الأحد، 14 يونيو 2015

كتاب الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام- بَابٌ فِي الْبُيُوعِ وَمَا شَاكَلَهَا-فصل في بيع الدين والمقاصة فيه

[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ وَالْمُقَاصَّةِ فِيهِ]
ِ جَمَعَ النَّاظِمُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ الدَّيْنِ وَاقْتِضَائِهِ، وَالْمُقَاصَّةِ فِيهِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ بَيْعَ الدَّيْنِ عَلَى مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الْمَدِينِ، سَوَاءٌ كَانَ بَيْعًا (وَذَلِكَ حَيْثُ يُقْضَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ) أَوْ اقْتِضَائِهِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَقْضِي مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ مَقْصُودَ النَّاظِمِ، الْكَلَامُ عَلَى مَا يَجُوزُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَعَلَى نَسْخِهِ زِيَادَةٌ بِالدَّيْنِ، يَكُونُ إنَّمَا تَرْجَمَ لِلْمَمْنُوعِ فَقَطْ، وَهُوَ بَيْعُهُ بِالدَّيْنِ
بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْعُ الدَّيْنِ ... مُسَوَّغٌ مِنْ عَرْضٍ أَوْ مِنْ عَيْنِ
وَإِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ حُضُورِ مَنْ ... أَقَرَّ بِالدَّيْنِ وَتَعْجِيلِ الثَّمَنْ
يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ مِنْ عَرَضٍ، أَوْ عَيْنٍ.
وَيَعْنِي بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ لِذَلِكَ الدَّيْنِ، بِحَيْثُ يَنْظُرُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ عَيْنٍ، أَوْ عَرَضٍ وَيُعْتَبَرُ فِي بَيْعِهِ وَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِهِ وَمَا يَمْتَنِعُ بِشُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَكَمَالِهِ فَقَوْلُهُ: بَيْعُ الدَّيْنِ مُسَوَّغٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُسَوَّغٌ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ؛ لِكَوْنِهِ مَجْرُورًا بِمَا جُرَّ بِهِ الْمَوْصُولُ. وَقَوْلُهُ: " مِنْ عَرْضٍ أَوْ مِنْ عَيْنِ " الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا، أَيْ وَاَلَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِهِ الدَّيْنُ هُوَ الْعَيْنُ أَوْ الْعَرَضُ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلدَّيْنِ، أَيْ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا؛ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ كَمَا يَأْتِي، وَأَمَّا مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ اقْتِضَاءٌ لَا بَيْعٌ، إلَّا إذَا أُرِيدَ بِالْبَيْعِ مَا تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ وَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ عَرَضًا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَرَضًا جَازَ أَنْ
(1/317)

يُعْطِيَهُ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَأَمَّا مِنْ جِنْسِهِ فَاقْتِضَاءٌ أَيْضًا
(قَالَ الشَّارِحُ) وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ مِنْ أَنْ يَبِيعَ الدَّيْنَ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِهِ حَاضِرًا، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا - حُضُورُ الْمَدِينِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَإِقْرَارُهُ بِبَقَاءِ الْحَقِّ قِبَلَهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ وَالْمَدِينُ غَائِبٌ أَوْ مُنْكِرٌ وَثَانِيهِمَا - تَعْجِيلُ الثَّمَنِ الْمَدْفُوعِ فِيهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ وَمِنْ هُنَالِكَ لَا يَجُوزُ دَنَانِيرُ فِي دَرَاهِمَ، وَلَا دَرَاهِمُ فِي دَنَانِيرَ، عَلَى تَأْخِيرِ الْمَدْفُوعِ لَحْظَةً؛ لِأَنَّهُ صَرْفُ مُسْتَأْخَرٍ ثُمَّ قَالَ: وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ، مِنْ مُخْتَصَرِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ، مَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ، فَلَهُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ غَرِيمِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ، أَوْ بَعْدَهُ بِثَمَنٍ يَتَعَجَّلُهُ فَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ بَاعَهُ بِعَرَضٍ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا بَاعَهُ بِعَيْنٍ أَوْ بِعَرَضٍ يُخَالِفُهُ نَقْدًا قَالَ سَحْنُونٌ: بِمَحْضَرِ الْغَرِيمِ وَإِقْرَارِهِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي فِي الْمُفِيدِ لِلْمَدِينِ نَفْسِهِ جَائِزٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ. وَإِنْ صَالَحْتَهُ عَلَى عَشَرَةِ أَرْطَالٍ، مِنْ لَحْمِ شَاةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ لَمْ يَجُزْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنْ اسْتَهْلَكَ لَك بَعِيرًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى بَعِيرٍ مِثْلِهِ إلَى أَجَلٍ، لِفَسْخِكَ مَا وَجَبَ لَك مِنْ الْقِيمَةِ فِي ذَلِكَ لَوْ صَالَحْتَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتْ كَالْقِيمَةِ فَأَدْنَى، وَكَانَ مَا اُسْتُهْلِكَ مِمَّا يُبَاعُ بِالدَّنَانِيرِ بِالْبَلَدِ جَازَ، وَيَجُورُ عَلَى دَرَاهِمَ نَقْدًا، أَوْ عَلَى عَرَضٍ نَقْدًا بَعْدَ مَعْرِفَتِكُمَا بِقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَلَا يَجُوزُ إلَى أَجَلٍ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ بِالدَّرَاهِمِ؛ جَازَ الصُّلْحُ عَلَى دَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ مِثْلِ الْقِيمَةِ فَأَدْنَى، وَلَا يَجُوزُ عَلَى دَنَانِيرَ أَوْ عَرَضٍ إلَّا نَقْدًا بَعْدَ مَعْرِفَتِكُمَا بِقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَرَطْتُمَا تَأْخِيرَ ذَلِكَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ تَعَجَّلْتَهُ بَعْدَ الشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ؛ لِوُقُوعِهِ فَاسِدًا وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَيْتَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ لَك غَنَمًا أَوْ مَتَاعًا، فَالصُّلْحُ فِيهِ عَلَى عَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ يَجْرِي عَلَى وَصْفِنَا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ ذَبَحَ لِرَجُلٍ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ فَصِيلًا " فَإِنْ كَانَ لَحْمُ الشَّاةِ لَمْ يَفُتْ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَالِحَهُ بِشَاةٍ إذْ لَهُ أَخْذُهَا مَذْبُوحَةً فَصَارَ لَحْمًا بِحَيَوَانٍ وَإِنْ فَاتَ اللَّحْمُ فَجَائِزٌ نَقْدًا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ لَهُ صُبْرَةَ قَمْحٍ لَا يَعْرِفَانِ كَيْلَهَا؛ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْقِيمَةِ مَا شَاءَ مِنْ طَعَامٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ عَرَضٍ نَقْدًا، وَأَمَّا عَلَى مَكِيلَةٍ مِنْ قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ سُلْتٍ؛ فَلَا يَصِحُّ عَلَى التَّحَرِّي " (أَيْ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ صَفٌّ وَاحِدٌ، وَالشَّكُّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحَقُّقِ التَّفَاضُلِ) قَالَ: " وَأَمَّا عَلَى كَيْلٍ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ أَدْنَى مِنْ كَيْلِ الصُّبْرَةِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ حَقِّهِ، فَلَا تُبَالِي أَخَذَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ سُلْتًا، يُرِيدُ هَهُنَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقِيمَةَ " اهـ عَلَى نَقْلِ الْمَوَّاقِ
قَالَ: " وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مُصَالَحَةُ الْفَرَّانِ وَالرَّحَوِيِّ، فِيمَا تَبَدَّلَ عِنْدَهُمَا " وَكَانَ سَيِّدِي ابْنُ سِرَاجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَا لَا يَشُكُّ أَنَّهُ أَقَلُّ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّ خُبْزَهُ أَوْ دَقِيقَهُ قَدْ أُكِلَ، لِئَلَّا يَكُونَ مُبَادَلَةً بِتَأْخِيرٍ وَكَانَ يَقُولُ قَدْ تَقَدَّمَ لَهُ قَرِينَةُ الْحَالِ، أَنَّ طَعَامَهُ قَدْ أُكِلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا فِي الْأُضْحِيَّةِ اهـ (ابْنُ الْحَاجِبِ) يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى ذَهَبٍ مِنْ وَرِقٍ وَبِالْعَكْسِ إذَا كَانَا حَالَّيْنِ وَعَجَّلَ وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَك عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا جَازَ أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى خَمْسِينَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّك حَطَطْتَهُ وَأَخَّرْتَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ أَوْ عَرَضٍ نَقْدًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَأْخِيرٌ؛ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ وَصَرْفُ مُسْتَأْخَرٍ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: " وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرًا " لِأَنَّ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ مُحِقًّا؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ خَمْسِينَ إلَى أَجَلٍ، وَإِنْ أَخَذَ عَنْهَا عَرَضًا أَوْ ذَهَبًا إلَى أَجَلٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَرَاهِمَ فِي عُرُوضٍ أَوْ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُبْطِلًا؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ اهُوَ هَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ النَّاظِمِ: بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْعُ الدَّيْنِ. الْبَيْتَ إنَّمَا أَطَلْتُ هُنَا بَعْضَ التَّطْوِيلِ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بَعْضَ صُعُوبَةٍ، وَتَكْثِيرُ الْأَمْثِلَةِ، مِمَّا يَتَمَرَّنُ بِهِ الطَّالِبُ، وَهَذَا النَّقْلُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الصُّلْحِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُصَالَحُ عَنْ الدَّيْنِ بِمَا يُبَاعُ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا مَعْرِفَةُ مَا يُبَاعُ بِهِ الدَّيْنُ مِمَّا لَا يُبَاعُ بِهِ. وَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ مَسْأَلَةِ اسْتِهْلَاكِ صُبْرَةِ الْقَمْحِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَرِيبًا: أَنَّ مَنْعَ بَيْعِ الْمَجْهُولِ بِمَعْلُومٍ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الطَّعَامِ الرِّبَوِيِّ (سَوَاءٌ تَبَيَّنَ الْفَضْلُ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ أَوْ لَا) إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ وَحُضُورِ الْعِوَضَيْنِ، وَأَمَّا بَعْدَ
(1/318)

تَقَرُّرِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَقَصْدِ الصُّلْحِ عَنْهُ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ مَا لَا يَشُكُّ أَنَّهُ أَقَلُّ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ هِبَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ حُضُورٍ مِنْ الْبَيْتِ إلَى بَعْضِ شُرُوطِ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ. وَذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةً: حُضُورُ الْمَدِينِ، وَإِقْرَارُهُ، وَتَعْجِيلُ الثَّمَنِ. وَبَقِيَ عَلَيْهِ مَا نَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ الْغَرْنَاطِيِّ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّيْنُ طَعَامًا بِعَرَضٍ، وَأَنْ يُبَاعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمُبْتَاعُ عَدُوًّا لِلْغَرِيمِ
(الْبُرْزُلِيُّ) . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عُرُوضًا فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُبْقِيَ مِثْلَ أَجَلِ السَّلَمِ مِنْ أَجَلِهِ أَوْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ؟ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ: مُقَيَّدٌ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ، وَقَدْ كُنْتُ نَظَمْتُ شُرُوطَ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ، عَلَى مَا ذَكَرَ الْغَرْنَاطِيُّ فَقُلْتُ:
شُرُوطُ بَيْعِ الدَّيْنِ سِتَّةٌ تُرَى ... حُضُورُ مِدْيَانٍ وَإِقْرَارٌ يُرَى
وَبَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسٍ وَنَقَدْ ... ثَمَنُهُ وَلَا عَدَاوَةَ يُرَدْ
وَلَيْسَ ذَا الدَّيْنُ طَعَامًا وَاخْتُلِفْ ... فِي أَجَلِ السَّلَمِ إنْ عَرْضًا وُصِفْ
أَيْ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَرَضًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ زِدْتَ عَلَى شُرُوطِ بَيْعِ الدَّيْنِ مَسْأَلَتَيْنِ فَقُلْتُ فِيهِمَا:
وَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِهِ الْحُلُولُ ... إلَّا بِصَرْفٍ شَرْطُهُ مَقُولُ
فِي كَوْنِ ذَا الْمَدِينِ أَوْلَى بِاَلَّذِي ... بِيعَ بِهِ أَوْ لَا خِلَافَ فَاحْتَذِي
(فَائِدَةٌ) مِنْ صُوَرِ بَيْعِ الدَّيْنِ - الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ - الْمَسْأَلَة الْمُلَقَّبَةِ - عِنْدَ الْعَامَّةِ - بِقَلْبِ الرَّهْنِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِ الْإِنْسَانِ رَهْنٌ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى دَيْنِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ فَيَبِيعُ ذَلِكَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِهِ، كَمَا إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ؛ فَيَبِيعُهُ بِسِلْعَةٍ نَقْدًا، مَعَ اعْتِبَارِ بَقِيَّةِ شُرُوطِ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَيَحِلُّ الْمُشْتَرِي لِلدَّيْنِ الْمَذْكُورِ مَحَلَّ بَائِعِهِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ لَا فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْفَعَةِ وَإِنْ جُعِلَتْ لَهُ، وَالْبَيْعُ لِلرَّهْنِ بِالتَّفْوِيضِ الَّذِي جُعِلَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ لِلدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُكْتَبُ فِي ذَلِكَ فِي ظَهْرِ وَثِيقَةِ الدَّيْنِ أَوْ طَرَفِهَا: اشْتَرَى فُلَانٌ جَمِيعَ الدَّيْنِ أَعْلَاهُ، أَوْ بِمُحَوَّلِهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ الثَّمَنِ مُعَايَنَةً، أَوْ بِاعْتِرَافِهِ بَعْدَ التَّقْلِيبِ وَالرِّضَا كَمَا يَجِبُ، وَأَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنْ جَمِيعِهِ. فَبَرِئَ، وَأَحَلَّهُ مَحَلَّهُ فِي الرَّهْنِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْجَوَازِ لَهُ وَالتَّفْوِيضِ، وَتَمَلَّكَ الْمُشْتَرِي الْمَذْكُورُ مُشْتَرَاهُ تَمَلُّكًا تَامًّا، عَلَى السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ وَالْمَرْجِعُ بِالدَّرْكِ عُرْفًا قَدْرُهُ إلَى آخِرِ الْوَثِيقَةِ
وَهَذَا مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى دُخُولِ الرَّهْنِ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ فِي وَقْتِنَا، إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِشِرَاءِ الدَّيْنِ غَالِبًا، وَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ رَهْنَهُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي الْمَدِينِ، أَوْ يَجْعَلَهُ بِيَدِ رَجُلٍ غَيْرِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ لَمْ تُشْتَرَطْ مَنْفَعَتُهُ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ اشْتَرَطَ الْمَنْفَعَةَ، وَبَاعَ الدَّيْنَ وَالْمَنْفَعَةَ مَعًا - كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا - فَلَا خِيَارَ لِلرَّاهِنِ، إلَّا إذَا لَحِقَهُ ضَرَرٌ؛ فَيُزَالُ الضَّرَرُ، وَيُكْرِي ذَلِكَ لِغَيْرِ مُشْتَرِي الدَّيْنِ، وَالْكِرَاءُ لِمُشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِمُشْتَرِطِهَا وَإِنْ شَرَطَ عَدَمَ دُخُولِهِ لَمْ يَدْخُلْ، وَيَبْقَى الرَّهْنُ بِيَدِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ، وَأَمَّا إنْ بِيعَ الدَّيْنُ وَسَكَتَ عَنْ الرَّهْنِ، فَلَا يَشْمَلُهُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الدَّيْنَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالتَّوَثُّقُ بِالرَّهْنِ حَقٌّ لَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَكٌّ عَنْ الْآخَرِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَالِ الْإِنْسَانِ عَلَى مِلْكِهِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهُ بِرِضَاهُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي بَيْعِ الدَّيْنِ هَلْ وَقْعَ عَلَى دُخُولِ الرَّهْنِ أَوْ لَا؟ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا، وَيَبْدَأُ الْبَائِعُ. كَمَا فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا هَلْ وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى رَهْنٍ أَوْ حَمِيلٍ أَوْ لَا؟
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْحَمِيلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ دُخُولَهُ فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُ، وَإِقْرَارُهُ بِالْحِمَالَةِ، لِئَلَّا يَصِيرَ مِنْ شِرَاءِ مَا فِيهِ خُصُومَةٌ. اُنْظُرْ الْحَطَّابَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْبُيُوعِ: وَحَاضِرٌ إلَّا أَنْ يُقِرَّ وَمَعَ كَوْنِ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ، وَبِرَهْنٍ يُسَاوِي الدَّيْنَ وَأَكْثَرَ، وَهُوَ مَحُوزٌ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمَدِينِ، وَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ
(1/319)

عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ. وَأَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ عِيسَى بْنِ مُعَاوِيَةَ شِرَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ وَقَالَهُ أَصْبَغُ فِي نَوَازِلِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ (فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ) أَنَّ ابْنَ الْمَوَّازِ يُجِيزُ شِرَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ الْقَرِيبِ الْغَيْبَةِ، إذَا كَانَ عَلَى الدَّيْنِ بَيِّنَةٌ نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ، أَوَّلَ الْكُرَّاسِ السَّابِعِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْبُيُوعِ، فِي سُؤَالِ نَازِلَةٍ سُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَبَّابُ.
وَفِي السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وَجَوَابِهِ طُولٌ حَذَفْتُهُ اخْتِصَارًا. قَالَ الْقَبَّابُ الْمَذْكُورُ أَوَّلَ الْجَوَابِ: " أَمَّا مَنْ يُجِيزُ بَيْعَ الدَّيْنِ عَلَى غَائِبٍ بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَلَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مَعَ الرَّهْنِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ " لَكِنَّهَا كُلَّهَا أَقْوَالٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَصْحَابِ الْأَحْكَامِ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا فِي الرِّهَانِ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْمَدِينِ، وَلَعَلَّهُ ارْتِكَابًا لِمُقَابِلِ الْمَشْهُورِ؛ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ وَحِيَازَةِ الرَّهْنِ (فَرْعٌ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّضْيِيقُ عَلَى الْمَدِينِ وَتَعْنِيَتِهِ، وَأَمَّا إنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ؛ فَيُمْنَعُ وَيُرَدُّ إنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَهَلْ يَكْفِي فِي مَنْعِ ذَلِكَ وَفَسْخِهِ قَصْدُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ الْإِضْرَارَ، أَوْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ عَالِمًا بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي الضَّرَرَ؟ وَإِلَّا لَمْ يُفْسَخْ بَلْ يُبَاعُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَرْتَفِعُ الضَّرَرُ ابْنُ يُونُسَ وَهُوَ أَظْهَرُ. قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ فِي مَسْأَلَةِ الضَّمَانِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي شُرُوطِ بَيْعِ الدَّيْنِ.
(فَرْعٌ) إذَا بِيعَ الدَّيْنُ فَاخْتُلِفَ هَلْ يَكُونُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ: " وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ " وَعَنْ مَالِكٍ: أَرَاهُ حَسَنًا وَمَا أَرَى أَنْ يَقْضِيَ بِهِ وَقَالَ أَشْهَبُ يَقْضِي بِهِ اهـ. وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَيْتِ الرَّابِعِ مِنْ شُرُوطِ بَيْعِ الدَّيْنِ
وَفِي طَعَامٍ إنْ يَكُنْ مِنْ قَرْضِ ... يَجُوزُ الِابْتِيَاعُ قَبْلَ الْقَبْضِ
هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الدَّيْنِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ، تَرَتَّبَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ سَلَفِ إحْسَانٍ تَوْسِعَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَدَّمَ دُخُولُهُ فِي قَوْلِهِ فِي تَرْجَمَةِ بَيْعِ الطَّعَامِ
وَالْبَيْعُ لِلطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ ... مُمْتَنِعٌ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَرْضٍ
وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ، وَفِي الرِّسَالَةِ " وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ طَعَامِ الْقَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى "
(وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) جَائِزٌ لِمَنْ أَقْرَضَ طَعَامًا أَوْ وَرِثَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ، أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ اهـ. وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الثَّمَنِ مُعَجَّلًا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ النَّاظِمُ هُنَا، اتِّكَالًا مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " قَبْلَ هَذَا يَلِي هُوَ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ "، وَهَذَا يَعْنِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ شَرْطٌ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مُطْلَقًا، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ
وَالِاقْتِضَاءُ لِلدُّيُونِ مُخْتَلِفْ ... وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ
وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ ... فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ
وَالْعَيْنُ فِيهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا ... صَرْفٌ وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عَجِلَا
وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ ... خُذْ فِيهِ مِنْ مُعَجِّلٍ مَا تَصْطَفِي
وَإِنْ يَكُنْ مِنْ سَلَمٍ بَعْدَ الْأَمَدْ ... فَالْوَصْفُ فِيهِ السَّمْحُ جَائِزٌ فُقِدْ
الِاقْتِضَاءُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هُوَ فِي الْعُرْفِ: قَبْضُ مَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِ الْقَابِضِ فَقَوْلُهُ: " غَيْرُ الْقَابِضِ " أَخْرَجَ بِهِ الْمُقَاصَّةَ؛ لِأَنَّهَا قَبْضٌ وَقَوْلُهُ: " مَا فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ " وَقَوْلُهُ: " مَا فِي ذِمَّةِ. . . إلَخْ " يَعْنِي أَنَّ الِاقْتِضَاءَ هُوَ: أَنْ يَقْبِضَ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ الْمَدِينِ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَك عَلَى الْمَدِينِ ذَهَبٌ، فَيُعْطِيكَ
(1/320)

ذَهَبًا، أَوْ وَرِقٌ فَيُعْطِيكَ وَرِقًا، أَوْ كَتَّانٌ، فَيُعْطِيكَ كَتَّانًا أَوْ حَرِيرٌ فَيُعْطِيكَ حَرِيرًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ.
أَمَّا إنْ أَعْطَاكَ عَنْ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوْ بِالْعَكْسِ فَهُوَ صَرْفٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: " صَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ " بِشَرْطِ الْحُلُولِ. وَإِنْ أَعْطَاكَ عَنْ الذَّهَبِ حَرِيرًا مَثَلًا، أَوْ عَنْ الْحَرِيرِ ذَهَبًا، أَوْ عَنْ الصُّوفِ كَتَّانًا، فَهُوَ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ لَا مِنْ اقْتِضَائِهِ، وَاقْتِضَاءُ الدَّيْنِ أَوْ بَيْعُهُ مِنْ الْمَدِينِ، يُتَصَوَّرُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ: رَبُّ الدَّيْنِ وَالْمَدِينِ وَأَمَّا بَيْعُهُ لِغَيْرِ الْمِدْيَانِ فَيُتَصَوَّرُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ: رَبُّ الدَّيْنِ وَالْمَدِينِ وَالْمُشْتَرِي لِلدَّيْنِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَطْلَقَ الِاقْتِضَاءَ عَلَى مَا تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ، كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ اقْتِضَاءٌ حَقِيقَةً، وَمَا هُوَ بَيْعٌ حَقِيقَةً، وَمَا هُوَ مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَةِ الْبَيْعِ أَوْ الِاقْتِضَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَسَّمَ الِاقْتِضَاءَ إلَى مَا قَبْلَ الْأَجَلِ، وَإِلَى مَا بَعْدَهُ، فَأَشَارَ إلَى مَا قَبْلَ الْأَجَلِ بِقَوْلِهِ:
... وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ
وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ ...
أَيْ: مُعْتَبَرٌ
فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ
وَهَذَا اقْتِضَاءٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ أَعْطَى مِثْلَ مَا عَلَيْهِ جِنْسًا وَصِفَةً وَمِقْدَارًا، ثُمَّ قَسَّمَ الِاقْتِضَاءَ بَعْدَ الْأَجَلِ إلَى كَوْنِهِ - أَيْ الدَّيْنِ - عَيْنًا أَوْ غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَأَعْطَاهُ عَيْنًا مُخَالِفًا لِجِنْسِ الدَّيْنِ فَهُوَ صَرْفٌ، وَإِنْ أَعْطَاهُ عَنْ الْعَيْنِ عَرَضًا ثَوْبًا مَثَلًا فَهُوَ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ بِذَلِكَ الثَّوْبِ، فَقَالَ
وَالْعَيْنُ فِيهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا ... صَرْفٌ وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عَجِلَا
فَقَوْلُهُ وَالْعَيْنُ فِيهِ الضَّمِيرُ لِلْعَيْنِ، أَيْ دَفْعُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ صَرْفٌ، فَالْعَيْنُ الْأَوَّلُ - هُوَ الْمَدْفُوعُ عَنْ الدَّيْنِ - وَالثَّانِي - الَّذِي كَنَّى عَنْهُ بِالضَّمِيرِ - هُوَ الدَّيْنُ الْمُتَرَتِّبُ فِي الذِّمَّةِ وَمُقَابِلُهُ هُوَ قَوْلُهُ: " وَغَيْرُ عَيْنٍ إلَخْ " وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ بَيْعٌ، وَإِنْ غَلَبَ إطْلَاقُ الْبَيْعِ عَلَى مَا أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ عَيْنٍ بَلْ عَرَضًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ سَلَفٍ، أَوْ مِنْ بَيْعٍ، وَعَنْ الْبَيْعِ عَبَّرَ بِالسَّلَمِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَفٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ مَا شَاءَ مُعَجَّلًا، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَهُوَ اقْتِضَاءٌ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهُوَ بَيْعٌ، فَهَذَا مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْبَيْعُ وَالِاقْتِضَاءُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ ... خُذْ فِيهِ مِنْ مُعَجِّلٍ مَا تَصْطَفِي
وَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَمٍ " - أَيْ بَيْعٍ - فَقَالَ فِيهِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْ سَلَمٍ بَعْدَ الْأَمْرِ ... فَالْوَصْفُ فِيهِ السَّمْحُ جَائِزٌ فَقَدْ
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّمْحُ فِي الصِّفَةِ بِحَيْثُ يَأْخُذُ أَدْنَى صِفَةٍ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ الِاقْتِضَاءِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاظِمُ اشْتِرَاطَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اعْتِنَاءً بِهِ الْأَوَّلُ - قَوْلُهُ: " مَعَ بُلُوغٍ أَجَلًا " الثَّانِيَةُ - قَوْلُهُ: " وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ " - أَيْ بَعْدَ الْأَجَلِ - الثَّالِثَةُ - قَوْلُهُ " بَعْدَ الْأَمَدِ ". هَذَا حَاصِلُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْخَمْسَةِ، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ اقْتِضَاءُ دَيْنٍ أَوْ بَيْعٍ، وَأَمَّا شَرْحُهَا فَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ -
عَلَى أَنَّ النَّاظِمَ قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ وَصَرْفِهِ قَوْلِهِ:
بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْعُ الدَّيْنِ ... مُسَوَّغٌ مِنْ عَرْضٍ أَوْ مِنْ عَيْنِ
كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَحَلِّهِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ إجْمَالًا وَكَأَنَّهُ تَرْجَمَةٌ، وَمَا هُنَا تَفْسِيرٌ لَهُ، وَأَفَادَ هُنَا زِيَادَةً عَلَى مَا شَمِلَ قَوْلُهُ:
بِمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْعُ الدَّيْنِ
الْبَيْتُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صَرْفِ الدَّيْنِ حُلُولُ الْأَجَلِ، لِقَوْلِهِ هُنَا مَعَ بُلُوغٍ أَجَلًا " وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حُلُولُ الْأَجَلِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ مِنْ أَنْوَاعِ بَيْعِ الدَّيْنِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ الْعَيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ بِعَرَضٍ مُعَجَّلٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَرَضِ الْمُؤَجَّلِ بِعَرَضٍ أَوْ عَيْنٍ حَالٍّ، وَأَفَادَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَدِينِ وَإِقْرَارُهُ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِ مَا يُبَاعُ بِهِ الدَّيْنُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: " وَتَعْجِيلُ الثَّمَنِ " وَهُنَا فِي قَوْلِهِ: " وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عَجَّلَا "، وَفِي قَوْلِهِ: " خُذْ مِنْ مُعَجَّلٍ " وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ مَعَ أَلْفَاظِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصُّوَرَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُتَصَوَّرَةَ فِي اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ الِاقْتِضَاءَ الْحَقِيقِيَّ - الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ - أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ صُورَةً بَيَانُهَا: أَنَّ الدَّيْنَ إمَّا عَيْنٌ أَوْ عَرَضٌ، وَيَنْدَرِجُ فِي الْعَرَضِ، الطَّعَامَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرَضِ مَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا، إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ
(1/321)

وَالْحَالُّ يَشْمَلُ الْحَالَّ ابْتِدَاءً، وَمَا حَلَّ أَجَلُهُ وَقْتَ الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ثُمَّ الْقَضَاءُ، فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّمَانِيَةِ إمَّا بِمِثْلِ الدَّيْنِ جِنْسًا وَصِفَةً وَمِقْدَارًا، وَإِمَّا بِأَقَلَّ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَإِمَّا بِأَكْثَرَ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَيْضًا فِيهِمَا، فَإِذَا ضُرِبَتْ أَحْوَالُ الْقَضَاءِ الثَّلَاثَةُ فِي الْأَوْجُهِ الثَّمَانِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، بَلَغَتْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ صُورَةً، هَذَا بَيَانُ عَدَدِ صُوَرِ الِاقْتِضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، فِيمَا بَيْنَ جَائِزٍ وَمَمْنُوعٍ.
وَأَمَّا بَيَانُ الْجَائِزِ مِنْ غَيْرِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ الِاقْتِضَاءُ بِمِثْلِ الدَّيْنِ؛ فَالصُّوَرُ ثَمَانٍ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا أَوْ غَيْرَ حَالٍّ، وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ، وَتَدْخُلُ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ: " وَقَضَاءُ قَرْضٍ بِمُسَاوٍ "، ثُمَّ قَالَ " وَثَمَنُ الْمَبِيعِ مِنْ الْعَيْنِ كَذَلِكَ ". فَيَدْخُلُ فِي قَضَاءِ الْقَرْضِ أَرْبَعُ صُوَرٍ، كَوْنُ الدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، إمَّا حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ لَمْ يَحِلَّ، وَيَدْخُلُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَرْبَعُ صُوَرٍ كَذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِالْمِثْلِ (كَمَا هُوَ الْفَرْضُ) فَلَا فَرْقَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، وَإِنْ وَقَعَ الِاقْتِضَاءُ بِأَقَلَّ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا؛ جَازَتْ أَرْبَعُ صُوَرٍ، وَهِيَ كَوْنُ الدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، إمَّا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ، وَذَلِكَ حُسْنُ اقْتِضَاءٍ وَتَدْخُلُ هَذِهِ الْأَرْبَعُ فِي قَوْلِ (الشَّيْخِ خَلِيلٍ) وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ حَالٍّ، مُنِعَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْ، وَتَعَجَّلَ الْمُؤَدِّي إلَى سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا، لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ مُسَلَّفٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَقَدْ سُلِّفَ حَيْثُ عُجِّلَ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَانْتَفَعَ بِدَفْعِ قَلِيلٍ فِي كَثِيرٍ، أَوْ أَرْدَأَ عَنْ أَفْضَلَ، وَتَخْرُجُ هَذِهِ الصُّوَرُ الْأَرْبَعُ الْمَمْنُوعَةُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ: "
وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ بِأَقَلَّ صِفَةً أَوْ قَدْرًا إذْ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحِلَّ لَمْ يَجُزْ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ وَقَعَ الِاقْتِضَاءُ بِأَكْثَرَ قَدْرًا أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً؛ فَالصُّوَرُ ثَمَانٍ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا مِنْ بَيْعٍ جَازَ الْقَضَاءُ بِأَكْثَرَ قَدْرًا أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً، حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: " وَثَمَنُ الْمَبِيعِ مِنْ الْعَيْنِ ". كَذَلِكَ وَجَازَ بِأَكْثَرَ وَإِنْ كَانَ عَرَضًا مِنْ بَيْعٍ أَيْضًا، جَازَ الْقَضَاءُ بِأَكْثَرَ وَأَفْضَلَ صِفَةً إنْ حَلَّ الْأَجَلُ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ حُلُولِهِ قَالَ فِي آخِرِ بَابِ السَّلَمِ: " وَجَازَ قَبْلَ زَمَانِهِ قَبُولُ صِفَتِهِ فَقَطْ ". إذْ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ بَعْدَ زَمَانِهِ، أَيْ بَعْدَ حُلُولِهِ يَجُوزُ بِأَكْثَرَ وَبِأَفْضَلَ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ - عَيْنٌ مِنْ بَيْعٍ حَلَّ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، عَرَضٌ مِنْ بَيْعٍ حَلَّ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ قَرْضٍ؛ لَمْ يَجُزْ بِأَكْثَرَ قَدْرًا عَرَضًا كَانَ الدَّيْنُ أَوْ عَيْنًا، حَلَّ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، وَهَذِهِ أَرْبَعٌ أَيْضًا، وَإِلَيْهَا أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: " لَا أَزِيدُ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا " وَيَجُوزُ بِأَفْضَلَ صِفَةً وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ: " وَقَضَاءُ قَرْضٍ بِمُسَاوٍ أَفْضَلُ صِفَةً ".
وَالنَّاظِمُ قَسَّمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى الِاقْتِضَاءِ، قَبْلَ الْأَجَلُ، وَإِلَى الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ الْأَجَلِ، ثُمَّ نَوَّعَ مَا بَعْدَ الْأَجَلِ إلَى كَوْنِ الدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، ثُمَّ نَوَّعَ الْعَرَضَ إلَى كَوْنِهِ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ، وَتَقْسِيمُهُ هَذَا يَرْجِعُ إلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ. أَوَّلًا، لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُقْتَضَى قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ تَرَتَّبَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ إمَّا أَنْ يَقَعَ الِاقْتِضَاءُ بِمِثْلِ الدَّيْنِ صِفَةً مِقْدَارًا، أَوْ بِأَكْثَرَ قَدْرًا أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً، أَوْ بِأَقَلَّ قَدْرًا وَصِفَةً، فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً قَبْلَ الْأَجَلِ وَيُتَصَوَّرُ مِثْلُهَا بَعْدَ الْأَجَلِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الِاقْتِضَاءِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ وَالنَّاظِمُ تَكَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَبَيْعِ الدَّيْنِ - كَمَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ شَرْحِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ - وَصَرَّحَ بِجَوَازِ صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاقْتِضَاءِ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَبِجَوَازِ أَرْبَعِ صُوَرٍ مِنْ صُوَرِ الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ الْأَجَلِ، كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ وَيَأْتِي بَيَانُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ النَّظْمِ:
وَإِذْ فَرَغْنَا مِنْ الْكَلَامِ عَلَى اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَلْنَرْجِعْ الْآنَ إلَى أَلْفَاظِ النَّظْمِ فَقَوْلُهُ:
وَالِاقْتِضَاءُ لِلدُّيُونِ مُخْتَلِفْ
الْبَيْتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ اقْتِضَاءَ الدُّيُونِ مُخْتَلِفٌ حُكْمُهُ، فَمِنْهُ جَائِزٌ، وَمِنْهُ مَمْنُوعٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مُخْتَلِفٌ وَصْفُهُ، فَمِنْهُ بِمِثْلِ الدَّيْنِ، وَمِنْهُ بِأَقَلَّ، وَمِنْهُ بِأَكْثَرَ وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، أَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ هُوَ الْحُكْمُ حَيْثُ قَالَ:
وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ
وَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: " مُخْتَلِفْ " فَالْمُخْتَلِفُ إذًا هُوَ الْحُكْمُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ إنْ كَانَ مُمَاثِلًا لِلْمُقْتَضَى عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ، جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ قَدْرًا أَوْ صِفَةً أَوْ بِأَفْضَلَ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، فَفِيهِ مَا هُوَ جَائِزٌ
(1/322)

وَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَأْتِي قَوْلُهُ:
... وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ
وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ ... فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ
يَعْنِي أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي يُرَادُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ، فَإِنَّ حُكْمَ اقْتِضَائِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْجَوَازِ. وَالْمَنْعِ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا لَكِنْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ حَيْثُ يُمَاثِلُ هَذَا الدَّيْنَ الْمَقْضِيَّ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، وَإِذَا مَاثَلَهُ فِيمَا ذَكَرَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ كَانَ عَيْنًا، أَوْ عَرَضًا حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، ثَمَانِ صُوَرٍ كُلُّهَا جَائِزَةٌ، دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ قَبْلَ أَجَلٍ لَا يَخْتَلِفْ ... وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ
إلَخْ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا قَيَّدَهُ بِقَبْلَ الْأَجَلِ لِيُقَابِلَ بِهِ مَا بَعْدَ الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:
وَالْعَيْنُ فِيهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا
وَفِي قَوْلِهِ: " وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ " أَيْ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَفِي قَوْلِهِ: " بَعْدَ الْأَمَدِ ". وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالْمِثْلُ مَطْلُوبٌ وَذُو اعْتِبَارِ
.. إلَخْ أَنَّهُ إذَا قَضَى قَبْلَ الْأَجَلِ بِغَيْرِ الْمِثْلِ، بَلْ بِأَقَلَّ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، أَوْ بِأَكْثَرَ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، لَا يَكُونُ جَائِزًا مُطْلَقًا، بَلْ مِنْهُ جَائِزٌ وَمِنْهُ مَمْنُوعٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّقْسِيمِ.
قَوْلُهُ:
وَالْعَيْنُ فِيهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا ... صَرْفٌ وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عُجِّلَا
هَذَا شُرُوعٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الِاقْتِضَاءُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَتَقَدَّمَ فِي التَّقْسِيمِ أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا بِاعْتِبَارِ الِاقْتِضَاءِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّ النَّاظِمَ تَكَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ، وَأَنَّهُ نَوَّعَ الِاقْتِضَاءَ بَعْدَ الْأَجَلِ، إلَى كَوْنِ الدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا، وَنَوَّعَ الْعَرَضَ إلَى كَوْنِهِ مِنْ سَلَفٍ، أَوْ بَيْعٍ، فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ عَيْنًا ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، وَحَلَّ أَجَلُهُ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عَيْنًا مُخَالِفًا لِجِنْسِ الدَّيْنِ، بِحَيْثُ قَضَى ذَهَبًا عَنْ وَرِقٍ، أَوْ وَرِقًا عَنْ ذَهَبٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ صَرْفٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي فَرْضِنَا مِنْ كَوْنِ الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ صَرْفَ مَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ بِشَرْطِ الْحُلُولِ، فَقَوْلُهُ: " صَرْفٌ " هُوَ عَلَى حَذْفِ الصِّفَةِ، أَيْ جَائِزٌ.
وَدَلِيلُ حَذْفِهَا قَوْلُهُ: " مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا " وَلِأَنَّ الِاسْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْ مُسَمَّاهُ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ بُلُوغٍ أَجَلَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحِلَّ مَمْنُوعٌ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَرْفٌ بِتَأْخِيرٍ فَقَوْلُهُ: " وَالْعَيْنُ فِيهِ " الضَّمِيرُ لِلْعَيْنِ أَيْ وَقَضَاءُ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ، فَفِي بِمَعْنَى عَنْ، وَالْعَيْنُ الْأَوَّلُ - هُوَ الْمَدْفُوعُ قَضَاءً، وَالثَّانِي الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالضَّمِيرِ مِنْ الْمُتَرَتَّبِ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ
وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ
.. إلَخْ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ فِيمَا هُوَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ، إنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَرَتِّبِ فِي الذِّمَّةِ قَطْعًا، وَفُهِمَ مِنْ إطْلَاقِهِ فِي الْعَيْنِ الْمُتَرَتِّبِ فِي الذِّمَّةِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: " وَمَا تَشَاؤُهُ إنْ عَجَّلَا ". يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى عَنْ الدَّيْنِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ، مِمَّا يَشَاؤُهُ الْمُتَعَامِلَانِ، بِشَرْطِ تَعْجِيلِ ذَلِكَ الْمَقْضِيِّ؛ لِئَلَّا يَكُونَ فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقْضِيَ عَنْ الْعَيْنِ ثَوْبًا، وَعَنْ الثَّوْبِ الْحَرِيرِ ثَوْبَ كَتَّانٍ مَثَلًا وَنَحْوُ ذَلِكَ، بِشَرْطِ أَنْ يُعَجَّلَ ذَلِكَ الْمَقْضِيُّ أَيْضًا.
وَقَدْ اشْتَمَلَ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ، الَّتِي ذَكَرَ فِي الِاقْتِضَاءِ بَعْدَ الْأَجَلِ الْأُولَى مِنْ صَرْفِ الدَّيْنِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ، عَلَى أَنَّ صَرْفَ الدَّيْنِ هُوَ بَيْعٌ لَهُ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ:
وَغَيْرُ عَيْنٍ بَعْدَهُ مِنْ سَلَفِ ... خُذْ فِيهِ مِنْ مُعَجَّلٍ مَا تَصْطَفِي
تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ، أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ الْجِنْسِ؛ فَيَكُونُ اقْتِضَاءً حَقِيقِيًّا، وَعَلَى الثَّانِي فَالْمُرَادُ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَيْنٍ، بَلْ كَانَ عَرَضًا أَوْ طَعَامًا، وَكَانَ هَذَا الدَّيْنُ تَرَتَّبَ مِنْ سَلَفِ إحْسَانٍ وَتَوْسِعَةٍ، لَا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِمَا شَاءَهُ الْمُسَلِّفُ وَالْمُتَسَلِّفُ مَعًا، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِمُ إنَّمَا خَاطَبَ الْمُسَلِّفَ فَقَطْ بِقَوْلِهِ: " خُذْ " فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، لَكِنْ إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، لَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ (ضَعْ) وَتَعَجَّلْ، وَيَجُوزُ بِأَفْضَلَ صِفَةً حَلَّ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ قَدْرًا حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ.
فَقَوْلُهُ: " مَا تَصْطَفِي " يَعْنِي - كَمَا ذَكَرْنَا - إمَّا مِنْ مِثْلِ دَيْنِك وَلَا إشْكَالَ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ صِفَةً أَوْ قَدْرًا إنْ حَلَّ الْأَجَلُ، أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَا، وَالْمَأْخُوذُ مُعَجَّلٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِقَوْلِهِ: " مِنْ مُعَجَّلٍ " وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ فَمَعْنَاهُ خُذْ مَا شِئْت مِمَّا يُخَالِفُ دَيْنَكَ فِي الْجِنْسِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ؛ فَلَا عَلَيْكَ فِي الْمِقْدَارِ وَالْأَجَلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -، وَقَوْلُهُ: " وَإِنْ يَكُنْ مِنْ سَلَمٍ " هُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي الْبَيْتِ قَبْلَهُ: " مِنْ سَلَفٍ " وَيَعْنِي أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي أُرِيدَ قَضَاؤُهُ إذَا كَانَ تَرَتَّبَ مِنْ بَيْعٍ
(1/323)

وَعَنْهُ عَبَّرَ بِالسَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ - بِالْكَسْرِ - مُشْتَرٍ، وَالْمُسْلَمَ إلَيْهِ بَائِعٌ، وَالسَّلَمُ بَيْعٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَقْدِيمِ الثَّمَنِ وَتَأْخِيرِ الْمَثْمُونِ وَهُوَ السَّلَمُ، وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْمَثْمُونِ وَتَأْخِيرِ الثَّمَنِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَعْرُوفُ، إذَا تَأَخَّرَ ثَمَنُهُ فَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ.
أَمَّا الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، أَوْ الْمَثْمُونُ فِي السَّلَمِ، فَهُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ، فَقَوْلُهُ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْ سَلَمٍ بَعْدَ الْأَمَدْ
الْبَيْتَ يَعْنِي فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مِنْ بَيْعٍ - كَمَا ذَكَرَ - وَهُوَ عَرَضٌ، فَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ؛ جَازَ بِأَقَلَّ قَدْرًا أَوْ صِفَةً؛ لِأَنَّهُ حُسْنُ اقْتِضَاءٍ، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ: ضَعْ وَتَعَجَّلْ، وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِأَكْثَرَ قَدْرًا أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً، إنْ حَلَّ الْأَجَلُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ: حُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيدُكَ، وَقَوْلُ النَّاظِمِ:
فَالْوَصْفُ فِيهِ السَّمْحُ جَائِزٌ فَقَدْ
شَرَحَهُ الشَّارِحُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَفْظُهُ " وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ سَلَمٍ "، وَقَدْ حَلَّ الْأَجَلُ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَسَامَحَ فِيهِ الطَّالِبُ لِلْغَرِيمِ فِي الْوَصْفِ خَاصَّةً، كَأَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ قَمْحٌ مِنْ الْجِنْسِ الطَّيِّبِ، أَوْ حَرِيرٌ كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ مِنْ الْوَسَطِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خَشْيَةِ ضَعْ وَتَعَجَّلْ اهـ.
وَلَمْ أَرَهُ نَقَلَ هُنَا مَا يُوَافِقُ مَا شَرَحَ بِهِ، بَلْ نَقَلَ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ أَنَّهُ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ جَازَ السَّمْحُ فِي الْقَدْرِ وَفِي الصِّفَةِ، لَا فِي الْوَصْفِ فَقَطْ، كَمَا شَرَحَ بِهِ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ وَلَفْظُهُ عَنْ النَّوَادِرِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَإِذَا حَلَّ لَهُ الدَّيْنُ وَلَيْسَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؛ جَازَ أَخْذُك أَرْفَعَ أَوْ أَدْنَى، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ صِنْفِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ " اهـ. مَحَلُّ الْحَاجَةِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ النَّاظِمِ عَلَى أَنَّ السَّمْحَ وَقَعَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، فَأَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّمْحَ حِينَئِذٍ جَائِزٌ أَيْضًا فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ مَعًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِ النَّاظِمِ:
فَالْوَصْفُ فِيهِ السَّمْحُ جَائِزٌ فَقَدْ
لِأَنَّ " قَدْ " اسْمٌ بِمَعْنَى حَسْب رَاجِعٌ لِلْوَصْفِ، فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ بِمَا يَجُوزُ السَّمْحُ فِي الْوَصْفِ فَقَطْ، سَوَاءٌ جَعَلْنَا السَّمْحَ مِنْ قِبَلِ الطَّالِبِ، أَوْ الْمَطْلُوبِ، مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ أَنَّهُ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ، جَازَ السَّمْحُ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ مِنْ قِبَلِ الطَّالِبِ، إذَا أَخَذَ أَقَلَّ قَدْرًا أَوْ أَدْنَى صِفَةً، وَمِنْ قِبَلِ الْمَطْلُوبِ أُعْطِيَ أَكْثَرَ قَدْرًا أَوْ أَفْضَلَ صِفَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) وَمِنْ الْمَجْمُوعَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: " وَمَنْ لَهُ دَنَانِيرُ دَيْنًا فَلَا يَأْخُذُ قَبْلَ الْأَجَلِ بَعْضَهَا، وَيَأْخُذُ بِبَاقِيهَا عَرَضًا فَيَصِيرُ بَيْعًا وَسَلَفًا، وَعَرَضًا وَذَهَبًا بِذَهَبٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرَضِ دُونَ مَا أَخَذَهُ بِهِ دَخَلَهُ - مَعَ ذَلِكَ - ضَعْ وَتَعَجَّلْ
(فَرْعٌ) مِنْ الْمَجْمُوعَةِ أَيْضًا قَالَ أَشْهَبُ " وَإِذَا كَانَ لَك عَرَضٌ مِنْ بَيْعٍ إلَى أَجَلٍ " فَعَجَّلَهُ لَك، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَجْوَدَ وَلَا أَرْدَأَ فَجَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَجِّلْهُ حَتَّى أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا أَوْ أَعْطَاك شَيْئًا، وَلَوْ نَفْعًا بِخَطْرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مِنْكَ وَضِيعَةٌ عَلَى تَعْجِيلِ حَقٍّ، وَمِنْهُ طَرْحُ ضَمَانٍ بِزِيَادَةٍ اهـ. عَلَى نَقْلِ الشَّارِحِ فِي هَذَا الْفَرْعِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ: " وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَجِّلْهُ إلَخْ " وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ.
(1/324)

وَيُقْتَضَى الدَّيْنُ مِنْ الدَّيْنِ وَفِي ... عَيْنٍ وَعَرَضٍ وَطَعَامٍ قَدْ يَفِي
فَمَا يَكُونَانِ بِهِ عَيْنًا إلَى ... مُمَاثِلٍ وَذِي اخْتِلَافٍ فُصِّلَا
فَمَا اخْتِلَافٌ وَحُلُولٌ عَمَّهْ ... يَجُوزُ فِيهِ صَرْفُ مَا فِي الذِّمَّهْ
وَفِي تَأَخُّرِ الَّذِي يُمَاثِلُ ... مَا كَانَ أَشْهَبُ بِمَنْعٍ قَائِلُ
وَفِي اللَّذَيْنِ فِي الْحُلُولِ اتَّفَقَا ... عَلَى جَوَازِ الِانْتِصَافِ اتَّفَقَا
تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ بَيْتًا عَلَى الْمُقَاصَّةِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَكُونَ لَك دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ وَلَهُ عَلَيْكَ دَيْنٌ مِثْلُهُ، فَتَتْرُكَ مَا لَكَ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَهُ عَلَيْكَ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَتْرُكُ مَا لَهُ عَلَيْكَ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَكَ عَلَيْهِ. قَالَ (ابْنُ عَرَفَةَ) : الْمُقَاصَّةُ مُتَارَكَةُ مَطْلُوبٍ بِمُمَاثِلِ صِنْفِ مَا عَلَيْهِ لِمَا لَهُ عَلَى طَالِبِهِ فِيمَا ذُكِرَ عَلَيْهِمَا مَالِيًّا فَقَوْلُهُ: مُتَارَكَةٌ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ تَرَكَ الطَّلَبَ؛ لِوُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ وَقَوْلُهُ: " بِمُمَاثِلِ " مُتَعَلِّقٌ بِمَطْلُوبٍ، " وَلِمَا لَهُ " مُتَعَلِّقٌ " بِمُمَاثِلِ "، " وَعَلَى طَالِبِهِ " يَتَعَلَّقُ بِالصِّلَةِ، وَقَوْلُهُ: بِمُمَاثِلِ صِنْفِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ بِصِنْفِ مَا عَلَيْهِ الْمُمَاثِلِ لِمَا لَهُ هُوَ، أَيْ الْمَطْلُوبُ عَلَى طَالِبِهِ، وَأَخْرَجَ بِهِ الْمُخْتَلِفَيْنِ جِنْسًا أَوْ نَوْعًا، فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَصِحُّ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: " فِيمَا ذُكِرَ عَلَيْهِمَا " يَتَعَلَّقُ " بِمُتَارَكَةُ " أَخْرَجَ بِهِ الْمُتَارَكَةَ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: " مَالِيًّا " أَخْرَجَ بِهِ مُتَارَكَةَ رَجُلٍ رَجُلًا طَلَبَ حَدَّ صَاحِبِهِ، وَقَدْ قَذَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ.
وَقَدْ صَوَّرَ الشَّيْخُ ابْنُ غَازِيٍّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ الْمُسَمَّاةِ " بِتَكْمِيلِ التَّقْيِيدِ وَتَحْلِيلِ التَّعْقِيدِ " فِي الْمُقَاصَّةِ مِائَةً وَثَمَانِيًا مِنْ الصُّوَرِ، وَبَيَانُهَا: أَنَّ الدَّيْنَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَا عَيْنَيْنِ، أَوْ طَعَامَيْنِ، أَوْ عَرَضَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ.
فَهَذِهِ تِسْعُ صُوَرٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، أَوْ يَخْتَلِفَا فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي الْقَدْرِ فَقَطْ، أَوْ فِي الصِّفَةِ فَقَطْ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِيهِمَا، فَإِذَا ضُرِبَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ فِي التِّسْعَةِ قَبْلَهَا؛ بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ السِّتِّ وَالثَّلَاثِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَا - أَيْ الدَّيْنَانِ - حَالَّيْنِ، أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، إذَا ضُرِبَتْ فِي السِّتِّ وَالثَّلَاثِينَ؛ بَلَغَتْ مِائَةً وَثَمَانِيَةً مِنْ الصُّوَرِ، قَالَ - مُقَيِّدٌ: هَذَا الشَّرْحُ - سَمَحَ اللَّهُ لَهُ وَقَدْ كُنْتُ جَمَعْتُ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي فِي الْمُقَاصَّةِ فِي أَبْيَاتٍ وَهِيَ هَذِهِ
دَيْنُ الْمُقَاصَّةِ لِعَيْنٍ يَنْقَسِمْ ... وَبِطَعَامٍ وَبِعَرْضٍ قَدْ عُلِمْ
وَكُلُّهَا مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ وَرَدْ ... أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا فَذِي تِسْعٌ تُعَدْ
فِي كُلِّهَا يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ فِي ... جِنْسٍ وَقَدْرِ صِفَةٍ فَلْتَقْتَفِي
أَوْ كُلُّهَا مُخْتَلِفٌ فَهِيَ إذَنْ ... أَرْبَعُ حَالَاتٍ بِتِسْعٍ فَاضْرِبَنْ
يَخْرُجُ سِتٌّ مَعَ ثَلَاثِينَ نَعَمْ ... تُضْرَبُ فِي أَحْوَالِ آجَالٍ تُؤَمْ
حَلَّا مَعًا أَوْ وَاحِدٌ أَوْ لَا مَعَا ... جُمْلَتُهَا حَقٌّ كَمَا قَبْلُ اسْمَعَا
تَكْمِيلُ تَقْيِيدِ ابْنِ غَازِيٍّ اخْتَصَرَا ... أَحْكَامَهَا فِي جَدْوَلٍ فَلْيُنْظَرَا
قَوْلُهُ: وَفِي
عَيْنٍ وَعَرْضٍ وَطَعَامٍ قَدْ يَفِي
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدَّيْنَيْنِ فِي الْمُقَاصَّةِ، إمَّا عَيْنَانِ، أَوْ عَرَضَانِ، أَوْ طَعَامَانِ، فَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ - وَعَلَيْهِمَا تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْخَمْسَةِ - فَإِمَّا مُتَمَاثِلَانِ ذَهَبٌ وَذَهَبٌ، أَوْ فِضَّةٌ وَفِضَّةٌ، أَوْ مُخْتَلِفَانِ جِنْسًا كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، أَوْ صِفَةً كَدَنَانِيرَ مُحَمَّدِيَّةٍ وَيَزِيدِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ جِنْسًا أَوْ صِفَةً وَهُمَا حَالَّانِ؛ جَازَتْ الْمُقَاصَّةُ وَذَلِكَ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ جِنْسًا مِنْ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
فَمَا يَكُونُ بِهِ عَيْنًا إلَى ... مُمَاثِلٍ وَذِي اخْتِلَافٍ فُصِّلَا
فَمَا اخْتِلَافٌ وَحُلُولٌ عَمَّهْ ... يَجُوزُ فِيهِ صَرْفُ مَا فِي الذِّمَّهْ
(1/325)

فَلَفْظَةُ " مَا " مِنْ قَوْلِهِ فَمَا يَكُونَانِ مَوْصُولَةٌ، صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَالْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ الدَّيْنَانِ فِيهِ عَيْنًا، وَضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ لِلدَّيْنَيْنِ، وَبَاءُ بِهِ ظَرْفِيَّةٌ، وَضَمِيرُهَا يَعُودُ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ مَا وَإِلَى مُمَاثِلٍ يَتَعَلَّقُ " بِفُصِّلَ "، وَجُمْلَةُ فُصِّلَا خَبَرُ مَا وَنَائِبُهَا لِلْعَائِدِ عَلَى مَا هُوَ الرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ، أَوْ ذِي عُطِفَ عَلَى مُمَاثِلٍ، " وَمَا " أَوَّلَ الْبَيْتِ الثَّانِي مَوْصُولَةٌ أَيْضًا كَالْأَوَّلِ، " وَاخْتِلَافٌ " فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ، " عَمَّهْ "، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ " وَحُلُولٌ عَمَّهْ " أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعُمَّهُمَا الْحُلُولُ، بِأَنْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَالًّا، وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا، فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَجُوزُ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مِنْ كَوْنِ الدَّيْنَيْنِ مَعًا عَيْنًا، كَذَهَبٍ وَذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ وَفِضَّةٍ، فَإِنْ لَمْ يَحِلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَحِلَّ الْآخَرُ، فَالْمَشْهُورُ جَوَازُ الْمُقَاصَّةِ خِلَافًا لِأَشْهَبَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَفِي تَأَخُّرِ الَّذِي يُمَاثِلُ ... مَا كَانَ أَشْهَبُ بِمَنْعٍ قَائِلُ
وَمَفْهُومُ نِسْبَةِ الْمَنْعِ لِأَشْهَبَ، أَنَّ غَيْرَهُ وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ بِالْجَوَازِ، وَلَفْظَةُ " مَا " مِنْ قَوْلِهِ مَا كَانَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ إذَا لَمْ يَحِلَّا مَعًا فَالْمَنْعُ لِأَشْهَبَ كَيْفَ كَانَ التَّأْخِيرُ، أَيْ اتَّفَقَ الْأَجَلَانِ أَوْ اخْتَلَفَا، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي تَأَخُّرٍ أَنَّهُ حَيْثُ لَا تَأَخُّرَ، وَذَلِكَ إذَا حَلَّا مَعًا، فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَشْهَبَ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
وَفِي اللَّذَيْنِ فِي الْحُلُولِ اتَّفَقَا ... عَلَى جَوَازِ الِانْتِصَافِ اُتُّفِقَا
وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ
وَفِي تَأَخُّرِ الَّذِي يُمَاثِلُ
وَقَدْ اشْتَمَلَ كَلَامُ النَّاظِمِ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْأَرْبَعَةِ - بِالنَّظَرِ إلَى ظَاهِرِهِ - عَلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ مِنْ دَيْنِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَيْنَيْنِ إمَّا مُخْتَلِفَانِ، كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، أَوْ مُتَّفِقَانِ كَذَهَبٍ وَذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ وَفِضَّةٍ، فَهَاتَانِ صُورَتَانِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا حَالَّانِ، أَوْ غَيْرُ حَالَّيْنِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ، وَقَدْ أَشَارَ بِهَا إلَى قَوْلِ ابْنِ سَلْمُونٍ: فَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ عَيْنًا، فَإِنْ كَانَ مَالُ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرَ وَمَالُ الْآخَرِ دَرَاهِمَ، فَلَا تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَا حَالَّيْنِ مَعًا؛ لِيَكُونَ صَرْفَ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَا مُؤَخَّرَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَا تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ بِاتِّفَاقٍ اهـ. وَإِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ثُمَّ قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ: وَإِنْ كَانَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَا حَالَّيْنِ جَازَتْ الْمُقَاصَّةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَا مُؤَخَّرَيْنِ إلَى أَجَلَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَنَعَهَا أَشْهَبُ اهـ.
وَإِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
وَفِي تَأَخُّرِ الَّذِي يُمَاثِلُ
الْبَيْتَيْنِ، هَذَا بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَالْمَقْصُودُ الْكَلَامُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ دَيْنِ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صُوَرِ النَّقْدِ السِّتِّ وَالثَّلَاثِينَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ صُورَةً فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنْهَا، وَتِسْعٌ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَيْ الْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ، كَدِينَارٍ فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ، وَدِينَارَيْنِ اثْنَيْنِ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ، أَوْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ، كَدَرَاهِمَ مُحَمَّدِيَّةٍ وَأُخْرَى يَزِيدِيَّةٍ، أَوْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْجِنْسِ كَدِينَارٍ وَدَرَاهِم فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ، فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَوْجُهٍ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ.
فَهَذِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَجْهًا، فَالْمُخْتَلِفَانِ فِي الْقَدْرِ كَدِينَارٍ فِي مُقَابَلَةِ دِينَارَيْنِ، الْمُقَاصَّةُ فِيهَا مَمْنُوعَةٌ، كَانَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرَ مِنْ قَرْضٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ إمَّا حَالَّانِ أَوْ مُؤَجَّلَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ، الْمَجْمُوعُ تِسْعُ صُوَرٍ كُلُّهَا مَمْنُوعَةٌ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي الْجِنْسِ فَإِنْ حَلَّا جَازَتْ الْمُقَاصَّةُ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّا أَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، لَمْ تَجُزْ وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِ عَشْرَةَ صُورَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمَّا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ فَهَذِهِ سِتُّ صُوَرٍ، ثَلَاثٌ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ صِفَةً، وَثَلَاثٌ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ جِنْسًا، وَفِي كُلٍّ مِنْ السِّتِّ إمَّا حَالَّانِ أَوْ مُؤَجَّلَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ، فَهَذِهِ ثَمَانِ عَشَرَةَ صُورَةً مُضَافَةً إلَى التِّسْعِ قَبْلَهَا، الْمَجْمُوعُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ صُورَةً.
وَأَمَّا الدَّيْنَانِ الْمُتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، فَإِمَّا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا إمَّا أَنْ يَكُونَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ، فَهَذِهِ تِسْعُ صُوَرٍ
(1/326)

كُلُّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ، فِيمَا لَمْ يَحِلَّا مَعًا فَقَوْلُ النَّاظِمِ:
فَمَا اخْتِلَافٌ وَحُلُولٌ عَمَّهْ
يَعْنِي بِالِاخْتِلَافِ، إمَّا فِي الصِّفَةِ كَمُحَمَّدِيَّةٍ وَيَزِيدِيَّةٍ، أَوْ فِي الْجِنْسِ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَعَلَى الثَّانِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ: " صَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ "، وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا يَشْمَلُ الصَّرْفَ وَالِاخْتِلَافَ فِي الصِّفَةِ لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ ثَمَانِ عَشْرَةَ صُورَةً، الْجَائِزَةُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ الدَّيْنَانِ فِيهِ حَالَّيْنِ مَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: " وَحُلُولٌ عَمَّهْ ".
وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فِي الْقَدْرِ، فَالْمُقَاصَّةُ فِيهِمَا مَمْنُوعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ تِسْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ - أَيْضًا - وَوَجْهُ مَنْعِهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ التِّسْعُ فِي قَوْلِهِ:
فَمَا اخْتِلَافٌ وَحُلُولٌ عَمَّهْ
لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْجِنْسِ أَوْ الصِّفَةِ، فَهُوَ الَّذِي يُفَصَّلُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا فِي الْقَدْرِ فَمَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمُتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، وَهِيَ تِسْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَالْحُكْمُ فِيهَا الْجَوَازُ اتِّفَاقًا فِي الْحَالَيْنِ، لِقَوْلِهِ
وَفِي اللَّذَيْنِ فِي الْحُلُولِ اتَّفَقَا ... عَلَى جَوَازِ الِاتِّصَافِ اُتُّفِقَا
وَالْجَوَازُ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمُؤَجَّلَيْنِ مَعًا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْمَنْعُ لِأَشْهَبَ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَفِي تَأَخُّرِ الَّذِي يُمَاثِلُ ... مَا كَانَ أَشْهَبُ بِمَنْعٍ قَائِلُ
وَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ الصُّوَرِ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَتِسْعٌ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ جِنْسًا، وَتِسْعٌ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ صِفَةً، وَتِسْعٌ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ قَدْرًا، وَتِسْعٌ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ جِنْسًا. وَصِفَةً وَقَدْرًا
وَذَاكَ فِي الْعَرَضَيْنِ لَا الْمِثْلَيْنِ حَلْ ... بِحَيْثُ حَلَّا أَوْ تَوَافَقَ الْأَجَلْ
تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَيْتِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الدَّيْنَانِ عَرَضًا، وَفِي ذَلِكَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ صُورَةً كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَرَتَّبَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، أَوْ يَخْتَلِفَا فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي الْقَدْرِ، فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشَرَ صُورَةً، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا إمَّا أَنْ يَكُونَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ؛ يَجْتَمِعُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ صُورَةً، فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ الْعَرَضَيْنِ إذَا كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: " لَا الْمِثْلَيْنِ " كَمَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا قِبَلَ الْآخَرِ ثَوْبٌ، وَلِلْآخَرِ عَلَى صَاحِبِهِ فَرَسٌ؛ فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ جَائِزَةٌ، لَكِنْ إذَا حَلَّ الدَّيْنَانِ مَعًا أَوْ لَمْ يَحِلَّا وَأَجَلُهُمَا مُتَّفِقٌ، كَأَنْ يَكُونَ أَجَلُهُمَا مَعًا شَهْرًا مَثَلًا، سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى الشَّهْرِ ابْتِدَاءً أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِشَهْرَيْنِ، وَمَضَى لَهُ شَهْرٌ ثُمَّ أَوْقَعَا الْمُعَامَلَةَ الثَّانِيَةَ لِشَهْرٍ، فَتَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ الْآنَ؛ لِاتِّفَاقِ بَاقِي الْأَجَلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَشَارَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ سَلْمُونٍ: وَإِنْ كَانَ مَا لِأَحَدِهِمَا قِبَلَ الْآخَرِ عَرَضًا، خِلَافَ عَرَضِ صَاحِبِهِ غَيْرَ طَعَامٍ، فَالْمُقَاصَّةُ جَائِزَةٌ، إنْ كَانَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَخَّرَيْنِ إلَى أَجَلٍ مُتَّفِقٍ، وَإِنْ كَانَا لِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ فِي الْعَيْنِ وَالْعَرَضِ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ اهـ. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ حَلَّا أَوْ تَوَافَقَ الْأَجَلُ، أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَحِلَّا، وَلَكِنَّ أَجَلَهُمَا مُخْتَلِفٌ، كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لِشَهْرٍ وَالْآخَرُ لِشَهْرَيْنِ، فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَجُوزُ الْآنَ، وَانْظُرْ الْحُكْمَ إذَا حَلَّ أَحَدُهُمَا هَلْ تَجُورُ الْمُقَاصَّةُ الْآنَ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا قَبْلَ حُلُولِ الْقَرِيبِ مِنْهُمَا فَلَا تَجُوزُ؛ لِكَوْنِهِمَا لِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَرَضَيْنِ غَيْرِ الْمِثْلَيْنِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ صُورَةً؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إمَّا فِي الْجِنْسِ، أَوْ فِي الصِّفَةِ، أَوْ فِي الْقَدْرِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ.
فَهَذِهِ تِسْعُ صُوَرٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا إمَّا حَالَّانِ أَوْ مُؤَجَّلَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ، فَهَذِهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ صُورَةً، الْجَائِزُ مِنْهَا مَا كَانَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ لِأَجَلٍ مُتَّفَقٍ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " لَا الْمِثْلَيْنِ " أَنَّ الْعَرَضَيْنِ إذَا كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ يَعْنِي فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ جَائِزَةٌ مُطْلَقًا لَا يُقَيِّدُ حُلُولُهُمَا، أَوْ تَوَافُقُ أَجَلِهِمَا، بَلْ تَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالْآخَرُ مِنْ قَرْضٍ وَسَوَاءٌ حَلَّا مَعًا أَوْ لَمْ يَحِلَّا، أَوْ حَلَّ وَاحِدٌ فَقَطْ، فَالصُّوَرُ التِّسْعُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ قَالَ الشَّيْخُ بَهْرَامُ فِي فَصْلِ الْمُقَاصَّةِ وَتَجُوزُ فِي الْعَرَضَيْنِ مُطْلَقًا إنْ اتَّفَقَا جِنْسًا وَصِفَةً فَقَوْلُهُ وَذَاكَ أَيْ " الْمُقَاصَّةُ " الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْبَيْتِ قَبْلَهُ " بِالِانْتِصَافِ "؛ وَلِذَلِكَ أَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مُذَكَّرًا وَحَلَّ أَيْ جَازَ خَبَرٌ عَنْ
(1/327)

اسْمِ الْإِشَارَةِ.
(ابْنُ سَلْمُونٍ) وَإِنْ كَانَ مَا لِأَحَدِهِمَا قِبَلَ الْآخَرِ عَرَضًا، خِلَافَ عَرَضِ صَاحِبِهِ غَيْرَ طَعَامٍ، فَالْمُقَاصَّةُ جَائِزَةٌ، إنْ كَانَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَخَّرَيْنِ إلَى أَجَلٍ مُتَّفِقٍ، وَإِنْ كَانَا لِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ مِنْ بَيْعٍ فِي الْعَيْنِ، وَالْعَرَضِ، الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ
وَفِي تَوَافُقِ الطَّعَامَيْنِ اقْتَفِي ... حَيْثُ يَكُونَانِ مَعًا مِنْ سَلَفِ
وَفِي اخْتِلَافٍ لَا يَجُوزُ إلَّا ... إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ حَلَّا
تَكَلَّمَ فِي الْبَيْتَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ بَعْدَهُمَا عَلَى مَا إذَا كَانَ الدَّيْنَانِ طَعَامًا، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ صُورَةً، وَتَعَرَّضَ فِي الْبَيْتَيْنِ لِمَا إذَا كَانَ الطَّعَامَانِ مِنْ سَلَفٍ، وَيُتَصَوَّرُ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً؛ لِأَنَّهُمَا إمَّا مُتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، أَوْ مُخْتَلِفَانِ فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي الْقَدْرِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ، مَضْرُوبَةٍ فِي أَحْوَالِ الْأَجَلِ الثَّلَاثِ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَحَاصِلُ الْبَيْتَيْنِ أَنَّ الطَّعَامَيْنِ مِنْ سَلَفٍ إنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فَالْمُقَاصَّةُ جَائِزَةٌ، حَلَّا أَوْ لَمْ يَحِلَّا، أَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ لَا تَجُوزُ؛ إلَّا إذَا حَلَّا مَعًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ لِقَوْلِ ابْنِ سَلْمُونٍ: وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ طَعَامًا مِنْ قَرْضٍ وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حِنْطَةٌ سَمْرَاءُ، وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا فَالْمُقَاصَّةُ جَائِزَةٌ حَالَّيْنِ كَانَا أَوْ مُؤَخَّرَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا سَمْرَاءُ، وَلِلْآخَرِ مَحْمُولَةٌ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ اهـ. أَنْ يَكُونَا مَعًا حَالَّيْنِ فَيَكُونُ بَدَلًا وَإِلَّا فَلَا اهـ.
وَنَحْوُهُ فِي الشَّارِحِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الْبَيْتِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الصِّفَةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّفَاقَ وَبِالِاتِّفَاقِ فِي الْجِنْسِ، وَكَذَا فِي الْقَدْرِ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ إذَا أُطْلِقَ فِي الْمَحَلِّ يُرَادُ بِهِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا فُسِّرَ الِاتِّفَاقُ بِالِاتِّفَاقِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، فَيُفَسَّرُ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ، بِالِاخْتِلَافِ فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي الصِّفَةِ أَوْ الْقَدْرِ فَتَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ، فِي أَوْجُهِ الِاخْتِلَافِ، وَالثَّلَاثَةِ إنْ حَلَّا مَعًا وَيُزَادُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ فِيهِمَا مَعًا فِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَدْرِ، أَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ إنْ كَانَتْ فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ لَا فِي أَكْثَرَ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ طَعَامًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ قَرْضٍ أَوْ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ قَرْضٍ وَالْآخَرُ مِنْ بَيْعٍ.
فَإِنْ كَانَا مِنْ قَرْضٍ وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حِنْطَةٌ سَمْرَاءُ، وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا فَالْمُقَاصَّةُ جَائِزَةٌ، حَالَّيْنِ كَانَا أَوْ مُؤَخَّرَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا سَمْرَاءُ وَلِلْآخَرِ مَحْمُولَةٌ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَا مَعًا حَالَّيْنِ؛ فَيَكُونُ بَدَلًا، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَا مِنْ بَيْعٍ، فَإِنْ اخْتَلَفَا أَوْ اخْتَلَفَتْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمَا، أَوْ كَانَا مُؤَخَّرَيْنِ لِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلَانِ مُتَّفِقَيْنِ، فَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْمُقَاصَّةَ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ
وَإِنْ يَكُونَا مِنْ مَبِيعٍ وَوَقَعْ ... فِيهِ بِالْإِطْلَاقِ اخْتِلَافٌ امْتَنَعْ
وَفِي اتِّفَاقِ أَجَلَيْ مَا اتَّفَقَا ... هُوَ لَدَى أَشْهَبَ غَيْرُ مُتَّقَى
تَعَرَّضَ فِي الْبَيْتَيْنِ لِمَا إذَا تَرَتَّبَ الطَّعَامَانِ مِنْ بَيْعٍ، وَفِي ذَلِكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً، كَالدَّيْنِ مِنْ سَلَفٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَالصُّورَةُ كُلُّهَا مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَأَشَارَ النَّاظِمُ لِمَنْعِ الْمُقَاصَّةِ فِي الطَّعَامَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي جِنْسٍ أَوْ صِفَةٍ، أَوْ قَدْرٍ حَلَّا أَوْ لَمْ يَحِلَّا، أَوْ حَلَّ أَحَدهمَا، بِقَوْلِهِ: " وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَبِيعٍ " الْبَيْتَ، وَعَلَى أَوْجُهِ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ وَأَوْجُهِ الْآجَالِ، أَشَارَ بِالْإِطْلَاقِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تِسْعُ صُوَرٍ، وَأَشَارَ لِحُكْمِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ إذَا اتَّفَقَ الطَّعَامَانِ جِنْسًا وَصِفَةً وَقَدْرًا، وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُمَا وَلَكِنَّ أَجَلَهُمَا مُتَّفِقٌ، وَهُوَ الْجَوَاز لِأَشْهَبَ؛ لِأَنَّهُ قَالَهُ بِقَوْلِهِ:
وَفِي اتِّفَاقِ أَجَلَيْ مَا اتَّفَقَا ... هُوَ لَدَى أَشْهَبَ غَيْرُ مُتَّقَى
وَمَفْهُومُهُ الْمَنْعُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَكَذَا يَجُوزُ عِنْدَ أَشْهَبَ إذَا حَلَّا مَعًا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحِلَّا وَلَمْ يَتَّفِقْ أَجَلُهُمَا فَالْمَنْعُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ سَلْمُونٍ وَإِنْ كَانَا - أَيْ الطَّعَامَانِ - مِنْ بَيْعٍ، فَإِنْ اخْتَلَفَا أَوْ اخْتَلَفَتْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمَا، أَوْ كَانَا مُؤَخَّرَيْنِ لِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلَانِ مُتَّفِقَيْنِ، فَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْمُقَاصَّةَ، وَأَجَازَهَا أَشْهَبُ اهـ
(1/328)


وَشَرْطُ مَا مِنْ سَلَفٍ وَبَيْعِ ... حُلُولُ كُلٍّ وَاتِّفَاقُ النَّوْعِ
وَالْخُلْفُ مَعَ تَأَخُّرٍ مَا كَانَا ... ثَالِثُهَا مِنْ سَلَمٍ قَدْ حَانَا
تَعَرَّضَ فِي الْبَيْتَيْنِ لِمَا إذَا تَرَتَّبَ أَحَدُ الطَّعَامَيْنِ مِنْ بَيْعٍ، وَالْآخَرُ مِنْ سَلَفٍ، وَفِي ذَلِكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً أَيْضًا، لِأَنَّ الطَّعَامَيْنِ إمَّا مُتَّفِقَانِ جِنْسًا وَصِفَةً وَقَدْرًا، وَإِمَّا مُخْتَلِفَانِ صِفَةً أَوْ جِنْسًا أَوْ مِقْدَارًا، فَهَذِهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ إمَّا مَعَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِيهِمَا أَوْ مَعَ عَدَمِهِ فِيهِمَا، أَوْ مَعَ حُلُولِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ، وَأَخْبَرَ النَّاظِمُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ الْمُقَاصَّةِ فِيمَا كَانَا مِنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ حُلُولُ أَجَلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاتِّفَاقُهُمَا فِي النَّوْعِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا اخْتَلَّ فِيهِ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ تَجُزْ فِيهِ الْمُقَاصَّةُ، فَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطُ اتِّفَاقِ النَّوْعِ لَمْ تَجُزْ، قَالَ الشَّارِحُ: " وَذَلِكَ صَحِيحٌ "
(قُلْتُ) : وَلِذَلِكَ اُكْتُفِيَ عَنْهُ بِالْمَفْهُومِ. وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطُ الْحُلُولِ فِيهِمَا بِأَنْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا فَقَطْ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الْأَوَّلُ - الْمَنْعُ لِابْنِ الْقَاسِمِ تَأَخَّرَ أَجَلَاهُمَا، أَوْ تَأَخَّرَ أَجَلُ الْقَرْضِ أَوْ أَجَلُ السَّلَمِ - الثَّانِي لِأَشْهَبَ الْجَوَازُ مُطْلَقًا - وَالثَّالِثُ - الْجَوَازُ إنْ حَلَّ السَّلَمُ، وَالْمَنْعُ إنْ لَمْ يَحِلَّا مَعًا أَوْ حَلَّ أَجَلُ الْقَرْضِ دُونَ أَجَلِ السَّلَمِ، وَعَلَى التَّعْمِيمِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ بَيْنَ أَنْ يَتَأَجَّلَا مَعًا. أَوْ أَحَدُهُمَا، نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: " مَا كَانَ "، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ التَّأْخِيرُ فِي وَاحِدٍ أَوْ فِي اثْنَيْنِ، ثَالِثُهَا - تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ إنْ حَلَّ أَجَلُ السَّلَمِ
(قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ طَعَامًا، وَكَانَا مِنْ بَيْعٍ وَقَرْضٍ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفَا وَكَانَا حَالَّيْنِ جَازَتْ الْمُقَاصَّةُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا لَمْ تَجُزْ بِوَجْهٍ، وَإِنْ كَانَا مُؤَخَّرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْمَنْعُ لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْجَوَازُ لِأَشْهَبَ وَالثَّالِثُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ السَّلَمُ حَالًّا جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق