد الاجتماعية نتائجها الخطيرة دون أن يخطئ الحساب، ولو تدبر هذه النتائج القائلون بأن الزنا علاقة شخصية لعلموا أن الزنا من أخطر الجرائم الاجتماعية، وأن مصلحة الجماعة تقتضى تحريمه فى كل الصور، والمعاقبة عليه أشد العقاب، وعلى هذا الأساس حرمت الشريعة الإسلامية الزنا لتتجنب الوصول إلى تلك النتائج المخيفة، وقررت أشد العقوبات للزناة حتى أنها اعتبرت من يزنى بعد إحصانه غير صالح للبقاء لأنه مثل سئ وليس للمثل السئ فى الشريعة حق البقاء.
ولقد كانت البلاد الإسلامية على العموم أكثر البلاد إقبالا على الزواج وبعدًا عن الإباحية، ولكن إباحة الزنا فيها على الطريقة الأوربية نقل إليها نفس الأمراض التى يشكو منها المجتمع الأوربى، فقد أصبح الرجال يعرضون عن الزواج لأنهم ينالون حاجتهم من المرأة دون زواج، وبدأت المرأة لا تهتم بالاتصال بالرجل كزوج لأنها تستطيع أن تتصل به كما تشاء من غير طريق الزواج، وقد صحب الإعراض عن الزواج قلة النسل والعقم وتفشى الأمراض السرية، وبدأ النساء يتطلعن إلى مساواتهن بالرجال، ويزاحمنهم فى شتى الأعمال، وانحط مستوى الأخلاق
(2/348)

والآداب العامة، وغاض الحياء من الوجوه والنفوس، ولا علاج لهذا كله إلا بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها ونبذ القوانين الوضعية والمبادئ الواهية التى تقوم عليها.
* * *
الفصل الأول
أركان جريمة الزنا

483 - تعريف الزنا: يعرف الزنا عند المالكيين بأنه: وطء مكلف فرج آدمى لا ملك له فيه باتفاق تعمدًا (1) .
ويعرفه الحنفيون بأنه: وطء الرجل المرأة فى القبل فى غير الملك وشبهه الملك (2) .
ويعرفه الشافعيون بأنه: إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خال من الشبهة مشتهًى طبعا (3) .
ويعرفه الحنابلة بأنه: فعل الفاحشة فى قبل أو دبر (4) .
ويعرفه الظاهريون بأنه: وطء من لا يحل النظر إلى مجردها مع العلم بالتحريم أو هو وطء محرمة العين (5) .
ويعرفه الزيديون بأنه: إيلاج فرج فى فرج حى محرم قبل أو دبر بلا شبهة (6) .
484 - أركان جريمة الزنا: ظاهر مما سبق أن الفقهاء يختلفون فى تعريف الزنا، ولكنهم مع هذا الاختلاف يتفقون فى أن الزنا هو الوطء المحرم المتعمد، ومؤدى هذا أنهم متفقون على أن لجريمة الزنا ركنين: أولهما: الوطء المحرم، وثانيهما: تعمد الوطء؛ أو القصد الجنائى.
_________
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج 8 ص 74، 75، مواهب الجليل ج6 ص 290، حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج4 ص313.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 138، الزيلعى ج3 ص163، البحر الرائق ج5 ص 3، بدائع الصنائع ج7 ص 33..
(3) نهاية المحتاج ج7 ص402، أسنى المطالب ج4 ص 125، المهذب ج2 ص 283، شرح البجيرمى على المنهج ج4 ص 209.
(4) الإقناع ج4 ص250، المغنى والشرح الكبير ج10 ص151.
(5) المحلى لابن حزم ج11 ص 229، 256.
(6) شرح الأزهار ج4 ص336.
(2/349)

وسنتناول أثناء الكلام على هذين الركنين وجوه الخلاف بين الفقهاء.
الركن الأول: الوطء المحرم
485 - الوطء المعتبر زنا: هو الوطء فى الفرج، بحيث يكون الذكر فى الفرج كالميل فى المكحلة والرشاء فى البئر، ويكفى لاعتبار الوطء زنا أن تغيب الحشفة على الأقل فى الفرج أو مثلها إن لم يكن للذكر حشفة، ولا يشترط على الرأى الراجح أن يكون الذكر منتشرًا.
وإدخال الحشفة أو قدرها يعتبر زنا ولو دخل الذكر فى هواء الفرج ولم يمس جدره، كما أنه يعتبر زنا سواء حدث إنزال أم لم يحدث.
ويعتبر الوطء زنا ولو كان هناك حائل بين الذكر والفرج مادام هذا الحائل خفيفًا لا يمنع الحس واللذة (1) .
والقاعدة أن الوطء المحرم المعتبر زنا هو الذى يحدث فى غير ملك، فكل وطء من هذا القبيل زنا عقوبته الحد ما لم يكن هناك مانع شرعى من هذه العقوبة.
أما إذا حدث الوطء أثناء قيام الملك فلا يعتبر الفعل زنا ولو كان الوطء محرمًا، لأن التحريم فى هذه الحالة عارض، فوطء الرجل زوجته الحائض أو النفساء أو الصائمة أو المحرمة أو التى ظاهر منها أو آلى منها - كل ذلك محرم ولكنه لا يعتبر زنا (2) .
_________
(1) راجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى ج8 ص 74، شرح فتح القدير ج4 ص 115، حاشية ابن عابدين ج 3 ص194، أسنى المطالب ج 4 ص 125، نهاية المحتاج ج7 ص 402، المغنى والشرح الكبير ج10 ص 151، الإقناع ج 4 ص 253، المحلى ج11 ص 229، 391، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 79، شرح فتح القدير ج4 ص 140، حاشية اين عابدين ج3 ص 294، أسنى المطالب ج5 ص126، نهاية المحتاج ج7 ص 101 المغنى والشرح الكبير ج10 ص 151، بدائع الصنائع ج7 ص 35، المحلى ج 11 ص255، 256، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2/350)

وإذا لم يكن الوطء على الصفة السابقة فلا يعتبر زنا يعاقب عليه شرعًا بالحد وإنما يعتبر معصية يعاقب عليها بعقوبة تعزيرية ملائمة (1) ، ولو كانت المعصية فى ذاتها مقدمة من مقدمات الزنا كالمفاخذة؛ أى الإيلاج بين الفخذين، وكالمباشرة خارج الفرج، كذلك يعزر على كل ما يعتبر معصية ولو لم يكن وطئًا فى ذاته كالقبلة والعناق والخلوة بالمرأة الأجنبية والنوم معها فى فراش واحد؛ لأن هذه جميعًا أفعال محرمة كما أنها من مقدمات الزنا (2) .
والأصل فى الشريعة الإسلامية أن من حرمت مباشرته فى الفرج لاعتباره زانيًا أو لائطًا حرمت مباشرته فيما دون الفرج باعتباره عاصيًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجهم حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اْلعَادُونَ} (المؤمنون:5 - 7) .
وتحرم الشريعة الخلوة بامرأة غير محرم، وذلك لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان" (3) ، فإذا حرمت الخلوة بها فلأن تحرم المباشرة أولى.
ومن القواعد الأصولية فى الشريعة: قاعدة أن ما أدى للحرام فهو حرام، فإن فعل الجانى ما لا يوجب الحد فعقوبته التعزير سواء كان ما فعله وطئًا لم تتم شروطه كالإيلاج بين الفخذين أو فى الفم، أو كان ما فعله ليس وطئًا كالخلوة بالمرأة الأجنبية، وكالعناق والقبلة والنوم معها فى فراش واحد، لأن هذه جميعًا أفعال محرمة فضلا عن أنها من مقدمات الزنا وتؤدى إليه.
_________
(1) راجع ما كتبناه عن المعاصى والحدود والتعازير فى الجزء الأول من التشريع الجنائى الإسلامى ص 67 وما بعدها وص 111 وما بعدها.
(2) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 4 ص313، شرح فتح القدير ج4 ص 150، أسنى المطالب ج4 ص125، الأحكام السلطانية للماوردى ص 206، الإقناع ج 4 ص253، المغنى والشرح الكبير ج 10 ص163، شرح الأزهار ج4 ص336، المحلى ج 11 ص229.
(3) رواه أحمد.
(2/351)

وإذا استطعنا بتطبيق القواعد السابقة أن نعرف الأفعال المحرمة فمن السهل أن نعرف بعد ذلك ما يعتبر منها وطئًا وما يعتبر من هذا الوطء زنا.
ويلاحظ أن الشريعة إذا كانت تفرق بين الوطء وما دونه وتعاقب على الأول بعقوبة الحد وعلى الثانى بعقوبة تعزيرية، فإن الشريعة مع هذا تعتبر الفعل فى الحالتين جريمة تامة، ولا تعتبر الوطء جريمة تامة وما دون الوطء شروعًا فى الجريمة كما هو الحال فى القوانين الوضعية (1) .
486 - الوطء فى الدبر: يستوى عند مالك والشافعى وأحمد والشيعة والزيدية أن يكون الوطء المحرم فى قبل أو دبر من أنثى أو رجل، ويشاركهم فى هذا الرأى محمد وأبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة (2) ، وحجتهم فى التسوية أن الوطء فى الدبر مشارك للزنا فى المعنى الذى يستدعى الحد وهو الوطء المحرم، فهو داخل تحت الزنا دلالة، فضلا عن أن القرآن سوى بينهما فقال جل شأنه والخطاب موجه لقوم لوط: {إِنَكُمْ لَتَأْتُونُ الْفَاحَشَةَ} [العنكبوت: 28] وقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِجَالَ شَهْوَةً مّنَ دُونِ الّنِسَاءِ} [الأعراف: 81] وقال {وَاللاَّتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسّاَئِكُمْ} [النساء: 15] وقال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوُهمَا} [النساء: 16]
فجعل الوطء فى الدبر فاحشة، والوطء فى القبل فاحشة، فسمى أحدهما بما سمى به الآخر. روى أبو موسى الأشعرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (3) .
_________
(1) فصلنا الكلام على هذه الملاحظة فى الجزء الاول من التشريع الجنائى الإسلامى ص 296 - 300.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 75، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج 10ص 160، شرح الأزهار ج4 ص336، بدائع الصنائع ج 7 ص34شرح الزرقانى ج8 ص 75، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج 10ص 160، شرح الأزهار ج4 ص336، بدائع الصنائع ج 7 ص34.
(3) أخرجه البيهقى وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن، وقال لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد ورواه أبوالفتح الأزدى فى الضعفاء، والطبرانى فى الكبير من وجه آخر وفيه المفضل البجلى وهو مجهول، وأخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده عنه. يراجع فى كل ما سبق: نيل الأوطار ج7ص 30
.
(2/352)

ويرى أبو حنيفة أن الوطء فى الدبر لا يعتبر زنا سواء أكان الموطوء ذكرًا أم أنثى، وحجته أن الإتيان فى القبل يسمى زنا والإتيان فى الدبر يسمى لواطًا، واختلاف الأسامى دليل على اختلاف المعانى، ولو كان اللواط زنا ما اختلف أصحاب الرسول فى شأنه، فضلا عن أن الزنا يؤدى إلى اشتباه الأنساب وتضييع الأولاد وليس الأمر كذلك فى اللواط، كما أن العقوبة تشرع دائمًا لما يغلب وجوده والزنا وحده هو الغالب لأن الشهوة المركبة فى الرجل والمرأة تدعو إ ليه، أما اللواط فليس فى طبيعة المحل ما يدعو إليه (1) .
أما الظاهريون فلا يرون اللواط زنا وإنما يرونه معصية فيها التعزير، وحجتهم أن اللواط غير الزنا وأنه لم يرد نص ولا أثر صحيح يعطى اللواط حكم الزنا (2) .
487 - وطء الزوجة فى دبرها: ومن المتفق عليه أن إتيان الزوجة فى دبرها لا يعاقب عليه بعقوبة الحد؛ لأن الزوجة محل للوطء ولأن الرجل يملك وطء زوجته.
ولكن الفقهاء اختلفوا فى تكييف الفعل، فيرى أحمد وأبو يوسف ومحمد صاحبًا أبى حنيفة أن الفعل زنًا يعاقب عليه أصلا بعقوبة الحد، ولكن هذه العقوبة تدرأ لشبهة الملك وللاختلاف فى حلية الفعل (3) . ومن ثم يعاقب على الفعل بعقوبة تعزيرية.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص43، شرح فتح القدير ج4 ص150.
(2) المحلى ج11 ص380، 385.
(3) يعتبر الفقهاء القائلون بالشبه أن الاختلاف على حل الفعل وحرمته يعتبر بذاته شبهة تدرأ الحد ويرجع الخلاف فى الحكم إلى اختلافهم فى تفسير قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نساؤكم حرث لكن فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين " [البقرة: 222، 223] فقد روى عن ابن عمر وعن الشافعى، وقيل إن الشافعى قال بذلك فى القديم، وبعض أصحاب مالك لا يرون عنه هذه الرواية، وقد أفتى متأخرو أصحابه بالتحريم، أما جمهور الفقهاء فيرون تحريم إتيان الزوجة فى الدبر مستدلين بنص القرآن وما ورد فى التحريم من أحاديث ضعيفة يقوى بعضها بعضًا، يراجع: نيل الأوطار ج6ص120 وما بعدها، المحلى ج69، 70.
(2/353)

ويرى المالكيون والشافعيون والشيعة الزيدية أن الفعل لا يعتبر زنًا لأن الزوجة محل لوطء الزوج وللزوج أن يستمتع بها، ولكن المالكين والزيديين يرون أن الفعل مع ذلك محرم ويعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، أما الشافعيون فلا يرون التعزير على الفعل إلا عند العودة له بعد نهى الحاكم عنه، فالجريمة عندهم جريمة اعتياد ولا تقع إلا بعد النهى عنها، فإذا لم يكن النهى فلا عقاب لأن الفعل قبل النهى مختلف فى إباحته، على أن بعضهم يرى العقوبة على تكرار الفعل ولا يصرح باشتراط النهى عن الفعل، ومعنى ذلك أن الفعل عندهم محرم لا شك فى تحريمه، فلا حاجة لأن ينهى عنه الحاكم.
ويرى أبو حنيفة أن الفعل لا يعتبر زنًا للأسباب التى سبق بيانها، ولكنه معصية يعاقب عليها بالتعزير.
وكذلك الأمر عند الظاهرين، فهم لا يعتبرون الإتيان فى الدبر بصفة عامة زنًا ولكنهم يرونه معصية يعزر عليها (1) .
488 - وطء الأموات: ووطء المرأة الأجنبية الميتة لا يعتبر زنًا عند أبى حنيفة، وكذلك استدخال المرأة ذكر الأجنبى الميت فى فرجها، وهذا القول رأى فى مذهب الشافعى وأحمد.
والقائلون بذلك يوجبون التعزير فى الفعل، وحجتهم أن الوطء فى الميتة ومن الميت كلا وطء لأن عضو الميت مستهلك، ولأنه عمل تعافه النفس ولا يشتهى عادة، فلا حاجة إلى الزجر عن الفعل، والحد إنما يجب للزجر وعلى هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) .
والرأى الثانى فى مذهبى الشافعى وأحمد يقوم على أن الفعل يعتبر زنًا يجب فيه الحد إذا لم يكن بين زوجين لأنه وطء محرم بل هو أعظم من الزنا وأكثر
_________
(1) يراجع فى كل ما سبق: مواهب الجليل ج6 ص291، شرح فتح القدير ج4 ص150، نهاية المحتاج ج7 ص404، أسنى المطالب ج4 ص126، المغنى ج 10ص 162، المحلى ج11 ص380 وج 10 ص 69، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص152، نهاية المحتاج ج7 ص405، المغنى ج10 ص152، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2/354)

إثمًا، حيث انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميت (1) .
وأصول الظاهريين تقتضى أن يكون رأيهم متفقًا مع هذا الرأى.
ويرى مالك أن من أتى ميتة فى قبلها أو دبرها حال كونها غير زوج له فإنه يعتبر زانيًا ويعاقب بعقوبة الزنا لالتذاذه بذلك الفعل، بخلاف من وطأ زوجته الميتة فإنه لا حد عليه، وبخلاف إدخال المرأة ذكر ميت غير زوج فى فرجها فإنها تعزر ولا تحد فيما يظهر لعدم اللذة (2) .
489 - وطء البهائم: ووطء البهائم والحيوانات على العموم لا يعتبر زنًا عند مالك وأبى حنيفة ولكنه معصية فيها التعزير، وفى حكمة أن تمكن المرأة من نفسها حيوانًا كقرد مثلا، ولا يرون الفعل زنا لأن اعتباره كذلك يوجب فيه عقوبة الحد وهى مشروعه للزجر وإنما يحتاج للزجر فيما طريقه منفتح سالك، وهذا ليس كذلك لأنه لا يرغب فيه العقلاء ولا السفهاء وإن اتفق لبعضهم ذلك لغلبة الشبق، فالفعل إذن لا يفتقر إلى الزاجر لزجر الطبع عنه (3) .
وللشافعى وأحمد رأيان أرجحهما يتفق مع رأى أبى حنيفة ومالك، والرأى الثانى يعتبر الفعل زنًاَ ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال، وسند هذا الرأى ما وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" وهو حديث لا يصححه الكثيرون (4) .
وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل والمرأة ويجعلون عقوبة المحصن الرجم وعقوبة غير المحصن الجلد والتغريب (5) . وهذا الذى يراه بعض الشافعيين هو الرأى الراجح فى مذهب الشيعة الزيدية وإن كان بعضهم يرى ما يراه مالك وأبو حنيفة (6) .
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص405، المغنى ج10ص 152.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص76.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص152.
(4) المغنى ج10 ص 163، نهاية المحتاج ج7 ص405، أسنى المطالب ج4 ص126.
(5) نهاية المحتاج ج8 ص405.
(6) شرح الأزهار ج4 ص336.
(2/355)

والشافعيون والحنابلة يرون أن المرأة التى تمكن من نفسها حيوانًا عليها ما على واطئ البهيمة (1) . على أن بعض الشافعيين يصرحون بأن ليس على المرأة إلا التعزير (2) .
ويرى الحنابلة فى كل الأحوال قتل البهيمة المأتية سواء عزر الواطئ أو قتل، ومن يرى من الشافعيين قتل الواطئ يرى أيضًا قتل البهيمة، أما الزيديون فيكرهون لحمها وشرب لبنها ولا يرون قتلها (3) .
ويرى الظاهريون أن واطئ البهيمة ليس زانيًا، لأن فعله ليس زنًا، ولم يرد نص بإلحاقه بالزنا، ولكن لما كان وطء البهيمة محرمًا أصلا ففاعل ذلك فاعل منكر مرتكب معصية عقوبتها التعزير وليس فى فعله ما يبيح قتل البهيمة أو ذبحها (4) .
490 - وطء الصغير والمجنون امرأة أجنبية: لا حد على الصغير أو المجنون فى وطء المرأة الأجنبية لعدم أهليتها، إذ الصغير لا يؤخذ بالحد إلا بعد بلوغه، والمجنون لا يؤخذ به إلا فى حال إفاقته؛ على أن الصغير يعزر على الفعل إن كان مميزًا.
وقد اختلف فى حكم المرأة التى يطؤها الصبى أو المجنون، فرأى أبو حنيفة أن المرأة التى يطؤها الصبى أو المجنون لا حد عليها ولو كانت مطاوعة وإنما عليها التعزير، وحجته أن الحد يجب على المرأة ليس لأنها زانية فإن فعل الزنا لا يتحقق منها إذ هى موطوءة وليست بواطئة، وتسميتها فى القرآن زانية مجاز لا حقيقة إنما يجب عليها الحد لكونها مزنيًا بها، ولما كان فعل الصبى والمجنون لا يعتبر زنًا عند أبى حنيفة فلا تكون مزنيًا بها (5) .
_________
(1) الإقناع ج4 ص253، أسنى المطالب ج4 ص126.
(2) أسنى المطالب ج4 ص126، نهاية المحتاج ج7 ص404.
(3) أسنى المطالب ج4 ص125، المغنى ج10 ص164، شرح الأزهار ج4 ص336، 337.
(4) المحلى ج11 ص386 - 388.
(5) شرح فتح القدير ج4 ص156، بدائع الصنائع ج7 ص34.
(2/356)

ويرى مالك رأى أبى حنيفة فى حالة ما إذا كان الواطئ صبيًا، ولكنه يرى حد المرأة إذا طاوعت المجنون، وحجته فى هذه التفرقة أن المرأة تنال لذة من المجنون ولا تنال من الصبى (1) .
أما الشافعى فيرى أن تُحَدَّ المرأة فى الحالتين ولو لم يعاقب الصبى والمجنون، لأن العقاب امتنع عن الصبى والمجنون لمعنى يخصه هو، فليس للمرأة - وقد ارتكبت الجريمة - أن تستفيد من ظروف شريكها الخاصة، وعلى هذا الرأى الظاهريون والزيديون (2) .
ويرى زفر من أصحاب أبى حنيفة رأى الشافعى، وهو رواية عن أبى يوسف وحجتهما أن كلًا من الزانى والزانية مؤاخذ بفعله، وقد فعلت المرأة ما هى به زانية لأن حقيقة زناها انقضاء شهوتها بآلته وقد وجد ذلك (3) .
وفى مذهب أحمد رأيان أرجحهما يتفق مع مذهب الشافعى، والثانى يفرق - كمذهب مالك - بين ما إذا كان الواطئ صبيًا أو مجنونًا، ويرى أصحاب هذا الرأى الثانى أن تحد المرأة إذا طاوعت المجنون ولا تحد إذا وطئها صبى لم يبلغ سنة عشر سنوات، فإذا بلغ هذه السن حدت. ويؤخذ على هذا الرأى أنه قائم على تحديد السن، والتحديد إنما يكون بالتوقيف أى بنص، ولا توقيف فى هذا الأمر (4) .
491 - وطء العاقل البالغ صغيرة أو مجنونة: واختلف أيضًا فى وطء العاقل البالغ لصغيرة أو مجنونة، فيرى مالك أن الواطئ يُحدُّ لإتيان المجنونة الكبيرة، ويحد كذلك لإتيان الصغيرة مجنونة أو غير مجنونة كلما أمكنه وطؤها ولو كان الوطء غير ممكن لغيره، فإذا لم يكن وطء الصغيرة ممكنًا للواطئ فلا حد وإنما يعزر على الفعل (5) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص78.
(2) أسنى المطالب ج4 ص128، المحلى ج11 ص146، شرح الأزهار ج4 ص338.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص156.
(4) المغنى ج10 ص152.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص76.
(2/357)

ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن العاقل البالغ إذا زنا بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها وجب عليه الحد لأن فعله زنًا، ولأن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من جانبه (1) .
ويختلف مذهب مالك عن مذهب أبى حنيفة فى أن مالكًا يجعل الحد منوطًا بإمكان الجانى وطء الصغيرة ولو أن مثلها لا يجامع، أو لو كان الوطء غير ممكن لغيره، بينما يجعله أبو حنيفة منوطًا بصلاحية الصغيرة للجماع بصفة عامة.
ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة فى هذه الناحية (2) .
ويرى الشافعيون حد العاقل البالغ إذا زنًا بمجنونة أو صغيرة مادام الوطء قد حدث فعلًا ولا يقيدون العقوبة بأى قيد (3) . وعلى هذا مذهب الظاهريين (4) .
وفى مذهب أحمد رأيان يتفق أحدهما مع مذهب الشافعى، أما الثانى فيخالفه فى حالة وطء الصغيرة مجنونة أو غير مجنونة، ويفرق أصحاب هذا الرأى بين ما إذا كانت الصغيرة يمكن وطؤها أو لا يمكن، فإن كان الوطء ممكنًا فهو زنًا يوجب الحد لأنها كالكبيرة فى ذلك، وإن كانت الصغيرة لا تصلح للوطء فلا حد على من وطئها وإنما عليه التعزير، وبعض أصحاب هذا الرأى يحدد سن الصغيرة التى لا تصلح للوطء بتسع سنوات؛ وحجته أن الصغيرة لا تشتهى فى هذه السن وأن وطأها يشبه ما لو أدخل إصبعه فى فرجها (5) .
والقائلون بحد المرأة إذا وطئها صبى أو مجنون وبحد الرجل إذا وطئ مجنونة أو صبية يتفق رأيهم مع نص المادة (39) من قانون العقوبات المصرى، وهى تقضى بأن الظروف الخاصة بأحد الفاعلين لا يتعدى أثرها إلى غيره منهم. على أن القائلين بالرأى المضاد لا يخالفون هذا المبدأ لذاته، ولكنهم يطبقون
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص156.
(2) شرح الأزهار ج2 ص338.
(3) أسنى المطالب ج2 ص128.
(4) المحلى ج10 ص471، ج11 ص256.
(5) المغنى ج10 ص152.
(2/358)

قاعدة درء الحدود والشبهات، إذ يرون أن الجريمة لا تقع إلا من اثنين بطبيعة الحال ولا يمكن أن تتم إلا باجتماعهما، ويرون فى إعفاء أحدهما من العقوبة شبهة فى حق الآخر تدعو إلى درء الحد عنه والاكتفاء بتعزيره.
492 - الوطء بشبهة: لا يصحح الظاهرين ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" (1) . ولذلك فهم يرون أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ولا أن تقام بشبهة وإنما هو الحق الله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" (2) . وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة (3) . لقول الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] .
أما باقى الفقهاء فيصححون حديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وهم متفقون على أن الوطء بشبهة لا حد فيه، ولكنهم اختلفوا فيما يعتبر شبهة، وأساس الخلاف فى اعتبار الشبهة هو الاختلاف فى التقدير، فيرى البعض أن حالة معينة تعتبر شبهة، ويرى البعض أنها لا تعتبر كذلك.
_________
(1) حديث "ادرءوا الحدود بالشبهات" روى عن على مرفوعًا وفيه المختار بن نافع، قال عنه البخارى إنه منكر الحديث، وأصح ما جاء فيه حديث سفيان الثورى عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود قال: "ادرءوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم"، وروى عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضًا موقوفًا وروى منقطعًا وموقوفًا على عمر، ورواه ابن حزم فى كتاب الإيصال عن عمر موقوفًا عليه، وروى من طرق آخر أثبتها مؤلف نيل الأوطار ج7 ص19، ويعضد ذلك الحديث المروى عن أبى هريرة: "ادرءوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا" رواه ابن ماجه، والحديث المروى عن عائشة: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة" رواه الترمذى والحاكم والبيهقى.
(2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
(3) المحلى ج11 ص153.
(2/359)

والشبهة هى ما يشبه الثابت وليس بثابت، وقد اهتم الحنفيون والشافعيون بتقسيم الشبهة وتنويعها بينما لم يهتم غيرهم من الفقهاء بهذا الأمر، واكتفوا بإيراد ما يعتبر شبهة وعلة اعتباره شبهة، على أن الشبهات عند الجميع لا يمكن حصرها لأن أساسها فى الغالب الوقائع وهى لا تحصر. ويقسم الشافعيون الشبهة ثلاثة أقسام (1) .
الأول: شبهة فى المحل: كوطء الزوجة الحائض أو الصائمة أو إتيان الزوجة فى دبرها؛ فالشبهة هنا قائمة فى محل الفعل المحرم؛ لأن المحل مملوك للزوج ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهى حائض أو صائمة أو أن يأتيها فى الدبر، إلا أن ملك الزوج للمحل وحقه عليه يورث شبهة، وقيام هذه الشبهة يقتضى درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته؛ لأن أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعًا عليه.
الثانى: شبهة فى الفاعل: كمن يطأ امرأة زُفَّت إليه على أنها زوجته ثم تبين أنها ليست زوجته، وأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده بحيث يأتى الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتى محرمًا، فقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درء الحد، أما إذا أتى الفاعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة.
الثالث: شبهة فى الجهة أو الطريق: ويقصد من هذا التعبير الاشتباه فى حل الفعل وحرمته، وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على حله أو جوازه كان الاختلاف فيه شبهة يدرأ بها الحد، فمثلا يجيز أبو حنيفة النكاح بلا ولى، ويجيز مالك النكاح بلا شهود، ويجيز ابن عباس نكاح المتعة، ولا يجيز جمهور الفقهاء هذه الأنكحة، ونتيجة هذا الخلاف أن لا حد على الوطء فى تلك الأنكحة المختلف عليها، لأن الخلاف يقوم شبهة تدرأ الحد
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص126.
(2/360)

ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل؛ لأن هذا الاعتقاد فى ذاته ليس له أثر مادام الفقهاء مختلفين على الحل والحرمة.
ويقسم الحنفيون الشبهة قسمين:
الأول: الشبهة فى الفعل (1) : يسمونها شبهة اشتباه، وشبهة مشابهة. وهى شبهة وفى حق من أشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه. وتثبيت هذه الشبهة فى حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمة دليل سمعى يقيد الحل بل ظن غير الدليل دليلًا، كمن يطأ زوجته المطلقة ثلاثًا أو بائنًا على مال فى عدتها، وتعليل ذلك أن النكاح إذا كان قد زال فى حق الحل أصلًا لوجود المبطل لحل المحلية وهو الطلاق، فإن النكاح قد بقى فى حق الفراش والحرمة على الأزواج فقط، ومثل هذا الوطء حرام فهو زنًا يوجب الحد، إلا إذا ادعى الواطئ الاشتباه وظن الحل، لأنه بنى ظنه على نوع دليل وهو بقاء النكاح فى حق الفراش وحرمة الأزواج فظن أنه بقى فى حق الحل أيضاص، وهذا وإن لم يصلح دليلًا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلًا اعتبر فى حقه درءًا لما يندرئ بالشبهات.
ويشترط لقيام الشبهة فى الفعل أن لا يكون هناك دليل على التحريم أصلا، وأن يعتقد الجانى الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتا فلا شبهة أصلا، وإذا ثبت أن الجانى كان يعلم بحرمة الفعل وجب عليه الحد (2) .
الثانى: الشبهة فى المحل: ويسمونها الشبهة الحكمية، أو شبهة الملك. وتقوم
_________
(1) يحصر الحنفيون شبهة الفعل فى جريمة الزنا فى ثمانية مواضع، منها وطء المطلقة ثلاثًا فى العدة أو بائنًا على مال وكذا المختلعة، أما بقية المواضع فخاصة بالجوارى ولا محل للتعرض لها بعد إبطال الرق.
... وبقية الفقهاء يخالفون الحنفيين فى ذلك ولا يرون شبهة فى هذه المواضع الثمانية، ومن ثم فهم لا يعترفون بشبهة الفعل فى جريمة الزنا. راجع: شرح الزرقانى ج8 ص77، مواهب الجليل ج6 ص292، أسنى المطالب ح4 ص127، المغنى ج10 ص154.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص140، 144، بدائع الصنائع ج7 ص36.
(2/361)

هذه الشبهة على الاشتباه فى حكم الشرع بحل المحل، فيشترط فى هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة، وهى تتحقق بقيام دليل شرعى ينفى الحرمة، ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوى أن يعتقد الفاعل الحل أو يعلم الحرمة، لأن الشبهة ثابتة بقيام الدليل الشرعى لا بالعلم وعدمه.
ويحصر الحنفيون شبهة المحل فى جريمة الزنا فى ستة مواضع أحدها وطء المطلقة طلاقًا بائنًا بالكنايات مجتهد فيه لاختلاف الصحابة رضى الله عنهم، والمعروف عن عمر أنه كان يقول فى الكنايات إنها رواجع، والطلاق الرجعى لا يزيل الملك، فاختلافهم أورث شبهة (1) .
والشافعيون والحنابلة من رأى الحنفيين فى وطء المطلقة بائنًا بالكنايات، أما المالكيون فيرى بعضهم الرأى السابق، بينما يرى البعض الآخر أن لا شبهة فى هذا الوطء (2) .
قسم ثالث: ويرى أبو حنيفة أن الشبهة تثبت أيضًا بالعقد ولو كان العقد متفقًا على تحريمه وكان الفاعل عالمًا بالتحريم وبالاتفاق عليه كما هو الحال فى نكاح المحارم.
فالشبهة إذن على رأى أبى حنيفة ثلاثة أنواع: شبهة فى الفعل، وشبهة فى المحل، وشبهة فى العقد.
ولكن أصحاب أبى حنيفة لا يقولون بشبهة العقد، وهم فى ذلك متفقون مع ما يراه جمهور الفقهاء (3) .
_________
(1) نفس المرجعين السابقين.
(2) مواهب الجليل ج6 ص292، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص154، الإقناع ج4 ص254.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص143.
(2/362)

493 - وطء المحارم: ووطء المحارم زنًا يجب فيه الحد، فإذا تزوج شخص ذات محرم منه فالنكاح باطل اتفاقًا، فإن وطئها فعليه الحد فى قول مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والزيديين، وفى قول أبى يوسف، ومحمد من أصحاب أبى حنيفة.
ولكن أبا حنيفة نفسه يرى أن من تزوج امرأة لا يحل له نكاحها كأمه أو ابنته أو عمته أو خالته فوطئها لم يجب عليه الحد ولو اعترف بأنه يعلم بأنها محرمة عليه، وإنما يعاقب على فعله بعقوبة تعزيرية.
ويسقط أبو حنيفة الحد فى هذه الحالة للشبهة، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذى هو سبب للإباحة، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد الذى يندرئ بالشبهات.
ويُرد على أبى حنيفة بأن الوطء حدث فى فرج مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك، والواطئ من أهل الحد عالم بالتحريم فلا عذر له ويلزمه الحد أما العقد فهو باطل ولا أثر له مطلقًا فهو كأن لم يوجد وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة (1) .
494 - الوطء فى نكاح باطل: وكل نكاح مجمع على بطلانه - كنكاح خامسة أو متزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثًا قبل أن تنكح زوجًا آخر - إذا وطئ فيه فهو زنًا موجب للحد، ولا عبرة بوجود العقد ولا أثر له، وبذلك قال مالك والشافعى وأحمد والظاهريون والزيديون، وهو ما قال به أبو يوسف ومحمد صاحبًا أبى حنيفة (2) .
_________
(1) يراجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى ج8 ص76، شرح فتح القدير ج4 ص147، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص152، المحلى ج11 ص256، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص76، 77، شرح فتح القدير ج4 ص143، 144، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص154، المحلى ج11 ص246، 248، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2/363)

ولكن أبا حنيفة يرى أن وجود العقد شبهة تدرأ الحد، ومن ثم فعقوبة الوطء عنده هى التعزير (1) .
495 - الوطء فى نكاح مختلف عليه: لا يجب الحد فى النكاح مختلف على صحته، كنكاح المتعة والشغار والتحليل والنكاح بلا ولى أو شهود ونكاح الأخت فى عدة أختها البائن ونكاح الخامسة فى عدة الرابعة البائن، لأن الاختلاف بين الفقهاء على صحة النكاح يعتبر شبهة فى الوطء والحدود تدرأ بالشبهات، إلا عند الظاهريين ولذلك فهم يرون الحد فى كل وطء قام على نكاح باطل أو فاسد (2) .
496 - الوطء بالإكراه: من المتفق عليه أنه لا حد على مكرهة على زنًا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمَ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ولقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3) . ولأن الإكراه يعتبر شبهة عند القائلين بالشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
ومن المتفق عليه أنه لا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها، وبين الإكراه بالتهديد، فقد استكرهت امرأة على عهد الرسول فدرأ عنها الحد (4) . وأتى عمر بإماء من إماء الإمارة استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء، كما جاءته امرأة استسقت راعيًا فأبى أن يسقيها إلا
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص143، 148.
(2) . شرح الزرقانى ج8 ص75، شرح فتح القدير ج4 ص148، أسنى المطالب ج4 ص126، المغنى ج10 ص155، المحلى ج11 ص249، شرح الأزهار ج4 ص348.
(3) المحلى ج7 ص334.
(4) رواه الترمذى، وراجع التاج ج3 ص36.
(2/364)

أن تمكنه من نفسها ففعلت، فقال لعلى: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئًا وتركها. وإذا أُكره الرجل على الزنا فعليه الحد، وهو الرأى المرجوح فى مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية، وحجة أصحاب هذا الرأى أن المرأة تكره لأن وظيفتها التمكين أما الرجل فلا يكره ما دام ينتشر، لأن الانتشار دليل الطواعية، ومقتضى هذا الرأى أنه إذا لم يكن انتشار وثبت الإكراه فلا حد.
والرأى الراجح فى هذه المذاهب جميعًا أنه لا حد على الرجل إذا أُكره لأن الإكراه يتساوى أمامه الرجل والمرأة، فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، ولأن الانتشار قد يكون طبعًا وهو دليل على الفحولية أكثر مما هو دليل على الطواعية، ولأن القول بأن التخويف ينافى الانتشار غير صحيح، لأن المكره يخوف عند ترك الفعل لا عند إتيانه والفعل فى ذاته لا يخاف منه، وفضلا عن ذلك فإن الإكراه شبهة والحدود تدرأ عندهم بالشبهات (1) ويرى الظاهرين أنه لا حد على مكرهة أو مكره، فلو أمسكت امرأة حتى زُنى بها، أو أُمسك رجل فأُدخل إحليله فى فرج امرأة فلا شىء عليه ولا عليها سواء انتشر أو لم ينتشر، أمنى أو لم يمن، أنزلت هى أم لم تنزل، لأنهما لم يفعلا شيئًا أصلا، الانتشار والإمناء فعل الطبيعة الذى خلقه الله تعالى فى المرء أحب أم كره لا اختيار له فى ذلك (2) .
وإذا مكنت المرأة مكرها من نفسها دون أن يقع عليها إكراه فعليها الحد دونه، لأن فعلها زنًا، ولأنها ليست مكرهة، ولا عبرة بإعفاء الرجل من العقاب
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص80، شرح فتح القدير ج4 ص157، 166، أسنى المطالب ج4 ص127، المهذب ج2 ص284، المغنى ج10 ص158، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2) المحلى ج8 ص331.
(2/365)

فإنه أعفى لإكراهه على الفعل، وليس لها أن تستفيد من ظرف الرجل وهو ظرف خاص به، وهذا مسلم به فى جميع المذاهب.
497 - الخطأ فى الوطء: الخطأ إما خطأ فى وطء مباح، وإما خطأ فى وطء محرم. فالخطأ فى الوطء المباح لا عقوبة عليه لانعدام القصد، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ثم هو بعد ذلك شبهة تدرأ الحد عند القائلين بالشبهة، فمن زفت إليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه باتفاق، وكذلك الحكم إذا لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته فوطئها، أو دعا زوجته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، لا حد عليه فى كل ذلك عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والزيديين، وحجتهم أنه وطء اعتقد الفاعل إباحته بما يعذر مثله فيه، وأنه أشبه بوطء من زفت إليه غير زوجته.
ولكن أبا حنيفة يرى الحد على من وجد امرأة فى فراشه فوطئها، لأن المسقط هو شبهة الحل، ولا شبهة هنا أصلا سوى أن وجدها على فراشه ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه؛ هذا لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من صديقاتها وقريباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل، وكذلك الحكم إذا كان أعمى، إلا إذا دعاها فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك، وهذا إذا لم تطل الصحبة وتشابهت النغمات ولم يستطع التمييز.
أما الخطأ فى الوطء المحرم فلا يعفى مع العقوبة وليس شبهة باتفاق، فمن دعا محرمة عليه فأجابته غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعلية الحد، فإن دعا
(2/366)

محرمة عليه فأجابته زوجته فوطئها يظنها الأجنبية التى دعاها فلا حد عليه، لانتفاء حرمة الفرج لعينة، وإن أثم باعتبار ظنه (1) .
498 - الرضاء بالوطء: الرضاء بالوطء لا يعتبر شبهة باتفاق، فمن وطئ امرأة أجنبية أباحت نفسها له فهو زان، ولو كان ذلك بإذن وليها أو زوجها، لأن الزنا لا يستباح بالبذل والإباحة، وليس لأحد أن يحل ما حرم الله، فإن أحلت امرأة نفسها فإحلالها نفسها باطل وفعلها زنًا محض.
ولو أن امرأة دلست نفسها أو غيرها لأجنبى فوطئها يظن أنها امرأته فلا حد على الرجل والمرأة الموطوءة زانية، أما المدلسة فلا تعتبر زانية وعليها التعزير (2) .
499 - الزواج اللاحق: والزواج اللاحق بالمزنى بها يعتبر شبهة تدرأ الحد فى رواية أبى يوسف عن أبى حنيفة، فمن زنا بامرأة ثم تزوجها لا يحد طبقًا لهذه الرواية لأن المرأة تصير مملوكة للزوج بالنكاح فى حق الاستمتاع فحصل الاستيفاء من محل مملوك فيصير شبهة تدرأ الحد.
وفى رواية الحسن ومحمد أن الزواج العارض بعد الزنا لا يعتبر شبهة، لأن الوطء وقع زنًا محضًا لمصادفته محلا غير مملوك للواطئ، ولأن الزواج ليس له أثر رجعى فلا يمتد أثره لوقت الوطء.
والرواية الأخيرة تتفق مع ما يراه جمهور الفقهاء، فهم يرون أن من زنًا بامرأة ثم تزوجها فلا أثر لزواجه على الجريمة التى ارتكبها ولا على العقوبة المقررة لها؛ لأن الحد قد وجب بالزنا السابق فلا يسقطه اللاحق (3) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص147، نهاية المحتاج ج7 ص404، المغنى ج10 ص155، المحلى ج11 ص246، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص80، نهاية المحتاج ج7 ص406، المغنى ج10 ص156، المحلى ج11 ص246.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص62، شرح فتح القدير ج4 ص159، المغنى ج10 ص194، المحلى ج11 ص252.
(2/367)

500 - وطء من وجب عليها القصاص: ومن وجب له القصاص على امرأة فوطئها وجب عليه الحد، ولا يعتبر استحقاقه القصاص عليها شبهة تدرأ الحد، لأن حق القصاص إذا أباح له قتلها فإنه لا يبيح له فرجها أو الاستمتاع بها (1) .
501 - المساحقة: وتسمى السحق والتدالك، وهى إتيان المرأة المرأة، والفعل متفق على تحريمه لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7] ولما كانت المرأة لا تحل لملك يمينها وكان منها ذا محرم، فإذا أباحت المرأة فرجها لغير زوجها من امرأة أو رجل فهى لم تحفظه وهى من العادين.
ويروى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فبهذا الباب قوله: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفض الرجل إلى الرجل فى ثوب واحد، ولا تفض المرأة إلى المرأة فى الثوب الواحد" (2) . وهذا النص صحيح فى تحريم السحاق لأنه إفضاء المرأة إلى المرأة.
ويستدل البعض بما رواه أبو موسى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (3) .
ومن المتفق عليه أن لا حد فى الفعل وأن عقوبته التعزير لأنه معصية لا حد فيها، وإذا كان حديث أبى موسى - على فرض صحته - قد وصف الفعل بأنه زنًا فإن ذلك لا يلحقه بالزنا المعاقب عليه بالحد، لأن السحاق مباشرة دون إيلاج
_________
(1) المغنى ج10 ص195.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى، وراجع: نيل الأوطار ج6 ص16.
(3) نيل الأوطار ج7 ص30.
(2/368)

والزنا المعاقب عليه بالحد يقتضى الإيلاج، فكان السحاق مما يجب فيه التعزير لا الحد كما لو باشر الرجل والمرأة دون الفرج أى دون إيلاج (1) .
502 - الاستمناء: واستمناء الرجل بيد امرأة أجنبية لا يعتبر زنًا، وكذلك إدخال الرجل الأجنبى إصبعه فى فرج امرأة، ولكن كلا الفعلين معصية فيه التعزير على الرجل والمرأة سواء حدث إنزال أو لم يحدث.
أما استمناء الرجل بيده - ويسمى بالخضخضة وجلد عميرة - فمختلف فيه فالمالكيون والشافعيون يحرمونه مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون5: 7] ، فالرجل المسلم مطالب بحفظ فرجه إلا على اثنين زوجه وملك يمينه، فإن التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته وملك يمينه فهو من العادين؛ أى المجاوزين ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، وعلى هذا مذهب الزيدين.
ويحرم الحنفيون الاستمناء إذا كان لاستجلاب الشهوة، إما إذا غلبت الشهوة الرجل ولم يكن له زوجة ولا أمة فاستمنى بقصد تسكينها فالرجاء أنه لا وبال عليه، ويجب الاستمناء عندهم إذا خيف الوقوع فى الزنا بدونه.
والحنابلة لا يرون شيئًا على من استمنى بيده خوفًا من الزنا أو خوفًا على بدنه أى صحته إذا لم يكن له زوجة أو أمة ولم يقدر على الزواج وإلا حرم الاستمناء.
ويرى ابن حزم أن الاستمناء مكروه ولا إثم فيه لأن مس الرجل ذكره بشماله مباح بإجماع الأمة كلها، فإذا هو مباح فليس هنالك زيادة على المباح
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص150، نهاية المحتاج ج7 ص404، المهذب ج2 ص286، المغنى ج10 ص162، المحلى ج11 ص390، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2/369)

إلا التعمد لنزول المنى فليس ذلك حرامًا أصلا لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وليس هذا ما فصل لنا تحريمه فهو حلال لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] .
ويقول ابن حزم: إنه يكره الاستمناء لأنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل. وروى لنا أن الناس تكلموا فى الاستمناء فكرهته طائفة وأباحته أخرى، وممن كرهه ابن عمر وعطاء وممن أباحه ابن عباس والحسن وبعض كبار التابعين، وقال الحسن: كانوا يفعلونه فى المغازى، وقال مجاهد: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون بذلك.
وما قيل فى استمناء الرجل يقال عن المرأة إذا عرضت فرجها شيئًا دون أن تدخله حتى ينزل أو مست فرجها بشمالها حتى ينزل، والحكم فى ذلك هو حكم الاستمناء فى المذاهب المختلفة (1) .
503 - العجز عن ادعاء الشبهة: يرى أبو حنيفة أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة يعتبر بذاته شبهة دارئة للحد، فالزانى الأخرس والزانية لا يحدان ولو ثبت الزنا ضدهما بشهادة الشهود، لأنهما يعجزان عن ادعاء الشبهة، ومن المحتمل أن يدعياها لو استطاعا النطق، وكذلك الشأن فى المجنون الذى زنا حال إفاقته، بل يذهب أبو حنيفة إلى أن الأخرس لا يحد بإقراره إذا أقر كتابة أو إشارة، لأن الإقرار المعتبر عنده هو الإقرار بالخطاب والعبارة دون الكتابة والإشارة، فلو كتب الأخرس الإقرار فى كتاب أو أشار إشارة معلومة فإنه لا حد عليه، لأن الشرع
_________
(1) راجع فى كل ما سبق: حاشية ابن عابدين [ج7 ص215] ، شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص125] ، المهذب [ج2 ص286] ، الأحكام السلطانية للماوردى [ص206] ، الإقناع [ج4 ص271] ، المحلى [ج11 ص293] ، شرح الأزهار [ج4 ص336 = =وج2 ص197] . وراجع أيضًا: تفسير ابن كثير [ج3 ص239] ، تفسير المحيط لأبى حيان [ج6 ص397] ، تفسير الآلوسى [ج5 ص486] ، تفسير روح البيان [ج4 ص61] ، تفسير القرطبى [ج12 ص105] ، تفسير الطبرى [ج18 ص6] .
(2/370)

علق وجوب الحد على البيان المتناهى، والبيان لا يتناهى إلا بالصريح وهو الخطاب والعبارة، ولا يتناهى بالكتابة والإشارة (1) .
ويرى الزيديون ما يراه أبو حنيفة من أن الخرس والجنون شبهة تدرأ الحد، ولكنهم يرون أن إقرار الأخرس صحيح إذا فهمت إشارته أو كان إقراره كتابة (2) .
وعند المالكين والشافعيين والحنابلة أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة لا يعتبر شبهة، ويقولون بحد الأخرس والمجنون إذا ثبت الزنا بالبينة، كذلك يقبلون إقرار الأخرس بالكتابة وإقراره بالإشارة كلما أمكن فهم إشارته دون شك فيها (3) .
ويرى الظاهريون أنه إذا كانت البينة فلا معنى للإنكار ولا للإقرار (4) . وهم فوق هذا لا يعترفون بالشبهة ولا يرون درء الحدود بالشبهات، ومقتضى هذين المبدأين أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة لا أثر له على الحد.
504 - إنكار أحد الزانيين: يرى أبو حنيفة أن إنكار أحد الزانيين يعتبر شبهة إذا أقر الآخر ولم يكن دليل غير الإقرار، فلا يعاقب المنكر لأنه لا دليل عليه إلا إقرار المتهم الآخر والإقرار حجة قاصرة على المقر. ولا يحد المقر لأننا صدقنا المنكر فى إنكاره فصار المقر محكومًا بكذبه، وتعليل ذلك أن الحد انتفى فى حق المنكر بدليل موجب للنفى عنه فأورث شبهة الانتفاء فى حق المقر، إذ الزنا فعل واحد لا يقع إلا من شخصين فإن تمكنت فيه الشبهة نفذت إلى طرفيه، وهذا لأن المقر بالزنا ما أقر بالزنا مطلقًا وإنما أقر بالزنا مع آخر منكر فإذا درأ الشرع عن هذا الآخر عين ما أقر به المقر فيندرئ الفعل عن المقر ضرورة.
ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان ما يراه مالك والشافعى وأحمد والزيديون
_________
(1) بدائع الصنائع [ج7 ص50] ، شرح فتح القدير [ج4 ص117] .
(2) شرح الأزهار [ج4 ص159، 350] .
(3) نهاية المحتاج [ج7 ص410] ، تبصرة الحكام [ج2 ص71] ، المغنى [ج10 ص171] .
(4) المحلى [ج8 ص250] .
(2/371)

من أن المقر يحد بإقراره، ولا يؤثر على عقوبته إنكار الطرف الآخر، لأن الإقرار حجة فى حق المقر، وعدم ثبوت الزنا فى حق المنكر لا يورث شبهة العدم فى حق المقر.
أما الظاهريون فعندهم أن إنكار أحد الزانيين لا يؤثر على عقوبة المقر، لأنهم لا يسقطون الحد بالشبهة، ولأن القعدة عندهم أن من أقر إقرارًا تامًا بحق فى مال أو دم أو بشرة، وكان عاقلاً بالغًا غير مكره ولم يصل إقراره بما يفسده، فقد لزمه إقراره ولا رجوع له بعد ذلك، فإن رجع لم ينتفع برجوعه، وقد لزمه ما أقر به على نفسه من دم أو حد أو مال (1) .
505 - ادعاء أحد الطرفين الزوجية: وإذا أقر أحد الطرفين بالزنا فادعى الطرف الآخر الزوجية، فيرى أبو حنيفة وأحمد أن لا يحد منهما لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وبتقدير صدق مدعى النكاح منهما يكون ادعاء النكاح شبهة، ويسقط الحد لاحتمال صدق دعوى النكاح.
ويرى مالك والشافعى حد المقر ما لم يثبت قيام الزوجية، وأصول الظاهرين والزيديين تقتضى الأخذ بهذا الرأى (2) .
وإذا ضبط شخص يطأ امرأة فادعى الرجل والمرأة الزوجية فالقول قولهما على ما يرى جمهور الفقهاء ما لم يشهد الشهود بزناهما، إلا أن مالكًا يوجب عليهما أن يثبتا الزوجية.
فإذا شهد الشهود بزناهما فلا يسقط ادعاء الزوجية الحد إلا إذا أقاما البينة
_________
(1) تبصرة الحكام [ج2 ص38] ، شرح فتح القدير [ج4 ص120، 158] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص168] ، المحلى [ج8 ص520 وج11 ص153] ، شرح الأزهار [ج4 ص348] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص158] ، المغنى [ج10 ص158] ، المرفقة [ج16 ص3، 41] ، أسنى المطالب <4 ص134] .
(2/372)

على النكاح؛ لأن الشهادة بالزنا تنفى كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما، ويرى البعض إسقاط الحد إذا لم يعلم كونها أجنبية عنه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة (1) .
ويرى ابن حزم التفريق بين ما إذا كانا غريبين أو معروفين، فإن كانا غريبين أو لا يعرفان فلا شئ عليهما، ولا يعرض لهما ولو قامت البينة على الوطء، ولا يكلفان إقامة البينة على النكاح. وإن كانت المرأة معروفة ومعروف أن لا زوج لها فإن أمكن ما يقول الواطئ فلا شئ عليهما، لأن أصل دمائهما وأبشارهما على التحريم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" (2) ، فلا يجوز إباحة ما حرم الله إلا بتعيين لا شك فيه، وإن كان كذبهما متيقنًا فالحد واجب عليهما (3) .
506 - بقاء البكارة: وعدم زوال البكارة يعتبر شبهة فى حق المشهود عليها بالزنا عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية، فإذا شهد أربعة على امرأة بالزنا، وشهد ثقات من النساء بأنها عذراء، فلا حد عليها للشبهة ولا حد على الشهود.
ولكن مالكًا يرى الحد على المرأة، لأن المثبت مقدم عنده عن النافى، ولأن من المحتمل أن يحصل الوطء دون أن يترتب عليه إزالة البكارة، ولزفر صاحب أبى حنيفة رأى مماثل، هو أيضًا رأى الظاهريين، ولكن ابن حزم الظاهرى يرى أن الحكم يختلف بحسب ما يقرر النساء على صفة عذرتها، فإن قلن إنها عذرة يبطلها إيلاج الحشفة ولابد وأنه صفاق عند باب الفرج فقد أيقنا بكذب الشهود وأنهم وهموا، فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم، وإن قلن إنها عذرة واغلة فى داخل الفرج لا يبطلها إيلاج الحشفة فقد أمكن صدق الشهود إذ
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص58] ، المغنى [ج10 ص162] .
(2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
(3) المحلى [ج11 ص242، 244] .
(2/373)

بإيلاج الحشفة يجب الحد فيقام الحد عليها، لأنه لم نتيقن كذب الشهود ولا وهمهم (1) .
وسواء سقط الحد بالشبهة أو باليقين من أن الإيلاج يزيل البكارة فإنه يبقى بعد ذلك أن الفعل الذى شهد عليه الشهود معصية يجب فيها التعزير.
الركن الثانى: تعمد الوطء
507 - يشترط فى جريمة الزنا أن يتوفر لدى الزانى أو الزانية نية العمد أو القصد الجنائى: ويعتبر القصد الجنائى متوفرًا إذا ارتكب الزانى الفعل وهو عالم أنه يطأ امرأة محرمة عليه، أو إذا مكنت الزانية من نفسها وهى تعلم أن من يطأها محرم عليها.
فإن أتى أحدهما الفعل متعمدًا وهو لا يعلم بالتحريم فلا حد عليه، كمن زُفَّت إليه غير زوجته فوطئها على أنها زوجته، أو كمن زفت إلى غير زوجها فمكنته من نفسها معتقدة أنه زوجها، وكمن وجد فى فراشه امرأة فوطئها معتقدًا أنه زوجها، وكمن تزوجت ولها زوج آخر كتمته عن زوجها الأخير فلا مسئولية على الزوج الأخير ما دام لا يعلم بالزواج الأول، وكمن مكنت مطلقها طلاقًا بائنًا من نفسها وهى لا تعلم أنه طلقها.
ويشترط أن يعاصر القصد الجنائى إتيان الفعل المحرم، فمن قصد أن يزنى بامرأة ثم تصادف أن وجدها فى فراشه فأتاها على أنها امرأته لا يعتبر زانيًا لانعدام القصد الجنائى وقت الفعل، كذلك لو قصد إتيان امرأة أجنبية فأخطأها وأتى امرأته فإنه لا يعتبر زانيًا ولو كان يعتقد أنه يأتى الأجنبية لأن الوطء الذى حدث غير محرم.
والأصل فى الشريعة الإسلامية أنه لا يحتج فى دار الإسلام بجهل الأحكام (2) ،
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص220] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص189] ، المحلى [ج11 ص263] ، شرح الأزهار [ج4 ص350] .
(2) راجع مبحث "أثر الجهل على المسئولية" فى الجزء الأول من كتاب التشريع الجنائى [ص373] وما بعدها.
(2/374)

فلا يقبل من أحد أن يحتج بجهل تحريم الزنا، وبالتالى انعدم القصد الجنائى، ولكن الفقهاء يبيحون استثناء الاحتجاج بجهل الأحكام بمن لم تيسر له ظروفه أن يجهل التحريم، أو كمجنون أفاق وزنا قبل أن يعلم بتحريم الزنا، ففى هاتين الحالتين وأمثالهما يكون الجهل بالأحكام علة لانعدام القصد الجنائى (1) .
وإذا ادعى الجانى الجهل بفساد نوع من أنواع النكاح أو ببطلانه مما يعتبر الوطء فيه زنًا، فيرى البعض أن لا يقبل احتجاجه بجهل الحكم، لأن فتح هذا الباب يؤدى إلى إسقاط الحد، ولأن المفروض فى كل فرد أن يعلم ما حرم عليه. ويرى البعض قبول الاحتجاج لأن معرفة الحكم تحتاج لفقه وتخفى على غير أهل العلم، وأصحاب هذا الرأى الأخير يجعلون الجهل بالحكم شبهة تدرأ الحد عن الجانى ولا تعفيه من عقوبة التعزير، ومما يؤثر من قضاء الصحابة فى هذا الباب أن امرأة تزوجت فى عدتها على عهد عمر رضى الله عنه، فلما عرض عليه الأمر قال: هل علمتما؟ فقالا: لا. فقال: لو علمتما لرجمتكما، فجلدهما أسواطًا ثم فرق بينهما. وأتت امرأة إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه فقالت: إن زوجى زنا بجاريتى. فقال الزوج: صدقت هى ومالها لى حل، فدرأ علىٌّ عن الرجل الحد بادعاء الجهالة (2) .
ويلاحظ أن هناك فرقًا بين قبول الاحتجاج بجهل تحريم الزنا وقبول الاحتجاج بجهل فساد النكاح أو بطلانه، فقبول الاحتجاج الأول يؤدى إلى إعفاء الجانى من العقوبة على أساس انعدام قصده الجنائى، وقبول الاحتجاج الثانى عند من يقبله لا يعدم القصد الجنائى وإنما يقوم الاحتجاج شبهة تؤدى إلى درء الحد ولا تمنع من عقوبة التعزير.
* * *
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص116] ، المهذب [ج2 ص384] ، المغنى [ج10 ص156] ، المحلى [ج11 ص178] ، شرح الأزهار [ج4 ص348] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص147] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص156] ، المحلى [ج11 ص188] .
(2/375)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق