السبت، 22 نوفمبر 2014

الرسالة الباقية : من كتاب الإسلام أصوله ومبادئه - د . محمد بن عبدالله بن صالح السحيم

الرسالة الباقية *

من كتاب
الإسلام أصوله ومبادئه
د . محمد بن عبدالله بن صالح السحيم

ما سبق من عرض حال الأديان اليهودية والنصرانية والمجوسية والزرادشتية والوثنية المتنوعة يبين حالة البشرية([1]) في القرن السادس الميلادي، وإذا فسد الدين؛ فسدت الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. فعمت الحروب الدامية، وظهر الاستبداد، وعاشت البشرية في ظلام دامس مطبق، أظلمت لأجله القلوب بسبب ظلمة الكفر والجهل، وتدنست الأخلاق، وهتكت الأعراض، وانتهكت الحقوق، وظهر الفساد في البر والبحر، حتى لو تأملها عاقل لأدرك أن البشرية -في ذلك الوقت- في حالة احتضار، وأنها آذنت بزوال، ما لم يتداركها الله بمصلح عظيم يحمل مشعل النبوة، وقبس الهداية؛ لينير للبشرية طريقها، ويهديها إلى سواء السبيل.
وفي ذلك الزمان أذن الله بأن يشرق نور النبوة الخالدة من مكة المكرمة التي فيها البيت العظيم، وقد كانت بيئتها مماثلة لسائر البيئات البشرية من حيث الشرك والجهل والظلم والاستبداد؛ إلا أنها تميزت عن غيرها بميزات كثيرة منها:
1 - أنها بيئة نقية لم تتأثر بشوائب الفلسفات اليونانية أو الرومانية أو الهندية، وتمتع أفرادها بالبيان الرصين، والذهن الوقاد، والقرائح المبدعة.
2 - أنها تقع في قلب العالم فهي في مكان وسط بين أوربا وآسيا وأفريقيا مما يكون سبباً هاماً في سرعة انتشار ووصول الرسالة الخالدة إلى هذه الأقطار في زمن يسير.
3 - أنها بلد آمن، حيث إن الله حماها عندما همّ أبرهة بغزوها، ولم تتسلط عليها الإمبراطوريات المجاورة لها فارس والروم، بل أمنت حتى تجارتها في الشمال والجنوب، وكان ذلك إرهاصاً لبعثة هذا النبي الكريم، وقد ذكّر الله أهلها بهذه النعمة فقال: {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء}([2]).
4 - أنها بيئة صحراوية حافظت على كثير من الشمائل المحمودة كالكرم، وحفظ الجوار، والغيرة على الأعراض، إلى غير ذلك من المميزات التي أهّلتها لأن تكون المكان الملائم للرسالة الخالدة.
من هذا المكان العظيم، ومن قبيلة قريش التي اشتهرت بالفصاحة والبلاغة، ومكارم الأخلاق، والتي كان لها الشرف والسؤود.. اصطفى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين؛ حيث ولد في القرن السادس الميلادي عام 570م تقريباً، ونشأ يتيماً، إذ مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وجده لأبيه وعمره حينئذ ست سنين، فكفله عمه أبو طالب، فنشأ الغلام يتيماً، وظهرت عليه علامات النبوغ، فكانت عاداته وأخلاقه وخصاله مختلفة عن عادات قومه، فكان لا يكذب في حديثه، ولا يؤذي أحداً، واشتهر بالصدق والعفاف والأمانة، حتى كان كثير من أبناء قومه يأمنونه على أموالهم الثمينة ويودعونه إياها، وهو يحافظ عليها كما يحافظ على نفسه وماله، مما جعلهم يلقبونه بالأمين، وكان حيياً لم يظهر لأحد بدنه عرياناً منذ بلغ، وكان نزيهاً تقياً يؤلمه ما يراه في قومه من عبادة الأوثان، وشرب الخمور، وسفك الدماء، فكان يعاشر قومه فيما يرتضيه من أعمالهم، ويعتزلهم حال مجونهم وفسقهم، وكان ينصر الأيتام والأيامى، ويطعم الجياع... حتى إذا قارب الأربعين من العمر ضاق ذرعاً بما حوله من الفساد، وبدأ ينقطع لعبادة ربه، ويسأله أن يهديه إلى سواء الصراط. وبينما هو على هذه الحال إذ نزل عليه ملك من الملائكة بالوحي من ربه، وأمره أن يبلغ هذا الدين للناس، وأن يدعوهم إلى عبادة ربهم، وَتَرْكِ عبادة ما سواه، وتواصل نزول الوحي عليه بالشرائع والأحكام يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة، حتى أكمل الله هذا الدين للبشرية، وأتم عليها النعمة بكماله، فلما كملت مهمته صلى الله عليه وسلم؛ توفاه الله، فكان عمره عند موته ثلاثاً وستين سنة، منها أربعون سنة قبل النبوة وثلاث وعشرون سنة نبياً رسولاً .
ومن تأمل أحوال الأنبياء ودرس تاريخهم؛ علم علماً يقينياً أنه ما من طريق ثبتت بها نبوة نبي من الأنبياء إلا وثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق من باب أولى.
فإذا نظرت كيف نقلت نبوة موسى وعيسى عليهما السلام، علمت أنها نقلت بطريق التواتر، والتواتر الذي نقلت به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأوثق، وأقرب عهداً.
وكذلك التواتر الذي نقلت به معجزاتهم وآياتهم متماثل، بل هو في حق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم، لأن آياته كثيرة، بل أعظم آياته هذا القرآن العظيم الذي لا يزال ينقل نقلاً متواتراً صوتاً ورسماً([3]).
ومن قارن بين ما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام وبين ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من العقيدة الصحيحة، والشرائع المحكمة، والعلوم النافعة علم أنها جميعاً تصدر من مشكاة واحدة، هي مشكاة النبوة.
ومن قارن بين أحوال أتباع الأنبياء وبين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم علم أنهم كانوا خير الناس للناس، بل هم أعظم أتباع الأنبياء أثراً على من بعدهم، فقد نشروا التوحيد، وأشاعوا العدل، وكانوا رحمة للضعفاء والمساكين([4]).
وإن أردت مزيد بيان تستدل به على نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فسأنقل لك الدلائل والعلامات التي وجدها على بن رَبَّن الطبري حينما كان نصرانياً فأسلم بسببها وهذه الدلائل هي:
1 - أنه دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه موافقاً في ذلك جميع الأنبياء.
2 - أنه أظهر آيات بينات لا يأتي بها إلا أنبياء الله.
3 - أنه تنبأ على حوادث مستقبلية فوقعت كما أخبر عنها.
4 - أنه تنبأ على حوادث جمة من حوادث الدنيا وَدُوَلِهَا فوقعت كما أخبر.
5 - أن الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم -وهو القرآن- آية من آيات النبوة؛ لأنه أبلغ كتاب، وأنزل الله على رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، وتحدى الفصحاء أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة منه؛ ولأن الله تكفل بحفظه، وحفظ به العقيدة الصحيحة، وضمّنه أكمل شريعة، وأقام به أفضل أمة.
6 - أنه خاتم الأنبياء ولو لم يبعث لبطلت نبوات الأنبياء التي بشرت بمبعثه.
7 - أن الأنبياء عليهم السلام قد تنبأوا به قبل ظهوره بدهر طويل، ووصفوا مبعثه وبلده وخضوع الأمم والملوك له ولأمته، وذكروا انتشار دينه.
8 - أن انتصاره على الأمم التي حاربته أية من آيات النبوة؛ إذ يستحيل أن يدعي شخص أنه مرسل من الله -وهو كاذب- ثم يمده الله بالنصر والتمكين، وغلبة الأعداء، وانتشار الدعوة، وكثرة الأتباع، فإن هذا لا يتحقق إلا على يد نبي صادق.
9 - ما كان عليه في نسكه وعفافه وصدقه ومحمـود سيرته وسننه وشرائعه؛ فإن هذا لا يجتمع إلا في حق نبي.
وقال هذا المهتدي بعد أن ساق هذه الشواهد: (فهذه خصال نيرة وشواهد كافية، من أدلى بها وجبت له النبوة، وفاز قدحه، وأفلح حقه، ووجب تصديقه، ومن ردها وجحدها خاب سعيه، وخسر دنياه وآخرته) ([5]).
وفي ختام هذه الفقرة سأسوق لك شهادتين: شهادة ملك الروم في الماضي حيث كان معاصراً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وشهادة منصر إنجليزي معاصر  هو (جون سنت).
شهادة هرقل : ذكر البخاري رحمه الله خبر أبي سفيان حينما دعاه ملك الروم فقال: (حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن عبدالله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد([6]) فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء([7])، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم، ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا. فقال: ادنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، قال فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصري فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسين([8]). ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) ([9]).
شهادة المنصر الإنجليزي المعاصر جون سنت : حيث يقول: بعد الاطلاع المتواصل على تفاصيل الإسلام ومبادئه في خدمة الفرد والمجموع، وعدالته في إقامة المجتمع على أسس من المساواة والتوحيد، وجدتني اندفع إلى الإسلام بكل عقلي وروحي، وعاهدت الله سبحانه - من يومها- أن أكون داعية للإسلام مبشراً بهديه في كل البقاع.
وقد توصل إلى هذا اليقين بعد دراسته للنصرانية وتعمقه فيها؛ فوجد أنها لا تجيب على كثير من الأسئلة التي تدور في حياة الناس؛ فبدأ يداخله الشك، ثم درس الشيوعية والبوذية فلم يجد فيهما ضالته، ثم درس الإسلام وتعمق فيه فآمن به ودعا إليه([10]).




*     لمزيد من التوسع ينظر: "الرحيق المختوم" تأليف صفي الرحمن المباركفوري.
([1]) انظر فقرة حال الديانات القائمة في هذا البحث ص 52.
([2]) سورة القصص، الآية 57.
([3]) انظر الفقرة الخاصة عن القرآن في هذا الكتاب، ص: 95-100و114-117
([4]) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ4، ص 201،211، وإفحام اليهود، تأليف السموأل المغربي الذي كان يهودياً فأسلم، ص 58،59.
([5]) الدين والدولة في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تأليف علي بن ربن الطبري ص47، وانظر الإعلام للقرطبي، ص 263 وما بعدها.
([6]) أي في مدة صلح الحديبية، وكانت مدتها عشر سنين، وكانت سنة ست للهجرة، انظر فتح الباري، جـ1، ص34.
([7]) بلدة بالشام.
([8]) وجاء في كتاب الجهاد من صحيح البخاري بلفظ (الأريسيين).
([9]) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1.
([10]) الدين الفطري الأبدي ، تأليف ، مبشر الطرازي الحسيني، جـ2، ص319. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق