الأربعاء، 10 يونيو 2015

كتاب الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام – باب الْحَبْسِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا


كتاب
 الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام
المعروف  بشرح ميارة

المؤلف
 أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد الفاسي، ميارة
(المتوفى: 1072هـ)



الناشر: دار المعرفة
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]


[بَابُ الْحَبْسِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا]
(بَابُ الْحَبْسِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا)
عَقَدَ الشَّيْخُ هَذَا الْبَابَ مَعَ مَا انْدَرَجَ تَحْتَهُ مِنْ الْفُصُولِ لِلْكَلَامِ عَلَى التَّبَرُّعَاتِ وَمَا قَارَبَ مَعْنَاهَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا مُنَاسَبَةَ هَذَا الْبَابِ لِمَا بَعْدَهُ وَمَا بَعْدَهُ أَيْضًا وَهَكَذَا إلَى بَابِ الْعِتْقِ فَرَاجِعْهُ فِيهِ إنْ شِئْت (قَالَ الرَّصَّاع فِي شَرْحِ الْحُدُودِ) بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُعَبِّرُ بِالْحَبْسِ وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ بِالْوَقْفِ مُتَرَادِفَانِ.
وَهُمَا لَفْظَانِ وَالتَّعْبِيرُ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُمْ أَقْوَى فِي التَّحْبِيسِ يُقَالُ وَقَفَهُ وَأَوْقَفَهُ وَيُقَالُ حَبَسْته وَالْحَبْسُ يُطْلَقُ عَلَى مَا وُقِفَ يَعْنِي الشَّيْءَ الْمَوْقُوفَ وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ وَكَذَا الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ فَذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى عَادَتِهِ الْحَدَّيْنِ فَقَالَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ إعْطَاءُ مَنْفَعَةٍ شَيْءٌ مُدَّةَ وُجُودِهِ لَازِمٌ بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيه وَلَوْ تَقْدِيرًا قَوْلُهُ مَنْفَعَةٌ أَخْرَجَ بِهِ إعْطَاءَ الذَّاتِ كَالْهِبَةِ. قَوْلُهُ: شَيْءٌ يُرِيدُ مُتَمَوَّلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ. وَقَوْلُهُ: مُدَّةَ وُجُودِهِ أَخْرَجَ بِهِ الْعَارِيَّةَ وَالْعُمْرَى وَالْعَبْدَ الْمُخَدَّمَ حَيَاتَهُ يَمُوتُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ كَذَا قَالَ الشَّيْخُ وَخُرُوجُ الْعَارِيَّةِ وَالْعُمْرَى ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مُدَّةَ وُجُودِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَهُوَ خَرَجَ أَيْضًا لِأَنَّ اللُّزُومَ فِي بَقَاءِ الْمِلْكِ يُخْرِجُهُ وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ لِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي بَقَاءِ مِلْكِ مُعْطِيهِ لِجَوَازِ الْبَيْعِ بِالرِّضَا فَخَاصِّيَّةُ الْحَبْسِ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا وَقَوْلُهُ وَلَوْ تَقْدِيرًا أَيْ وَلَوْ كَانَ اللُّزُومُ أَوْ الْمِلْكُ تَقْدِيرًا فَلُزُومُ بَقَاءِ الْمِلْكِ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْحَبْسِ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ اللُّزُومِ فِي الْمِلْكِ تَقْدِيرًا فَلَيْسَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْحَبْسِ وَأَمَّا حَدُّهُ الْأَسْمَى فَهُوَ مَا أُعْطِيت مَنْفَعَتُهُ إلَخْ.
وَبَيَانُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَصْدَرِيِّ وَكَلَامُ الشَّيْخِ صَرِيحٌ
(2/135)

فِي أَنَّ الْحَبْسَ عَلَى مِلْكِ الْمُحَبِّسِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ خِلَافَ قَوْلِ اللَّخْمِيّ الْحَبْسُ يُسْقِطُ الْمِلْكَ وَهُوَ غَلَطٌ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْت
الْحَبْسُ فِي الْأُصُولِ جَائِزٌ وَفِي ... مُنَوَّعِ الْعَيْنِ بِقَصْدِ السَّلَفِ
وَلَا يَصِحُّ فِي الطَّعَامِ وَاخْتَلَفْ ... فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ مَنْ سَلَفْ
يَعْنِي أَنَّ تَحْبِيسَ الْأُصُولِ كَالدُّورِ وَالْجَنَّاتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَحْبِيسُ مُنَوَّعِ الْعَيْنِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ الْعَيْنِ الْمُنَوَّعِ إلَى ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لِقَصْدِ السَّلَفِ بِحَيْثُ تُوضَعُ تَحْتَ يَدِ أَمِينٍ بِإِشْهَادٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّفَهَا لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا مِمَّنْ هُوَ مَلِيُّ الذِّمَّةِ إمَّا بِرَهْنٍ أَوْ جَمِيلٍ وَهُوَ الْأَوْلَى أَوْ بِلَا شَيْءٍ حَسْبَمَا يُرَى ذَلِكَ مَنْ جُعِلَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بِقِيسَارِيَّةِ فَاسَ دَرَاهِمُ نَحْوُ أَلْفِ أُوقِيَّةٍ مُحَبَّسَةٍ بِقَصْدِ السَّلَفِ فَكَانَ مَنْ يَتَسَلَّفُهَا يَرُدُّ بَعْضَهَا نُحَاسًا وَيَمْتَنِعُ مِنْ تَبْدِيلِهِ فَمَا زَالَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى انْدَرَسَتْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاظِمُ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحْبِيسُ الطَّعَامِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِ هِيَ إتْلَافُ عَيْنِهِ وَاسْتِهْلَاكُهُ وَأَنَّ مَنْ سَلَفَ وَتَقَدَّمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْبِيسِ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَحْبِيسَهَا وَرَآهَا كَالْأُصُولِ وَالْعَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَرَآهَا كَالطَّعَامِ فَمَنْ سَلَفْ هُوَ فَاعِلُ اخْتَلَفْ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَاللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَلَفْظُ الْحَبْسِ أَوَّلَ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ بِسُكُونِ الْبَاءِ لِلْوَزْنِ أَمَّا وَقْفُ الْأُصُولِ فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَيَصِحُّ فِي الْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْأَرَاضِي وَالدِّيَارِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَوَائِطِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْمَصَانِعِ وَالْآبَارِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ وَالطُّرُقِ شَائِعًا أَوْ غَيْرَهُ اهـ وَالْمَصَانِعُ جَمْعُ مَصْنَعٍ وَهُوَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ وَمِنْهُ {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] (التَّوْضِيحُ) قَوْلُهُ شَائِعًا كَمَا لَوْ وُقِفَ نِصْفُ دَارٍ أَوْ غَيْرُ شَائِعٍ وَلَا يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً أَعْنِي فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَاخْتُلِفَ إنْ فَعَلَ هَلْ يَنْفُذُ تَحْبِيسُهُ أَوَّلَا وَعَلَى الثَّانِي اقْتَصَرَ اللَّخْمِيّ آخِرَ الشُّفْعَةِ فَقَالَ لِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَقْدِرُ حِينَئِذٍ عَلَى بَيْعِ جَمِيعِهَا وَإِنْ فَسَدَ شَيْءٌ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصْلِحُ مَعَهُ وَاخْتَارَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَوَّلَ اللَّخْمِيّ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مِمَّا يُقْسَمُ جَازَ الْحَبْسُ إذْ لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ فَمَا أَصَابَ الْمُتَصَدِّقَ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى التَّحْبِيسِ وَمَا لَا يَنْقَسِمُ بِيعَ فَمَا أَصَابَ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ الثَّمَنِ مِنْ حِصَّتِهِ اشْتَرَى بِهِ مَا يَكُونُ صَدَقَةً مُحَبَّسَةً فِي مِثْلِ مَا سَبَلهَا فِيهِ الْمُتَصَدِّقُ وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ. اهـ.
وَفِي ابْنِ عَرَفَةَ إنْ كَانَ عُلْوٌ وَسُفْلٌ لِرَجُلَيْنِ فَلِرَبِّ الْعُلْوِ رَدُّ تَحْبِيسِ ذِي السُّفْلِ أَسْفَلَهُ لِأَنَّهُ إنْ فَسَدَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَصْلُحُهُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ وَقَوْلُهُ فِي التَّوْضِيحِ وَمَا لَا يَنْقَسِمُ بِيعَ يُرِيدُ إذَا دَعَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ إلَى بَيْعٍ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ قَاسِمُ بْنُ سَعِيدٍ الْعُقْبَانِيُّ فِي جَوَابٍ لَهُ عَنْ مِثْلِ النَّازِلَةِ وَلَفْظُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْقِسْمَةَ بَطَلَ التَّحْبِيسُ بِبَيْعِ الْمُشْتَرَكِ إنْ دَعَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ إلَى الْبَيْعِ ثُمَّ بَعْدَ بُطْلَانِ التَّحْبِيسِ يَكُونُ الثَّمَنُ مِلْكًا لِلْمُحَبِّسِ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ وَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا دَعَا إلَيْهِ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ وَأَنَّ الثَّمَنَ الْمَقْبُوضَ فِي الشِّقْصِ الْمُحَبَّسِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْبَائِعِ يَفْعَلُ بِهِ مَا شَاءَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَفِي آخِرِ جَوَابٍ لِلْإِمَامِ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعْطِي الْعَبْدُوسِيِّ مَا نَصُّهُ وَمَا يَحْمِلُ الْقَسْمَ بِيعَ وَنُدِبَ لِأَهْلِ الْحَبْسِ أَنْ يُعَوِّضُوا الْحَبْسَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَا يُجْبَرُونَ وَيُفْسَخُ الْحَبْسُ وَيُجْبَرُونَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ اهـ.
نَقَلَهُ صَاحِبُ
(2/136)

الْمِعْيَارِ بَعْدَ نَحْوِ كَرَاسَّيْنِ مِنْ نَوَازِلِ الْأَحْبَاسِ وَإِلَى الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ بِذَلِكَ وَعَدَمِهِ أَشَارَ فِي التَّوْضِيحِ بِقَوْلِهِ آخِرَ الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا لَا يَنْقَسِمُ بِيعَ أَيْ يُبَاعُ جَمِيعُ الْأَصْلِ لَا الْحِصَّةُ الْمُحْبَسَةُ فَقَطْ كَذَا نَقَلَهُ فِي الْمِعْيَارِ قَبْلَ الْمَحَلِّ الْمُتَقَدِّمِ بِوَرَقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَمَا أَصَابَ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَأْتِي صَرِيحًا بَعْدَ أَبْيَاتٍ فِي قَوْلِهِ وَفِي
جُزْءٍ مُشَاعٍ حُكْمُ تَحْبِيسٍ قُفِيّ
وَهُنَاكَ كَانَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا أَنْسَبَ وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ الشَّرِيكُ بِشَرِكَةِ الْحَبْسِ أَمَّا إنْ رَضِيَ وَحَازَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ فَلَا إشْكَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا وَقْفُ الْعَيْنِ بِقَصْدِ السَّلَفِ فَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَإِنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لِتُسَلَّفَ وَأَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ وَقْفِ الطَّعَامِ فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الطَّعَامِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ نَحْوَهُ فِي الْجَوَاهِرِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَقْفُ مَعَ بَقَاءِ الذَّوَاتِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا ثُمَّ قَالَ فِي وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلسَّلَفِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ كَذَلِكَ أَيْ يَجُوزُ وَقْفُهُ لِلسَّلَفِ (قَالَ الشَّارِحُ) الطَّعَامُ فِي مَعْنَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَوْقُوفَةِ لِلسَّلَفِ إذَا وُقِفَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ مِثْلُهُمَا وَالْمَنْفَعَةُ فِي كِلَيْهِمَا فِي اسْتِهْلَاكِهِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُوقَفَ الطَّعَامُ لِلسَّلَفِ كَالْعَيْنِ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ اهـ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي وَقْفِ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَفِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ رِوَايَتَانِ التَّوْضِيحُ أَيْ فِي جَوَازِ وَقْفِ الْحَيَوَانِ وَمَنْعِهِ فَحَذَفَ مُضَافَيْنِ وَالصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْجَوَازُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ خَالِدًا أَحَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ أَسْفَلَ وَفِي رِوَايَةِ أَعْتُدَهُ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ ابْنُ حَجَرٍ جَمْعُ عَتِيدٍ وَهُوَ الْفَرَسُ الصُّلْبُ الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ وَقِيلَ السَّرِيعُ الْوَثْبِ ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَلِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ كَانَ شِبَعُهُ وَرَيُّهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي الْبَيَانِ ثَالِثٌ بِالْكَرَاهَةِ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ اهـ.
فَمُقَابِلُ الْجَوَازِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ يَحْتَمِلُ الْمَنْعُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّوْضِيحِ أَوَّلَ كَلَامِهِ وَيَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الْبَيَانِ.
(تَنْبِيهٌ) لَا يُحْكَمُ بِالْحَبْسِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ التَّحْبِيسِ وَثُبُوتِ مِلْكِ الْمُحَبِّسِ لِمَا حَبَسَهُ يَوْمَ التَّحْبِيسِ وَبَعْدَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْأَمْلَاكُ الْمُحَبَّسَةُ بِالْحِيَازَةِ لَهَا عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ وَبَعْدَ الْأَعْذَارِ إلَى الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ قَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ لَمْ تُسْمَعْ وَلَا بَيِّنَتُهُ إلَّا بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ لَا تَسْقُطُ الْحِيَازَةُ وَلَوْ طَالَتْ الدَّعْوَى فِي الْحَبْسِ بِذَلِكَ أَفْتَى ابْنُ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ حَائِزِينَ لِأَمْلَاكٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً فَادَّعَى شَخْصٌ وَقْفَهَا وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ عَالِمٌ بِالتَّصَرُّفِ فَقَالَ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْحَبْسِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ التَّحْبِيسُ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَيَثْبُتُ عَقْدُ التَّحْبِيسِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِ شُهَدَائِهِ (وَفِي التَّوْضِيحِ) فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ مَا نَصُّهُ قَالَ بَعْضُ الْأَنْدَلُسِيِّينَ مَا نَصُّهُ لَوْ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ الْحَبْسِ لَمْ يَكُنْ حَبْسًا حَتَّى يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ لِلْمُحَبِّسِ يَوْمَ حَبَّسَ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى السَّمَاعِ وَلَا يُسَمُّونَ الْمُحَبَّسَ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ مِلْكٍ قَالَ وَلَا تُفِيدُ أَيْ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي الْحَبْسِ إلَّا مَعَ الْقَطْعِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ يُحْتَرَمُ بِحُرْمَةِ الْأَحْبَاسِ اهـ.
وَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ كَلَامِ التَّوْضِيحِ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَبْسِ إنْ كَانَتْ عَلَى الْقَطْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ لِلْمُحَبِّسِ لِمَا حُبِسَ يَوْمَ حُبِسَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى السَّمَاعِ فَلَا يُحْتَاجُ لِذَلِكَ بَلْ يَكْفِي الْقَطْعُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ يُحْتَرَمُ بِحُرْمَةِ الْأَحْبَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي نَوَازِلِ الْهِبَاتِ مِنْ الْمِعْيَارِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ قَالَ شَاهَدْت عَقْدَ حَبْسٍ كَانَ أَبُو عَمْرٍو الشَّاطِبِيُّ كَتَبَهُ وَفِيهِ يُعَرِّفُونَ الدَّارَ الَّتِي بِمَوْضِعِ كَذَا حَبْسًا مِنْ تَحْبِيسِ فُلَانٍ وَأَنَّهَا تُحْتَرَمُ بِاحْتِرَامِ الْأَحْبَاسِ وَتُحَازُ بِمَا تُحَازُ بِهِ الْأَحْبَاسُ فَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ حُكْمٌ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُحْبِسِ وَمَوْتِهِ وَوِرَاثَتِهِ وَالْأَعْذَارِ فِي ذَلِكَ اهـ.
(2/137)

وَلِلْكِبَارِ وَالصِّغَارِ يُعْقَدُ ... وَلِلْجَنِينِ وَلِمَنْ سَيُوجَدُ
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّحْبِيسِ وَلَا بَالِغًا بَلْ يَجُوزُ التَّحْبِيسُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَعَلَى الْمَوْجُودِ مَوْلُودًا أَوْ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَعَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ رَأْسًا كَمَنْ يُولَدُ لِزَيْدٍ وَزَيْدٌ صَبِيٌّ صَغِيرٌ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَيَجُوزُ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَعَلَى الْجَنِينِ وَمَنْ يُولَدُ (وَقَالَ الْمُتَيْطِيّ) وَيَجُوزُ الْحَبْسُ عَلَى الْحَمْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ إجَازَتِهِ الْحَبْسَ عَلَى الْأَعْقَابِ الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا وَلَا كَانُوا فِي حِينِ التَّحْبِيسِ وَأَعْقَابِ الْأَعْقَابِ الَّذِينَ يَأْتُونَ وَهْم فِي حِينِ التَّحْبِيسِ غَيْرَ مَخْلُوقِينَ لَا بِحَمْلٍ وَلَا بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ بِمَا فِي الْبَطْنِ وَقَدْ خُلِقَ قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَبْسَ عَلَى الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِجَوَازِهِ عَلَى الْأَعْقَابِ (قَالَ الشَّارِحُ) وَفِي مَعْنَى الْحَبْسِ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ مِنْ حَيْثُ جَوَازُهُمَا لِلْحَمْلِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَيْطِيّ وَغَيْرُهُ وَنَائِبٌ يُعْقَدُ لِلْحَبْسِ
وَيَجِبُ النَّصُّ عَلَى الثِّمَارِ ... وَالزَّرْعِ حَيْثُ الْحَبْسُ لِلصِّغَارِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ حَبَّسَ حَائِطًا وَفِيهِ وَقْتَ التَّحْبِيسِ ثِمَارٌ أَوْ أَرْضًا وَفِيهَا إذْ ذَاكَ زَرْعٌ وَكَانَ التَّحْبِيسُ عَلَى الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْحَائِزُ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَثِّقَ مِنْ جِهَةِ النُّصْحِ وَرَفْعِ الشَّغَبِ أَنْ يَنُصَّ فِي الْوَثِيقَةِ عَلَى شُمُولِ التَّحْبِيسِ لِلثِّمَارِ وَالزَّرْعِ لِتَتَمَحَّضَ الْحِيَازَةُ لِلصِّغَارِ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ الْأَبُ قَبْلَ جَذِّ الثَّمَرَةِ وَحَصَادِ الزَّرْعِ (قَالَ الْمُتَيْطِيّ) وَقَوْلُنَا فِي النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ إذَا كَانَ فِي الْمِلْكِ زَرْعٌ وَفِي الْأُصُولِ ثَمَرَةٌ وَأَتْبَعَ الْمُحَبِّسُ فُلَانٌ بَنِيهِ الْمَذْكُورِينَ نَصِيبَهُ فِي جَمِيعِ زَرْعِ هَذِهِ الْأَمْلَاكِ وَثَمَرَتِهَا إلَى تَمَامِ هَذَا الْفَصْلِ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنْ أَبْقَى الْمُحَبِّسُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُحَبِّسْهُ مَعَ الْأَصْلِ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُحْصَدَ الزَّرْعُ أَوْ تُجَذَّ الثَّمَرَةُ وَالْحَبْسُ عَلَى الصِّغَارِ بَطَلَ الْحَبْسُ وَرَجَعَ مِيرَاثًا إذَا كَانَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ فِي أَكْثَرِ الْحُبَاسَةِ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْحُبَاسَةَ بِزَرْعِهِ وَثَمَرَتِهِ فَلَمْ تَتِمَّ الْحِيَازَةُ فِيهَا فَإِذَا ذَكَرْت أَنَّهُ حَبَّسَ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَةَ مَعَ الْأُصُولِ أَوْ أَتْبَعَتْهَا بِهِ صَحَّتْ الْحِيَازَةُ اهـ.
وَمَنْ يُحَبِّسُ دَارَ سُكْنَاهُ فَلَا ... يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ الْخَلَا
وَنَافِذٌ تَحْبِيسُ مَا قَدْ سَكَّنَهْ ... بِمَا كَالِاكْتِرَاءِ مِنْ بَعْدِ السَّنَهْ
إنْ كَانَ مَا حُبِسَ لِلْكِبَارِ ... وَمِثْلُ ذَاكَ فِي الْهِبَاتِ جَارِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ حَبَّسَ دَارَ سُكْنَاهُ عَلَى بَنِيهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْهَا وَمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ خَلَاءَهَا مِنْهُ وَمِنْ أَثَاثِهِ وَأَسْبَابِهِ سَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهَا قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ وَاسْتَمَرَّ فِيهَا إلَى أَنْ مَاتَ بَطَلَ التَّحْبِيسُ وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهَا بَعْدَ السَّنَةِ فَإِنْ كَانَ التَّحْبِيسُ عَلَى الْكِبَارِ نَفَذَ التَّحْبِيسُ وَصَحَّ.
وَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّغَارِ بَطَلَ أَيْضًا وَهَذَا التَّفْصِيلُ بِعَيْنِهِ يَجْرِي فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ هَذَا فِي تَحْبِيسِ دَار سُكْنَى الْمُحَبَّسِ وَأَمَّا غَيْرُهَا فَقَالَ الْمُتَيْطِيّ فَإِنْ كَانَ التَّحْبِيسُ فِي دَارٍ لَا يَسْكُنُهَا الْأَبُ عُقِدَ الْإِشْهَادُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَانَتْ حِيَازَتُهُ عَلَى بَنِيهِ بِالْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ نَافِذَةً جَائِزَةً وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْلَاكِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي سُكْنَاهُ لَمْ تَكُنْ الْحِيَازَةُ فِيهَا إلَّا بِأَنْ يُخَلِّيَهَا وَيَنْتَقِلَ عَنْهَا وَيُعَايِنَهَا الشُّهُودُ خَالِيَةً وَيَحُوزُوهَا (فِي الْمُتَيْطِيَّةِ أَيْضًا) وَلَا يَسْكُنُ الدُّورَ الْمُحَبَّسَةَ حَتَّى يُخْلِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ عَامًا أَوْ أَكْثَرَ وَقِيلَ عَامَيْنِ وَيُكْرِيهَا فِي الْعَامِ وَالْعَامَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ بِاسْمِ بَنِيهِ وَيَعْقِدُهَا فِي ذَلِكَ عَقْدًا فَإِنْ عَادَ إلَى سُكْنَاهَا قَبْلَ مُرُورِ الْعَامِ أَوْ شَغَلَهَا بِمَتَاعِهِ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهَا وَتُصَحَّحَ حِيَازَتُهَا بَطَلَتْ الْحُبَاسَةُ فِيهَا وَرَجَعَتْ مِيرَاثًا وَإِنْ عَادَ إلَى سُكْنَاهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ مُرُورِ الْعَامِ نَفَذَ الْحَبْسُ وَإِنْ مَاتَ فِيهَا لَمْ يُوهَنْ ذَلِكَ الْمُحَبِّسَ إذَا كَانَ رُجُوعُهُ إلَيْهَا بِالْكِرَاءِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ الْمَعْمُولُ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَنَحْوُهُ فِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ وَسَوَّى فِي هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي رُجُوعِهِ إلَيْهَا بَعْدَ الْعَامِ أَوْ الْعَامَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ وَأَنَّهَا
(2/138)

تَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ إلَيْهَا بَعْدَ الْعَامِ أَوْ الْعَامَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا فَتَجُوزُ اهـ.
وَعَلَى مَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ذَهَبَ النَّاظِمُ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ إنَّمَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِحِيَازَةِ الْعَامِ فِي الْمَالِكِينَ أُمُورَهُمْ فَقَوْلُ مَالِكٍ.
وَالْمَعْلُومُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ بِعُمْرَى أَوْ كِرَاءٍ أَوْ إرْفَاقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَازَهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ سَنَةً فَإِنَّ الْوَقْفَ نَافِذٌ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمَّا الصِّغَارُ فَمَتَى سَكَنَ أَوْ عَمَرَ وَلَوْ بَعْدَ عَامٍ بَطَلَ انْتَهَى مَا لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ الْمَوَّاق وَلَمْ يَنْقُلْ ابْنُ عَاتٍ وَلَا ابْنُ سَلْمُونٍ إلَّا هَذَا خَاصَّةً وَرَأَيْت فَتْوَى لِابْنِ لُبٍّ إنْ خَلَّى مَا حَبَسَهُ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ عَامًا كَامِلًا فَلَا يَضُرُّ رُجُوعُهُ إلَيْهِ اهـ.
وَفِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ بِهَذَا جَرَى الْعَمَلُ يَعْنِي إذَا أَخْلَاهَا مِنْهُ أَنَّهَا حِيَازَةٌ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ الْمُتَيْطِيّ انْتَهَى كَلَامُ الْمَوَّاق (فَرْعٌ) وَأَمَّا لَوْ سَكَنَ بَعْضُهَا فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ حَبَسَ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ دَارًا أَوْ وَهَبَهَا لَهُمْ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَحَوْزُهُ لَهُمْ حَوْزٌ إلَّا أَنْ يَسْكُنَهَا أَوْ جُلَّهَا حَتَّى مَاتَ فَيَبْطُلَ جَمِيعُهَا فَإِنْ سَكَنَ مِنْ الدَّارِ الْكَبِيرَةِ ذَاتِ الْمَسَاكِنِ أَقَلَّهَا وَأَكْرَى لَهُمْ بَاقِيَهَا نَفَذَ لَهُمْ ذَلِكَ فِيمَا سَكَنَ وَمَا لَمْ يَسْكُنْ وَلَوْ سَكَنَ الْجُلَّ وَأَكْرَى لَهُمْ الْأَقَلَّ بَطَلَ الْجَمِيعُ.
وَفِي النُّكَتِ إذَا سَكَنَ الْقَلِيلَ وَأَبْقَى الْكَثِيرَ خَالِيًا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُكْرِيَهُ لِلْأَصَاغِرِ لِأَنَّ تَرْكَهُ لِكِرَائِهِ مَنْعٌ لَهُ فَكَأَنَّهُ إبْقَاءٌ لِنَفْسِهِ فَذَلِكَ كَانْتِقَالِهِ إيَّاهُ لِسُكْنَاهُ عِيَاضٌ وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ النَّظَرِ ظَاهِرٌ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ
وَكُلُّ مَا يَشْتَرِطُ الْمُحَبِّسُ ... مِنْ سَائِغٍ شَرْعًا عَلَيْهِ الْحَبْسُ
مِثْلَ التَّسَاوِي وَدُخُولِ الْأَسْفَلِ ... وَبَيْعُ حَظِّ مَنْ بِفَقْرٍ اُبْتُلِيَ
يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا يَشْتَرِطُهُ الْمُحَبِّسُ مِمَّا يَسُوغُ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ كَمَا يُمَثِّلُ لَهُ فِي الْبَيْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ نَافِذٌ مَاضٍ أَيْ مَعْمُولٌ بِهِ فَقَوْلُهُ. وَكُلُّ مَعْطُوفٌ عَلَى تَحْبِيسُ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلُ
وَنَافِذٌ تَحْبِيسُ مَا قَدْ سَكَنَهُ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ جُمْلَةُ عَلَيْهِ الْحَبْسُ أَيْ وَكُلُّ مَا يَشْتَرِطُهُ الْمُحَبِّسُ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّ الْحَبْسَ جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ التَّسَاوِي بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْغَلَّةِ وَاشْتِرَاطِ دُخُولِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مَعَ الْعُلْيَا وَاشْتِرَاطِ أَنَّ مَنْ احْتَاجَ مِنْ الْمُحْبِسِ عَلَيْهِمْ بَاعَ نَصِيبَهُ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَمَهْمَا شَرَطَ الْوَاقِفُ مَا يَجُوزُ لَهُ جَازَ وَاتُّبِعَ قَوْلُهُ كَتَخْصِيصِ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ أَصْحَابِ مَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ (التَّوْضِيحُ) لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْوَاقِفِ تُتَّبَعُ كَأَلْفَاظِ الشَّارِعِ وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ مِمَّا لَوْ شَرَطَ مَعْصِيَةً وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَقْلِ أَنْقَاضِ الْمَسْجِدِ إذَا دَثَرَ وَأُيِسَ مِنْ عِمَارَتِهِ لِخَرَابِ الْبَلَدِ وَنَحْوِهِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ لِأَنَّ شَرْطَهُ إنَّمَا يُتَّبَعُ مَعَ الْإِمْكَانِ وَلِأَنَّ هَذَا أَوْفَى لِقَصْدِهِ لِدَوَامِ الِانْتِفَاعِ بِوَقْفِهِ.
وَكَذَلِكَ رَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي مَقْبَرَةٍ عَفَتْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبْنَى فِيهَا مَسْجِدٌ وَكُلُّ مَا كَانَ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي أَرْضٍ مُحَبَّسَةٍ لِدَفْنِ الْمَوْتَى فَضَاقَتْ بِأَهْلِهَا وَأَرَادُوا أَنْ يَتَوَسَّعُوا وَيَدْفِنُوا بِمَسْجِدٍ بِجَانِبِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَذَلِكَ حَبْسٌ كُلُّهُ (الْحَطَّابُ) مَفْهُومُ قَوْلِ خَلِيلٍ وَاتُّبِعَ شَرْطُهُ إنْ جَازَ أَنَّ شَرْطَ
(2/139)

مَا لَا يَجُوزُ لَا يُتَّبَعُ وَهَذَا إذَا شَرَطَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
شَيْئًا مُتَّفَقًا عَلَى مَنْعِهِ وَإِلَّا فَقَدْ نَصَّ فِي النَّوَادِرِ وَالْمُتَيْطِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي وَقْفِهِ إنْ وُجِدَ ثَمَنُ رَغْبَةِ بَيْعٍ اُشْتُرِيَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ مَضَى وَعَمِلَ بِشَرْطِهِ وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ اشْتِرَاطِ إخْرَاجِ الْبَنَاتِ مِنْ الْوَقْفِ إذَا تَزَوَّجْنَ وَحَصَّلَ فِيهَا ابْنُ رُشْدٍ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَالنُّزُولِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ وَقَالَ اللَّخْمِيّ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ إلَى أَنْ قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ الْمُحَبِّسُ حَيًّا فَأَرَى أَنْ يَفْسَخَهُ وَيُدْخِلَ فِيهِ الْبَنَاتَ وَإِنْ حِيزَ أَوْ مَاتَ الْمُحَبِّسُ فَاتَ وَكَانَ عَلَى مَا حَبَسَهُ اهـ.
فَانْظُرْ كَيْفَ مَضَى بَعْدَ الْفَوَاتِ لِلْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً وَمِنْ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ اللَّخْمِيّ وَغَيْرُهُ فِيمَنْ حَبَسَ دَارًا وَشَرَطَ عَلَى الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ أَنْ يَرُمَّهَا إنْ احْتَاجَتْ قَالَ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَذَلِكَ كِرَاءٌ وَلَيْسَ بِحَبْسٍ فَإِذَا نَزَلَ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَرَّ مِنْهَا مِنْ غَلَّتِهَا فَأَجَازَ الْحَبْسَ وَأَسْقَطَ الشَّرْطَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَرُدُّ الْحَبْسَ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَانْظُرْ الْحَطَّابَ فِيمَنْ حَبَسَ كُتُبًا وَاشْتَرَطَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي إلَّا كِتَابٌ بَعْدَ كِتَابٍ أَوْ اشْتِرَاطُ عَدَمِ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَدْرَسَةِ وَهَلْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ لَفْظُ الْمُحَبِّسِ أَوْ قَصْدُهُ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ الْعَبْدُوسِيُّ فِي أَثْنَاءِ جَوَابٍ لَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْحَبْسِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُحْبِسُ حَيًّا وَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَرَضِيَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ أَوَائِلَ السِّفْرِ الرَّابِعِ وَانْظُرْ الْحَطَّابَ أَيْضًا عَلَى مَنْ بَنَى مَدْرَسَةً وَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا إلَّا مَنْ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي مَسْجِدِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا فِي غَيْرِهَا وَأَنْ يَحْضُرَ حِزْبَ الْقُرْآنِ الْمُرَتَّبَ إنْ كَانَ قَارِئًا وَيَحْضُرُ الْمِيعَادَ فِي وَقْتِهِ.
وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ سُكْنَى وَقَالَ إنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا وَانْظُرْهُ أَيْضًا عَلَى مَنْ وَقَفَ كِتَابًا عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَشَرَطَ أَنْ لَا يُعَارَ إلَّا بِرَهْنٍ هَلْ يَصِحُّ هَذَا الرَّهْنُ أَوْ لَا وَعَلَى مَا إذَا خُصَّ مَسْجِدٌ بِمُعَيَّنِينَ كَأَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا وَيَشْتَرِطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ إلَّا مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ مَثَلًا اهـ.
وَفِي جَوَابِ ثَانِي نَازِلَةٍ مِنْ نَوَازِلِ الْأَحْبَاسِ مِنْ الْمِعْيَارِ مَا نَصُّهُ وَإِنَّمَا يَسْكُنُ الْمَدْرَسَةَ مَنْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا فَوْقَهَا وَأَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الْعِلْمِ وَدَرْسِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَيَحْضُرُ قِرَاءَةَ الْحِزْبِ صُبْحًا وَمَغْرِبًا وَيَحْضُرُ مَجْلِسَ مُقِرِّيهَا
(2/140)

مُلَازِمًا لِذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ مِنْ مَرَضٍ وَشَبَهِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَخَلُّفِهِ فَإِذَا سَكَنَ فِيهَا عَشَرَةَ أَعْوَامٍ وَلَمْ تَظْهَرْ نَجَابَتُهُ أُخْرِجَ مِنْهَا جَبْرًا لِأَنَّهُ يُعَطِّلُ الْحَبْسَ وَلَا يُخَزَّنُ فِي الْمَدْرَسَةِ مَنْ سَكَنَهَا بِاسْتِحْقَاقٍ إلَّا قَدْرَ عَوْلِهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْأَحْبَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ مَنْصُوصٌ لِأَئِمَّتِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ اهـ.
وَكَانَ هَذِهِ شُرُوطٌ مِنْ الْمُحَبِّسِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَحَيْثُ جَاءَ مُطْلَقًا لَفْظُ الْوَلَدْ ... فَوَلَدُ الذُّكُورِ دَاخِلٌ فُقِدْ
لَا وَلَدُ الْإِنَاثِ إلَّا حَيْثُمَا ... بِنْتٌ لِصُلْبٍ ذِكْرُهَا تَقَدَّمَا
وَمِثْلُهُ فِي ذَا بَنِيَّ وَالْعَقِبْ ... وَشَامِلٌ ذُرِّيَّتِي فَمُنْسَحِبْ
عَبَّرَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَمَّا أَرَادَ النَّاظِمُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ بِبَيَانِ مُقْتَضَى الْأَلْفَاظِ أَيْ بَابُ بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الْوَاقِعَةِ فِي لَفْظِ الْمُحَبِّسِ أَيْ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ تُبْنَى مَسَائِلُ الْحَبْسِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِكَوْنِ لَفْظِ الْمُحَبِّسِ مُحْتَمَلًا غَيْرَ صَرِيحٍ فِي الْمُرَادِ وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ الْحَطَّابُ تَأْلِيفًا حَسَنًا أَبْدَى فِيهِ وَأَعَادَ عَلَى عَادَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَيْك بِهِ يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ لَا يَشْمَلُ إلَّا وَلَدَ الِابْنِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبِنْتِ فَإِذَا قَالَ الْمُحَبِّسُ هَذِهِ الدَّارُ مَثَلًا حَبْسٌ عَلَى وَلَدِي دَخَلَ وَلَدُ الصُّلْبِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْوَلَدِ.
وَلَا إشْكَالَ وَدَخَلَ أَوْلَادُ الِابْنِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ وَأَوْلَادُ ابْنِ الِابْنِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ وَهَكَذَا وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبِنْتِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَبْسٌ عَلَى أَوْلَادِي بِصِيغَةِ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الصُّلْبِ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ وَوَلَدَ الذُّكُورِ مِنْهُمْ
(2/141)

وَلَا يَشْمَلُ وَلَدَ الْبِنْتِ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ
وَحَيْثُ جَاءَ مُطْلَقًا لَفْظُ الْوَلَد ... فَوَلَدُ الذُّكُورِ دَاخِلٌ فُقِدْ
لَا وَلَدُ الْإِنَاثِ إلَّا حَيْثُمَا ...
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ وَحَيْثُ جَاءَ لَفْظُ الْوَلَدِ مُطْلَقًا مِمَّا لَوْ جَاءَ مُقَيَّدًا كَمَا لَوْ قَالَ حَبْسٌ عَلَى وَلَدَيَّ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ وَأَوْلَادِهِمَا فَإِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ دَاخِلٌ.
وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ فِي قَوْلِهِ إلَّا حَيْثُمَا
بِنْتٌ لِصُلْبٍ ذِكْرُهَا تَقَدَّمَا
أَيْ فَلَا يَخْرُجُ وَلَدُ الْبِنْتِ مِنْ لَفْظِ الْمُحَبِّسِ حِينَئِذٍ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ لِلتَّصْرِيحِ بِالْبِنْتِ ثُمَّ بِلَفْظِ الْوَلَدِ الْمُتَّصِلِ بِضَمِيرِ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ وَلَدٍ وَبِنْتٍ وَهُوَ مَعْنَى ذِكْرُهَا تَقَدَّمَا.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَبْسٌ عَلَى بَنِيَّ أَوْ عَلَى عَقِبِي فَإِنَّهُ يَشْمَلُ وَلَدَ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ
وَمِثْلُهُ فِي ذَا بَنِيَّ وَالْعَقِبْ
أَيْ مِثْلُ الْوَلَدِ فَبَنِيَّ مُبْتَدَأٌ وَالْعَقِبُ عَطْفٌ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَيْ أَنَّ لَفْظَ بَنِيَّ وَالْعَقِبُ مِثْلُ لَفْظِ الْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ شُمُولُ وَلَدِ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ وَأَمَّا إذَا قَالَ حَبْسٌ عَلَى ذُرِّيَّتِي فَإِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ دَاخِلٌ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ
وَشَامِلٌ ذُرِّيَّتِي فَمُنْسَحِبْ
فَذُرِّيَّتِي مُبْتَدَأٌ وَشَامِلٌ خَبَرُهَا وَمُنْسَحِبْ عَطْفٌ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى وَشَامِلٌ وَالْأَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ أَيْ لَفْظُ الذُّرِّيَّةِ شَامِلٌ لِوَلَدِ الْبِنْتِ وَمُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَلَدِي.
وَأَوْلَادِي يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الصُّلْبِ مُطْلَقًا وَوَلَدَ ذُكُورِهِمْ (التَّوْضِيحُ) مُطْلَقًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَوَلَدَ ذُكُورِهِمْ دُونَ وَلَدِ الْإِنَاثِ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ فِي إدْخَالِهِمْ أَيْ إدْخَالِ وَلَدِ الْإِنَاثِ فِي لَفْظِ الْوَلَدِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَوَلَدِي وَوَلَدُ وَلَدِي الْمَنْصُوصُ أَيْضًا لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ وَأَوْلَادِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانَةُ وَأَوْلَادُهُمْ يَدْخُلُونَ اتِّفَاقًا.
(قَالَ الْبَاجِيُّ) وَأَخْطَأَ ابْنُ زَرْبٍ وَعَقِبِي كَوَلَدِي فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ ابْنِي فَلَيْسَ بِعَقِبٍ وَنَسْلِي كَذَا وَذُرِّيَّتِي يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ انْتَهَى لَفْظُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ وَنَقَلَ الشَّارِحُ عَنْ الْمُقَرَّبِ مَا نَصُّهُ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَذِهِ الدَّارُ حَبْسٌ عَلَى وَلَدِي فَهِيَ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَلَيْسَ لِوَلَدِ الْبَنَاتِ شَيْءٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَأَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ لِوَلَدِ الْبَنَاتِ فِي الْمِيرَاثِ شَيْءٌ اهـ.
وَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبِنْتِ مُفْرَدًا كَانَ كَوَلَدِي أَوْ جَمْعًا كَأَوْلَادِي سَوَاءٌ عَطَفَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي أَوْ لَمْ يَعْطِفْ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ مِمَّنْ تَحْتَ وَلَدِ الصُّلْبِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ دُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْحَوْزُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّحْبِيسِ ... قَبْلَ حُدُوثِ مَوْتٍ أَوْ تَفْلِيسِ
لِحَائِزِ الْقَبْضِ وَفِي الْمَشْهُورِ ... إلَى الْوَصِيِّ الْقَبْضُ لِلْمَحْجُورِ
اشْتَمَلَ الْبَيْتَانِ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ (الْأُولَى) أَنَّ الْحَوْزَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّحْبِيسِ وَيُشْتَرَط كَوْنه قَبْلَ فَلَسِ الْمُحَبِّسِ أَوْ مَوْته وَقَاعِدَة الشَّرْط أَنَّهُ يَلْزَم مَنْ عَدِمَهُ الْعَدَم فَإِذَا لَمْ يُحَزْ أَصْلًا أَوْ حِيزَ بَعْدَ مَوْت الْمُحَبِّسِ أَوْ فَلَسِهِ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَا لَا يَصِحّ إذَا حِيزَ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَرَضِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ التَّصْرِيحُ بِحُكْمِ إخْلَالِ هَذَا الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ
وَبِانْسِحَابِ نَظَرِ الْمُحَبِّسِ ... لِلْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْحَبْسِ
وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الْحَوْزِ خَاصًّا بِالتَّحْبِيسِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي كُلِّ مَا يَنْتَقِلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ التَّبَرُّعُ مُطْلَقًا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّحْلَةِ عَلَى قَوْلِ وَجَمِيعِ الْعَطَايَا وَالْبُطْلَانُ الْمَذْكُورُ لِعَدَمِ الْحَوْزِ إنَّمَا هُوَ إذَا حَبَّسَ فِي الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوصِ بِتَنْفِيذِهِ فِي مَرَضِهِ أَمَّا إذَا حَبَّسَ فِي الْمَرَضِ وَمَاتَ مِنْهُ أَوْ فِي صِحَّتِهِ وَأَوْصَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِإِنْفَاذِهِ فَإِنَّهُ يُنْفَذُ عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ مَا حَمَلَهُ الثُّلُثَ مَضَى وَمَا لَمْ يَحْمِلْهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ سَحْنُونٌ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَرَأَيْت مَنْ حَبَّسَ نَخْلَ حَائِطِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى مَاتَ قَالَ يَبْطُلُ حَبْسُهُ وَيَكُونُ مِيرَاثًا إلَّا أَنْ يُوصِيَ فِي مَرَضِهِ بِإِنْفَاذِ ذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ وَهَبَ هِبَةً لِمَنْ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَقْبِضْ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ وَهَبَهُ حَتَّى مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ أَوْ الْوَاهِبُ لَمْ يَنْفُذْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَانَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَالْعَطَايَا وَالنِّحَلُ فِي هَذَا عَلَى مَا فَسَّرْت لَك قُلْت لَهُ فَإِنْ حَبَّسَ نَخْلَ حَائِطِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي مَرَضٍ. وَلَمْ يَخْرُجْ الْحَائِطُ مِنْ يَدِهِ
(2/142)

حَتَّى مَاتَ فَقَالَ هَذِهِ وَصِيَّةٌ جَائِزَةٌ إذَا حَمَلَهَا الثُّلُثُ وَكَذَا مَا فَعَلَهُ الْمَرِيضُ مِنْ بَتِّ صَدَقَةٍ أَوْ بَتِّ عِتْقٍ لَيْسَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبْضٍ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ أَوْ يَصِحُّ فَيُنَفَّذُ الْبَتْلُ كُلُّهُ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كَانَ بَتْلُهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا أَعْلَمْتُك فِي الصَّحِيحِ لَا يَجُوزُ مِنْ فِعْلِ الصَّحِيحِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْت لَك إلَّا مَا قُبِضَ وَحِيزَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُفْلِسَ اهـ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي) فِي أَنَّ الْحَائِزَ لِلْحَبْسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ هُوَ الْمُعْطِي لَهُ مِنْ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ أَوْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَغَيْرِهِمَا إنْ كَانَ رَشِيدًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَهُوَ مُرَادُهُ بِجَائِزِ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلَوْ بَالِغًا فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْحَائِزَ لَهُ هُوَ حَاجِزُهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ وَصِيِّهِ وَمُقَابِلُهُ أَنَّهُ يَحُوزُ لِنَفْسِهِ.
(قَالَ الْمُتَيْطِيّ) وَإِذَا حَبَّسَ الرَّجُلُ عَلَى مُوَلًّى عَلَيْهِ فَالْأَحْسَنُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ وَصِيُّهُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ مَالِكٌ أَمْرَهُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي قَبْضِ الْمُوَلَّى مَا حُبِسَ عَلَيْهِ (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) إنْ فَوَّضَتْ الْأُمُّ قَبْضَ هِبَتِهَا لِابْنِهَا أَوْ إلَى غَيْرِ الْأَبِ حَتَّى يَبْلُغَ الِابْنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَكَرْت ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ أَنَّ يَتِيمًا أَلْزَمَتْهُ وِلَايَةٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ وَشَرَطَ فِي صَدَقَتِهِ أَنْ تَكُونَ يَدُ الْيَتِيمِ مُنْطَلِقَةً عَلَيْهَا أَوْ لَا يَنْظُرُ الْوَصِيُّ فِيهَا بِشَيْءٍ وَلَا يَأْخُذُهَا ثِقَافُ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ لَهُ شَرْطَهُ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْوِلَايَةُ فِيمَا وَرِثَ الْيَتِيمُ أَوْ اسْتَفَادَ أَوْ أُعْطِيَ بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْأُمِّ تَفْوِيضُ قَبْضِ مَا وَهَبَتْهُ لِابْنِهَا الصَّغِيرِ الَّذِي فِي حِجْرِ أَبِيهِ إلَى غَيْرِهِ لِمَا يُخَافُ مِنْ تَحَامُلِ الْآبَاءِ فِي أَمْوَالِ الْبَنِينَ وَنَظَرُ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ نَظَرِ الْوَصِيِّ فَقَدْ أُزِيحَ نَظَرُهُ لِابْنِهِ فِي صَدَقَةِ الْأُمِّ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضِهَا النَّظَرَ فِي صَدَقَتِهَا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ الْأَبِ. وَقَدْ نَزَلَتْ فَأُفْتِيَ فِيهَا بِهَذَا
ثُمَّ قَالَ الشَّارِحُ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ قُيِّدَ هَذَا الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْيَتِيمِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ أَفْعَالَهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ الْوِلَايَةِ كَانَ أَوْجَهَ وَكَانَ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا أَخْذُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَخْلُو مِنْ بَحْثٍ اهـ. وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ قَرِيبًا:
وَنَافِذٌ مَا حَازَهُ الصَّغِيرُ ... لِنَفْسِهِ أَوْ بَالِغٌ مَحْجُورُ
(وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ) وَشَرْطُ الْوَقْفِ حَوْزُهُ عَنْهُ قَبْلَ فَلَسِهِ وَمَوْتِهِ وَمَرَضِ مَوْتِهِ وَإِلَّا بَطَلَ مَا نَصَّهُ
(فَرْعٌ) وَمَنْ هُوَ الْحَائِزُ فَنَقُولُ التَّحْبِيسُ إنْ كَانَ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حَائِزٍ مُعَيَّنٍ بَلْ إذَا خَلَّى بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ صَحَّ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حِيَازَتِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ رَشِيدًا وَحَازَ لِنَفْسِهِ فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ تَصِحُّ حِيَازَتُهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ خُرُوجُ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُحْبِسِ.
وَوَقَعَتْ أَيَّامَ الْقَاضِي مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ فَشَاوَرَ فُقَهَاءَ بَلَدِهِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حِيَازَةٌ حَاشَا إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ وَالْبَاجِيّ فِي وَثَائِقِهِ كَقَوْلِ إِسْحَاقَ وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيٌّ (ابْنُ رُشْدٍ) وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَّفَقَ عَلَى أَنَّهُ حِيَازَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ وَإِنْ حَازَ غَيْرَ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ بِوَكَالَةٍ فَذَلِكَ نَافِذٌ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ قَبْضٌ لِمُوَكَّلِهِ سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا أَوْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ لَا يَخْلُو الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا وَجَعَلَ الْمُحَبِّسُ أَوْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمُتَصَدِّقُ ذَلِكَ بِيَدِ مَنْ يَحُوزُ لَهُ حَتَّى يَقْدَمَ جَازَ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَفِي الْحَبْسِ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُحَبِّسُ مَنْ يَحُوزُ لَهُ وَيُجْرِي الْغَلَّةَ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ اهـ.
وَهُوَ كَلَامٌ مُلَخَّصٌ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ التَّوْضِيحِ وَبِغَيْرِ وَكَالَةٍ لَا يَخْلُو الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ رَشِيدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا إلَخْ وَهُوَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ فِي التَّوْضِيحِ أَوَّلَ كَلَامِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حَائِزٍ مُعَيَّنٍ يَلِي إذَا خَلَّى إلَخْ إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي تَحْبِيسِ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ وَأَمَّا فِي التَّحْبِيسِ عَلَى الْمَسْجِدِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ أَوَّلًا التَّحْبِيسُ إنْ كَانَ عَلَى الْمَسَاجِدِ إلَخْ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ يَحُوزُهُ إمَامُ الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ بِوَكَالَةٍ يَعْنِي مِنْ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَحَازَ الْحَاضِرُ الْجَمِيعَ لِنَفْسِهِ وَلِلْغَائِبِ فَذَلِكَ حَوْزٌ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْغَائِبُ بِالْهِبَةِ وَقَوْلُ النَّاظِمِ لِجَائِزِ الْقَبْضِ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْزِ وَلَامُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) تَكَلَّمَ النَّاظِمُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحَوْزِ فِي صِحَّةِ التَّحْبِيسِ وَعَلَى مَنْ هُوَ الْحَائِزُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى
(2/143)

كَيْفِيَّةِ الْحَوْزِ كَيْفَ هِيَ (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) وَلَا بُدَّ مِنْ حَوْزِهِ فِي حَيَاةِ الْمُحَبِّسِ وَقَبْلَ فَلَسِهِ وَمَرَضِ مَوْتِهِ وَإِلَّا بَطَلَ وَذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ وَلَا يُجْزِي فِيهِ الْإِقْرَارُ (قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ) وَجَرَتْ الْفُتْيَا بِأَنَّ التَّطَوُّفَ مَعَ الشُّهُودِ وَتَخَلِّيَ الْمُحَبِّسِ عَنْ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ بِمَحْضَرِهِمْ حِيَازَةٌ لَهُ تَامَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الشُّهُودُ عَمَلَهُ فِي الْحَبْسِ قَالَ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُثْ ذَلِكَ أَوْ يَعْمُرْهُ حَتَّى مَاتَ الْمُحَبِّسُ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَالصَّدَقَةُ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْرُثَ ذَلِكَ أَوْ يَعْمُرَهُ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ وَإِلَّا فَلَا تَتِمُّ الْحِيَازَةُ قَالَ وَالْفُتْيَا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ عَقَدَ الْمُحَبِّسُ كِرَاءً أَوْ مُزَارَعَةً أَوْ مُسَاقَاةً فَذَلِكَ يُغْنِي عَنْ الْوُقُوفِ إلَيْهَا وَمُعَايَنَةِ نُزُولِ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ فِيهَا وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ قَالَ ابْن أَبِي زَمَنِينَ وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْ الْحِيَازَةِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ الشُّهُودُ نُزُولَ الْمُكْتَرِي أَوْ الْمُزَارِعِ أَوْ الْمُسَاقِي فِيهَا وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بِقَفْرٍ مِنْ الْأَرْضِ وَلَيْسَ فِيهِ حِيَازَةٌ مَعْلُومَةٌ فَالْإِشْهَادُ كَافٍ فِي حِيَازَتِهِ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ التَّخَلِّيَ فِيهِ وَالْقَبْضَ اهـ وَحَدَّ ابْنُ عَرَفَةَ الْحَوْزَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَعُمُّ حَوْزَ الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ رَفْعُ خَاصِّيَّةِ تَصَرُّفِ الْمِلْكِ فِيهِ عَنْهُ بِصَرْفِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِلْمُعْطِي أَوْ نَائِبِهِ فَقَوْلُهُ خَاصِّيَّةُ تَصَرُّفِ الْمِلْكِ هِيَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَوَضْعِ الْيَدِ بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِتَصَرُّفٍ وَعَنْهُ يَتَعَلَّقُ بِرَفْعٍ وَالضَّمِيرُ فِيهِمَا لِلْمِلْكِ، قَوْلُهُ بِصَرْفِ التَّمَكُّنِ يَتَعَلَّقُ بِرَفْعٍ وَقَوْلُهُ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَكُّنِ وَضَمِيرُهُ لِلْمِلْكِ وَقَالَ الرَّصَّاعُ لِلْمُعْطِي أَيْ بِالْكَسْرِ وَعَلَيْهِ فَمِنْ بِمَعْنَى عَنْ وَلِلْمُعْطَى يَتَعَلَّقُ بِالصَّرْفِ وَضَمِيرُ نَائِبِهِ لِلْمُعْطَى بِفَتْحِ الطَّاءِ وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ لِلْمُعْطِي حَوْزَ الرَّهْنِ فَإِنَّ الصَّرْفَ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَمَعْنَاهُ رَفْعُ يَدِ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ. وَرَدُّ ذَلِكَ إلَى يَدِ الْمُعْطِي أَوْ نَائِبِهِ إمَّا وَكِيلُهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ مُقَدَّمُ الْقَاضِي
وَيَكْتَفِي بِصِحَّةِ الْإِشْهَادِ ... إنْ أَعْوَزَ الْحَوْزُ لِعُذْرٍ بَادِ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَوْزَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّحْبِيسِ فَإِنْ تَعَذَّرَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ مِنْ خَوْفِ عَدُوٍّ وَمَا أَشْبَهَهُ سَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ وَاكْتَفَى عَنْهُ بِالْإِشْهَادِ بِالْحَبْسِ وَيَصِحُّ الْحَبْسُ وَيَنْفُذُ وَأَشَارَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ سَلْمُونٍ وَسُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ فِيمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ كَبِيرٍ بِأَمْلَاكٍ وَأَشْهَدَ الْأَبُ بِتَبْتِيلِ الصَّدَقَةِ وَالِابْن بِقَبُولِهَا وَوَقَعَ الْقَبْضُ فِي بَعْضِهَا بِالْمُعَايَنَةِ وَبَقِيَ سَائِرُهَا لَمْ يَتَطَوَّفْ عَلَيْهِ وَلَا خَرَجَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي قُطْرٍ مَخُوفٍ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا عَلَى غَرَرٍ وَلَمْ يَعْتَمِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَى أَنْ مَاتَ الْأَبُ فَقَالَ إذَا حَالَ الْخَوْفُ بَيْنَ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَمْلَاكِ الْمُتَصَدَّقِ بِهَا لِحِيَازَتِهَا بِالتَّطَوُّفِ عَلَيْهَا اُكْتُفِيَ بِالْإِشْهَادِ وَلَمْ تَبْطُلْ الصَّدَقَةُ إنْ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا قَبْلَ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهَا هَذَا مَعْنَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا اهـ.
وَيَنْفُذُ التَّحْبِيسُ فِي جَمِيعِ مَا ... مُحَبِّسٌ لِقَبْضِهِ قَدْ قَدَّمَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ حَبَّسَ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَسَبِيلِ اللَّهِ فَقَدَّمَ الْمُحَبِّسُ شَخْصًا عَلَى قَبْضِ ذَلِكَ وَأَسْلَمَهُ إلَيْهِ وَتَخَلَّى عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كَافٍ وَالْحَبْسُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ مَا حِيزَ عَنْ الْمُحَبِّسِ (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قُلْت لَهُ فَلَوْ حَبَّسَ عَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ وَلِيَهُ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ فِي يَدِهِ قَالَ هَذَا مَرْدُودٌ إلَى الْوَرَثَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَبْسٍ لَهُ غَلَّةٌ فَإِنَّهُ إنْ وَلِيَهُ فَكَانَ يُفَرِّقُهُ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ وَلَا تَكُونُ الْحِيَازَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَسْتَخْلِفَ الْمُحَبِّسُ رَجُلًا غَيْرَهُ عَلَى حِيَازَتِهِ وَيَبْرَأُ إلَيْهِ بِهِ
وَالْأَخُ لِلصَّغِيرِ قَبْضُهُ وَجَبْ ... مَعَ اشْتِرَاكٍ وَبِتَقْدِيمٍ مِنْ أَبْ
وَالْأَبُ لَا يَقْبِضُ لِلصَّغِيرِ مَعْ ... كَبِيرِهِ وَالْحَبْسُ إرْثٌ إنْ وَقَعْ
إلَّا إذَا مَا أَمْكَنَ التَّلَافِي ... وَصُحِّحَ الْحَوْزُ بِوَجْهٍ كَافِ
وَإِنْ يُقَدِّمْ غَيْرَهُ جَازَ وَفِي ... جُزْءٍ مُشَاعٍ حُكْمُ تَحْبِيسٍ قُفِيّ
اشْتَمَلَتْ الْأَبْيَاتُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ (الْأُولَى) إذَا حَبَّسَ الْأَبُ عَلَى وَلَدَيْهِ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حَبْسًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِشَاعَةِ وَنَوَّعَ النَّاظِمُ الْحَوْزَ لِلصَّغِيرِ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ قَدَّمَ الْأَبُ الِابْنَ الْكَبِيرَ عَلَى الْحَوْزِ لِأَخِيهِ الصَّغِيرِ فَالْحَبْسُ صَحِيحٌ لَهُمَا مَعًا وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَمَعْنَى وَجَبْ جَازَ وَصَحَّ
(2/144)

وَلَا يَعْنِي بِهِ مُقَابِلَ التَّحْرِيمِ وَإِنْ قَبَضَ الْأَبُ لِلصَّغِيرِ وَقَبَضَ الْكَبِيرُ لِنَفْسِهِ بَطَلَ الْحَبْسُ وَرَجَعَ مِلْكًا لِلْمُحَبِّسِ يُورَثُ عَنْهُ إنْ مَاتَ إلَّا إذَا تَلَافَى ذَلِكَ قَبْلَ فَلَسِ الْمُحَبِّسِ وَمَرَضِ مَوْتِهِ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ كَافٍ فِي الْحَوْزِ كَأَنْ يُقَدِّمَ الْأَبُ الْكَبِيرَ عَلَى الْحَوْزِ لِلصَّغِيرِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْ يُقَدِّمُ أَجْنَبِيًّا عَلَى الْحَوْزِ لَهُ كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ
وَالْأَبُ لَا يَقْبِضُ لِلصَّغِيرِ مَعْ
الْبَيْتَيْنِ وَإِنْ قَدَّمَ الْأَبُ أَجْنَبِيًّا يَحُوزُ لِلصَّغِيرِ جَازَ أَيْضًا وَصَحَّ الْحَبْسُ، وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ يُقَدِّمْ غَيْرَهُ جَازَ أَيْ غَيْرَ الِابْنِ الْكَبِيرِ فَيَشْمَلُ الْأَجْنَبِيَّ وَابْنًا ثَالِثًا لِلْمُحَبِّسِ إذَا لَمْ يُشْرِكْهُ مَعَ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمَا فِي الْحَبْسِ الْمَذْكُورِ (قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ) وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُحَبِّسَ عَلَى بَنِيهِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ حَبْسًا وَاحِدًا وَيَقْبِضَ الْكَبِيرُ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَتِهِ الصِّغَارِ بِتَقْدِيمِ الْأَبِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ الْمُتَيْطِيّ قَالَ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُوَثَّقِينَ عَقَدَ أَنَّ الِابْنَ الْكَبِيرَ قَبَضَ لِنَفْسِهِ وَقَبَضَ الْأَبُ نَصِيبَ الصِّغَارِ وَأَجَازَ مِثْلَ هَذَا وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ وَقَالَ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَقْبِضَ الْكَبِيرُ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَتِهِ الصِّغَارِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ ابْن الْعَطَّار فَإِنْ وَقَعَ هَذَا وَقَبَضَ الْكَبِيرُ لِنَفْسِهِ وَالْأَبُ لِلصِّغَارِ بَطَلَ الْحَبْسُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ (قَالَ الْمُتَيْطِيّ) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَبُ رَجُلًا يَقْبِضُ مَعَ الْكَبِيرِ نَصِيبَ الصِّغَارِ اهـ.
وَعَلَى قَوْلِ الْبَاجِيِّ وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ إلَخْ وَقَوْلِ ابْنِ الْعَطَّارِ فَإِنْ وَقَعَ هَذَا إلَخْ ذَهَبَ النَّاظِمُ وَزَادَ أَنَّهُ إذَا تَلَافَى ذَلِكَ بِحَوْزٍ صَحِيحٍ صَحَّ الْحَبْسُ وَلَمْ يَبْطُلْ وَزِيَادَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) هَذَا الْحُكْمُ جَارٍ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَيْضًا وَإِنَّ مَنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَقَدَّمَ ابْنًا كَبِيرًا لِلْحَوْزِ لِلصِّغَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهَذَا يَأْتِي لِلنَّاظِمِ صَرِيحًا فِي فَصْلِ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ حَيْثُ قَالَ
وَلِلْأَبِ التَّقْدِيمُ لِلْكَبِيرِ ... لِقَبْضِ مَا يَخْتَصُّ بِالصَّغِيرِ
فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الْكَبِيرُ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ بَطَلَ الْحَبْسُ لَهُمَا كَمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَبْيَاتُ تَحْبِيسُ الْجُزْءِ الْمُشَاعِ كَدَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَنْصَافًا مَثَلًا حَبَّسَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَصِحُّ الْحَبْسُ أَوْ لَا. فِيهِ خِلَافٌ وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ وَمَا نَقَلُوا مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ هُنَا أَنَّ الْخِلَافَ وَلَوْ رَضِيَ الشَّرِيكُ بِشَرِكَةِ الْحَبْسِ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ ضَرَرٌ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَرْضَ الشَّرِيكُ أَوَّلَ بَابِ الْحَبْسِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلَكِنَّ نَقْلَهُ هُنَا أَنْسَبُ وَتَقَدَّمَ هُنَالِكَ عَنْ الْعَبْدُوسِيِّ أَنَّ التَّحْبِيسَ مَاضٍ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَا لَا يَحْمِلُ الْقِسْمُ يُبَاعُ وَيُنْدَبُ أَنْ يُعَوَّضَ بِثَمَنِهِ حَبْسٌ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُفْسَخُ التَّحْبِيسُ وَيُجْبَرُ عَلَى تَعْوِيضِهِ بِغَيْرِهِ وَفِي ابْنِ سَلْمُونٍ وَيَجُوزُ تَحْبِيسُ الْجُزْءِ الْمُشَاعِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ قُسِمَ فَمَا أَصَابَ الْحَبْسَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى التَّحْبِيسِ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْقَسِمُ بِيعَ فَمَا أَصَابَ الْحَبْسَ مِنْ الثَّمَنِ اشْتَرَى بِهِ مَا يَكُونُ حَبْسًا فِيمَا سَبِيلُهُ فِيهِ اهـ.
(قَالَ الشَّارِحُ) وَفِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ إذَا حَبَّسَ رَجُلٌ حِصَّتَهُ مِنْ دَارٍ فَإِنْ كَانَتْ تَنْقَسِمُ قُسِمَتْ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقَسِمُ فَفِي الْوَاضِحَةِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ جَمِيعَ الرَّبْعِ يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ بِثَمَنِ نَصِيبِ الْحَبْسِ حَبْسٌ وَنَزَلَتْ فِي أَيَّامِ مُحَمَّد بْنِ عَلِيٍّ الْقَاضِي فِي فُرْنٍ حُبِّسَ مِنْهُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا عَلَى وَلَدٍ فَأَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِأَعْمَالِهِ وَقَضَى بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَكَانَ رَأْيُ ابْنِ الطَّلَّاعِ مَا فِي الْوَاضِحَةِ فَلَمْ يُعْمَلْ بِهِ وَنَفَذَ الْحَبْسُ وَمِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي مَسَائِلِ ابْنِ زَرْبٍ قَالَ اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِيمَنْ لَهُ حِصَّةٌ فِي دَارٍ لَا تَنْقَسِمُ فَحَبَّسَهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُنَفَّذُ تَحْبِيسُهُ فِيهَا وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَبِإِجَازَتِهِ أَقُولُ اهـ.
فَانْظُرْ كَيْفَ أَطْلَقُوا الْخِلَافَ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِعَدَمِ رِضَا الشَّرِيكِ بِشَرِكَةِ الْحَبْسِ.
(تَنْبِيهٌ) هَذَا حُكْمُ مَا إذَا حَبَّسَ الْبَعْضَ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ لِغَيْرِهِ أَمَّا إنْ كَانَ الْبَاقِي لَهُ وَسَكَنَ مَعَهُ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ مَثَلًا أَوْ حَازَ بِغَيْرِ السُّكْنَى فَذَلِكَ نَافِذٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يُنَافِي الْإِقْبَاضَ وَفِيهِ قَوْلَانِ (قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي) قَاعِدَةُ الشِّيَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ لَا يُنَافِي الْإِقْبَاضَ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي
(2/145)

الرَّهْنِ الْإِفْرَازُ بَلْ يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ وَقَالَ النُّعْمَانُ يُنَافِيه فَيُشْتَرَطُ الْإِفْرَازُ فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ اهـ.
وَهَذَا وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الرَّهْنِ فَقَطْ فَهُوَ جَارٍ فِي الْحَبْسِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لِاشْتِرَاكِهَا فِي شَرْطِيَّةِ الْقَبْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَعَلَى عَدَمِ الْمُنَافَاةِ مَا نُقِلَ فِي الْمِعْيَارِ فِي نَوَازِلِ الْهِبَاتِ وَنَصُّهُ وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا فَدَخَلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَسَاكَنَهُ فِيهَا وَصَارَ حَائِزًا بِالسُّكْنَى وَالِارْتِفَاقِ بِمَنَافِعِ الدَّارِ وَالْوَاهِبُ مَعَهُ عَلَى حَسْبِ مَا يَفْعَلُهُ الشَّرِيكَانِ فِي السُّكْنَى (فَأَجَابَ) ذَلِكَ حَوْزٌ تَامٌّ وَالْهِبَةُ نَافِذَةٌ لَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ وَهَبَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ أَوْ دَارٍ وَتَوَلَّى احْتِيَازَ ذَلِكَ مَعَ وَاهِبِهِ وَشَارَكَهُ فِي الِاغْتِلَالِ وَالِارْتِفَاقِ فَهُوَ حَوْزٌ وَقَبْضٌ قِيلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ إنَّمَا وَهَبَ نِصْفَ ذَلِكَ لِصَغِيرٍ لَا يَحُوزُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِبِكْرٍ فَسَكَنَا مَعَ الْوَاهِبِ عَلَى حَسَبِ سُكْنَى الْحَائِزِ الْفِعْلِيِّ فَقَالَ هُوَ حَوْزٌ تَامٌّ أَيْضًا نَافِذٌ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ لِصَغِيرٍ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ وَهِيَ بِيَدِهِ أَلَيْسَ حِيَازَةٌ تَامَّةٌ وَقَبْضُهَا جَائِزٌ اهـ (قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ) وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ الْبَوَاقِي عَلَى الْمَنْهَجِ الْمُنْتَخَبِ لِسَيِّدِي عَلِيٍّ الزَّقَّاقِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ قُلْت فِي تَذْيِيلِهِ
هَلْ الشُّيُوعُ قَدْ يُنَافِي الْقَبْضَ لَا ... نَعَمْ يُنَافِيه خِلَافٌ نُقِلَا
عَلَيْهِمَا تَحْبِيسُ ... إنْ سَكَنْ مَعَهُ مُحَبَّسٌ عَلَيْهِ لَا وَهَنْ
وَهِبَةٌ صَدَقَةٌ رَهْنٌ فَلَا ... فَرْقَ لِأَجَلِ الْحَوْزِ خُذْهُ مُسْجَلَا
وَالْقَبْضُ فِي غَيْرِ الرِّهَانِ كَافِ ... وَفِيهِ الْإِقْبَاضُ عَلَى خِلَافِ
وَقَوْلُ النَّاظِمِ وَفِي
جُزْءٍ مُشَاعٍ حُكْمُ تَحْبِيسٍ قُفِيّ
حُكْمُ تَحْبِيسٍ مُبْتَدَأٌ وَمُضَافٌ إلَيْهِ وَجُمْلَةُ قُفِيّ أَيْ تُبِعَ خَبَرُهُ وَفِي جُزْءٍ يَتَعَلَّقُ بِقُفِيِّ أَيْ حُكْمُ تَحْبِيسِ غَيْرِ الْجُزْءِ الْمُشَاعِ اُتُّبِعَ وَارْتُكِبَ فِي تَحْبِيسِ الْجُزْءِ الْمُشَاعِ
وَنَافِذٌ مَا حَازَهُ الصَّغِيرُ ... لِنَفْسِهِ وَبَالِغٌ مَحْجُورُ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ حَبَسَ أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى صَغِيرٍ غَيْرِ بَالِغٍ مَحْجُورٍ وَقَبَضَ ذَلِكَ الصَّغِيرُ أَوْ الْمَحْجُورُ الْبَالِغُ مَا حُبِسَ عَلَيْهِ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَإِنَّ قَبْضَهُ كَافٍ وَالْحَوْزُ تَامٌّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوْزِ خُرُوجُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ وَقَدْ حَصَلَ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَوْزَ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إلَّا حُصُولُهَا وَلَيْسَتْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْبُلُوغُ أَوْ عَدَمُ الْحَجْرِ فَفِي طُرَر ابْنِ عَاتٍ قَالَ ابْنُ زَرْبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى صَغِيرٍ مِنْ أَبٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ الصَّدَقَةَ إلَى ذَلِكَ الصَّغِيرِ وَحَازَهَا فِي صِحَّةِ الْمُتَصَدِّقِ بِهَا فَإِنَّهَا حِيَازَةٌ تَامَّةٌ. وَإِنْ كَانَ الْحَائِزُ صَغِيرًا وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً أَنْ يَحُوزَ الصَّغِيرُ فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَفِي مَسَائِلِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْكَلْبِ الْقَرَوِيِّ أَنَّهُ إذَا حَازَ الصَّغِيرُ الَّذِي لَا أَب لَهُ وَلَا وَصِيَّ مَا وُهِبَ لَهُ وَكَانَ يَعْقِلُ أَمْرَهُ صَحَّ حَوْزُهُ وَجَازَ ذَلِكَ لَهُ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ أَيْضًا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهِنْدِيُّ وَإِنْ قَبَضَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ مَا حُبِّسَ عَلَيْهِ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ وُهِبَ لَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمُحَبِّسُ أَوْ الْمُتَصَدِّقُ أَوْ الْوَاهِبُ نَفَذَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْوُجُوهُ بِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِ الْمُعْطِي لَهَا وَقَدْ خَرَجَ ذَلِكَ عَنْ يَدِهِ يَقْبِض الْمُوَلَّى عَلَيْهِ اهـ.
وَقَدْ بَحَثَ الشَّارِحُ فِي صِحَّةِ حَوْزِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَيَّامِ الْقَاضِي مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ وَشَاوَرَ فِيهَا فَاجْتَمَعَ لَهُ الْجَمِيعُ مِنْ فُقَهَاءِ بَلَدِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْضٌ وَحِيَازَةٌ حَاشَا إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ التُّجِيبِيَّ فَإِنَّهُ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ إنَّ قَبْضَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَيْسَ بِقَبْضٍ وَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ مِيرَاثًا عَنْ الْمُعْطِي فَنَفَذَ الْقَضَاءُ يَوْمئِذٍ بِمَا قَالَهُ الْجَمِيعُ وَبِإِمْضَاءِ قَبْضَتِهِ وَحِيَازَتِهِ قَالَ الْمُتَيْطِيّ وَهُوَ الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ
لِحَائِزِ الْقَبْضِ وَفِي الْمَشْهُورِ ... إلَى الْوَصِيِّ الْقَبْضُ لِلْمَحْجُورِ
(2/146)

وَبِانْسِحَابِ نَظَرِ الْمُحَبِّسِ ... لِلْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْحَبْسِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ حَبَّسَ شَيْئًا فِي صِحَّتِهِ يُرِيدُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَبَقِيَ ذَلِكَ تَحْتَ يَدِهِ إلَى أَنْ مَاتَ يُرِيدُ أَوْ فَلِسَ أَوْ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ وَيَصِيرُ مِيرَاثًا (قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ) فَإِنْ حَبَّسَ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ أَبْقَاهُ فِي يَدِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ إلَى أَنْ أَفْلَسَ أَوْ إلَى مَرَضِ مَوْتِهِ بَطَلَ الْوَقْفُ وَعَادَ الْمَوْقُوفُ مِيرَاثًا إذَا لَمْ تَكُنْ مَنْفَعَتُهُ تُصْرَفُ فِي مَصْرِفِهِ (وَفِيهَا أَيْضًا) وَفِي كِتَاب مُحَمَّد فِيمَنْ حَبَّسَ نَخْلَةَ دَارِهِ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَكَانَ يَلِي عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ وَهِيَ بِيَدِهِ إنَّهَا مِيرَاثٌ قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي حَبْسِهِ أَنَّهُ يَلِي ذَلِكَ لَمْ يُجِزْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَب اهـ وَهَذَا الْبَيْتُ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ قَبْلُ
وَالْحَوْزُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّحْبِيسِ ... قَبْلَ حُدُوثِ مَوْتٍ أَوْ تَفْلِيسِ
فَإِنَّ مَا انْسَحَبَ عَلَيْهِ نَظَرُ الْمُحَبِّسِ لَمْ يُحَزْ وَبِانْسِحَابٍ يَتَعَلَّقُ بِلَا يَثْبُتُ وَلَامُ لِلْمَوْتِ بِمَعْنَى إلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالِانْسِحَابُ الِاسْتِمْرَارُ وَالْبَقَاءُ.
وَمَنْ لِسُكْنَى دَارِ تَحْبِيسٍ سَبَقْ ... تَضِيقُ عَمَّنْ دُونَهُ بِهَا أَحَقْ
يَعْنِي أَنَّ الدَّارَ الْمُحَبَّسَةَ عَلَى مُعَيَّنِينَ إذَا بَادَرَ أَحَدُهُمْ وَسَبَقَ لِسُكْنَاهَا وَلَيْسَ فِيهَا فَضْلٌ لِسُكْنَى غَيْرِهِ
(2/147)

مِنْ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ فَاَلَّذِي سَبَقَ لِسُكْنَاهَا أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ حَبَّسَ عَلَى وَلَدِهِ دَارًا فَسَكَنَهَا بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَجِدْ بَعْضُهُمْ فِيهَا مَسْكَنًا فَقَالَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَسْكَنًا أَعْطُونِي مِنْ الْكِرَاءِ بِحِسَابِ حَقِّي فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ وَلَا يَخْرُجُ أَيْضًا أَحَدٌ لِأَحَدٍ وَلَكِنْ إنْ غَابَ أَحَدٌ أَوْ مَاتَ سَكَنَ فِيهِ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَعْنَى قَوْلِهِ غَابَ أَيْ إنْ كَانَ يُرِيدُ الْمُقَامَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غَابَ إلَيْهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُسَافِرَ لِمَوْضِعٍ وَيَرْجِعَ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ اهـ
قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَلَهُ أَنْ يُكْرِيَ مَنْزِلَهُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ وَسَمِعَ عِيسَى مَنْ حَبَّسَ عَلَى قَوْمٍ وَهْم يَتَكَافَئُونَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ لِيَسْكُن فِيهَا مَنْ رَأَى أَوْ يُكْرِيَهَا فَيُقَسِّمَ كِرَاءَهَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ سَبَقَ وَسَكَنَ فَهُوَ أَوْلَى وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا ابْنُ رُشْدٍ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَتَحْبِيسِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ فُلَانٍ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنِينَ مُسَمَّيْنَ لَمْ يَسْتَحِقَّ السُّكْنَى مَنْ سَبَقَ إلَيْهِ وَهُمْ فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ حَاضِرُهُمْ وَغَائِبُهُمْ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مُحَمَّد وَغَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ سَوَاءٌ اهـ.
(قَالَ الشَّارِحُ) أَقُولُ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ هُوَ الْإِسْهَامُ لِطَالِبِ الْكِرَاءِ بِحَقِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ اسْتِحْسَانٌ أَوْ لَعَلَّ الْعَمَلَ بِالْمَدِينَةِ جَرَى بِذَلِكَ اهـ.
وَمَفْهُومُ قَوْلِ النَّاظِمِ تَضِيقُ عَمَّنْ دُونَهُ أَيْ عَنْ غَيْرِهِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَلَمْ يَجِدْ بَعْضُهُمْ فِيهَا مَسْكَنًا أَنَّهَا إنْ لَمْ تَضِقْ فَلِغَيْرِ السَّاكِنِ مِنْ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْكُنُوا مَعَهُ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ وَهُوَ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ مُبْتَدَأٌ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا سَبَقْ وَلِسُكْنَى يَتَعَلَّقُ بِسَبَقْ وَجُمْلَةُ تَضِيقُ عَمَّنْ دُونَهُ صِفَةٌ لِدَارِ وَأَحَقُّ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَهُوَ أَحَقُّ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ مَنْ الْمَوْصُولَةِ وَبِهَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَقْ وَلَوْ قَالَ فَهُوَ أَحَقْ لَمْ يَحْتَجْ لِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ
وَمَنْ يَبِيعُ مَا عَلَيْهِ حُبِّسَا ... يُرَدُّ مُطْلَقًا وَمَعْ عِلْمٍ أَسَا
وَالْخُلْفُ فِي الْمُبْتَاعِ هَلْ يُعْطِي الْكِرَا ... وَاتَّفَقُوا مَعْ عِلْمِهِ قَبْلَ الشِّرَا
وَيَقْتَضِي الثَّمَنَ إنْ كَانَ تَلِفْ ... مِنْ فَائِدِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَنْتَصِفْ
وَإِنْ يَمُتْ مِنْ قَبْلُ لَا شَيْءَ لَهُ ... وَلَيْسَ يَعْدُو حَبْسٌ مَحَلَّهُ
حَاصِلُ الْأَبْيَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْكَلَامُ عَلَى مَا إذَا بَاعَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
(الْأُولَى) أَنَّ الْبَيْعَ يُرَدُّ وَيُفْسَخُ مُطْلَقًا عَلِمَ الْبَائِعُ بِكَوْنِهِ حَبْسًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ بَائِعُهُ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَّا إذَا جُعِلَ لَهُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ التَّحْبِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْمُحَبِّسِ إنْ كَانَ شَرْطُهُ جَائِزًا ثُمَّ إنْ كَانَ بَائِعُهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْبِيسِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالتَّحْبِيسِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَقَدْ أَسَاءَ فِي بَيْعِهِ وَمَنْ أَسَاءَ يَفْعَلُ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ فَإِنَّهُ يُزْجَرُ عَنْ ذَلِكَ بِمُنَاسِبِهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) إذَا اغْتَلَّ الْمُشْتَرِي هَذَا الْحَبْسَ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ هَلْ يَرُدُّ غَلَّتَهُ مِنْ كِرَاءِ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ سَكَنَهَا أَوْ قِيمَةِ ثَمَرَةِ حَائِطٍ اسْتَغَلَّهَا أَوْ كِرَاءِ أَرْضٍ حَرَثَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ لَا يَرُدُّهَا وَالْحُكْمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْبِيسِ فَفِي رَدِّهِ لِلْغَلَّةِ خِلَافٌ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ يُرِيدُ أَوْ بَعْدَهُ وَتَمَادَى عَلَى اسْتِغْلَالِهِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَرُدُّ الثَّمَنَ الَّذِي قَبَضَ فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ غَلَّةِ ذَلِكَ الْحَبْسِ فِي مُقَابَلَةِ مَا دَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ طَالَتْ حَيَاةُ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ الْبَائِعِ حَتَّى اقْتَضَى الْمُشْتَرِي جَمِيعَ مَا دَفَعَ فَإِنَّ الْغَلَّةَ تَرْجِعُ لِلْمُحْبَسِ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْمُشْتَرِي مَا دَفَعَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْحَبْسَ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُ بَائِعِهِ بَعْدَ مَوْتِ بَائِعِهِ فَلَا تُصْرَفُ غَلَّتُهُ لِغَيْرِ مُسْتَحَقِّهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَيَقْتَضِي الثَّمَنَ إنْ كَانَ تَلِفْ
الْبَيْتَيْنِ
(2/148)

أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ وَبَاعَ الْحَبْسَ عَالِمًا بِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ فِي حِينِ التَّحْبِيسِ وَقَبْضِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْأَدَبِ وَالسَّجْنِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَالْحَبْسِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ عُذْرٌ يُعْذَرُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اهـ.
وَلَمْ يَذْكُرْ فَسْخَ الْبَيْعِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ وَلَا يَرْجِعُ بِالْغَلَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّهَا بِالضَّمَانِ (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ أَيْضًا) وَالْغَلَّةُ لِمُبْتَاعِ الْحَبْسِ قَبْلَ ثُبُوتِ التَّحْبِيسِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ (وَفِي طُرَر ابْنِ عَاتٍ) وَالْكِرَاءُ لِلْمُبْتَاعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَبْسِ وَمَا اخْتَارَهُ الشُّيُوخُ وَتَقَلَّدُوهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ أَيْضًا) وَمَا كَانَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ مَنْ التَّمْرِ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ نَفَذَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُمْ الْحَبْسُ وَأَمَّا الزَّرْعُ فَهُوَ لِزَارِعِهِ ثَبَتَ التَّحْبِيسُ قَبْلَ حَصَادِهِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ حِينَ نَبَاتِهِ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ كِرَاءَ الْأَرْضِ إنْ اُسْتُحِقَّتْ فِي أَوَانِ الزِّرَاعَةِ وَإِنْ خَرَجَ أَوَانُهَا فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ وَالزَّرْعُ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ اهـ.
(وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي مَسْأَلَةِ الْحَبْسِ إنْ كَانَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَائِعُ وَكَانَ مَالِكٌ أَمْرَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ طَلَبُ الْمُبْتَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْغَلَّةِ وَإِنْ عَلِمَ الْمُبْتَاعُ حِينَ ابْتِيَاعِهِ أَنَّهُ حَبْسٌ وَقَدْ نَزَلْت بِقُرْطُبَةَ وَأَفْتَيْتُ فِيهَا بِذَلِكَ وَكَانَ غَيْرِي قَدْ خَالَفَنِي فِيهَا وَخِلَافُهُ خَطَأٌ (قَالَ الشَّارِحُ) مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ سَهْلٍ مُعَارَضٌ لِمَا نَقَلَ الشَّيْخُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى رَدِّ الْغَلَّةِ إذَا عَلِمَ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَمَا قَالَهُ ابْنُ سَهْلٍ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ وَالْأَظْهَرُ رُجْحَانُ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ لِمَا فِي تَسْوِيغِ الْغَلَّةِ لِلْعَالِمِ بِالتَّحْبِيسِ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ ثَمَرَةِ عَقْدٍ بَاطِلٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَقَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ فَإِنْ كَانَ بَائِعُ الْحَبْسِ هُوَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ لَهُ الْمُبْتَاعُ مَا يَسْتَوْفِي الثَّمَنَ مِنْهُ وَثَبَتَ عَدَمُهُ وَحَلَفَ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْحَلِفُ عَلَيْهِ فَلِلْمُبْتَاعِ اسْتِغْلَالُ الْحَبْسِ حَيَاةَ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ يَدْفَعُ إلَيْهِ غَلَّتَهُ عَامًا بِعَامٍ فَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْهُ رَجَعَتْ الْغَلَّةُ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ رَجَعَ الْحَبْسُ إلَى الْمَرْجِعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُبْتَاعِ مِنْ الْغَلَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِع مِنْهُ شَيْءٌ اهـ.
وَغَيْرُ أَصْلٍ عَادِمُ النَّفْعِ صُرِفْ ... ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ وُقِفْ
يَعْنِي أَنَّ الشَّيْءَ الْمُحَبَّسَ إذَا كَانَ غَيْرَ أَصْلٍ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِهَا وَعُدِمَتْ مَنْفَعَتُهُ فِيمَا حُبِّسَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِّسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَبِيعُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي حَبْسًا كَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ وُقِفْ. فَإِنْ نَقَصَ ثَمَنُهُ وَهُوَ الْغَالِبُ عَنْ مِثْلِهِ فَإِنَّهُ يُعَانُ بِهِ فِي مِثْلِهِ فَإِنْ نَقَضَ الثَّمَنُ عَنْ مِثْلِ الْبَيْعِ كَامِلًا أَوْ مُبَعَّضًا تُصُدِّقَ بِهِ وَلَمْ يُنَبِّهْ النَّاظِمُ عَلَى هَذَا وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرُ أَصْلٍ أَنَّ الْمُحَبَّسَ إذَا كَانَ أَصْلًا لَا يُبَاعُ وَلَوْ عُدِمَ
(2/149)

الِانْتِفَاعُ بِهِ لِخَرَابِهِ أَوْ خَرَابِ مَوْضِعِهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ أَمَّا بَيْعُ غَيْرِ الْأُصُولِ فَقَالَ الْمُقْرِي فِي كُلِّيَّاتِهِ الْفِقْهِيَّةِ كُلُّ مَا سِوَى الْعَقَارِ إذَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ الَّتِي وُقِفَ لَهَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي مِثْلِهِ أَوْ يُعَانُ بِهِ فِيهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ اهـ.
وَنَحْوَهُ فِي الْمُقَرَّبِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَا ضَعُفَ مِنْ الدَّوَابِّ الْمُحَبَّسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ ثِيَابٍ وَأَمَّا مَنْعُ بَيْعِ الْأَصْلِ الْمُحَبَّسِ فَهُوَ الْمَشْهُورُ (ابْنُ عَرَفَةَ) عَنْ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا يُمْنَعُ بَيْعُ مَا خَرِبَ مِنْ رَبْعٍ حُبِّسَ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْجَهْمِ إنَّمَا لَمْ يُبَعْ الرَّبْعُ الْمُحَبَّسُ إذَا خَرِبَ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُصْلِحُهُ بِإِجَارَتِهِ سِنِينَ فَيَعُودُ كَمَا كَانَ (ابْنُ رُشْدٍ) وَفِيهَا الرَّبِيعَةُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُ الرَّبْعَ إذَا رَأَى ذَلِكَ لِخَرَابِهِ وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ اهـ.
(قَالَ الشَّارِحُ) وَقَدْ قِيلَ بِبَيْعِ مَا عُدِمَتْ مَنْفَعَتُهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَفْتَى الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْحَفَّارُ بِبَيْعِ فَدَّانٍ مُحَبَّسٍ عَلَى مَصْرِفٍ مِنْ مَصَارِفِ الْبِرِّ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَدَّانٌ آخَرُ يُحَبَّسُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ فِي الْمَصْرِفِ الَّذِي حُبِّسَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْكَثِيرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا النَّحْوِ.
وَأَفْتَى ابْنُ رُشْدٍ فِي أَرْضٍ مُحَبَّسَةٍ عُدِمَتْ مَنْفَعَتُهَا بِسَبَبِ ضَرَرِ جِيرَانٍ أَنْ تُبَاعَ وَيُعَوَّضُ بِثَمَنِهَا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الرَّبْعِ الْمُحَبَّسِ إذَا خَرِبَ وَبِكَوْنِ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ لُغَةً لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ قَالَهُ مُحَمَّدٌ الْحَفَّارُ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَفْتَى الْأُسْتَاذُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ لُبٍّ اهـ.
(ابْنُ عَرَفَةَ) وَفِي جَوَازِ الْمُنَاقَلَةِ بِرَبْعٍ غَيْرِ خَرِبٍ قَوْلُ الشَّيْخِ فِي رِسَالَتِهِ وَابْنُ شَعْبَانَ وَعِبَارَةُ الرِّسَالَةِ وَلَا يُبَاعُ فِي الْحَبْسِ وَإِنْ خَرِبَ ثُمَّ قَالَ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُعَاوَضَةِ بِالرَّبْعِ الْخَرِبِ بِرَبْعٍ غَيْرِ خَرِبٍ.
(وَفِي الطُّرَرِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْغَفُورِ) لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَوَاضِعِ الْمَسَاجِدِ الْخَرِبَةِ لِأَنَّهَا وَقْفٌ وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ نَقْضِهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ لِلضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ وَأَفْتَى ابْنُ عَرَفَةَ فِي جَوَامِعَ خَرِبَتْ وَأَيِسَ مِنْ عِمَارَتِهَا بِدَفْعِ أَنْقَاضِهَا إلَى مَسَاجِدَ عَامِرَةٍ احْتَاجَتْ إلَيْهَا اهـ
وَلَا تُبَتُّ قِسْمَةٌ فِي حَبْسِ ... وَطَالِبُ قِسْمَةِ نَفْعٍ لَمْ يُسِي
يَعْنِي أَنَّ الْحَبْسَ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ قِسْمَتَهُ فَأَنَّهُ يَجُوزُ قَسْمُهُ قِسْمَةَ اغْتِلَالٍ وَلَا يَجُوزُ قَسْمَهُ قِسْمَةَ بَتٍّ اهـ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ مُحَمَّد وَإِذَا دَعَا بَعْضُ أَهْلِ الْحَبْسِ إلَى قِسْمَتِهِ قِسْمَةَ اغْتِلَالٍ وَاعْتِمَارٍ وَأَبَى مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَذَلِكَ لِمَنْ دَعَا إلَى الْقِسْمَةِ إذَا كَانَ مَا حُبِّسَ أَرْضًا بَيْضَاءَ وَإِنْ كَانَتْ أُصُولَ شَجَرٍ لَمْ تَجُزْ أَنْ تُقْسَمَ الْأُصُولُ وَإِنَّمَا يَقْتَسِمُونَ الْغَلَّةَ فِي أَوَانِهَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ (وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اقْتِسَامِ الْحَبْسِ اقْتِسَامَ اغْتِلَالٍ وَانْتِفَاعٍ فَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَأَجَازَهُ آخَرُونَ وَقَدْ جَرَى الْعَمَلُ بِاقْتِسَامِهِ لِمَا فِي الْإِشَاعَةِ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالتَّضْيِيعِ قَالَ الْقَاضِي فِي وَثَائِقِهِ يُرِيدُ قِسْمَةَ الْغَلَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ لَا قِسْمَةَ الْأُصُولِ قَالَ وَبِذَلِكَ جَاوَبَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إذْ خَاطَبْته فِي قِسْمَةِ دَارٍ مُحَبَّسَةٍ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَقَالَ تُقْسَمُ قِسْمَةَ انْتِفَاعٍ وَلَا يُقْسَمُ الْبُنْيَانُ اهـ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا كَانَ حَبْسًا كُلَّهُ، أَمَّا مَا كَانَ بَعْضُهُ حَبْسًا وَبَعْضُهُ مَمْلُوكًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهُ قِسْمَةَ بَتٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ حَبَّسَ جُزْءًا شَائِعًا وَلَمْ يَرْضَ بِشَرِيكِهِ شَرِكَةَ الْحَبْسِ وَكَانَ يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ قِسْمَةِ مَا بَعْضُهُ مَمْلُوكٌ وَبَعْضُهُ حُبِّسَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ


[فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا]
(2/150)

تَرْجَمَ ابْنُ عَرَفَةَ هُنَا بِكِتَابِ الْعَطِيَّةِ وَحَدَّهَا بِقَوْلِهِ: " تَمْلِيكٌ مُتَمَوَّلٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْشَاءً " فَقَوْلُهُ: " مُتَمَوَّلٍ " أَخْرَجَ بِهِ تَمْلِيكَ غَيْرِ الْمُتَمَوَّلِ كَتَمْلِيكِ الْإِنْكَاحِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ تَمْلِيكِ الطَّلَاقِ " وَبِغَيْرِ عِوَضٍ " أَخْرَجَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ وَقَوْلُهُ: " إنْشَاءً " أَخْرَجَ بِهِ الْحُكْمَ بِاسْتِحْقَاقِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مُتَمَوَّلٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَكِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَا ثَبَتَ إرْثُهُ، وَالْعَطِيَّةُ أَنْشَأَتْ التَّمْلِيكَ؛ لِأَنَّهَا قُرِّرَتْ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَطِيَّةِ الْعَارِيَّةُ وَالْحَبْسُ وَالْعُمْرَى وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْعَارِيَّةُ وَالْحَبْسُ وَالْعُمْرَى فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ التَّمْلِيكَ أَعَمُّ مِنْ تَمْلِيكِ الذَّاتِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ انْتِفَاعٍ كَمَا فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْحَبْسِ وَأَمَّا إنْ خُصِّصَ بِتَمْلِيكِ الذَّاتِ فَلَا تَدْخُلُ ثُمَّ حَدَّ ابْنُ عَرَفَةَ الْهِبَةَ لِغَيْرِ ثَوَابٍ وَالصَّدَقَةَ بِقَوْلِهِ: تَمْلِيكُ ذِي مَنْفَعَةٍ لِوَجْهِ الْمُعْطَى بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالصَّدَقَةُ كَذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخْرَجَ بِالتَّمْلِيكِ الْعَارِيَّةَ وَنَحْوَهَا إنْ أُرِيدَ تَمْلِيكُ الذَّاتِ كَمَا مَرَّ وَتَمْلِيكٌ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ أَيْ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلِوَجْهِ الْمُعْطَى أَخْرَجَ بِهِ الصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِغَيْرِ عِوَضٍ أَخْرَجَ بِهِ هِبَةَ الثَّوَابِ ثُمَّ حَدَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِ: عَطِيَّةٌ قُصِدَ بِهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ
صَدَقَةٌ تَجُوزُ إلَّا مَعْ مَرَضْ ... مَوْتٍ وَبِالدَّيْنِ الْمُحِيطِ تُعْتَرَضْ
وَلَا رُجُوعَ بَعْدُ لِلْمُصَّدِّقِ ... وَمِلْكُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ اُتُّقِيَ
كَذَاكَ مَا وُهِبَ لِلْأَيْتَامْ ... وَالْفُقَرَاءِ وَأُولِي الْأَرْحَامْ
يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ وَهِيَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابُ الدَّارِ الْآخِرَةِ تَجُوزُ أَيْ تَصِحُّ، وَتَلْزَمُ إلَّا إنْ وُجِدَ مَانِعٌ، وَهُوَ إمَّا مَرَضُ الْمَوْتِ أَوْ الدَّيْنُ الْمُحِيطُ بِمَالِهِ، فَإِذَا تَصَدَّقَ وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضًا مَخُوفًا وَاسْتَمَرَّ مَرِيضًا إلَى أَنْ مَاتَ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُلُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي الْمَالِ وَتَصِيرُ وَصِيَّةً تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَتَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ بِالثُّلُثِ فَأَقَلَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ نُفِّذَتْ، وَلَا تَفْتَقِرُ لِحَوْزٍ.
وَإِنْ كَانَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لِوَارِثٍ تَوَقَّفَتْ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ صِحَّةً بَيِّنَةً صَحَّتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ إذَا حِيزَتْ، وَجَرَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْهِبَةِ، وَكَذَا تَبْطُلُ إنْ بِصَدَقَةٍ تَصَدَّقَ وَعَلَيْهِ إذْ ذَاكَ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِيهِ وَيَأْخُذُهَا الْغُرَمَاءُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ إلَّا إذَا لَمْ تُؤْخَذْ وَبَقِيَتْ إلَى أَنْ تَخَلَّصَ الْغُرَمَاءُ فَإِنَّهَا تَنْفُذُ وَتَلْزَمُ (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) وَالصَّدَقَةُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ جَائِزَةٌ وَلَا رُجُوعَ فِيهَا لِلْمُتَصَدِّقِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ:
وَلَا رُجُوعَ بَعْدُ لِلْمُصَّدِّقِ
يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ إذَا وَقَعَتْ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ، فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَنْهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا لِنَدَمٍ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ حِيزَتْ أَوْ لَمْ تُحَزْ إذْ لَا يَلْزَمُ فِيهَا وَلَا فِي الْهِبَةِ التَّحْوِيزُ عَلَى الْمَذْهَبِ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالتَّحْوِيزُ: تَسْلِيمُ الْعَطِيَّةِ أَوْ الرَّهْنِ مِنْ الْمُعْطِي أَوْ الرَّاهِنِ لِمَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ (التَّوْضِيحَ) الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ يَلْزَمَانِ بِالْقَوْلِ وَلَا يَتِمَّانِ إلَّا بِالْقَبْضِ، ثُمَّ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ. وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ وَحَكَى أَبُو تَمَّامٍ عَنْ الْمَذْهَبَ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْحَبْسَ يَتِمَّانِ بِالْقَوْلِ وَلَا يَفْتَقِرَانِ إلَى حِيَازَةٍ، وَالْهِبَةُ تَفْتَقِرُ إلَى الْحِيَازَةِ اهـ.
وَفِي أُصُولِ الْفُتْيَا لِابْنِ حَارِثٍ قَالَ مُحَمَّدٌ أَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَمِيعِ الرُّوَاةِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ وَهَبَ هِبَةً أَوْ أَعْطَى عَطِيَّةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْمَوْهُوبِ
(2/151)

لَهُ وَلَا الْمُعْطَى، وَلَهُمْ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ فِي قَبْضِهَا فَيُجِيزَهُ السُّلْطَانُ عَلَى دَفْعِهَا اهـ.
وَهَذَا الْحُكْمُ جَارٍ فِي الْحَبْسِ أَيْضًا فَفِي مَجَالِسِ الْمِكْنَاسِيِّ أَوَّلَ بَابِ الْحَبْسِ: وَلَيْسَ لِلْمُحَبِّسِ الرُّجُوعُ فِي حُبُسِهِ وَيَلْزَمُ إقْبَاضُهُ لِلْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حِيزَ عَلَيْهِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ مَا لَمْ يَمُتْ الْمُحَبِّسُ أَوْ بِتَرَاخِي الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ فِي الْقَبْضِ حَتَّى فَوَّتَهُ الْمُحَبِّسُ انْتَهَى قَوْلُهُ.
وَمِلْكُهَا بِغَيْرِ إرْثٍ اُتُّقِيَ
يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا لِلْمُتَصَدِّقِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ شِرَاؤُهَا وَلَا قَبُولُ هِبَتِهَا إنْ وُهِبَتْ لَهُ إلَّا إذَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ جَبْرًا كَأَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَى قَرِيبٍ لَهُ فَيَمُوتَ ذَلِكَ الْقَرِيبُ فَيَكُونَ ذَلِكَ الْمُتَصَدِّقُ وَارِثَهُ فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ تَمَلُّكُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الصَّدَقَةِ وَقَوْلُهُ:
كَذَاكَ مَا وُهِبَ لِلْأَيْتَامِ
الْبَيْتَ يَعْنِي أَنَّ مَا وُهِبَ لِنَحْوِ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ وَأُولِي الْأَرْحَامِ لَا رُجُوعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ إرَادَةَ الصَّدَقَةِ وَعَدَمَ قَصْدِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا ظَاهِرٌ مُتَمَحِّضٌ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : مَا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ صِلَةٍ لِفَقِيرٍ أَوْ يَتِيمٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ رُجُوعٌ فِي ذَلِكَ لِأَبٍ وَلَا لِأُمٍّ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْعَوْدِ فِي الصَّدَقَةِ.
وَاخْتُلِفَ إذَا اشْتَرَطَ الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: لَا رُجُوعَ لِأَنَّ سُنَّتَهَا عَدَمُ الرُّجُوعِ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَيَلْحَقُ بِالصَّدَقَةِ فِي عَدَمِ الِارْتِجَاعِ لَوْ وَهَبَ هِبَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبٌ أَوْ ابْنٌ أَوْ ابْنَةٌ مُحْتَاجًا أَوْ صَغِيرًا فِي حَجْرِهِ أَوْ كَبِيرًا نَائِيًا عَنْهُ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِوَجْهٍ إلَّا بِمِيرَاثٍ (التَّوْضِيحُ) الضَّمِيرُ فِي يَتَمَلَّكُهَا عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَةِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا يَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَالْأَصْلُ فِي «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ فِي الْفَرَسِ تَصَدَّقْ بِهِ: وَلَا تَشْتَرِهِ وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ» (اللَّخْمِيُّ) وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى النَّدْبِ وَحَمَلَهُ الدَّاوُدِيُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَتَخْصِيصُهُ الصَّدَقَةَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْهِبَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الْوَهَّابِ كَالصَّدَقَةِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِيهَا مِمَّنْ حَصَلَتْ لَهُ مِنْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ اهـ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَلَا يُكْرِيَهَا وَلَا يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَأَمَّا الْأَبُ وَالْأُمُّ إذَا احْتَاجَا فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِمَّا تَصَدَّقَا بِهِ عَلَى الْوَلَدِ ا. هـ.
وَنَقَلَ الشَّارِحُ عَنْ الْجَوَاهِرِ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ ارْتِجَاعِهَا بِعِوَضٍ قَالَ: لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا لِأَنَّ الْمُعْطَى يَسْتَحْيِي مِنْهُ فَيَحُطُّ عَنْهُ مِنْ ثَمَنِهَا مَا لَا يَحُطُّ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ رُجُوعًا فِي ذَلِكَ (قَالَ الشَّارِحُ) : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُنْهَى مُطْلَقًا وَلَوْ وَفَّاهُ الثَّمَنَ اهـ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا عُلِّلَ بِالْمَظِنَّةِ فَلَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ بِتَخَلُّفِهَا.
(فَرْعٌ) سُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ لُبٍّ عَمَّنْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ وَضَمِنَ كَاتِبُ الْوَثِيقَةِ أَوْ الْوَاهِبُ بِحَالِ مَرَضٍ مُزْمِنٍ وَهُوَ مَعَهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ ثُمَّ تُوُفِّيَ الْوَاهِبُ الْمَذْكُورُ فَأَثْبَتَ وَرَثَتُهُ أَنَّهُ كَانَ مَرِيضًا فِي تَارِيخِ الْهِبَةِ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَأَثْبَتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنَّ الْوَاهِبَ أَصَابَهُ مَرَضٌ مُزْمِنٌ وَاتَّصَلَ بِهِ مُدَّةً مِنْ عَامٍ وَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا بِطُولِ الْمُدَّةِ إلَى أَنْ وَهَبَ؟ فَأَجَابَ مُنْذُ كَانَ الْوَاهِبُ وَقْتَ الْهِبَةِ مُلْتَزِمًا وَاتَّصَلَ لِلْفِرَاشِ، وَاتَّصَلَ حَالُهُ كَذَلِكَ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ إفَاقَةٌ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَشْهُرِ الْيَسِيرَةِ؛ فَهِبَتُهُ لِوَرَثَتِهِ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَمْرَاضِ أَنَّ مَرَضَهُ كَانَ وَقْتَ أَنْ وَهَبَ مَرَضًا غَيْرَ مَخُوفٍ وَحَدَثَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَضٌ آخَرُ تُوُفِّيَ مِنْهُ قَالَهُ فَرَجٌ انْتَهَى مِنْ الشَّارِحِ بِاخْتِصَارٍ.
وَالْأَبُ حَوْزُهُ لِمَا تَصَدَّقَا ... بِهِ عَلَى مَحْجُورِهِ لَنْ يُتَّقَى
(2/152)

يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى مَنْ فِي حِجْرِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحُوزُ لَهُ، وَلَيْسَ فِي حَوْزِهِ لَهُ مَا يُتَّقَى، وَيُحْذَرُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَبِيرًا مُوَلًّى عَلَيْهِ أَوْ صَغِيرًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ أَرَأَيْتَ مَا وَهَبَ الْأَبُ لِوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ أَيَجُوزُ أَنْ يَحُوزَ ذَلِكَ لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ: مَالِكٌ فَإِذَا بَلَغُوا وَآنَسَ مِنْهُمْ الرُّشْدَ فَلَمْ يَقْبِضُوا حَتَّى مَاتَ الْأَبُ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَإِنْ مَاتَ وَهُمْ فِي حَالَةِ السَّفَهِ، فَحَوْزُ أَبِيهِمْ لَهُمْ حَوْزٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغُوا وَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ الْبِكْرِ فَهُوَ الْحَائِزُ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ وَهِيَ مَرْضِيَّةُ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا مَا دَامَتْ بِحَالِ السَّفَهِ، وَلَا يَقْطَعُ الزَّوَاجَ حِيَازَةُ الْأَبِ فَإِذَا صَارَتْ فِي حَالٍ تَحُوزُ لِنَفْسِهَا فَلَا تَجُوزُ حِيَازَةُ الْأَبِ عَلَيْهَا اهـ.
وَكَلَامُ النَّاظِمِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ، أَعْنِي صُورَةَ حَوْزِ الْأَبِ لِابْنَتِهِ مَا لَمْ تَرْشُدْ
وَلِلْمُعَيَّنِينَ بِالْحَوْزِ تَصِحّْ ... وَجَبْرُهُ مَهْمَا أَبَاهُ مُتَّضِحْ
وَفِي سِوَى الْمُعَيَّنِينَ يُؤْمَرُ ... بِالْحَوْزِ وَالْخُلْفُ أَتَى هَلْ يُجْبَرُ
وَالْجَبْرُ مَحْتُومٌ بِذِي تَعَيُّنِ ... لِصِنْفِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمُعَيَّنِ
نَوَّعَ النَّاظِمُ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ جَبْرِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى الْحَوْزِ وَعَدَمِ جَبْرِهِ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَإِنْ كَانَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَيُجْبَرُ الْمُتَصَدِّقُ عَلَى الْحَوْزِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْحَوْزِ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ؟ قَوْلَانِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَكِنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ مِنْ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ نَظَرًا لِلْمَنْقُولِ عَنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَلِلْمُعَيَّنِينَ الْبَيْتَ يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِحُّ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِشَرْطِهَا الَّذِي هُوَ الْحَوْزُ، فَلَامُ لِلْمُعَيَّنِينَ بِمَعْنَى عَلَى وَجَبْرُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهَا إنْ امْتَنَعَ مُتَّضِحٌ جَلِيٌّ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِالْقَوْلِ.
وَقَوْلُهُ: " وَفِي سِوَى الْمُعَيَّنِينَ: الْبَيْتَ يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّقَ يُؤْمَرُ بِالْحَوْزِ وَفِي جَبْرِهِ عَلَيْهِ خِلَافٌ وَقَوْلُهُ؛ " وَالْجَبْرُ مَحْتُومٌ " الْبَيْتَ بَاءُ (بِذِي) : ظَرْفِيَّةٌ، وَذِي التَّعَيُّنِ: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ مُتَصَدَّقٌ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ وَلِصِنْفِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْتُومٍ وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ يَعْنِي أَنَّ جَبْرَ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى الْحَوْزِ مُتَحَتِّمٌ لِصِنْفِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ، أَيْ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ لِانْتِقَالِ الصَّدَقَةِ لَهُمْ عَنْ
(2/153)

الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ ذِي التَّعَيُّنِ أَوْ الْمُتَعَيَّنِ وَقَوْلُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعَيَّنِ تَعْلِيلٌ لِيَكُونَ الْجَبْرُ حَقًّا لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَفِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ وَإِذَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ فِي غَيْرِ يَمِينٍ فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ كَالْمَرْضَى وَنَحْوِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي حُبْسِ الْمُدَوَّنَةِ وَفِي الْهِبَةِ مِنْهَا اهـ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَنَقَلَ الشَّارِحُ مَا نَصُّهُ وَسُئِلَ ابْنُ الْحَاجِّ أَيْضًا فِي رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى ابْنِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ لِلْمَرْضَى وَمَاتَ الِابْنُ فَطَلَبَهُ الْمَرْضَى فَقَالَ إنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ مِنْ مُعَيَّنٍ اهـ وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِّ لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ مِنْ مُعَيَّنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلِلْأَبِ التَّقْدِيمُ لِلْكَبِيرِ ... لِقَبْضِ مَا يَخْتَصُّ بِالصَّغِيرِ
يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدَيْهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَإِنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُقَدِّمَ الْكَبِيرَ لِقَبْضِ نَصِيبِ الصَّغِيرِ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى ذَلِكَ أَجْنَبِيًّا كَمَا فِي الْحَبْسِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْحَبْسِ
وَالْأَخُ لِلصَّغِيرِ قَبْضُهُ
وَجَبْ
مَعَ اشْتِرَاكٍ وَبِتَقْدِيمٍ مِنْ أَبْ
الْأَبْيَاتَ الْأَرْبَعَ (قَالَ فِي الْمُفِيدِ) وَإِنْ تَصَدَّقَ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ عَلَى ابْنَيْنِ لَهُ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ فَإِنَّ الْكَبِيرَ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ بِتَوْكِيلِ الْأَبِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَصِحُّ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى مَاتَ الِابْنُ فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ لَا تَجُوزُ جَمِيعُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَتَبْطُلُ وَكَذَلِكَ الْحَبْسُ أَيْضًا ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى وَوَافَقَهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْحُبُس لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَنْقَسِمُ وَخَالَفُوهُ فِي الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَأَجَازَ لِلصَّغِيرِ نَصِيبَهُ لِأَنَّ الْأَبَ يَجُوزُ لَهُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْقَضَاءُ اهـ
وَحَوْزُ حَاضِرٍ لِغَائِبٍ إذَا ... كَانَا شَرِيكَيْنِ بِهَا قَدْ أُنْفِذَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا حَاضِرٌ وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَحَازَ الْحَاضِرُ الْجَمِيعَ لِنَفْسِهِ وَلِلْغَائِبِ فَذَلِكَ حَوْزٌ لَهُمَا فِيهَا وَكَافٍ لِلْغَائِبِ (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ:) قُلْت: فَإِنْ وُهِبَتْ أَرْضٌ لِرَجُلَيْنِ أَجْنَبِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا حَاضِرٌ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَقَبَضَ الْحَاضِرُ جَمِيعَ الْأَرْضِ أَيَكُونُ قَبْضُهُ قَبْضًا لِلْغَائِبِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْهِبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ اهـ. وَبَاءُ (بِهَا) ظَرْفِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِشَرِيكَيْنِ وَالضَّمِيرُ لِلْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْبَدَلِ، وَأَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ هَلْ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ؛ لِيَكُونَ الْحُكْمُ شَامِلًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ لَهُمَا مَعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَا عَلَى الْبَتِّ لِشَخْصٍ عُيِّنَا ... فَهُوَ لَهُ وَمَنْ تَعَدَّى ضُمِّنَا
وَغَيْرُ مَا يُبَتُّ إذْ يُعَيَّنُ ... رُجُوعُهُ لِلْمِلْكِ لَيْسَ يَحْسُنُ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا وَنَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ لِمِسْكِينٍ مُعَيَّنٍ سَمَّاهُ بِلِسَانِهِ أَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ، فَإِنْ بَتَّهُ لَهُ أَوْ أَمْضَاهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: أَوْ نِيَّةٍ جَازِمًا بِذَلِكَ غَيْرَ مُتَرَوٍّ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَيَغْرَمُهُ لِذَلِكَ الْمِسْكِينِ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ سَمَّى الْمِسْكِينَ وَنَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَبُتَّ لَهُ وَلَا نِيَّةَ، فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَالِهِ، وَلَا يُعْطِيهِ لِمَنْ عَيَّنَهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي (قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) فِي نَوَازِلِهِ: إنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَخْرَجَ مَالًا لِلصَّدَقَةِ فَعَزَلَ عَنْهُ شَيْئًا أَسْمَاهُ بِلِسَانِهِ لِمِسْكِينٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَدَا لَهُ فَصَرَفَهُ لِمِسْكِينٍ آخَرَ هَلْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي عَزَلَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَخْرَجَهُ لِلصَّدَقَةِ شَيْئًا مِنْهُ لِمِسْكِينٍ بِعَيْنِهِ سَمَّاهُ لَهُ وَنَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَمْ يُبَتَّ لَهُ بِقَوْلٍ وَلَا نِيَّةٍ، فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ بَتَّ لَهُ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إنْ فَعَلَ وَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ إلَيْهِ تَنْفِيذُهُ مِمَّا أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ لِلصَّدَقَةِ سَوَاءٌ وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَأْمُرُ لِلسَّائِلِ بِشَيْءٍ أَوْ يَخْرُجُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَجِدُهُ، يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَالِهِ، وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إنْ كَانَ إنَّمَا نَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ، وَلَمْ يُبَتَّ لَهُ بِقَوْلٍ وَلَا نِيَّةٍ اهـ.
وَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ أَوَّلًا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ لِغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: ثَانِيًا: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَالِهِ كَرَاهَةَ
(2/154)

الْوَجْهَيْنِ مَعًا، أَعْنِي دَفْعَهُ لِغَيْرِ مَنْ نَوَى أَوْ حَبْسَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ لِمَنْ نَوَاهُ لَهُ وَالنَّاظِمُ إنَّمَا قَبَّحَ رُجُوعَهُ لِلْمِلْكِ فَقَطْ دُونَ إعْطَائِهِ لِلْغَيْرِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا: مُبْتَدَأٌ وَاقِعَةٌ عَلَى الصَّدَقَةِ وَهِيَ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ (عُيِّنَ) وَعَلَى الْبَتِّ يَتَعَلَّقُ بِ (عُيِّنَ) وَكَذَا الشَّخْصُ، وَجُمْلَةُ (فَهُوَ لَهُ) خَبَرُ مَا، وَمَا مِنْ قَوْلِهِ: (وَغَيْرُ مَا يُبَتُّ) وَاقِعَةٌ عَلَى الصَّدَقَةِ أَيْضًا وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: (وَمَا عَلَى الْبَتِّ) وَنَائِبُ يُعَيَّنُ لِلشَّخْصِ لِأَنَّهُ مُقَابِلُ قَوْلِهِ:
وَمَا عَلَى الْبَتِّ لِشَخْصٍ عُيِّنَا
فَالشَّخْصُ الْمُرَادُ بِهِ الْمِسْكِينُ وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنَّهُ بَطَلَتْ لَهُ الصَّدَقَةُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي
وَلِلْأَبِ الْقَبْضُ لِمَا قَدْ وَهَبَا ... وَلَدَهُ الصَّغِيرَ شَرْعًا وَجَبَا
إلَّا الَّذِي يَهَبُ مِنْ نَقْدَيْهِ ... فَشَرْطُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدَيْهِ
إلَى أَمِينٍ وَعَنْ الْأَمِينِ ... يُغْنِي اشْتِرَاءٌ هَبْهُ بَعْدَ حِينِ
وَإِنْ يَكُنْ مَوْضِعَ سُكْنَاهُ يَهَبْ ... فَإِنَّ الْإِخْلَاءَ لَهُ حُكْمٌ وَجَبْ
يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ إذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحُوزُهُ لَهُ وَلَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ تَحْتَ يَدِ الْأَبِ الْوَاهِبِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَدَّمَ لِلنَّاظِمِ حَيْثُ قَالَ:
وَالْأَبُ حَوْزُهُ لِمَا تَصَدَّقَا ... بِهِ عَلَى مَحْجُورِهِ لَنْ يُتَّقَى
إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ هُنَاكَ بِالْمَحْجُورِ الشَّامِلِ لِلصَّغِيرِ وَالْبَالِغِ فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ هُنَا: لِلصَّغِيرِ وَعَبَّرَ هُنَاكَ أَيْضًا بِالصَّدَقَةِ وَهُنَا بِالْهِبَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، يَحُوزُ مَا أَعْطَى لِوَلَدِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مَعًا (التَّوْضِيحُ) فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ إلَّا فِي صَدَقَةِ أَبٍ عَلَى صَغِيرٍ وَتَخْصِيصُهُ الصَّغِيرَ وَالْأَبَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي هَذَا كَالصَّغِيرِ.
وَالْوَصِيُّ وَمُقَدَّمُ الْقَاضِي مُشَارِكَانِ لِلْأَبِ فِي ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ إلَّا فِي عَطِيَّةِ أَبٍ لِيَشْمَلَ الْهِبَةَ وَغَيْرَهَا لَكَانَ أَحْسَنَ ا. هـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ مَعَ تَقَدُّمِهَا كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا مَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَهُوَ شَيْئَانِ.
(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَهَبَ لِوَلَدِهِ الْمَحْجُورِ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْمِثْلِيَّاتِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فَلَا يَكْفِي أَنْ يَحُوزَ هُوَ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ بَلْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى أَمِينٍ، أَوْ يَشْتَرِيَ لِوَلَدِهِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، أَوْ بِثَمَنِهِ شَيْئًا بِاسْمِ الْوَلَدِ الْمَذْكُورِ كَانَ الشِّرَاءُ حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ زَمَانٍ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
إلَّا الَّذِي يَهَبُ مِنْ نَقْدَيْهِ
الْبَيْتَيْنِ إلَّا أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا النَّقْدَيْنِ، فَإِنَّ الْمِثْلِيَّاتِ كُلَّهَا كَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي كَوْنِهِ لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : أَنْ يَهَبَ لِوَلَدِهِ دَارَ سُكْنَاهُ، فَلَا يَحُوزُهَا لَهُ بِسُكْنَاهُ فِيهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْهَا وَإِخْلَائِهَا مِنْ أَثَاثِهِ وَأَسْبَابِهِ ثُمَّ يُكْرِيهَا لِلْغَيْرِ وَيَصْرِفُ الْكِرَاءَ فِي مَنَافِعِ الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِنْ سَكَنَهَا الْأَبُ الْمَذْكُورُ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
أَمَّا حَوْزُ الْأَبِ لِمَا وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَفِي الْجَوَاهِرِ، رَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: لَا تَجُوزُ صَدَقَةٌ وَلَا عَطِيَّةٌ إلَّا بِحَوْزٍ إلَّا الصَّغِيرَ مِنْ وَلَدِ الْمُتَصَدِّقِ فَإِنَّ أَبَاهُ يَحُوزُ لَهُ (وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ) ، وَسَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: فِي الَّذِي يَتَصَدَّقُ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ بِصَدَقَةٍ لَهَا غَلَّةٌ وَكِرَاءٌ وَيُكْرِي ذَلِكَ بِاسْمِهِ، إنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ صَدَقَتَهُ إذَا كَانَ قَدْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى أَصْلِ الصَّدَقَةِ وَأَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إذَا كَتَبَ الْأَبُ الْكِرَاءَ بِاسْمِ نَفْسِهِ، وَقَالَ: مَنْ يُكْرِي لِلصَّغِيرِ وَيَشْتَرِي لَهُ وَيَبِيعُ إلَّا أَبَوَاهُ ا. هـ.
وَأَمَّا هِبَةُ الْأَبِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَحْجُورِ مَالًا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ: فِي التَّوْضِيحِ وَاخْتُلِفَ فِي هِبَةِ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ أَخَذَ الْمِصْرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْحَوْزُ وَلَوْ خَتَمَ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَذَهَبَ الْمَدَنِيُّونَ إلَى أَنَّهُ يَتِمُّ الْحَوْزُ فِيهَا بِوَضْعِهَا عَلَى يَدِهِ إذَا أَحْضَرَهَا بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَخَتَمَ عَلَيْهَا بِخَاتِمِهِ، قَالُوا: وَتَصِحُّ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَخْتِمْهَا الشُّهُودُ، وَلَوْ خَتَمُوا عَلَيْهَا لَكَانَ خَيْرًا وَأَحْسَنَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ، أَنَّهُ يَحُوزُ إذَا أَبْرَزَهُ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ قِيلَ وَبِالْأَوَّلِ جَرَى الْعَمَلُ وَهُوَ مَذْهَبُ الرِّسَالَةِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ اهـ.
(وَفِي الْعُتْبِيَّة مِنْ سَمَاعِ عِيسَى) قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قُلْتُ لِمَالِكٍ أَرَأَيْتَ
(2/155)

الدَّنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا الرَّجُلُ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ كَيْفَ تُحَازُ؟ قَالَ: يَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَهَا مِثْلَ الْعُرُوضِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَأَلْنَا مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْعَبْدَ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ؟ فَقَالَ: هُوَ لِلِابْنِ وَلَا يَدْخُلُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ اهـ.
وَجْهُ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ وَهَبَهُ الثَّمَنَ، ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ بِهِ الْعَبْدَ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: أَنَّ ابْنَ دَحُونَ سَأَلَ ابْنَ زَرْبٍ عَمَّنْ ابْتَاعَ لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ دَارًا بِمَالٍ وَهَبَهُ لَهُ ثُمَّ بَلَغَ الِابْنُ وَمَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَقْبِضْ الِابْنُ الدَّارَ هَلْ تَنْفُذُ لَهُ أَمْ يَبْطُلُ أَمْرُهَا؟ قَالَ: لَا تَبْطُلُ، وَقَدْ تَمَّتْ الْحِيَازَةُ لِلْهِبَةِ بِالِابْتِيَاعِ لِلدَّارِ اهـ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا تَلِيهَا مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاءِ لِلْوَلَدِ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ وَأَمَّا هِبَةُ دَارِ السُّكْنَى لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ، فَفِي وَثَائِقِ الْبَاجِيِّ إذَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ فِي دَارٍ يَسْكُنُهَا الْأَبُ فَلَا تَجُوزُ حَتَّى يُخْلِيَهَا الْأَبُ مِنْ أَهْلِهِ وَثِقْلِهِ وَتَكُونُ فَارِغَةً، وَيُكْرِيهَا لِلِابْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا لَمْ تَجُزْ الصَّدَقَةُ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا فَقَدْ قِيلَ إذَا بَقِيَ خَارِجًا عَنْهَا سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهَا أَوْ أَكْرَاهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى رِوَايَةِ عِيسَى (وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) إذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا الْأَبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إخْلَائِهَا مِنْ نَفْسِهِ وَثِقْلِهِ وَأَهْلِهِ وَتُعَايِنُهَا الْبَيِّنَةُ خَالِيَةً فَارِغَةً مِنْ أَثْقَالِهَا، وَيُكْرِيهَا الْأَبُ لِلِابْنِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ مَضَتْ سَنَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِعَوْدَةِ الْأَبِ إلَى سُكْنَاهَا، وَيُكْرِيهَا الْأَبُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْمُتَيْطِيّ فِي قَوْلِهِ: وَيُكْرِيهَا الْأَبُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيمًا، وَاخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ بِغَرْنَاطَةَ فَمِنْ مَانِعٍ وَمِنْ مُجِيزٍ.
وَسُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَبْدُوسِيُّ فِي رَجُلٍ وَهَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فَدَّانًا وَحَازَهُ لَهُ نَفْسه كَمَا يَجِبُ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْرَى لِنَفْسِهِ عَلَى ابْنِهِ الْفَدَّانَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ بِكَذَا وَكَذَا فِي الْعَامِ بِتَقْوِيمِ أَرْبَابِ الْبَصَرِ أَنَّ الْكِرَاءَ الَّذِي ذَكَرَ هُوَ كِرَاءُ مِثْلِ الْفَدَّانِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَ الْوَاهِبُ، فَهَلْ تَصِحُّ الْهِبَةُ أَمْ تَبْطُلُ؟ فَأَجَابَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَحَكَاهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ أَنَّ الْأَبَ لَوْ تَمَادَى عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ بِغَيْرِ حِيَازَةٍ لَا تَعْيِينِ كِرَاءٍ مَا ضَرَّ ذَلِكَ فِي الْحِيَازَةِ فَأُجْرِيَ مَعَ الْحِيَازَةِ وَتَعْيِينِ الْكِرَاءِ، فَإِنَّ حِيَازَةَ هَذَا يَكْفِي فِيهَا الْإِشْهَادُ خَاصَّةً خِلَافَ حِيَازَةِ الْمَسْكُونِ وَالْمَلْبُوسِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ: هُوَ كَحِيَازَةِ الْمَسْكُونِ وَالْمَلْبُوسِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا أَكْرَاهُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِخِلَافِ الرَّهْنِ، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. حَكَى هَذَا الْكَلَامَ ابْنُ رُشْدٍ فِي آخِرِ سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ زُونَانَ مِنْ كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَفِي غَيْرِهِ وَكَتَبَ مُسَلِّمًا عَلَيْكُمْ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَبْدُوسِيُّ لَطَفَ اللَّهُ بِهِ.
وَمَنْ يَصِحُّ قَبْضُهُ وَمَا قَبَضْ ... مُعْطَاهُ مُطْلَقًا لِتَفْرِيطٍ عَرَضْ
يَبْطُلُ حَقُّهُ بِلَا خِلَافِ ... إنْ فَاتَهُ فِي ذَلِكَ التَّلَافِي
يَعْنِي أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ قَبْضُهُ وَحِيَازَتُهُ لِمَا أُعْطِيَهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ ذَلِكَ؛ لِتَفْرِيطِهِ فِي قَبْضِهِ وَتَرْكِهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَقْبِضَهُ لَقَبَضَهُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنْ فَاتَهُ تَلَافِي الْقَبْضِ، وَاسْتَدْرَكَهُ لِمَوْتِ الْمُعْطِي أَوْ تَفْلِيسِهِ أَوْ فَوْتِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُفِيتَةِ لَهُ، كَأَنْ يَهَبَهُ الْوَاهِبُ لِرَجُلٍ آخَرَ وَقَبَضَهُ هَذَا الثَّانِي فَإِنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ يَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ:
إنْ فَاتَهُ فِي ذَلِكَ التَّلَافِي
أَنَّهُ إنْ لَمْ يَفُتْهُ التَّلَافِي؛ لِكَوْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ
(2/156)

لَمْ يَحْدُثْ مَانِعٌ مِنْهُ مِنْ مَوْتٍ وَلَا تَفْلِيسٍ وَلَا دَيْنٍ مُحِيطٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَلَافَى الْقَبْضَ.
وَتَصِحُّ الْعَطِيَّةُ وَلَا يَضُرُّ تَرَاخِي الْقَبْضِ عَنْ الْعَطِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ مَانِعٌ مِنْهُ، هَذَا كُلُّهُ إنْ كَانَ تَرْكُهُ لِقَبْضِ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ وَتَفْرِيطًا أَمَّا إنْ جَدَّ فِي طَلَبِهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ حَتَّى فَاتَ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ، فَإِنَّ حَقَّهُ لَا يَبْطُلُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَقْبُوضِ بَيْنَ كَوْنِهِ أَصْلًا أَوْ عَرْضًا أَوْ عَيْنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ (قَالَ ابْنُ شَاسٍ) : إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْحَوْزِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ جَادًّا فِي الطَّلَبِ غَيْرَ تَارِكٍ لَهُ كَمَا إذَا وَقَعَتْ الْهِبَةُ بِشَاهِدٍ أَوْ شَاهِدَيْنِ حَتَّى يُزَكَّيَا، فَمَاتَ الْوَاهِبُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: هُوَ حَوْزٌ، وَقَدْ صَحَّتْ الْهِبَةُ (وَفِي مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ) وَصَحَّ إنْ قَبَضَ لِيَتَرَوَّى أَوْ جَدَّ فِيهِ أَوْ فِي تَزْكِيَةِ شَاهِدِهِ (وَفِي طُرُرِ ابْنِ عَاتٍ عَنْ الْمُشَاوِرِ) وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى رَجُلٍ وَعَرَّفَهُ بِهَا فَسَكَتَ، وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْت وَلَا أَقْبَلُ وَتَرَكَهَا زَمَانًا ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ فِيهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ طَلَبَ غَلَّتَهَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا عَلَى وَجْهِ التَّرْكِ وَرَجَعَ اهـ.
وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ قَوْلُ الْمِكْنَاسِيِّ فِي الْحَبْسِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ مَا لَمْ يَمُتْ الْمُحَبِّسُ (ابْنُ عَرَفَةَ) إحَاطَةُ الدَّيْنِ بِمَالِهِ قَبْلَ الْعَطِيَّةِ يُبْطِلُهَا اتِّفَاقًا، وَفِي كَوْنِ إحَاطَتِهِ بَعْدَهَا قَبْلَ حَوْزِهَا كَذَلِكَ قَوْلَانِ.

[فَصْلٌ فِي الِاعْتِصَارِ]
(فَصْلٌ فِي الِاعْتِصَارِ) (ابْنُ عَرَفَةَ) الِاعْتِصَارُ ارْتِجَاعُ الْمُعْطِي عَطِيَّتَهُ دُونَ عِوَضٍ لَا بِطَوْعِ الْمُعْطَى فَقَوْلُهُ: دُونَ عِوَضٍ أَخْرَجَ بِهِ شِرَاءَ الْهِبَةِ وَقَوْلُهُ وَلَا بِطَوْعِ الْمُعْطَى أَخْرَجَ بِهِ هِبَةَ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ لِلْمُعْطِي بِالْكَسْرِ.
وَالِاعْتِصَارُ جَازَ فِيمَا يَهَبُ ... أَوْلَادَهُ قَصْدَ الْمَحَبَّةِ الْأَبُ
وَالْأُمُّ مَا حَيٌّ أَبٌ تَعْتَصِرُ ... وَحَيْثُ جَازَ الِاعْتِصَارُ يُذْكَرُ
الِاعْتِصَارُ رُجُوعُ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَا يَعْتَصِرُ إلَّا الْأَبُ وَالْأُمُّ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا الشَّيْخُ فَقَالَ فِيمَا يَهَبُ الْأَبُ وَالْأُمُّ، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَعْتَصِرُ، فَلَا يَعْتَصِرُ جَدٌّ وَلَا جَدَّةٌ وَلَا عَمٌّ وَلَا عَمَّةٌ وَلَا الْوَلَدُ مِنْ أَبِيهِ فَالْأَبُ يَعْتَصِرُ مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ كَانَ لِلْوَلَدِ أُمٌّ أَوْ لَمْ تَكُنْ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، كَمَا يَذْكُرُ فِي الْبَيْتَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْمَانِعُ فِي اعْتِصَارِ الْأُمِّ عَلَى تَفْصِيلِهِ الْآتِي.
وَأَمَّا الْأُمُّ تَهَبُ لِوَلَدِهَا فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَلَهَا أَنْ تَعْتَصِرَ مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَالْأُمُّ مَا حَيٌّ أَبٌ تَعْتَصِرُ
فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَقَدْ كَانَتْ وَهَبَتْ فِي حَيَاتِهِ فَقَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ تَعْتَصِرُ، فَإِنْ وَهَبَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ فَلَا اعْتِصَارَ لَهَا لِأَنَّهُ يَتِيمٌ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا يَهَبُ أَنَّ مَحَلَّ الِاعْتِصَارِ الْهِبَةُ لَا الصَّدَقَةُ، وَهُوَ كَذَلِكَ.
(ابْنُ يُونُسَ) رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ هِبَةً ثُمَّ يَعُودُ فِيهَا إلَّا لِلْوَلَدِ
(2/157)

قَالَ مَالِكٌ) : فَكُلُّ صَدَقَةٍ فَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا لِلْأَبَوَيْنِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالنِّحْلَةُ وَالْعُمْرَى فَلَهُمَا الِاعْتِصَارُ فِي ذَلِكَ (وَفِي نَوَازِلِ سَحْنُونٍ) هِبَتُهُ لِابْنِهِ لِلصِّلَةِ لَا يَجُوزُ اعْتِصَارُهَا وَكَذَا هِبَتُهُ لِضَعْفِهِ وَخَوْفِ الْخَصَاصَةِ عَلَيْهِ (وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ) كُلُّ هِبَةٍ لِوَلَدِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِطَلَبِ الْأَجْرِ أَوْ لِصِلَةِ الرَّحِمِ لَا تُعْتَصَرُ. (ابْنُ عَرَفَةَ) الْمَذْهَبُ صِحَّةُ اعْتِصَارِ الْأَبِ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ صَغِيرًا كَانَ الِابْنُ أَوْ كَبِيرًا، وَمَعْرُوفٌ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْأُمَّ مِثْلُهُ (وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ) لَا يَجُوزُ الِاعْتِصَارُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ إلَّا لِلْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا (اللَّخْمِيُّ) وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ يَوْمَ الْعَطِيَّةِ فَلَمْ تَعْتَصِرْ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ كَانَ لَهَا أَنْ تَعْتَصِرَ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ. وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ لَا تَعْتَصِرُ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى وَقْتَ الْعَطِيَّةِ، هَلْ كَانَتْ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ مَا وَهَبَتْ الْأُمُّ أَوْ نَحَلَتْ لِوَلَدِهَا الصِّغَارِ وَلَا أَبَ لَهُمْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَصِرَ؛ لِأَنَّهُ يَتِيمٌ وَلَا يُعْتَصَرُ مِنْ يَتِيمٍ وَيُعَدُّ ذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ا. هـ.
وَانْظُرْ مَا وَهَبَتْهُ لِوَلَدِهَا الْكَبِيرِ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ هَلْ لَهَا أَنْ تَعْتَصِرَهُ أَوْ لَا، ظَاهِرُ مَا نَقَلَ الشَّارِحُ عَنْ أُصُولِ الْفُتْيَا أَنَّهَا تَعْتَصِرُ وَلَفْظُهُ فِي أُصُولِ الْفُتْيَا، وَالْأُمُّ تَعْتَصِرُ مَا وَهَبَتْ لِوَلَدِهَا، كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَمْ تَعْتَصِرْ شَيْئًا مِنْ هِبَتِهَا لِلصِّغَارِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لِلْأَيْتَامِ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ لَا تُعْتَصَرُ اهـ.
فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَمْ تَعْتَصِرْ شَيْئًا مِنْ هِبَتِهَا لِلصِّغَارِ إلَخْ أَنَّهَا تَعْتَصِرُ هِبَتَهَا لِلْكِبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَطَّابُ بِذَلِكَ فَقَالَ فِي قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ كَأُمٍّ فَقَطْ وَهَبَتْ ذَا أَبٍ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ كَبِيرًا فَتَعْتَصِرُ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اهـ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّاظِمِ:
وَحَيْثُ جَازَ الِاعْتِصَارُ يُذْكَرُ
فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ أَنْ يَذْكُرَ فِي وَثِيقَةِ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُعْتَصَرُ أَنَّ الْوَاهِبَ سَلَّطَ عَلَيْهَا حُكْمَ الِاعْتِصَارِ؛ لِئَلَّا يُنَازَعَ الْوَاهِبُ إذَا اعْتَصَرَ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُوَثِّقِينَ حَسْمُ مَوَادِّ الْخِلَافِ، وَارْتِكَابُ الْوَجْهِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ فَلِذَلِكَ يَكْتُبُونَ إذْنَ الْمَضْمُونِ لِلضَّامِنِ فِي الضَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ اعْتِبَارِ إذْنِهِ وَمَعَ إذْنِهِ لَا خِلَافَ فِي اللُّزُومِ، وَكَذَلِكَ يَكْتُبُونَ فِي وَثَائِقِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَنَزَلَ الْمُبْتَاعُ فِيمَا ابْتَاعَ، وَأَبْرَأَ الْبَائِعَ مِنْ دَرْكِ الْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ بِنُزُولِهِ فِيمَا ابْتَاعَ يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْ الْبَائِعِ اتِّفَاقًا وَقَبْلَ نُزُولِهِ لَا يَسْقُطُ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: الْبَيْعُ الْعَقْدُ مَعَ الْقَبْضِ لَا الْعَقْدُ فَقَطْ، فَلَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي عَلَى قَوْلِهِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَعَمِلُوا عَلَى الْإِنْزَالِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ سَيِّدِي عَبْدُ الْوَاحِدِ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي نَظْمِ إيضَاحِ الْمَسَالِكِ: لِوَالِدِهِ سَيِّدِي أَحْمَدَ مَا نَصُّهُ:
وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَشْهَبَا ... أَوْرَدَهُ الْمُوَثِّقُونَ الْكُتُبَا
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَثِّقِينَ كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَضُمِّنَ الْوِفَاقُ فِي الْحُضُورِ ... إنْ كَانَ الِاعْتِصَارُ مِنْ كَبِيرِ
وَكُلُّ مَا يَجْرِي بِلَفْظِ الصَّدَقَهْ ... فَالِاعْتِصَارُ أَبَدًا لَنْ يَلْحَقَهْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ اعْتَصَرَ مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ يَنُصُّ فِي وَثِيقَةِ الِاعْتِصَارِ عَلَى حُضُورِ الِابْنِ الْمَذْكُورِ وَمُوَافَقَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ إذْ يَدَّعِي الصَّدَقَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا يَمْنَعُ الِاعْتِصَارَ، فَحُضُورُهُ يَرْفَعُ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ يَلِيه مِنْ ذِكْرِ الِاعْتِصَارِ وَمُوَافَقَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) فِي آخِرِ وَثِيقَةِ الِاعْتِصَارِ: مَا نَصُّهُ " وَإِنْ كَانَ الِابْنُ كَبِيرًا قُلْتُ: وَبِمَحْضَرِ الِابْنِ وَمُوَافَقَتِهِ عَلَى ذَلِكَ " اهـ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَكُلُّ مَا يَجْرِي بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ
الْبَيْتَ فَأَشَارَ بِهِ لِقَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ: وَكُلُّ صَدَقَةٍ فَلَا اعْتِصَارَ فِيهَا لِلْأَبَوَيْنِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْعُمْرَى فَلَهُمَا الِاعْتِصَارُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَوَّاق
(2/158)

وَلَا اعْتِصَارَ مَعَ مَوْتٍ أَوْ مَرَضْ ... لَهُ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ دَيْنٍ عَرَضْ
وَفَقْرُ مَوْهُوبٍ لَهُ مَا كَانَا ... لِمَنْعِ الِاعْتِصَارِ قَدْ أَبَانَا
ذَكَرَ فِي الْبَيْتَيْنِ مَوَانِعَ الِاعْتِصَارِ يَمْنَعُ مِنْهُ مَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ مَرَضُهُ الْمُسْتَمِرُّ لِلْمَوْتِ وَنِكَاحُهُ وَأَخْذُهُ لِلدَّيْنِ إذَا كَانَ الْمَرَضُ الْمَذْكُورُ وَمَا بَعْدَهُ حَادِثًا عَارِضًا بَعْدَ الْهِبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: عَرَضْ، أَمَّا إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَقْتَهَا مَرِيضًا أَوْ مُتَزَوِّجًا أَوْ مَدِينًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاعْتِصَارَ وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ فَقْرُ الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَا كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا لِأَنَّ فَقْرَهُ قَرِينَةُ إرَادَةِ الصَّدَقَةِ (قَالَ فِي أُصُولِ الْفُتْيَا) قَالَ مُحَمَّدٌ: مِنْ أَصْلِ قَوْلِهِمْ: أَنَّ كُلَّ وَاهِبٍ هِبَةً، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَهَا، وَلَا يَرْجِعَ فِيهَا حَاشَا الْأَبِ وَالْأُمِّ فِيمَا وَهَبَا لِأَوْلَادِهِمْ، فَإِنَّ الِاعْتِصَارَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَائِزٌ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ.
أَمَّا الْوَالِدُ فَيَجُوزُ لَهُ اعْتِصَارُ مَا وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ، كَانَ لِلْوَلَدِ أُمٌّ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَحْدِثْ الْوَلَدُ دَيْنًا أَوْ يَنْكِحْ أَوْ يَطَأْ، إنْ كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً أَوْ يَبِيعُ الْهِبَةَ أَوْ يَمْرَضُ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ الِاعْتِصَارُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فَوْتٌ لِلْهِبَةِ، وَإِنَّمَا يَعْتَصِرُ مَا لَمْ يَفُتْ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَهَبَ لَهُ وَقَدْ اسْتَدَانَ أَوْ نَكَحَ أَوْ مَرِضَ، فَيَجُوزُ لَهُ الِاعْتِصَارُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُدَايَنْ وَلَمْ يَنْكِحْ عَلَى تِلْكَ الْهِبَةِ (وَفِي الْمُقَرِّبِ) قُلْتُ: فَمَنْ وَهَبَ لِأَوْلَادٍ لَهُ صِغَارٍ هِبَةً وَقَدْ مَاتَتْ أُمُّهُمْ فَبَلَغُوا وَلَمْ يُحْدِثُوا دَيْنًا وَلَا نَكَحُوا، فَأَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَعْتَصِرَ هِبَتَهُ قَالَ: ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَ لَهُمْ وَهُمْ كِبَارٌ فَلَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ هِبَتَهُ، مَا لَمْ يَسْتَحْدِثُوا دَيْنًا أَوْ يَنْكِحُوا، وَالْعَطِيَّةُ وَالنَّحْلُ فِي الِاعْتِصَارِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) وَإِذَا كَانَتْ هِبَةُ الْأَبَوَيْنِ عَلَى فَقِيرٍ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ يَعْتَصِرَانِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ وَهَبَ عَلَى فَقِيرٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ صِلَتَهُ وَالْأَجْرَ. انْتَهَى.
(فَرْعٌ) وَكَمَا يَمْنَعُ الِاعْتِصَارَ مَرَضُ الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَرَضُ الْوَاهِبِ خِلَافًا لِأَشْهَبَ (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَلَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا فَكَذَلِكَ، وَرَوَى أَشْهَبُ إنْ مَرِضَ الْأَبُ فَلَهُ، وَقَالَ أَيْضًا فَلَيْسَ لَهُ (التَّوْضِيحُ) قَوْلُهُ: أَحَدُهُمَا: أَيْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَوْلُهُ: فَكَذَلِكَ، أَيْ بِفَوْتِ الِاعْتِصَارِ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: فِي الْبَيَانِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَرِضَ الْوَاهِبُ فَاعْتِصَارُهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَارِثُ وَإِنْ مَرِضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِهِ وَرَوَى أَشْهَبُ إنْ مَرِضَ الْأَبُ فَلَهُ الِاعْتِصَارُ دُونَ الْعَكْسِ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْت وَإِنَّمَا شَرَحْنَا قَوْلَ النَّاظِمِ أَوْ مَرِضَ بِمَرَضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَرَضُ الْوَاهِبِ مَانِعًا مِنْ الِاعْتِصَارِ أَيْضًا لِقِرَانِهِ بِالنِّكَاحِ وَالدَّيْنِ، وَلَا يَمْنَعَانِ إلَّا مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ نَحَلَ ابْنَتَهُ نِحْلَةً فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ فَقَدْ انْقَطَعَ الِاعْتِصَارُ بِالنِّكَاحِ فَلَا يَعُودُ، بَنَى بِهَا أَمْ لَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَكَحَ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَوْ دَايَنَ ثُمَّ زَالَ الدَّيْنُ أَوْ زَالَتْ الْعِصْمَةُ، فَلَا اعْتِصَارَ لَهَا نَقَلَهُ الْمَوَّاق ثُمَّ قَالَ أَصْبَغُ: إذَا امْتَنَعَ الِاعْتِصَارُ بِمَرَضِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِنِكَاحِ الْوَلَدِ أَوْ بِدَيْنٍ، ثُمَّ زَالَ الْمَرَضُ وَالدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ فَلَا اعْتِصَارَ وَإِذَا زَالَتْ الْعُصْرَةُ يَوْمًا فَلَا تَعُودُ وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَابْنُ دِينَارٍ إذَا صَحَّ الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى رَجَعَتْ الْعُصْرَةُ، كَمَا تَنْطَلِقُ يَدُهُ فِي مَالِهِ فِيمَا كَانَ مَمْنُوعًا اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْعِلَّةُ إذَا زَالَتْ هَلْ يَزُولُ الْحُكْمُ بِزَوَالِهَا أَمْ لَا
وَمَا اعْتِصَارُ بَيْعُ شَيْءٍ قَدْ وُهِبْ ... مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ بِهِ كَمَا يَجِبْ
لَكِنَّهُ يُعَدُّ مَهْمَا صَيَّرَا ... ذَاكَ لِمَوْهُوبٍ لَهُ مُعْتَصَرَا
وَقِيلَ بَلْ يَصِحُّ إنْ مَالٌ شُهِرْ ... لَهُ وَإِلَّا فَلِحَوْزٍ يَفْتَقِرْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِابْنِهِ أَوْ ابْنَتِهِ، ثُمَّ إنَّهُ بَاعَ الْهِبَةَ بِاسْمِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُشْهَدْ بِأَنَّ ذَلِكَ اعْتِصَارٌ، فَإِنَّ بَيْعَهُ لَا يُعَدُّ اعْتِصَارًا، بَلْ يُحْمَلُ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْعَ أَوْلَى لِغِبْطَةٍ فِي الثَّمَنِ، أَوْ لِخَوْفِ فَسَادٍ يَلْحَقُ تِلْكَ الْهِبَةَ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيَكُونُ ثَمَنُ الْهِبَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْأَبِ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِمُوجِبٍ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَمَا اعْتِصَارٌ الْبَيْتَ وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ بِهِ أَيْ بِالِاعْتِصَارِ أَنَّهُ إذَا أَشْهَدَ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ قَبْلَهُ أَنَّهُ اعْتَصَرَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ اعْتِصَارٌ وَلَا إشْكَالَ فَقَوْلُهُ وَمَا اعْتِصَارٌ مَا نَافِيَةٌ وَاعْتِصَارٌ: مُبْتَدَأٌ سَوَّغَهُ تَقَدُّمُ النَّفْيِ وَبَيْعٌ: خَبَرُهُ وَجُمْلَةُ قَدْ وُهِبَ: بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَضَمِيرُ بِهِ لِلِاعْتِصَارِ.
(قَالَ ابْنُ عَاتٍ فِي طُرُرِهِ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الشُّورَى) مَنْ وَهَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ هِبَةً وَسَلَّطَ عَلَيْهَا شَرْطَ الِاعْتِصَارِ ثُمَّ بَاعَهَا
(2/159)

بَعْدَ ذَلِكَ بِاسْمِ نَفْسِهِ وَمَاتَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ لِلِابْنِ فِي مَالِ الْأَبِ وَلَيْسَ بَيْعُهُ بِاسْمِ نَفْسِهِ عُصْرَةً مِنْهُ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ قَبْلَهُ أَنَّ بَيْعَهُ ذَلِكَ اعْتِصَارٌ مِنْهُ لِلْهِبَةِ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَجُوزُ اعْتِصَارُهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا قَالَ الشَّارِحُ أَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ هَكَذَا نُقِلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفِيهِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى كَبِيرٍ إشْكَالُ مَا مِنْ كَوْنِهِ لَا يُعَدُّ عُصْرَةً فَتَأَمَّلْهُ ا. هـ يَعْنِي أَنَّ كَوْنَ الْبَيْعِ عَلَى الصَّغِيرِ لَا يُعَدُّ عُصْرَةً ظَاهِرٌ لِكَوْنِ الْأَبِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لَهُ فِي أُمُورِهِ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَ نَفْسِهِ، فَالْبَيْعُ عَلَيْهِ اعْتِصَارٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ:
لَكِنَّهُ يُعَدُّ مَهْمَا مَهْمَا صَيَّرَا
الْبَيْتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَاهِبِ فِي الْهِبَةِ بِالْبَيْعِ لَا يُعَدُّ اعْتِصَارًا اسْتَدْرَكَ هَذِهِ الصُّورَةَ، فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَاهِبِ فِيهَا اعْتِصَارٌ.
وَهِيَ إذَا وَهَبَ هِبَةً لِابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ ثُمَّ إنَّهُ صَيَّرَ تِلْكَ الْهِبَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي دَيْنٍ لِلِابْنِ أَوْ الِابْنَةِ عَلَى أَبِيهِ الْوَاهِبِ الْمَذْكُورِ فَتَصِيرُ تِلْكَ الْهِبَةُ مِلْكًا لِلْوَلَدِ عِوَضًا عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ وَلَا إشْكَالَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ اعْتِصَارًا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَبِ قَضَى بِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ لَازِمٌ لِكَوْنِهِ رَدَّهَا لِمِلْكِهِ وَحِينَئِذٍ دَفَعَهَا فِي دَيْنِهِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَطْلَقَ فِي ذَلِكَ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْأَبِ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ كَمَا يَأْتِي وَلَا إشْكَالَ أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الْهِبَةَ يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ عِوَضًا عَنْ الدَّيْنِ فَلَا تَفْتَقِرُ لِحِيَازَةٍ؛ لِكَوْنِهَا مُعَاوَضَةً، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَكِنَّهُ يُعَدُّ الْبَيْتَ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي صَيَّرَ فِيهِ الْهِبَةَ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَرِينَةِ صِدْقٍ فَالْحُكْمُ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ، فَعَهْدُ التَّصْيِيرِ هِبَةٌ أُخْرَى مُسْتَأْنَفَةٌ، فَتَفْتَقِرُ لِلْحَوْزِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَقِيلَ: بَلْ تَصِحُّ إنْ مَالٌ شُهِرْ
الْبَيْتَ، فَقَوْلُهُ: لَكِنَّهُ أَيْ الْأَبَ، وَذَاكَ أَيْ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ: يَتَعَلَّقُ بِ صَيَّرَا وَمُعْتَصِرًا: مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيُعَدَّ وَفَاعِلُ يَصِحُّ لِلتَّصْيِيرِ وَضَمِيرُ لَهُ لِلْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
وَأَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ لِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِّ فِي مَسْأَلَةٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ لِابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ دَارًا أَوْ احْتَازَهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهَدَ أَنَّهُ صَيَّرَهَا لَهَا فِي مِائَةِ مِثْقَالٍ تَأَلَّفَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَزْلٍ غَزَلَتْهُ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ التَّصْيِيرُ اعْتِصَارٌ لِلْهِبَةِ وَتَكُونُ الدَّارُ لِلْمَوْهُوبِ لَهَا بِالتَّصْيِيرِ أَيْ فِي الدَّيْنِ لَا بِالْهِبَةِ الْأُولَى وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّ التَّصْيِيرَ لِلْهِبَةِ اعْتِصَارٌ، أَوْ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ مِنْ الذَّهَبِ نِسْبَةً صَحِيحَةً مِثْلَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الِابْنَةَ كَانَتْ تَغْزِلُ الْغَزْلَ الْكَثِيرَ كَقَدْرِ الذَّهَبِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهَا وَرِثَتْ مِنْ أُمِّهَا مَالًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهَا وَإِلَّا فَيَكُونُ هَذَا التَّصْيِيرُ كَهِبَةٍ أُخْرَى إنْ ثَبَتَتْ فِيهَا الْحِيَازَةُ صَحَّتْ وَإِلَّا سَقَطَتْ اهـ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي افْتِقَارِ التَّصْيِيرِ لِلْحَوْزِ وَعَدَمِ افْتِقَارِهِ لَهُ

[فَصْلٌ فِي الْعُمْرَى وَمَا يَلْحَقُ بِهَا]
(فَصْلٌ فِي الْعُمْرَى وَمَا يَلْحَقُ بِهَا)
هِبَةُ غَلَّةِ الْأُصُولِ الْعُمْرَى ... بِحَوْزِ الْأَصْلِ حَوْزُهَا اسْتَقَرَّا
طُولَ حَيَاةِ مُعَمِّرٍ أَوْ مُدَّهْ ... مَعْلُومَةً كَالْعَامِ أَوْ مَا بَعْدَهْ
(ابْنُ عَرَفَةَ) الْعُمْرَى: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ حَيَاةِ الْمُعْطَيْ بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْشَاء (قَالَ الرَّصَّاع) قَوْلُهُ: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ أَخْرَجَ بِهِ عَطَاءَ الذَّاتِ وَأَخْرَجَ بِحَيَاةِ الْمُعْطَيْ الْحُبُسَ وَالْعَارِيَّةَ وَالْمُعْطَى بِفَتْحِ الطَّاءِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ مُدَّةَ حَيَاةِ الْمُعْطِي بِكَسْرِهَا لَيْسَ بِعُمْرَى وَانْظُرْ تَقْسِيمَ الْعُمْرَى فِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ أَخْرَجَ بِهِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ وَقَوْلُهُ: إنْشَاءً أَخْرَجَ بِهِ الْحُكْمَ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُمْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ، ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ إنَّ الْعُمْرَى الْمُعَقَّبَةَ إنْ قُلْنَا تَرْجِعُ مِلْكًا فَهِيَ عُمْرَى، وَلَا إشْكَالَ.
وَإِنْ قُلْنَا تَرْجِعُ حَبْسًا، فَهِيَ عُمْرَى أَيْضًا حُكْمُهَا أَيْضًا حُكْمُ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهَا حَبْسٌ
(2/160)

حَقِيقَةً، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْحَدِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ أَنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ مَا لَهُ مَنْفَعَةٌ، فَتَكُونُ فِي الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ (قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ:) فَإِنْ أَعْرَى حُلِيًّا وَثِيَابًا قَالَ: أَمَّا الْحُلِيُّ فَهُوَ كَالدُّورِ وَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَمْ أَسْمَعْ فِيهَا مِنْ مَالِكٍ شَيْئًا اهـ وَآخِرُهُ بِالْمَعْنَى مَعَ اخْتِصَارٍ.
قَوْلُهُ: هِبَةُ غَلَّةِ الْأُصُولِ. . . إلَخْ يَعْنِي أَنَّ الْعُمْرَى: هِيَ هِبَةُ غَلَّةِ الْأُصُولِ طُولَ حَيَاةِ الْمُعْمِرِ أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَالْعَامِ، أَوْ مَا بَعْدَهُ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْعَطِيَّةِ، فَتَفْتَقِرُ إلَى الْحَوْزِ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
بِحَوْزِ الْأَصْلِ حَوْزُهَا اسْتَقَرَّا
وَحَوْزُهَا هُوَ بِحَوْزِ أَصْلِهَا، وَلَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِهَا لِأَجَلٍ مَجْهُولٍ وَهُوَ حَيَاةُ الْمُعْمِرِ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ، فَلَا يَدْخُلُهَا الْغَرَرُ الْمَحْظُورُ فِي الْبُيُوعِ فِي جَهْلِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا أَرْسِلْ مِنْ يَدِك بِالْغَرَرِ، وَلَا تَأْخُذْ بِهِ، فَإِنَّ فِي الْمُقَرَّبِ قُلْت: لَهُ أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ رَجُلٌ: لِرَجُلٍ قَدْ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ حَيَاتَك أَوْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةَ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذَا الْحُلِيَّ، أَيَجُوزُ هَذَا قَالَ: نَعَمْ وَيَرْجِعُ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ جُعِلَ ذَلِكَ لَهُ إلَى الَّذِي أَعْمَرَهَا أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ (وَفِي الْمَنْهَجِ السَّالِكِ) : وَأَمَّا هِبَةُ الْمَنَافِعِ كَالْعُمْرَى وَالْإِخْدَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَنَّهَا كَهِبَةِ الْأَعْيَانِ إلَّا فِي تَمْلِيكِ الرِّقَابِ. قَالَ: أَعْمَرَهُ دَارًا أَوْ جَنَّةً مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوْ حَيَاةَ الْمَوْهُوبِ لَهُ رَجَعَتْ بَعْدَ انْصِرَامِ الْمُدَّةِ مِلْكًا لِرَبِّهَا أَوْ لِوَرَثَتِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْمَرَ عَقِبَهُ (وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) .
وَلَا يَجُوزُ الْعُمْرَى إلَّا بِحِيَازَةٍ وَقَبْضٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ لِمَنْ يَجُوزُ لِلْمُعَمَّرِ الْقَبْضُ لَهُ كَالِابْنِ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ فَقَوْلُهُ: (هِبَةُ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَالْعُمْرَى: مُبْتَدَأٌ وَطُولَ: ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِهِبَةٍ وَمُدَّةً: بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى طُولَ أَيْ الْعُمْرَى هِبَةُ غَلَّةِ الْأُصُولِ حَيَاةَ مُعْمِرٍ أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَالْعَامِ أَوْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْعَامِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَوْ مَا بَعْدَهُ، وَحَوْزُهَا: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ اسْتَقَرَّا وَبِحَوْزٍ: يَتَعَلَّقُ بِاسْتَقَرَّا، وَخَصَّ الْأُصُولَ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ فِي غَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَى فِيهَا أَكْثَرُ
وَبَيْعُهَا مُسَوَّغٌ لِلْمُعْمَرِ ... مِنْ مُعْمِرٍ وَوَارِثٍ لِلْمُعْمِرِ
يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ وَيَسُوغُ لِلْمُعْمَرِ بِالْفَتْحِ بَيْعُ الْعُمْرَى لِلْمُعْمِرِ بِالْكَسْرِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ وَإِنْ شِئْت قُلْتَ يَجُوزُ لِلْمُعْمِرِ بِالْكَسْرِ وَلِوَرَثَتِهِ شِرَاءُ عُمْرَتِهِ مِنْ الْمُعْمَرِ بِالْفَتْحِ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، فَالْمُعْمَرُ بِالْفَتْحِ بَائِعٌ وَبِالْكَسْرِ مُشْتَرٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (قَالَ فِي الْمَقْصِدِ الْمَحْمُودِ:) وَيَجُوزُ لِلْمُعْمِرِ شِرَاءُ عُمْرَاهُ قِيَاسًا عَلَى الْعَرِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَلِلْمُعْمِرِ كِرَاؤُهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ لَا غَيْرُ، وَقِيلَ: لِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ كَالْأَحْبَاسِ، وَلَوْ كَانَتْ لِمُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ لَجَازَ كِرَاؤُهَا إلَيْهَا، وَيَجُوزُ لِوَرَثَةِ الْمُعْمِرِ شِرَاؤُهَا مِنْ الْمُعْمَرِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَبِيهِمْ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُعَقَّبَةً، وَفِيهِ أَيْضًا يَجُوزُ ابْتِيَاعُ الْمُعْمِرِ لِلْعُمْرَى بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ بِالْعَيْنِ وَالْعَرْضِ وَالطَّعَامِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ إذْ لَيْسَ بِبَيْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ
(2/161)

ظَاهِرُهُ الْمُكَايَسَةُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَرَاهَةِ ابْتِيَاعِ الصَّدَقَةِ اهـ.
فَضَمِيرُ " بَيْعُهَا " لِلْعُمْرَى " وَمُسَوَّغٌ " بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ سَوَّغَهُ الشَّارِعُ وَجَوَّزَهُ " وَالْمُعْمَرُ " بِالْفَتْحِ يَتَعَلَّقُ بِمُسَوَّغٍ أَيْ يَسُوغُ لِلْمُعْمَرِ بَيْعُ الْعُمْرَى وَالْمُشْتَرِي لَهَا هُوَ الْمُعْمِرُ بِالْكَسْرِ أَوْ وَارِثُهُ
وَغَلَّةٌ لِلْحَيَوَانِ إنْ تُهَبْ ... فَمِنْحَةٌ تُدْعَى وَلَيْسَتْ تُجْتَنَبْ
وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ هِيَ الْإِخْدَامُ ... وَالْحَوْزُ فِيهِمَا لَهُ الْتِزَامُ
حَيَاةَ مُخْدَمٍ أَوْ الْمَمْنُوحِ ... أَوْ أَمَدًا عُيِّنَ بِالتَّصْرِيحِ
قَالَ الْإِمَامُ الْحَطَّابُ فِي تَأْلِيفِهِ الْمُسَمَّى بِتَحْرِيرِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الِالْتِزَامِ: مَا نَصُّهُ الْبَابُ الْأَوَّلُ: وَفِي الِالْتِزَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّقٍ وَهُوَ إلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى شَيْءٍ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالْحَبْسُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْعُمْرَى وَالْعَرِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالْإِرْفَاقُ وَالْإِخْدَامُ وَالْإِسْكَانُ وَالنَّذْرُ إذَا كَانَ غَيْرَ مُعَلَّقٍ وَالضَّمَانُ وَالِالْتِزَامُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ أَعْنِي بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ
وَإِنَّمَا هُوَ بِأُمُورٍ اعْتِبَارِيَّةٍ اعْتَبَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي كُلِّ بَابٍ فَخَصُّوا الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ بِتَمْلِيكِ الرِّقَابِ، وَجَعَلُوا الْأُولَى: فِيمَا كَانَ لِقَصْدِ الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، وَالثَّانِيَةَ: فِيمَا كَانَ لِقَصْدِ ثَوَابٍ مِنْ الْمُعْطِي أَوْ لِوَجْهِ الْمُعْطَى لِصَدَاقَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَخَصَّ الْحَبْسَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى الْإِسْكَانِ بِإِعْطَاءِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَهُوَ الْحَبْسُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاةِ الْمُعْطَى، فَهُوَ الْعُمْرَى، وَإِنْ كَانَ مُحَدَّدًا بِمُدَّةٍ أَوْ غَيْرَ مُحَدَّدٍ فَهُوَ الْعَارِيَّةُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَقَارٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِسْكَانُ.
وَإِنْ كَانَ فِي ثَمَرَةٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْعَرِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَلَّةِ حَيَوَانٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْمِنْحَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ عَبْدٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِخْدَامُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَنَافِعَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِرْفَاقُ، وَخَصُّوا الضَّمَانَ بِالْتِزَامِ الدَّيْنِ لِمَنْ هُوَ لَهُ، أَوْ الْتِزَامِ إحْضَارِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لِمَنْ هُوَ لَهُ، وَخَصُّوا النَّذْرَ الْمُطْلَقَ بِالْتِزَامِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَالِالْتِزَامَ الْأَخَصَّ بِمَا كَانَ بِلَفْظِ الِالْتِزَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُخْرِجُ الْعِدَةَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ لِأَنَّهَا الْتِزَامٌ فِيهَا اهـ.
وَفِيهِ بَيَانُ الِاصْطِلَاحِ فِي مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَأَخْبَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هِبَةَ غَلَّةِ الْحَيَوَانِ كَالرُّكُوبِ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تُسَمَّى مِنْحَةً، وَهِيَ جَائِزَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يُجْتَنَبُ، وَأَنَّ هِبَةَ خِدْمَةِ الْعَبْدِ تُسَمَّى الْإِخْدَامَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِهِ طُولَ حَيَاةِ الْمَمْنُوحِ أَوْ الْمُخْدَمِ أَوْ تَوْفِيَتِهِ بِأَجَلٍ مَحْدُودٍ مِنْ الْمُعْطِي، وَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ الْحَوْزِ عَلَى قَاعِدَةِ كُلُّ مَا يُعْطَى بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَحَوْزُهُمَا بِحَوْزِ الْحَيَوَانِ الْمَمْنُوحِ غَلَّتُهُ، وَحَوْزِ الْعَبْدِ الْمَبْذُولِ خِدْمَتُهُ (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) : وَالْمِنْحَةُ هِيَ هِبَةُ غَلَّةِ الْحَيَوَانِ، وَالْإِخْدَامُ. هِبَةُ خِدْمَةِ الْعَبْدِ
قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ الْحِيَازَةِ فِي الْمِنْحَةِ وَالْإِخْدَامِ، وَإِلَّا بَطَلَا، وَفِي (الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) ، فَإِنْ مَاتَ الْمُخْدَمُ وَالْخِدْمَةُ لِأَمَدٍ مَعْلُومٍ وَرِثَ وَرَثَةُ الَّذِي لَهُ الْخِدْمَةُ بَقِيَّةَ الْأَمَدِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْخِدْمَةُ حَيَاةَ الْمُخْدَمِ لَمْ يَرِثْ وَرَثَتُهُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَرَجَعَ الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ فِيهِ اهـ.
وَقَوْلُهُ: حَيَاةَ مُخْدَمٍ بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ لِلْإِخْدَامِ وَقَوْلُهُ: أَوْ الْمَمْنُوحِ: عَطْفٌ عَلَى مُخْدَمٍ مَدْخُولٍ لِحَيَاةٍ أَيْ حَيَاةِ الْمَمْنُوحِ: ظَرْفٌ لِمِنْحَةٍ وَقَوْلُهُ: وَأَمَدًا: بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى " حَيَاةَ "
وَأُجْرَةُ الرَّاعِي لِمَا قَدْ مَنَحَا ... عَلَى الَّذِي بِمَنْحِهِ قَدْ سَمَحَا
وَجَائِزٌ لِمَانِحٍ فِيهَا الشِّرَا ... بِمَا يَرَى نَاجِزًا أَوْ مُؤَخَّرًا
يَعْنِي أَنَّ أُجْرَةَ الرَّاعِي الَّذِي يَرْعَى الْحَيَوَانَ الْمَمْنُوحَ غَلَّتُهُ تَكُونُ عَلَى الْمَانِحِ الَّذِي سَمَحَ بِهِبَتِهَا لَا عَلَى الْمَمْنُوحِ، وَيَجُوزُ لِلْمَانِحِ شِرَاءُ مِنْحَتِهِ مِنْ الْمَمْنُوحِ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ نَاجِزٍ، أَوْ مُؤَخَّرٍ كَمَا سَبَقَ فِي الْعُمْرَى (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) وَالرِّعَايَةُ: عَلَى رَبِّ الْمِنْحَةِ وَلِصَاحِبِ الْمِنْحَةِ أَنْ يَبْتَاعَهَا مِنْ الْمَمْنُوحِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ حَالًا، وَيَجُوزُ لَهُ شِرَاءُ مِنْحَتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ الدَّنَانِيرِ
(2/162)

وَالدَّرَاهِمِ وَالْعُرُوضِ وَالطَّعَامِ حَالًا أَوْ إلَى أَجَلٍ، وَيَسْتَرْجِعُ مِنْحَتَهُ، وَلَا يَدْخُلُهُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْمَجْهُولِ بِالطَّعَامِ أَوْ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لَيْسَ يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَعْرُوفٌ يَصْنَعُهُ الْمُعْطِي إلَى الْمُعْطَى، فَأُرْخِصَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَيُجَانِسُ ذَلِكَ الْعَرِيَّةَ اهـ.
وَهَذَا الْحُكْمُ يَجْرِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي الْإِخْدَامِ، فَتَكُونُ نَفَقَةُ الْمُخْدِمِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَيَجُوزُ لِسَيِّدِهِ شِرَاءُ خِدْمَتِهِ مِنْ الْمُخْدَمِ

[فَصْلٌ فِي الْإِرْفَاقِ]
(فَصْلٌ فِي الْإِرْفَاقِ)
إرْفَاقُ جَارٍ حَسَنٌ لِلْجَارِ ... بِمَسْقًى أَوْ طَرِيقٍ أَوْ جِدَارِ
وَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ إنْ حُدَّ اُقْتُفِيَ ... وَعُدَّ فِي إطْلَاقِهِ كَالسَّلَفِ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِرْفَاقَ هُوَ مَنَافِعُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ وَأَخْبَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ إرْفَاقَ الْجَارِ لِجَارِهِ حَسَنٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ التَّسَامُحِ بِهِ وَهُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّذِي بُعِثَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِتَتْمِيمِهَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يُعْطِيَهُ مَسْقًى أَيْ مَوْضِعًا لِلسَّقْيِ يُوصَلُ مِنْهُ الْمَاءُ لِسَقْيِ حَائِطِهِ أَوْ شُرْبِ دَارِهِ مَثَلًا، أَوْ يُعْطِيهِ طَرِيقًا فِي أَرْضِهِ لِيَتَوَصَّلَ مِنْهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ يُعْطِيهِ جِدَارًا يَغْرِزُ فِيهِ خَشَبَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرَافِقِ، فَإِنْ حُدَّتْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ بِزَمَانٍ، عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ وَوَقَفَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ تُحَدَّ، فَإِنَّهُ كَالسَّلَفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ الْمِرْفَقِ مِقْدَارَ مَا يَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ بَيْنَ الْجِيرَانِ أَنْ يَرْفُقَ إلَيْهِ.
(قَالَ فِي الْمَنْهَجِ السَّالِكِ) : وَالْمَرَافِقُ مَنْدُوبٌ إلَى بَذْلِهَا وَالْمُسَامَحَةُ فِيهَا، فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَأَلَهُ جَارُهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَى وَشَحَّ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِهِ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ الْمُرْفِقُ احْتَاجَ إلَى حَائِطِهِ حَاجَةً مُؤَكَّدَةً كَانَ ذَلِكَ لَهُ، إذَا كَانَ قَدْ مَضَى مِنْ الزَّمَانِ قَدْرُ مَا يَرَى أَنَّهُ انْتَفَعَ الْمُرْتَفِقُ بِالتَّعْلِيقِ (تَنْبِيهٌ) لَفْظُ " مَسْقَى " فِي النَّظْمِ هُوَ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَدَاخُلٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ أَيْ أَرْفَقَهُ بِالسَّقْيِ بِمَا يَفْضُلُ عَنْهُ مِنْ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ لَهُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَكَانُ أَيْ بِمَكَانٍ وَمَوْضِعٍ يُوصِلُ مِنْهُ الْمَاءَ لِدَارِهِ أَوْ حَائِطِهِ كَمَا قُلْنَا أَوَّلًا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الزَّمَانُ كَأَنْ يَكُونَ حَقُّهُ أَنَّهُ يَسْقِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ فَأَرْفَقَهُ بِالسَّقْيِ إلَى الْعَصْرِ
(2/163)

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْحَوْزِ]
(فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْحَوْزِ)
وَالْأَجْنَبِيُّ إنْ يَحُزْ أَصْلًا بِحَقْ ... عَشْرَ سِنِينَ فَالتَّمَلُّكُ اُسْتُحِقَّ
وَانْقَطَعَتْ حُجَّةُ مُدَّعِيهِ ... مَعَ الْحُضُورِ عَنْ خِصَامٍ فِيهِ
إلَّا إذَا أَثْبَتَ حَوْزًا بِالْكِرَا ... أَوْ مَا يُضَاهِيهِ فَلَنْ يُعْتَبَرَا
أَوْ يَدَّعِي حُصُولَهُ تَبَرُّعًا ... مِنْ قَائِمٍ فَلْيُثْبِتَنَّ مَا ادَّعَى
أَوْ يَحْلِفُ الْقَائِمُ وَالْيَمِينُ لَهْ ... إنْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ مُعْمَلَهْ
وَيُثْبِتُ الدَّفْعَ وَإِلَّا الطَّالِبُ ... لَهُ الْيَمِينُ وَالتَّقَضِّي لَازِبُ
وَإِنْ يَكُنْ مُدَّعِيًا إقَالَهْ ... فَمَعْ يَمِينِهِ لَهُ الْمَقَالَهْ
وَالتِّسْعُ كَالْعَشْرِ لَدَى ابْنِ الْقَاسِمِ ... أَوْ الثَّمَانِ فِي انْقِطَاعِ الْقَائِمِ
قَسَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الدَّعْوَى إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُشْبِهَةٍ عُرْفًا وَهِيَ اللَّائِقَةُ بِالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتَتَوَجَّهُ فِيهَا الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ خِلْطَةٍ اتِّفَاقًا عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَذَلِكَ إذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا إشْكَالَ.
وَذَلِكَ كَالدَّعَاوَى عَلَى الصُّنَّاعِ وَالْمُنْتَصِبِينَ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْوَدَائِعِ عَلَى أَهْلِهَا وَالْمُسَافِرِ فِي رُفْقَتِهِ وَالْمُدَّعِي لِسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ بَعِيدَةٍ لَا تُشْبِهُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا تُسْمَعُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا كَدَعْوَى دَارٍ بِيَدِ حَائِزٍ يَتَصَرَّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَالْمُدَّعِي شَاهِدٌ سَاكِتٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ خَوْفٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ وَشُبْهَةٍ، وَمُتَوَسَّطَةٍ بَيْنَ الْمُشْبِهَةِ وَالْبَعِيدَةِ فَتُسْمَعُ مِنْ مُدَّعِيهَا، وَيُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَلْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْخِلْطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي، (قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ أَوْ تَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ خِلْطَةً، وَبِهِ الْعَمَلُ وَعَلَى الثَّانِي: فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمُشْبَهَةِ وَمَثَّلَ لَهَا ابْنُ الْحَاجِبِ بِدَعْوَى الدَّيْنِ فَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: احْتَرَزَ بِالدَّيْنِ مِنْ دَعْوَى الْمُعَيَّنَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ خِلْطَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ا. هـ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَقْسِيمِ الدَّعْوَى وَأَنَّ مَسْأَلَةَ النَّاظِمِ هِيَ جُزْئِيَّةٌ وَفَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الدَّعْوَى الْبَعِيدَةِ وَمِثَالُ مَنْ مَثَّلَهَا؛ لِأَنَّهَا قَاعِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَاعْلَمْ أَنْ النَّاظِمَ قَدَّمَ أَوَّلًا الْكَلَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ مَنْ حَازَ دَارًا مَثَلًا عَلَى حَاضِرٍ عَشْرَ سِنِينَ إلَى آخِرِهَا كَمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهَا أَرْبَعَ مَسَائِلَ.
(الْأُولَى) أَنْ يُثْبِتَ الْقَائِمُ أَنَّ حَوْزَ الْحَائِزِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ بِكِرَاءٍ أَوْ عُمْرَى أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (الثَّانِيَةُ) أَنْ يُثْبِتَ الْقَائِمُ الْمِلْكِيَّةَ، فَيَدَّعِي الْحَائِزُ أَنَّ الْقَائِمَ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِهِمَا (الثَّالِثَةُ) : كَذَلِكَ، وَيَدَّعِي الْحَائِزُ الشِّرَاءَ مِنْ الْقَائِمِ.
(الرَّابِعَةُ) : أَنْ يُثْبِتَ الْقَائِمُ الشِّرَاءَ مِنْ الْحَائِزِ فَادَّعَى الْحَائِزُ الْإِقَالَةَ. قَوْلُهُ:
وَالْأَجْنَبِيُّ إنْ يَحُزْ أَصْلًا بِحَقْ
إلَخْ (اعْلَمْ) أَنَّ الْحَائِزَ يَتَنَوَّعُ إلَى ثَمَانِيَةِ أَنْوَاعٍ إلَى قَرِيبٍ جِدًّا كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ وَإِلَى قَرِيبٍ دُونَ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَقْرِبَاءِ وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ، وَإِلَى كَوْنِهِ مِنْ الْأَصْهَارِ وَالْمَوْلَى وَإِلَى كَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا أَوْ لَا فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ ثُمَّ الْحَوْزُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا يَتَنَوَّعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَقْوَى أَوْجُهِ الْحِيَازَةِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالْوَطْءِ لِلْأَمَةِ وَإِمَّا بِمَا دُونَ ذَلِكَ كَالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَإِمَّا بِمَا دُونَ ذَلِكَ كَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَاعْتِمَارِ الْحَانُوتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا ضَرَبْت ثَمَانِيَةَ عِدَّةِ أَنْوَاعِ الْحَائِزِ فِي ثَلَاثَةٍ عِدَّةِ أَوْجُهِ الْحَوْزِ خَرَجَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَجْهًا ثُمَّ الْمَحُوزُ عَنْهُ يَتَنَوَّعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا إلَى كَوْنِهِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، فَإِذَا ضَرَبْت الْأَرْبَعَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ خَرَجَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ وَجْهًا تُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.
قَوْلُهُ: وَالْأَجْنَبِيّ إلَخْ يَعْنِي أَنَّ مَنْ حَازَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْأُصُولِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ كَالشِّرَاءِ وَالْإِرْثِ وَعَلَى كَوْنِ الْحَوْزِ شَرْعِيًّا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: بِحَقٍّ، وَاحْتَرَزَ بِهِ مِنْ الْحَوْزِ بِغَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى الْحَوْزِ الشَّرْعِيِّ، الْجَهْلُ بِوَجْهِ الْحَوْزِ وَبِسَبَبِهِ وَطُولِ حَوْزِهِ لِذَلِكَ كَالْعَشْرِ سِنِينَ وَمَا قَارَبَهَا كَالتِّسْعِ وَالثَّمَانِ، وَالْحَائِزُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْقَائِمِ عَلَيْهِ لَيْسَ قَرِيبًا لَهُ، وَلَا شَرِيكًا مَعَهُ وَهُوَ فِي مِلْكِ الْمُدَّةِ
(2/164)

يَتَصَرَّفُ فِي الشَّيْءِ الْمَحُوزِ بِأَوْجُهِ التَّصَرُّفَاتِ كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعِي مِلْكِيَّتِهِ، ثُمَّ قَامَ إنْسَانٌ يَدَّعِي مِلْكِيَّةَ ذَلِكَ الْمَحُوزِ.
وَالْقَائِمُ الْمَذْكُورُ حَاضِرٌ عَالِمٌ بِحَوْزِ الْحَائِزِ وَتَصَرُّفِهِ وَادِّعَاءِ مِلْكِيَّتِهِ، عَالِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ، وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا طِوَالَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا مَانِعَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ مِنْ خَوْفٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ حَجْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا الْقَائِمِ لَا تُسْمَعُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا لِبُعْدِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ الدَّعْوَى، وَيَبْقَى الْأَصْلُ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَحَائِزٌ لَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِلَى بَقَائِهِ بِيَدِهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَالتَّمَلُّكُ اُسْتُحِقَّ فِي الْقَلْشَانِيّ عَنْ الْمَازِرِيِّ: تَصِحُّ الْحِيَازَةُ بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ هِيَ: الْحَوْزُ، وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُحَازِ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَأَنْ تَطُولَ الْمُدَّةُ، وَأَنْ لَا يُنَازَعَ الْمُحَازُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عَالِمًا بَالِغًا رَشِيدًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْقِيَامِ مَانِعٌ اهـ.
إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي هُوَ الْحَوْزُ شَرْطًا وَالشَّرْطُ خَارِجٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ، وَالصَّوَابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوطَ مَا عَدَاهُ (قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) : مُجَرَّدُ الْحِيَازَةِ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ مِنْ الْمَحُوزِ عَلَيْهِ إلَى الْحَائِزِ بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، كَإِرْخَاءِ السِّتْرِ وَمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ بِسَبَبِهَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْحَائِزِ مَعَ يَمِينِهِ اهـ.
فَقَوْلُهُ وَالْأَجْنَبِيُّ إنْ يَحُزْ احْتَرَزَ بِالْأَجْنَبِيِّ مِنْ حَوْزِ الْقَرِيبِ، وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
وَالْأَقْرَبُونَ حَوْزُهُمْ مُخْتَلِفٌ
الْأَبْيَاتَ الْخَمْسَةَ، وَقَوْلُهُ: أَصْلًا احْتَرَزَ مِنْ غَيْرِ الْأُصُولِ، وَيَأْتِي لَهُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
وَفِي سِوَى الْأُصُولِ حَوْزُ النَّاسِ
الْأَبْيَاتَ الْأَرْبَعَةَ، وَقَوْلُهُ: " بِحَقٍ " يَتَعَلَّقُ بِيَحُزْ أَيْ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، وَاحْتَرَزَ بِهِ مِمَّنْ حَازَهُ بِغَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ، فَإِنَّ حَوْزَهُ كَلَا حَوْزٍ، وَقَوْلُهُ: " عَشْرَ سِنِينَ " يُرِيدُ وَمَا يُقَارِبُهَا كَالتِّسْعِ سِنِينَ وَالثَّمَانِ، وَاحْتَرَزَ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَقَوْلُهُ: مَعَ الْحُضُورِ احْتَرَزَ بِهِ مِمَّا إذَا كَانَ الْقَائِمُ الْمُدَّعِي غَائِبًا عَلَى حُجَّتِهِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، يَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
وَقَائِمٌ ذُو غَيْبَةٍ بَعِيدَهْ
الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ، وَقَوْلُهُ: عَنْ خِصَامٍ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ سَاكِتًا عَنْ خِصَامٍ فِيهِ، وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ مِمَّا إذَا كَانَ يُخَاصِمُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ حُجَّتَهُ لَا تَنْقَطِعُ، كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
وَالْمُدَّعِي إنْ أَثْبَتَ النِّزَاعَ مَعْ ... خَصِيمِهِ فِي مُدَّةِ الْحَوْزِ انْتَفَعْ
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) : بَقِيَ عَلَى النَّاظِمِ اشْتِرَاطُ تَصَرُّفِ الْحَائِزِ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا فِي ابْنِ الْحَاجِبِ: وَادِّعَاءُ الْحَائِزِ الْمِلْكِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْحَوْزَ لَا يَنْفَعُ إلَّا لِمُدَّعِيهَا وَجُهِلَ الْأَصْلُ، أَمَّا مَا عُلِمَ أَصْلُهُ فَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْحِيَازَةُ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْقَائِمِ أَنَّ الْمَحُوزَ مِلْكٌ لَهُ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) فِي تَقْسِيمِ الدَّعْوَى وَغَيْرُ مُشْبِهَةٍ عُرْفًا، كَدَعْوَى دَارٍ بِيَدِ حَائِزٍ يَتَصَرَّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَالْمُدَّعِي شَاهِدٌ سَاكِتٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ خَوْفٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ وَشُبْهَةٍ فَغَيْرُ مَسْمُوعَةٍ (التَّوْضِيحُ) إنَّمَا لَمْ تَكُنْ مُشْبِهَةً عُرْفًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يُكَذِّبُ مُدَّعِيهَا ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَفِي الْبَيَانِ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي عَشَرَةِ أَعْوَامٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلَا بُنْيَانٌ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَكُونُ حِيَازَةٌ إلَّا مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى صِفَةِ الْحَوْزِ بِقَوْلِهِ: يَتَصَرَّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُهْدَمْ مَا يُخْشَى سُقُوطُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْمِلْكَ.
قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْإِصْلَاحُ الْيَسِيرُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ يَأْمُرُ الْمُكْتَرِي بِهِ، وَفِي نَوَازِلِ الْبُيُوعِ مِنْ الْمِعْيَارِ وَفِي أَثْنَاءِ جَوَابٍ لِمُؤَلِّفِهِ سَيِّدِي أَحْمَدَ الْوَنْشَرِيسِيِّ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْحِيَازَةُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَمِيمَةِ دَعْوَى الْمِلْكِ
(2/165)

مَعَهَا، فَلَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمَحُوزِ عَنْهُ إلَى الْحَائِزِ اتِّفَاقًا فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، حَسْبَمَا صَرَّحَ بِهِ زَعِيمُ الْفُقَهَاءِ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَهُوَ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْقَرَافِيِّ لَا يَكْتَفِي مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنْ يَقُولَ هِيَ لِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ حَتَّى يَقُولَ مَالِي وَمِلْكِي اهـ.
ثُمَّ نَقَلَ فِي جَوَابٍ آخَرَ لِلْأُسْتَاذِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ لُبٍّ مَا نَصُّهُ وَشَرْطُ اعْتِبَارِ الْحِيَازَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ، اقْتِرَانُ دَعْوَى الْمَالِ وَالْمِلْكِ جَزْمًا، أَمَّا إذَا قَالَ الْوَارِثُ لَا أَعْرِفُهُ إلَّا فِي حِيَازَةِ مُوَرِّثِي، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَالُ وَالْمِلْكُ لِغَيْرِهِ فَالْحِيَازَةُ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ إذَا ثَبَتَ الْمَالُ وَالْمِلْكُ، وَكَمَلَ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْحِيَازَةِ وَالْإِعْذَارِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الِاعْتِمَادَ هُنَا مَعْلُومٌ أَصْلُهُ وَسَبَبُهُ بِالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَإِنَّمَا تَنْفَعُ الْحِيَازَةُ اتِّفَاقًا فِيمَا جُهِلَ أَصْلُهُ جُمْلَةً انْتَهَى مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ. وَفِي جَوَابٍ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ مَا نَصُّهُ: لَا تَنْفَعُ الْحِيَازَةُ فِيمَا عُلِمَ أَصْلُهُ وَتَحَقَّقَ مَدْخَلُهُ، وَتَحَقَّقَ بِوَجْهٍ لَا يَقْضِي نَقْلَ الْمِلْكِ مِنْ رِعَايَةٍ أَوْ إعْمَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إنْ جَهِلَ أَصْلَ مَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، هَلْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَمْ لَا؟ وَلَا يَعْلَمُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمُوَرِّثُ بِتِلْكَ حِيَازَةً نَافِعَةً اهـ.
ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْحَاضِرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مِلْكُهُ (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : وَإِذَا كَانَ وَارِثٌ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ قُضِيَ لَهُ اهـ.
(الثَّانِي) : طُولُ الْحَوْزِ الْعَشْرَ سِنِينَ وَنَحْوَهَا، إنَّمَا هُوَ فِي الْحَوْزِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الْمِلْكِ، أَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، كَإِتْلَافِ الشَّيْءِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ بِحِدْثَانِ وُقُوعِهِ، فَإِنَّهُ تَبْطُلُ دَعْوَاهُ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ طِبَاعُ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى مُتْلِفِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ أَثَرُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ (الثَّالِثُ) : قَالَ فِي التَّوْضِيحِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَيْ ابْنِ الْحَاجِبِ: فَغَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَى الْحَائِزِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ اهـ.
(فَرْعٌ) وَهَلْ يُطَالَبُ الْحَائِزُ بِبَيَانِ وَجْهِ مِلْكِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ لَا يُطَالَبُ بِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُطَالَبُ وَقِيلَ: إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَا يُسْأَلُ الْحَائِزُ عَنْ أَصْلِ مِلْكِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْأَصْلُ لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ وَإِقْرَارِ الْحَائِزِ سُئِلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ الْقَطَّانِ: وَلَا يُطَالَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَائِزُ مَعْرُوفًا بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِطَالَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. اهـ.
وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِرُمَّتِهَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَالْأَجْنَبِيُّ إنْ يَحُزْ أَصْلًا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ، وَإِلَيْهَا أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ حَازَ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ شَرِيكٍ وَتَصَرَّفَ ثُمَّ ادَّعَى حَاضِرٌ سَاكِتٌ، بِلَا مَانِعٍ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يُسْمَعْ، وَلَا بَيِّنَتُهُ إلَّا بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ، وَفِي الرِّسَالَةِ: مَنْ حَازَ دَارًا عَلَى حَاضِرٍ عَشْرَ سِنِينَ تُنْسَبُ إلَيْهِ وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ عَالِمٌ لَا يَدَّعِي شَيْئًا، فَلَا قِيَامَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ نَصُّ ابْنِ الْحَاجِبِ فِيهَا، ثُمَّ أَشَارَ النَّاظِمُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي فَرَّعَ عَلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ:
إلَّا إذَا أَثْبَتَ حَوْزًا بِالْكِرَا ... أَوْ مَا يُضَاهِيهِ فَلَنْ يُعْتَبَرَا
يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ سَمَاعِ دَعْوَى الْقَائِمِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَكْرَى لِلْحَائِزِ وَأَعْمَرَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَثْبَتَ الْقَائِمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ دَعْوَاهُ مَقْبُولَةٌ مَسْمُوعَةٌ، وَيُحْكَمُ بِالدَّارِ لِلْقَائِمِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْحَوْزُ حِينَئِذٍ، وَيَحْلِفُ كَمَا يَأْتِي عَنْ ابْنِ الْحَاجِب فَفَاعِلُ أَثْبَتَ لِلْمُدَّعِي الْقَائِمِ وَنَائِبُ يُعْتَبَرُ لِلْحَوْزِ (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ» .
قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَقَالَ رَبِيعَةُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ حَاضِرًا وَمَالُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَمَضَتْ عَلَيْهِ عَشْرُ سِنِينَ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَالْمَالُ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْآخَرُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَى أَوْ أَسْكَنَ أَوْ أَعَارَ عَارِيَّةً، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الشَّيْخِ خَلِيلٍ إلَّا بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ، وَفِي ابْنِ الْحَاجِبِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ دَعْوَى الْقَائِمِ لَا تُسْمَعُ مَا نَصُّهُ: وَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ إلَّا بِإِسْكَانٍ أَوْ إعْمَارٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ وَشِبْهِهِ ا. هـ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَى الْقَائِمِ لَا تُسْمَعُ وَأَمَّا بَيِّنَتُهُ، فَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ بِمِلْكِيَّةِ الْمَحُوزِ عَنْهُ لَمْ تُسْمَعْ أَيْضًا وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ، بِأَنَّهُ أَسْكَنَهُ أَوْ أَكْرَاهُ أَوْ نَحْوِهِ، فَتُقْبَلُ، ثُمَّ أَشَارَ لِلْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ:
أَوْ يَدَّعِي حُصُولَهُ تَبَرُّعًا ... مِنْ قَائِمٍ فَلْيُثْبِتَنَّ مَا ادَّعَى
أَوْ يَحْلِفُ الْقَائِمُ يَعْنِي أَنَّ الدَّارَ تَكُونُ لِلْحَائِزِ إلَّا إذَا ادَّعَى أَنَّ الْقَائِمَ وَهَبَهَا لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهَا
(2/166)

وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا ثَبَتَ مِلْكِيَّةُ الْقَائِمِ وَأَقَرَّ لَهُ بِهَا الْحَائِزُ الْمَذْكُورُ، وَادَّعَى أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إنْ أَثْبَتَ الْحَائِزُ الْهِبَةَ الْمَذْكُورَةَ صَحَّتْ لَهُ الدَّارُ، وَإِلَّا حَلَفَ الْقَائِمُ أَنَّهُ مَا وَهَبَ، وَلَا تَصَدَّقَ وَأَخَذَ الدَّارَ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَدَّعِي هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَثْبَتَ، وَفَاعِلُ يَدَّعِي الْحَائِزُ، وَضَمِيرُ (حُصُولُ) لِلشَّيْءِ الْمَحُوزِ، وَتَبَرُّعًا مَنْصُوبٌ عَلَى إسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَمِنْ (قَائِمٍ) يَتَعَلَّقُ بِتَبَرُّعًا وَفَاعِلُ فَلْيُثْبِتَنَّ ضَمِيرُ الْحَائِزِ، وَمَا مِنْ قَوْلِهِ مَا ادَّعَى وَاقِعَةٌ عَلَى التَّبَرُّعِ، وَقَوْلُهُ: وَيَحْلِفُ الْقَائِمُ، أَيْ إذَا لَمْ يُثْبِتْ الْحَائِزُ التَّبَرُّعَ الَّذِي ادَّعَى حَلَفَ الْقَائِمُ أَنَّهُ مَا تَبَرَّعَ، وَأَخَذَ الدَّارَ.
(قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) وَإِنْ قَالَ إنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ كُلِّفَ إثْبَاتَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الِاعْتِمَارِ، وَعَلَى الْقَائِمِ الْيَمِينُ اهـ.
يَعْنِي إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ الْهِبَةِ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: فِي بَابِ الْيَمِينِ:
إلَّا بِمَا عُدَّ مِنْ التَّبَرُّعِ ... مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْمُدَّعِي
فَالدَّارُ بِيَدِ الْمُدَّعِي ثُمَّ أَشَارَ لِلْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ:
فَيَحْلِفُ الْقَائِمُ وَالْيَمِينُ لَهْ ... إنْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ مُعْمَلَهْ
وَيُثْبِتُ الدَّفْعَ وَإِلَّا الطَّالِبُ ... لَهُ الْيَمِينُ وَالتَّقَضِّي لَازِبُ
يَعْنِي، أَنَّ الْحَائِزَ إذَا ادَّعَى شِرَاءَ الدَّارِ مِنْ الْقَائِمِ الَّذِي ثَبَتَتْ مِلْكِيَّتُهُ وَأَقَرَّ لَهُ بِهَا الْحَائِزُ الْمَذْكُورُ، وَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَكُونُ الدَّارُ لِلْحَائِزِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ إثْبَاتُ دَفْعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَثْبَتَهُ، فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا حَلَفَ أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ، وَحُكِمَ عَلَى الْحَائِزِ بِدَفْعِهِ، فَقَوْلُهُ: وَالْيَمِينُ لَهُ، هُوَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ، وَضَمِيرُ لَهُ، وَفَاعِلُ ادَّعَى كِلَاهُمَا يَعُودُ عَلَى الْحَائِزِ، وَلَامُ لَهُ بِمَعْنَى عَلَى، وَضَمِيرُ مِنْهُ لِلْقَائِمِ، وَمُعْمَلَهْ: خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ الْيَمِينِ مَعْمُولُ بِهَا، وَإِذَا حَلَفَ، وَاسْتَحَقَّ الدَّارَ، يَبْقَى الْكَلَامُ فِي الثَّمَنِ، أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ، وَيُثْبِتُ الدَّفْعَ الْبَيْتَ فَفَاعِلُ يُثْبِتُ لِلْحَائِزِ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، فَعَلَى الطَّالِبِ الْيَمِينُ، أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ، فَلَامُ لَهُ بِمَعْنَى عَلَى، وَالضَّمِيرُ لِلطَّالِبِ، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ حُكِمَ عَلَى الْحَائِزِ بِدَفْعِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَالتَّقَضِّي لَازِبُ، أَيْ لَازِمٌ بِالْمِيمِ.
(قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) قَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَهَا مِنْ الَّذِي يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ، وَفِي كِتَابِ الِاسْتِغْنَاءِ قَالَ الْمُشَاوِرُ: وَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ، وَإِلَّا فَيَحْلِفُ الْقَائِمُ أَنَّهُ مَا دَفَعَ لَهُ ثَمَنًا عَنْهُ، وَيُرْجَعُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، إنْ كَانَ مَا يَدَّعِيه مِنْ الثَّمَنِ يُشْبِهُ ثَمَنَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الثَّمَنُ، إلَّا إلَى الْأَمَدِ الَّذِي لَا يَبْتَاعُ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ شُيُوخِنَا فِي ذَلِكَ اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ زَادَ النَّاظِمُ بَيْتًا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالتَّقَضِّي لَازِبُ، كَأَنْ يَقُولَ
إلَّا إذَا طَالَ الزَّمَانُ أَكْثَرَا ... مِنْ الَّذِي لَهُ التَّبَايُعُ يُرَى
لَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَحْلِفَانِ مَعًا، الْحَائِزُ لَقَدْ اشْتَرَى، وَالْقَائِمُ أَنَّهُ مَا قَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ مُدَّعِيًا إقَالَهْ ... فَمَعْ يَمِينِهِ لَهُ الْمَقَالَهْ
يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْقَائِمُ أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ الْحَائِزِ لَهَا، وَأَثْبَتَ الْقَائِمُ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَادَّعَى الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْحَائِزُ لَهَا الْإِقَالَةَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: مَعَ يَمِينِهِ، فَاسْمُ يَكُنْ يَعُودُ عَلَى الْحَائِزِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَثْبُتُ الدَّفْعُ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَمَعْ، بِسُكُونِ الْعَيْنِ دَاخِلَةٌ فِي التَّقْدِيرِ، عَلَى لَهُ الْمَقَالَهْ، أَيْ فَلَهُ الْمَقَالَةُ أَيْ الْقَوْلُ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ لِمَا نَقَلَهُ الشَّارِحُ عَنْ ابْنِ الْحَاجِّ وَنَصُّهُ: وَلَوْ قَالَ: الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ، أَقَلْتُك فِيهَا بَعْدَ أَنْ بِعْتُهَا مِنْك، لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، مَعَ يَمِينِهِ، وَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ بِيَدِهِ ا. هـ.
وَهَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: أَيْضًا فِي بَابِ الْيَمِينِ:
وَفِي الْإِقَالَةِ ابْنُ عَتَّابٍ يَرَى ... وُجُوبَهَا لِشُبْهَةٍ مُعْتَبَرًا
قَوْلَهُ: وَالتِّسْعُ كَالْعَشْرِ لَدَى ابْنِ الْقَاسِمِ ... أَوْ الثَّمَانِ فِي انْقِطَاعِ الْقَائِمِ
أَشَارَ بِهِ لِقَوْلِهِ فِي الْمُقَرِّبِ قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ: يَحْيَى قُلْت: لِابْنِ الْقَاسِمِ كَمْ تَرَى طُولَ حَوْزِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَ الرَّجُلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهِ وَلَا يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ، عَمَّا فِي يَدَيْهِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تُبْنَ وَلَمْ يَغْرِسْ غَيْرَ أَنَّهُ سَكَنَ الدَّارَ وَازْدَرَعَ
(2/167)



الْأَرْضَ فَقَالَ: عَشْرُ سِنِينَ وَنَحْوُهَا، إذَا كَانَ حَاضِرًا لَا يُنْكِرُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلِابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ قَالَ: وَأَرَى تِسْعَ سِنِينَ وَثَمَانٍ وَمَا قَارَبَهَا بِمَنْزِلَةِ عَشْرِ سِنِينَ اهـ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: قَالَ: مُحَمَّدٌ: وَلِابْنِ الْقَاسِمِ إلَخْ وَقَوْلُهُ: فِي انْقِطَاعِ الْقَائِمِ، هُوَ بَيَانٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ.
(فَرْعٌ) فِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ إذَا قَامَ الرَّجُلُ بِعَقْدِ ابْتِيَاعٍ مِنْ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ أَبِيهِ قَبْلَهُ، وَتَارِيخُ الِابْتِيَاعِ قَبْلَ الْقِيَامِ بِعِشْرِينَ عَامًا فِي أَمْلَاكٍ بِيَدِ رَجُلٍ أَوْ تَصَيَّرَتْ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، فَقَالَ الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ: لِي عِشْرُونَ سَنَةً أَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْلَاكَ وَأَنْتَ حَاضِرٌ، فَلَمْ تَقُمْ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ وَثِيقَةَ ابْتِيَاعِي إلَّا الْآنَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحِيَازَةِ، فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْقَائِمِ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْقَائِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا تَرَكْتُ الْقِيَامَ فِي الْأَمْلَاكِ تَسْلِيمًا مِنِّي لَهَا، وَلَا رِضًا بِتَرْكِ حَقِّي فِيهَا إلَّا أَنِّي أَعْلَمُ بِالْعَقْدِ، وَلَمْ أَجِدْهُ، وَيَأْخُذُهَا مِنْ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَبُو الْقَائِمِ هُوَ الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ الْقَائِمُ مَا عَلِمْت بِشِرَائِي لَهَا إلَّا وَقْتَ قِيَامِي بِعَقْدِي، ثُمَّ يَأْخُذُهَا، وَلَوْ قَالَ الْقَائِمُ: إنِّي اشْتَرَيْتُهَا، ثُمَّ أَعْمَرْتُكَ إيَّاهَا أَوْ أَكْرَيْتُهَا مِنْك أَوْ أَرْفَقْتُكَ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ أَقُمْ بِهَا، لَكَانَ أَبْيَنَ فِي أَنْ يَحْلِفَ، إذَا اسْتَظْهَرَ بِوَثِيقَتِهِ، وَيَأْخُذُهَا اهـ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ: الْقَائِمُ إنِّي اشْتَرَيْتُهَا إلَخْ، هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ
إلَّا إذَا أَثْبَتَ حَوْزًا بِالْكِرَا ... أَوْ مَا يُضَاهِيهِ، فَلَنْ يُعْتَبَرَا
إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي النَّقْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْقَائِمَ، إذَا أَثْبَتَ الْكِرَاءَ أَوْ الْعُمْرَى، أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ بَيِّنَتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ بَحَثَ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ مَعَ ابْنِ الْحَاجِّ فِي هَذَا الْكَلَامِ، حَيْثُ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الشِّرَاءِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْحَوْزِ وَادِّعَاءِ الْمِلْكِيَّةِ مَعَ أَنَّ عَقْدَ الشِّرَاءِ لَا يَنْفَعُ إلَّا مَعَ الْحَوْزِ وَلَفْظُهُ فِي جَوَابٍ لَهُ الِاسْتِظْهَارُ بِأُصُولِ الْأَشْرِبَةِ وَرُسُومِهَا لَا تُعَارِضُ الْحَوْزَ.
وَلَا يُفِيدُ الْمُسْتَظْهِرُ بِهَا فَائِدَةً مُعْتَبَرَةً فِي نَظَرِ الشَّرْعِ إلَّا مَعَ اتِّصَالِ الْحَوْزِ بِهَا وَالْيَدِ الشَّاهِدَةِ لَهَا كَالْمَعْرُوفِ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ غَيْرِ الْمُفِيدِ لِلْعِلْمِ، فَكَمَا تَسْتَقِلُّ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِ حَائِزٍ، فَكَذَا لَا تَسْتَقِلُّ رُسُومُ الْأَشْرِبَةِ وَعُقُودُهَا بِالِاسْتِخْرَاجِ مِنْ يَدِ حَائِزٍ، وَلَا نُوهِنُ مَا تَحْتَ يَدٍ، إذَا كَانَ مَعَ الْيَدِ ضَمِيمَةُ دَعْوَى الْمِلْكِ فِي الْمَحُوزِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ النَّقْلِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ مِيرَاثٍ هَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَشَهِدَ لِاعْتِبَارِهِ الْمَنْصُوصُ، وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهِ أَجْوِبَةُ الْمَشَايِخِ الْأَعْلَامِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ النَّوَازِلِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَحْكَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحِيَازَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَمِيمَةِ دَعْوَى الْمِلْك مَعَهَا، فَلَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمَحُوزِ عَنْهُ إلَى الْحَائِزِ اتِّفَاقًا فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ مَا وَقَعَ فِي نَوَازِلِ الْقَاضِي الشَّهِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ سَالِمٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَخَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ وَالنُّقُولِ وَلَفْظُهُ إذَا قَامَ الرَّجُلُ بِعَقْدٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْفَرْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُدَّعِي إنْ أَثْبَتَ النِّزَاعَ مَعْ ... خَصِيمِهِ فِي مُدَّةِ الْحَوْزِ انْتَفَعْ
تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الدَّعْوَى الْمُشْبِهَةِ، أَنَّ الْقَائِمَ لَمْ يُنَازِعْ الْحَائِزَ طُولَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْحَوْزِ، فَصَرَّحَ النَّاظِمُ هُنَا إذَا نَازَعَ فِيهَا انْتَفَعَ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَنْقَطِعْ حُجَّتُهُ فَفِي مُدَّةِ الْحَوْزِ يَتَعَلَّقُ بِالنِّزَاعِ
(2/168)

وَكَذَا مَعَ خَصِيمِهِ، وَجُمْلَةُ " انْتَفَعْ " خَبَرُ الْمُدَّعِي ابْنُ عَتَّابٍ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ: فِيمَنْ أَثْبَتَ بَيِّنَةً فِي أَرْضٍ أَنَّهَا لَهُ، وَأَثْبَتَ الَّذِي بِيَدِهِ أَنَّهُ يَحُوزُهَا عَشْرَ سِنِينَ بِمَحْضَرِ الطَّالِبِ، فَأَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً، أَنَّهُ خَاصَمَهُ فِيهَا، وَطَلَبَهَا مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُخَاصِمُ وَيُطَالِبُ لَيْسَ أَنْ يُخَاصِمَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَيَتْرُكَ، نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفَعْهُ. الْمُشَاوِرُ إذَا لَمْ يَزَلْ مُتَرَدِّدًا عَلَيْهِ بِالْقِيَامِ فِي الْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ، فَلَهُ الْقِيَامُ بِحُجَّتِهِ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ
وَقَائِمٌ ذُو غَيْبَةٍ بَعِيدَهْ ... حُجَّتُهُ بَاقِيَةٌ مُفِيدَهْ
وَالْبُعْدُ كَالسَّبْعِ وَكَالثَّمَانِ ... وَفِي الَّتِي تَوَسَّطَتْ قَوْلَانِ
وَكَالْحُضُورِ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ ... بِنِسْبَةِ الرِّجَالِ لَا النِّسْوَانِ
تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِ الدَّعْوَى غَيْرَ مُشْبِهَةٍ، أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ حَاضِرًا، فَتَكَلَّم هُنَا عَلَى مَا إذَا اخْتَلَّ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَانَ وَقْتُ الْحَوْزِ عَلَيْهِ غَائِبًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ غَيْبَتَهُ إنْ كَانَتْ بَعِيدَةً، فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ، فَلَهُ الْقِيَامُ وَلَا أَثَرَ لِلْحَوْزِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْبُعْدَ بِكَوْنِهِ عَلَى سَبْعَةِ مَرَاحِلَ أَوْ ثَمَانِيَةٍ، وَالْمَرْحَلَةُ مَسِيرَةُ الْيَوْمِ وَظَاهِرُهُ وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فِي مَغِيبِهِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَهُ الْقِيَامُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً وَهِيَ الَّتِي عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَيُفَصَّلُ: فَإِنْ كَانَ الْمَحُوزُ عَنْهُ رَجُلًا، فَهُوَ كَالْحَاضِرِ لَا قِيَامَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً، فَهِيَ عَلَى حُجَّتِهَا، وَلَهَا الْقِيَامُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ كَالْحُضُورِ مَعَ الْأَمْنِ، وَأَمَّا مَعَ الْخَوْفِ فَكَالْعَبِيدِ، وَتَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَقَوْلَانِ، قِيلَ: هِيَ كَالْبَعِيدَةِ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ، وَلَهُ الْقِيَامُ، وَقِيلَ: كَالْقَرِيبَةِ، فَلَا قِيَامَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، وَذَلِكَ كَأَرْبَعَةِ مَرَاحِلَ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ، وَتَأَمَّلْتُ مَا نَقَلَهُ الشَّارِحُ هُنَا، فَلَمْ يَتَحَصَّلْ لِي مِنْهُ الْآنَ مُوَافَقَةً لِكَلَامِ النَّاظِمِ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُهُ
وَالْأَقْرَبُونَ حَوْزُهُمْ مُخْتَلِفُ ... بِحَسَبِ اعْتِمَارِهِمْ يَخْتَلِفُ
فَإِنْ يَكُنْ بِمِثْلِ سُكْنَى الدَّارِ ... وَالزَّرْعِ لِلْأَرْضِ وَالِاعْتِمَارِ
فَهُوَ بِمَا يَجُوزُ الْأَرْبَعِينَا ... وَذُو تَشَاجُرٍ كَالْأَبْعَدِينَا
وَمِثْلُهُ مَا حِيزَ بِالْعَتَاقِ ... مَا كَانَ أَوْ بِالْبَيْعِ بِاتِّفَاقِ
وَفِيهِ بِالْهَدْمِ وَبِالْبُنْيَانِ ... وَالْغَرْسِ أَوْ عَقْدِ الْكِرَا قَوْلَانِ
تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِ الدَّعْوَى غَيْرَ مُشْبِهَةٍ، كَوْنُ الْحَائِزِ أَجْنَبِيًّا، فَتَكَلَّمَ هُنَا عَلَى مَا إذَا اخْتَلَّ ذَلِكَ الشَّرْطُ، وَكَانَ الْحَائِزُ قَرِيبًا غَيْرَ أَجْنَبِيٍّ، وَقَسَّمَ الْقَرِيبَ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ حَوْزِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَإِنْ كَانَ بِأَضْعَفِ أَوْجُهِ الْحِيَازَةِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ وَاعْتِمَارِ الْحَانُوتِ، فَلَا تُقْبَلُ
(2/169)

دَعْوَى الْحَائِزِ الْمِلْكِيَّةِ لِمَا حَازَ، إلَّا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ جِدًّا، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ سَنَةً وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَالْأَقْرَبُونَ حَوْزُهُمْ مُخْتَلِف
إلَى قَوْلِهِ
فَهُوَ بِمَا يَحُوزُ الْأَرْبَعِينَا،
هَذَا، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَشَاجُرٌ، وَلَا عَدَاوَةٌ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ، فَهُمْ كَالْأَبْعَدِينَ، تَكْفِي فِي حِيَازَتِهِمْ عَشْرُ سِنِينَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَذُو تَشَاجُرٍ كَالْأَبْعَدِينَا،
وَإِنْ كَانَ الْحَوْزُ بِأَقْوَى أَوْجُهِ الْحِيَازَةِ كَالْعِتْقِ كَيْفَ كَانَ، نَاجِزًا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَالْبَيْعِ، فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ حَوْزُهُ الْعَشْرَ وَنَحْوَهَا بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ بِوَجْهٍ مُتَوَسِّطٍ كَالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَالْغَرْسِ وَعَقْدِ الْكِرَاءِ، فَقَوْلَانِ: قِيلَ: كَالْأَجَانِبِ، وَقِيلَ: كَالْأَقَارِبِ (قَالَ فِي مُنْتَقَى الْأَحْكَامِ:) إذَا حَازَ الْوَارِثُ عَلَى الْوَارِثِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ: أَقْسَامٍ: إنْ كَانَتْ حِيَازَتُهُ لَهَا بِسُكْنَى الدَّارِ وَازْدِرَاعِ الْأَرْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ حِيَازَةً، حَتَّى يَزِيدَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ بِالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَالْغَرْسِ وَعَقْدِ الْكِرَاءِ، وَقَبَضَهُ لِنَفْسِهِ بِاسْمِهِ بِحَضْرَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَعِلْمِهِمْ، فَهُوَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ وَالْحِيَازَةُ فِي ذَلِكَ عَشْرُ سِنِينَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَجَانِبِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْقَوْلَانِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا حَوْزُهُ بِالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَجَانِبِ اهـ.
فَقَوْلُهُ حَوْزُهُمْ، أَيْ مُدَّةَ حَوْزِهِمْ وَقَوْلُهُ: بِحَسَبِ اعْتِمَارِهِمْ، أَيْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْمَحُوزِ، هَلْ هُوَ قَوِيٌّ أَوْ ضَعِيفٌ أَوْ مُتَوَسِّطٌ، وَاسْمُ يَكُنْ لِلِاعْتِمَارِ وَقَوْلُهُ: فَهُوَ الِاعْتِمَارُ الْمُعْتَبَرْ بِمَا ذَكَرَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ بِمَا يَجُوزُ أَرْبَعِينَ، وَقَوْلُهُ: وَذُو، لَوْ قَالَ: ذَوُو، لَكَانَ أَنْسَبَ، وَقَوْلُهُ: وَمِثْلُهُ، أَيْ مِثْلُ الِاعْتِمَارِ وَذَوِي التَّشَاجُرِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْعَشْرِ وَنَحْوِهَا مَا حَازَهُ الْقَرِيبُ بِالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ، وَضَمِيرُ فِيهِ لِلِاعْتِمَارِ أَيْضًا، وَهُوَ خَبَرُ، قَوْلَانِ، وَبِالْهَدْمِ يَتَعَلَّقُ بِضَمِيرِ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَالْقَوْلَانِ هَلْ هُوَ كَحَوْزِ الْأَقْرِبَاءِ بِالسُّكْنَى وَنَحْوِهِ؟ أَوْ كَحَوْزِهِمْ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ؟
وَفِي سِوَى الْأُصُولِ حَوْزُ النَّاسِ ... بِالْعَامِ وَالْعَامَيْنِ فِي اللِّبَاسِ
وَمَا كَمَرْكُوبٍ فَفِيهِ لَزِمَا ... حَوْزٌ بِعَامَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا
وَفِي الْعَبِيدِ بِثَلَاثَةٍ فَمَا ... زَادَ حُصُولُ الْحَوْزِ فِيمَا اُسْتُخْدِمَا
وَالْوَطْءُ لِلْإِمَاءِ بِاتِّفَاقِ ... مَعْ عِلْمِهِ حَوْزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ
(2/170)

قَوْلُهُ: وَفِي سِوَى الْأُصُولِ، هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: " وَالْأَجْنَبِيُّ "، إنْ يَحُزْ أَصْلًا، وَمُرَادُهُ أَنَّ حَوْزَ غَيْرِ الْأُصُولِ يَخْتَلِفُ، أَيْ الْمُدَّةُ الَّتِي يَصْدُقُ مَعَهَا الْحَائِزُ، وَتَصِيرُ دَعْوَى الْمُدَّعِي غَيْرَ مُشْبِهَةٍ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ، تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمَحُوزِ، فَالْمَحُوزِ فِي اللِّبَاسِ بِالْعَامِ وَالْعَامَيْنِ، وَفِي الْمَرْكُوبِ بِالْعَامَيْنِ، فَأَكْثَرَ، وَفِي الْعَبِيدِ بِثَلَاثِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، وَالْأَمَةُ لِلْخِدْمَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ وَطِئَهَا الْحَائِزُ، وَعَلِمَ رَبُّهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا كَلَامَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ بَطَلَ، وَذَلِكَ حَوْزٌ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : قَالَ: أَصْبَغُ وَنَرَاهُ، أَيْ الْحَوْزَ فِي غَيْرِ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالْأُصُولِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَبِيدِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَقْصَرُ مُدَّةٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِهِ، فَنَرَى فِي الثِّيَابِ، أَنَّ حِيَازَتَهَا السَّنَةُ وَالسَّنَتَانِ إذَا كَانَتْ تُحَازُ عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ بِعِلْمِ صَاحِبِهَا وَنَرَى الْأَمَةَ شِبْهَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَطَأَ بِعِلْمِ صَاحِبِهَا فَلَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِوَطْئِهَا، فَلَا كَلَامَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَطُلْ حِيَازَتُهُ لَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ، وَنَرَى الْعَبِيدَ وَالْعُرُوضَ فَوْقَ ذَلِكَ شَيْئًا إذَا حَازَ بِالْمِلْكِ وَأَسْبَابِهِ (وَفِي الْمُفِيدِ) قَالَ: أَصْبَغُ، وَأَمَّا الثِّيَابُ، فَالْحِيَازَةُ فِيهَا بِوَجْهِ الْمِلْكِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ حَاضِرٍ عَالِمٍ بِذَلِكَ، الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ، وَفِي الدَّابَّةِ الْعَامَانِ وَالثَّلَاثَةُ بِالرُّكُوبِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَهَا بِوَجْهِ الْمِلْكِ وَعِلْمِ الْمَحُوزِ عَلَيْهِ وَالْأَمَةُ مِثْلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ رَبُّهَا وَطْأَهَا وَلَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا كَلَامَ لَهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طُولَ حِيَازَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْعَبِيدُ وَالْعُرُوضُ فَوْقَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ اهـ.
وَحَوْزُ النَّاسِ: مُبْتَدَأٌ وَمُضَافٌ إلَيْهِ، وَبِالْعَامِ خَبَرُهُ، وَفِي اللِّبَاسِ يَتَعَلَّقُ بِحَوْزٍ، وَحُصُولُ الْحَوْزِ: مُبْتَدَأٌ وَمُضَافٌ إلَيْهِ وَفِي الْعَبِيدِ: يَتَعَلَّقُ بِحَوْزٍ وَبِثَلَاثَةٍ: خَبَرُ حُصُولٍ، وَفِيمَا اُسْتُخْدِمَ: بَدَلٌ مِنْ الْعَبِيدِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، أَيْ فِيمَا اُسْتُخْدِمَ مِنْهُمْ لَا فِيمَا هُوَ لِلْوَطْءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَالْوَطْءُ لِلْإِمَاءِ إلَخْ، وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ قَامَ رَبُّهَا بِالْقُرْبِ أَوْ بَعْدَ طُولٍ
وَالْمَاءُ لِلْأَعْلَيْنَ فِيمَا قَدُمَا ... وَالْأَسْفَلُ الْأَقْدَمُ فِيمَا قُدِّمَا
يَعْنِي أَنَّ الْمَاءَ غَيْرَ الْمَمْلُوكِ، إذَا كَانَ يَجْرِي فِي أَرْضِ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ دُونَهُمْ، فَإِنَّ الْأَعْلَى، وَهُوَ مَنْ يَدْخُلُ الْمَاءُ أَرْضَهُ أَوَّلًا، مُقَدَّمٌ فِي السَّقْيِ عَلَى الْأَسْفَلِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَعْلَى أَقْدَمَ مِنْ الْأَسْفَلِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِالشَّطْرِ الْأَوَّلِ وَكَذَا إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، فَيُقَدَّمُ الْأَعْلَى فِي الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَسْفَلُ أَقْدَمَ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي السَّقْيِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِالشَّطْرِ الثَّانِي (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) : فَأَمَّا مَهْزُورٌ وَمُذَيْنِيبٌ، فَوَادِيَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ يَسِيلَانِ بِالْمَطَرِ تَنَافَسَ فِيهِمَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ «، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُمْسِكَ الْأَعْلَى لِلْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلَ عَلَى الْأَسْفَلِ» .
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَاءٍ غَيْرِ مُتَمَلَّكٍ يَجْرِي مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ دُونَهُمْ، أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْمَاءُ أَرْضَهُ أَوَّلًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِالسَّقْيِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ فِي أَرْضِهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ، هَلْ يُرْسِلُ جَمِيعَ الْمَاءِ إلَى أَسْفَلَ، أَوْ لَا يُرْسِلُ عَلَيْهِ إلَّا مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ؟ فَقَالَ: مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ يُرْسِلُ عَلَى الْأَسْفَلِ مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ وَقَالَ: ابْنُ الْقَاسِمِ يُرْسِلُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَلَا يَحْبِسُ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ يُسْقَى الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، وَهَذَا إذَا كَانَ إحْيَاؤُهُمْ مَعًا أَوْ إحْيَاءُ الْأَعْلَى قَبْلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنْ أَحْيَا رَجُلٌ بِمَاءِ سَيْلٍ، ثُمَّ أَتَى غَيْرُهُ، فَأَحْيَا فَوْقَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْمَاءِ، وَيَسْقِيَ قَبْلَ الْأَسْفَلِ الَّذِي أَحْيَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عَمَلَ الثَّانِي، وَيُتْلِفُ زَرْعَهُ فَقَالَ سَحْنُونٌ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِالْمَاءِ اهـ. عَلَى نَقْلِ الْمَوَّاق، وَقَدُمَ آخِرُ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ مِنْ الْقِدَمِ، ضِدُّ الْحُدُوثِ وَفِي آخِرِ الشَّطْرِ الثَّانِي، بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ التَّقْدِيمِ ضِدٌّ لِلتَّأْخِيرِ
وَمَا رَمَى الْبَحْرُ بِهِ مِنْ عَنْبَرِ ... وَلُؤْلُؤٍ وَاجِدُهُ بِهِ حَرِيّ
يَعْنِي، أَنَّ مَنْ وَجَدَ شَيْئًا، لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ كَمَنْ وَجَدَ عَنْبَرًا لَفَظَهُ الْبَحْرُ أَوْ لُؤْلُؤًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ
(2/171)

يَكُونُ لِوَاجِدِهِ (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) : وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ مِنْ عَنْبَرٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ، فَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ، وَلَا نَظَرَ فِيهِ لِلْإِمَامِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ زَكَاةٌ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ. ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْخَرَزِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اهـ.

[فَصْلٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ]
ِ (ابْنُ عَرَفَةَ) الِاسْتِحْقَاقُ رَفْعُ مِلْكِ شَيْءٍ بِثُبُوتِ مِلْكٍ قَبْلَهُ أَوْ حُرِّيَّةٍ، كَذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ قَوْلُهُ: قَبْلَهُ أَخْرَجَ بِهِ رَفْعَ الْمِلْكِ بِمِلْكٍ بَعْدَهُ كَالْبَيْعِ أَوْ مَعَهُ كَطُرُوِّ وَارِثٍ عَلَى وَارِثٍ وَقَوْلُهُ: أَوْ حُرِّيَّةٍ عَطْفٌ عَلَى مِلْكٍ يَعْنِي أَوْ رَفْعُ مِلْكٍ بِحُرِّيَّةٍ وَقَوْلُهُ كَذَلِكَ، يَعْنِي بِثُبُوتِ حُرِّيَّةٍ قَبْلَهُ وَأَشَارَ بِهِ إلَى حُصُولِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْحُرِّيَّةِ وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ أَخْرَجَ بِهِ مَا وُجِدَ فِي الْمَغَانِمِ بَعْدَ بَيْعِهِ أَوْ قَسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ إلَّا بِالثَّمَنِ، فَلَوْلَا زِيَادَةُ هَذَا الْقَيْدِ، لَكَانَ الْحَدُّ غَيْرَ مُطَّرِدٍ، ثُمَّ قَالَ: فَيُخْرِجُ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ مِلْكِ شَيْءٍ لَكِنْ لَا بِثُبُوتِ مِلْكٍ قَبْلَهُ ثُمَّ قَالَ وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْحَدَّ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ إذَا اُسْتُحِقَّ مِلْكٌ بِحَبْسٍ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَرْتَفِعُ بِالْحَبْسِ.
(قُلْت) : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحَبْسَ إذَا ثَبَتَ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ إمَّا لِلْمُحَبِّسِ أَوْ لِلْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ وَتَأَمَّلْ إذَا اسْتَحَقَّ حُرٌّ بِمِلْكٍ، كَيْفَ تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي كَلَامِهِ؟ مِنْ الرَّصَّاعِ بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ وَقَوْلُهُ: وَتَأَمَّلْ إذَا اسْتَحَقَّ إلَخْ هِيَ عَكْسُ صُورَةِ قَوْلِهِ: فِي الْحَدِّ أَوْ حُرِّيَّةٍ، كَذَلِكَ.
الْمُدَّعِي اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ يُلْزَمُ ... بَيِّنَةً مُثْبِتَةً مَا يَزْعُمُ
مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ لِمَنْ تَمَلَّكَهْ ... مِنْ قَبْلِ ذَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَّكَهْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ بِيَدِ غَيْرِهِ أَيْ مِلْكِيَّته، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ تُثْبِتُ لَهُ مَا ادَّعَى، وَلَا يُكَلَّفُ مَنْ الشَّيْءُ بِيَدِهِ مُدَّعِيًا مِلْكِيَّتَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ مُلِّكَهُ، وَعَبَّرَ بِشَيْءٍ لِيَشْمَلَ الْأُصُولَ وَالْعُرُوضَ وَالْحَيَوَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
(قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) : وَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ بِيَدِ غَيْرِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، فَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ أَيْنَ صَارَ لَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَمَلَّكَهُ وَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ تَمَلُّكِهِ لَهُ اهـ. وَالْإِشَارَةُ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي بِذَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَبِأَيِّ يَتَعَلَّقُ بِتَكْلِيفٍ (قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) : الَّذِي مَضَى بِهِ الْعَمَلُ، وَأَفْتَى بِهِ شُيُوخُنَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَقَارًا بِيَدِ غَيْرِهِ زَعَمَ أَنَّهُ صَارَ عَمَّنْ وَرِثَهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى يُثْبِتَ الطَّالِبُ مَوْتَ مُوَرِّثِهِ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ عَنْهُ وَوِرَاثَتُهُ لَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَقَفَ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُسْأَلْ مِنْ أَيْنَ صَارَ لَهُ فَإِنْ أَنْكَرَ.
وَقَالَ الْمَالِكُ: مَالِي وَالْمِلْكُ مِلْكِي وَدَعْوَاكَ فِيهِ بَاطِلَةٌ اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَكُلِّفَ الطَّالِبُ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ وَرِثَهُ عَنْهُ، وَمَوْتَهُ وَوِرَاثَتَهُ لَهُ، فَإِنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَجِبُ سُئِلَ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ مِنْ أَيْنَ صَارَ لَهُ، وَكُلِّفَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ صَارَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مَوْرُوثِ الطَّالِبِ الَّذِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ إثْبَاتُهُ، وَإِنْ أَثْبَتَهُ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ صَارَ مِنْ قِبَلِ مَوْرُوثِ الطَّالِبِ بِوَجْهٍ يَذْكُرُهُ كُلِّفَ إثْبَاتَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَثْبَتَهُ وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَنْ الدَّفْعِ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ ذَلِكَ قُضِيَ لِلطَّالِبِ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ أَحْفَظُهُ، وَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْعَطَّارِ مِنْ أَنَّ الْفَتْوَى مَضَتْ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يَلْزَمُهُ ابْتِدَاءً قَبْلَ إثْبَاتِ الْمُدَّعِي الْمِلْكَ لِمَوْرُوثِهِ الْجَوَابُ، هَلْ صَارَ إلَيْهِ بِسَبَبِهِ أَوْ بِسَبَبِ مَوْرُوثِهِ الَّذِي أَثْبَتَ مَوْتَهُ وَوِرَاثَتَهُ لَهُ؟ بَعِيدٌ لَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ سَلْمُونٍ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم إنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ الْحَائِزِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَحِقِّ أُصُولٌ، أَمَّا إنْ كَانَتْ بِيَدِهِ الْأُصُولُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ وَانْتِقَالِهَا، وَحِكَايَاتِهَا، فَإِنَّ مَا بِيَدِ الْحَائِزِ مُقَدَّمٌ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرَاجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ: أَنَّ الْحَوْزَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّرَاجِيحُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَيُفَضَّلُ لِلْحَائِزِ الْحَوْزُ.
قَالَ الْحَطَّابُ أَوَّلَ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ:
(2/172)

لَمْ يُبَيِّنْ الْمُؤَلِّفُ يَعْنِي الشَّيْخَ خَلِيلًا حَقِيقَتَهُ وَلَا حُكْمَهُ وَسَبَبَهُ وَشُرُوطَهُ وَمَوَانِعَهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ، وَهُوَ مِنْ تَرَاجِمَ كَتَبَهَا، أَمَّا حَقِيقَتُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ، هُوَ رَفْعُ مِلْكِ شَيْءٍ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ التَّرْجَمَةِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: حُكْمُهُ الْوُجُوبُ عِنْدَ تَيَسُّرِ أَسْبَابِهِ فِي الرَّفْعِ عَلَى الْقَوْلِ بَعْدَ يَمِينٍ مُسْتَحَقَّةٍ، وَعَلَى الْيَمِينِ هُوَ مُبَاحٌ كَغَيْرِ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ مَشَقَّةٌ، وَأَمَّا سَبَبُهُ، فَهُوَ قِيَامُ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَيْنِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي، لَا يَعْلَمُونَ خُرُوجَهُ، وَلَا خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى الْآنَ، وَالشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِ، ابْنِ الْقَاسِمِ الْمَعْمُولِ بِهِ، قَالَهُ فِي اللُّبَابِ.
وَأَمَّا شُرُوطُهُ فَثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الشَّهَادَةُ عَلَى عَيْنِهِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَبِحِيَازَتِهِ، وَهِيَ أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي عَدْلَيْنِ وَقِيلَ أَوْ عَدْلًا مَعَ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْمِلْكِيَّةِ فَإِذَا كَانَتْ دَارًا مَثَلًا، قَالُوا: لَهُمَا هَذِهِ الدَّارُ هِيَ الَّتِي شَهِدْنَا بِهَا عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ، الشَّهَادَةَ الْمُقَيَّدَةَ أَعْلَاهُ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ، وَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَجُوزُ عَلَى النَّعْتِ وَالِاسْمِ وَقَالَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ آخِرَ بَابِ الْقَضَاءِ، وَحَكَمَ بِمَا يَتَمَيَّزُ غَائِبًا بِالصِّفَةِ.
الثَّانِي: الْإِعْذَارُ فِي ذَلِكَ لِلْحَائِزِ، فَإِنْ ادَّعَى مَدْفَعًا أَجَّلَهُ فِيهِ بِحَسَبِ، مَا يَرَاهُ. الثَّالِثُ: يَمِينُ الِاسْتِبْرَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي لُزُومِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: لَا يَحْلِفُ فِي الْعَقَارِ، وَيَحْلِفُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ، وَفِي سِجِلَّاتِ الْبَاجِيِّ لَوْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ مِنْ يَدِ غَاصِبٍ لَمْ يَحْلِفْ (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) : وَلَا يَمِينَ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ خَصْمُهُ مَا يُوجِبُهَا، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ اهـ.
وَأَمَّا مَوَانِعُهُ فَفِعْلٌ وَسُكُوتٌ، فَالْفِعْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ يَدِ حَائِزِهِ، فَلَوْ قَالَ: إنَّمَا اشْتَرَيْتُهُ خَوْفَ أَنْ يَغِيبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَثْبَتَهُ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ وَقَالَ أَصْبَغُ إلَّا أَنْ تَكُونَ بَيِّنَتُهُ بَعِيدَةً جِدًّا أَوْ يُشْهِدَ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهُ لِذَلِكَ، فَذَلِكَ يَنْفَعُهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ، وَهُوَ يَرَى أَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً، فَلَهُ الْقِيَامُ وَأَخْذُ الثَّمَنِ مِنْهُ، قَالَ أَصْبَغُ وَالْقَوْلُ: قَوْلُهُ، وَأَمَّا السُّكُوتُ فَمِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِيَامَ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ أَمَدَ الْحِيَازَةِ. قَالَهُ فِي اللُّبَابِ اهـ
وَلَا يَمِينَ فِي أُصُولِ مَا اُسْتُحِقَّ ... وَفِي سِوَاهَا قَبْلَ الْإِعْذَارِ يَحِقْ
وَحَيْثُمَا يَقُولُ مَا لِي مَدْفَعُ ... فَهْوَ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنْهُ يَرْجِعُ
وَإِنْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ أُجِّلَا ... فَإِنْ أَتَى بِمَا يُفِيدُ أُعْمِلَا
وَمَا لَهُ فِي عَجْزِهِ رُجُوعُ ... عَلَى الَّذِي كَانَ لَهُ الْمَبِيعُ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا، وَشَهِدَتْ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ بَيِّنَةٌ، فَإِنَّهُ، إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَقُّ أَصْلًا مِنْ الْأُصُولِ كَالدَّارِ وَالْحَانُوتِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَصْلٍ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا بَاعَهُ وَلَا وَهَبَهُ وَلَا فَوَّتَهُ وَلَا فُوِّتَ عَلَيْهِ، وَمَا زَالَ عَلَى مِلْكِهِ إلَى الْآنَ؛ لَأَنْ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا شَهِدَتْ عَلَى الْعِلْمِ، فَيَحْلِفُ هُوَ عَلَى الْبَيْتِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ قَبْلَ الْإِعْذَارِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّ الْإِعْذَارَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الثُّبُوتِ، وَكَمَالُ الثُّبُوتِ هُوَ بِحَلِفِهِ قَالَ فِي الْمَنْهَجِ السَّالِكِ:.
وَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالِاسْتِحْقَاقِ إلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ لِلْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَنْ الْحَطَّابِ أَنَّ فِي يَمِينِ الِاسْتِحْقَاقِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: تَجِبُ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ، وَلَا تَجِبُ فِي الْأُصُولِ وَإِنَّ بِهَذَا الْقَوْلِ الْعَمَلَ (وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ)
(2/173)

مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَأَخَذَ بِهِ الشُّيُوخُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَمِينَ عَلَى مَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ الرَّيْعِ وَالْأُصُولِ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّفَقُوا فِي غَيْرِ الْأُصُولِ بِأَنَّهُ لَا يُقْضَى لِمُسْتَحِقٍّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْلِفَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَحَيْثُمَا يَقُولُ: مَا لِي مَدْفَعٌ
الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةَ إلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ وَلَا يُنَازِعَ فِيهِ، وَلَا يَدَّعِي فِيهِ مَدْفَعًا، وَحِينَئِذٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الَّذِي بَاعَ لَهُ بِمَا دَفَعَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ، وَيَدَّعِي أَنَّ لَهُ مَدْفَعًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ الْمَذْكُورِ.
وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلَهُ لِثُبُوتِ مَا ادَّعَى مِنْ الْمَدْفَعِ، فَإِنْ انْقَضَى الْأَجَلُ، وَأَتَى بِالْمَدْفَعِ الَّذِي يُبْطِلُ الِاسْتِحْقَاقَ بَقِيَ شَيْؤُهُ بِيَدِهِ، وَلَا إشْكَالَ إنْ عَجَزَ عَنْهُ، أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ شَيْأَهُ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدِهِ عَلَى الْبَائِعِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ بِدَعْوَاهُ الدَّفْعَ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَمُقِرٌّ بِصِحَّةِ مِلْكِ الْبَائِعِ لَهُ، وَأَنَّ الْقَائِمَ عَلَيْهِ ظَالِمٌ لَهُ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِمَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ؟ ، وَكَذِبَ شُهُودِهِ (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : فَإِنْ ادَّعَى مَدْفَعًا، أَجَّلَهُ فِي ذَلِكَ مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي التَّأْجِيلِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِمَدْفَعٍ حَكَمَ بَعْدَ يَمِينِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ قِيَامٌ بَعْدَ ادِّعَائِهِ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنْهُ إذْ قِيَامُهُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي شَهِدَتْ، فَإِذَا كَذَّبَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يَجِبْ لَهُ بِهَا قِيَامٌ، وَإِنْ قَالَ لَا مَدْفَعَ عِنْدِي إلَّا أَنِّي أُرِيدُ الرُّجُوعَ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنِّي، عُقِدَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالِهِ، وَاسْتُحْلِفَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا عَلَى مَا وَيُقْضَى لَهُ بِهَا اهـ.
وَالْأَصْلُ لَا تَوْقِيفَ فِيهِ إلَّا ... مَعْ شُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ تَجَلَّى
وَفِي سِوَى الْأَصْلِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي ... بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمَوْضِعِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ شَيْءٍ بِيَدِ غَيْرِهِ، وَطَلَبَ أَنْ يُوقَفَ لَهُ، وَأَنْ تُرْفَعَ يَدُ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عَنْهُ إلَى أَنْ يُقِيمَ هُوَ بَيِّنَةً، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَوْقِيفًا، وَحَيْلُولَةً، فَإِنَّهُ لَا يُجَابُ لِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، بَلْ لَا يُوقَفُ لَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَجْمَلَ فِي الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ اعْتِمَادًا مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَا قَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ التَّوْقِيفَ، أَنَّ التَّوْقِيفَ فِي الْأُصُولِ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا أَنْ يَشْهَدَ بِمِلْكِيَّةِ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عَدْلَانِ، وَبَقِيَ لِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ الْإِعْذَارُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلٌ وَاحِدٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ يُنْظَرُ فِي تَزْكِيَتِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوقَفُ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَائِدَةُ الْأَصْلِ، لَا الْأَصْلُ نَفْسُهُ، فَلَا يُوقَفُ بِهِ بِخِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ بِهِمَا الْأَصْلُ نَفْسُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَصْدُقُ كَلَامُ النَّاظِمِ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ حَاصِلٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّوْقِيفُ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ يَكُونُ بِدَعْوَى بَيِّنَةٍ حَاضِرَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ:
وَمُدَّعِي كَالْعَبْدِ وَالنِّشْدَانِ
إلَى أَنْ قَالَ:
حَيْثُ ادَّعَى بَيِّنَةً حُضُورَا
وَأَشَارَ لَهُ هُنَا بِالْبَيْتِ الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَرَاجِعْهُ، ثَمَّةَ.
وَقَوْلُهُ تَجَلَّى: هُوَ عَلَى حَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ أَصْلُهُ تَتَجَلَّى وَجُمْلَةُ تَجَلَّى: أَيْ تَظْهَرُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِشُبْهَةٍ، وَقَوْلُهُ: بِدَعْوَى الْمُدَّعِي: يَتَعَلَّقُ بِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ تُوقَفَ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَمَا لَهُ عَيْنٌ عَلَيْهَا يُشْهَدُ ... مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ عُرُوضٍ تُوجَدُ
يَعْنِي أَنَّ الشَّيْءَ الْمُسْتَحَقَّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، بَلْ مِمَّا يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ لِآخَرَ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِسُهُولَةِ إحْضَارِهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْأُصُولُ، فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْحِيَازَةِ
(2/174)

عَنْ إحْضَارِهَا لِتَعَذُّرِهِ، كَمَا يَقُولُهُ قَرِيبًا فَقَوْلُهُ: عَيْنٌ: أَيْ ذَاتٌ، وَكَأَنَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى حَذْفِ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ أَيْ ذَاتٍ تُنْقَلُ بِدَلِيلِ تَمْثِيلِهِ بِالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَمُقَابَلَتِهِ بِالْأَصْلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ قَالَ: ابْنُ الْحَاجِّ فِي نَوَازِلِهِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ابْتَاعَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَادَّعَاهُ، وَأَتَى بِكِتَابٍ بَدَلِهِ، وَقَدْ فَاتَ الْكِتَابُ فَقَالَ: لَا يُتَوَجَّهُ الْحُكْمُ لِمُسْتَحِقِّ الشَّيْءِ إلَّا بَعْدَ شَهَادَةِ الْعُدُولِ، عَلَى عَيْنِهِ، وَالْإِعْذَارِ إلَى الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ دُونَ تَعْيِينِ الْمَشْهُودِ فِيهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِرْعَاءُ، وَالْيَمِينُ أَعْذَرَ إلَى الَّذِي أُلْفِيَ ذَلِكَ بِيَدِهِ، فَإِنْ ادَّعَى مَدْفَعًا أَجَّلَهُ، ثُمَّ لَا رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنْهُ، إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ مَا ثَبَتَ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ مَدْفَعًا، وَذَهَبَ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.
وَيُكْتَفَى فِي حَوْزِ الْأَصْلِ الْمُسْتَحَقّْ ... بِوَاحِدٍ عَدْلٍ وَالِاثْنَانِ أَحَقْ
يَعْنِي أَنَّ الشَّيْءَ الْمُسْتَحَقَّ إنْ كَانَ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ يَشْهَدُونَ عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْقَلُ، وَهُوَ الْأُصُولُ كَالدَّارِ، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ حَوْزَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّ كَافٍ عَنْ حُضُورِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتَعَذُّرِهِ عَقْلًا، وَذَهَابُ الْقَاضِي إلَيْهَا؛ لِيَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهَا بِمَحْضَرِهِ مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا عَادَةً؛ لِشُغْلِ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ، وَبُعْدِ مَوَاضِعِهَا غَالِبًا فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ، فَجُعِلَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَدْلَيْنِ، تُحَازُ بِمَحْضَرِهِمَا، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ وَالِاثْنَانِ أَوْلَى، يَتَنَزَّلُ ذَلِكَ النَّائِبُ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ مَنْزِلَةَ الْقَاضِي، وَكَأَنَّ هَذَا الْأَصْلُ شُهِدَ عَلَى عَيْنِهِ بِمَحْضَرِ الْقَاضِي، وَإِلَى اسْتِنَابَةِ الْقَاضِي مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الشَّهَادَةِ بِمَحْضَرِهِ عَلَى عَيْنِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، أَشَارَ النَّاظِمُ بِالْبَيْتِ، إلَّا أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُوزُ عَنْهُ، وَيَكْفِي الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَوْلَى. وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ إذَا
شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمِلْكِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّ لِلدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ مَثَلًا، وَاسْتِمْرَارِهَا أَنَّ الْقَاضِي يُوَجِّهُ عَدْلَيْنِ يَحُوزَانِ الدَّارَ الْمَذْكُورَةَ، إمَّا اللَّذَيْنِ شَهِدَا بِمِلْكِيَّتِهَا أَوْ غَيْرُهُمَا، وَعَدْلَيْنِ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ عَلَى الْقَاضِي بِأَمْرَيْنِ: بِصِحَّةِ رَسْمِ ثُبُوتِ الْمَكْلِيَّةِ، وَبِتَوْجِيهِ الْعَدْلَيْنِ لِلْحِيَازَةِ، وَعَلَى عَدْلَيْ الْحِيَازَةِ بِالْحِيَازَةِ إذْ لَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْمُوَجَّهَانِ لِلْحِيَازَةِ هُمَا اللَّذَانِ شَهِدَا بِالْمِلْكِيَّةِ لِلْمُسْتَحِقِّ، فَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ، اثْنَانِ شَهِدَا بِالْمِلْكِ وَحَازَا، وَاثْنَانِ شَهِدَا عَلَيْهِمَا بِالْحَوْزِ، وَعَلَى الْقَاضِي بِصِحَّةِ رَسْمِ الْمِلْكِيَّةِ، وَتَوْجِيهِ الْحَائِزَيْنِ لِلْحِيَازَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُوَجَّهَانِ لِلْحِيَازَةِ غَيْرَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا بِالْمِلْكِيَّةِ، فَالْمَجْمُوعُ سِتَّةٌ: اثْنَانِ شَهِدَا بِالْمِلْكِيَّةِ وَاثْنَانِ وُجِّهَا لِلْحِيَازَةِ فَحَازَا وَاثْنَانِ شَهِدَا عَلَى الْحَائِزَيْنِ بِالْحِيَازَةِ، فَإِذَا حَازَ الشَّاهِدَانِ الدَّارَ الْمَذْكُورَةَ، وَتَطَوَّفَا عَلَيْهِمَا، فَيَقُولَانِ لِلْعَدْلَيْنِ الْمُوَجَّهَيْنِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا: بِالْحَوْزِ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي حُزْنَاهَا، هِيَ الَّتِي شَهِدْنَا بِمِلْكِهَا لِفُلَانٍ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ، هَذَا إنْ كَانَ الْحَائِرَانِ، هُمَا اللَّذَانِ شَهِدَا بِالْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا، فَيَقُولُ الْحَائِزَانِ لِلْمُوَجَّهَيْنِ لِلشَّهَادَةِ بِالْحِيَازَةِ: هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي حُزْنَاهَا هِيَ الَّتِي شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى بِمِلْكِهَا لِفُلَانٍ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ، (قَالَ فِي أَقْضِيَةِ الْمُتَيْطِيَّةِ) : إذَا ثَبَتَتْ الْحِيَازَةُ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْمُوَجَّهَيْنِ لِحُضُورِهَا، أَعْذَرَ لِلْمَطْلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَصْلِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُعْذِرُ إلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِيَازَةِ أَمْ لَا، وَبِتَرْكِ الْإِعْذَارِ فِيهَا جَرَى الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ حِيَازَةَ الشُّهُودِ لِلْمِلْكِ وَتَعْيِينَهُمْ إيَّاهُ إنَّمَا وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي نَفْسُهُ حَسْبَمَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُعَيِّنُهُ الشُّهُودُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ كُلِّهَا إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَمَّا تَعَذَّرَ حُضُورُهُ حِيَازَةَ الْأَمْلَاكِ لِشُغْلِهِ عَنْهُ، وَبُعْدِ أَكْثَرِهَا مِنْهُ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ اسْتَنَابَ مَكَانَ نَفْسِهِ عَدْلَيْنِ؛ لِيُعَيِّنَ ذَلِكَ لَهُمَا حَسْبَمَا كَانَ يُعَيِّنُ لَهُ، وَإِنْ اجْتَزَأَ بِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ وَالْوَاحِدُ
(2/175)

وَالِاثْنَانِ إنَّمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ، فَتَرْكُ الْإِعْذَار فِيهِمَا أَوْلَى، كَمَا لَا يُعْذِرُ فِي نَفْسِهِ اهـ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ حِيَازَةَ الشُّهُودِ إلَخْ. وَرَاجِعْ شِفَاءَ الْغَلِيلِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ آخِرَ النَّفَقَاتِ، ثُمَّ بَيِّنَةٌ بِالْحِيَازَةِ قَائِلَةٌ هَذَا الَّذِي حُزْنَاهُ إلَخْ. وَرَاجِعْ مَجَالِسَ الْقَاضِي الْمِكْنَاسِيِّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي خَتَمَ بِهَا كِتَابَهُ. (وَفِي نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ) لَا إعْذَارَ فِي شُهُودِ الْحِيَازَةِ؛ لِأَنَّهُمَا نَائِبَانِ عَنْ الْقَاضِي وَإِنْ وَجَّهَ شَاهِدًا وَاحِدًا لِذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَالِاثْنَانِ أَوْلَى. اهـ. وَتَقَدَّمَ لِلنَّاظِمِ فِي فَصْلِ الْإِعْذَارِ فِيمَنْ لَا يُعْذَرُ فِيهِ
وَلَا الَّذِي وَجَّهَهُ الْقَاضِي إلَى ... مَا كَانَ كَالتَّحْلِيفِ مِنْهُ بَدَلَا.
وَنَابَ عَنْ حِيَازَةِ الشُّهُودِ ... تَوَافُقُ الْخَصْمَيْنِ فِي الْحُدُودِ
يَعْنِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَاضِي لِعَدْلَيْنِ يَحُوزَانِ الْأَصْلَ الْمُسْتَحَقَّ إنَّمَا مَحَلُّهُ مَا اخْتَلَفَ الْخَصْمَانِ فِي حُدُودِهِ، أَمَّا مَا اتَّفَقَا عَلَى حُدُودِهِ كَدُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي الدَّارُ بِهَا مُلَاصِقَةٌ لِلْأُخْرَى، فَلَا يَقَعُ غَالِبًا اخْتِلَافٌ فِي حُدُودِهَا، فَلَا يُحْتَاجُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا إلَى حِيَازَةٍ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : قَالَ مُحَمَّدٌ: الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ بِفُتْيَا مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَشْيَاخِنَا، أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ حَتَّى يَحُوزَا مَا شَهِدَا فِيهِ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الْخَصْمَانِ عَلَى صِفَةِ الْأَرْضِ وَحُدُودِهَا أَوْ الدَّارِ، وَيُقِرُّ الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ بِيَدِهِ، فَتَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْحِيَازَةُ، وَلَا يُكَلَّفُ الْقَائِمُ إثْبَاتَ الْحِيَازَةِ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الشُّهُودُ. .
وَوَاجِبٌ إعْمَالُهَا، إنْ الْحَكَمْ ... بِقِسْمَةٍ عَلَى الْمَحَاجِيرِ حَكَمْ
يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ إعْمَالُ الْحِيَازَةِ إنْ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِالْقِسْمَةِ عَلَى الْمَحَاجِيرِ، فَلَا يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ حِيَازَةُ مَوْرُوثِهِمْ، لِمَا يُرَادُ قَسْمُهُ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا سَأَلَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ، أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ دَارًا وَرِثُوهَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِقَسْمِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ كَانَ لِلْمَالِكِ مِلْكًا لَهُ وَمَالًا، حَتَّى هَلَكَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْهَالِكَ كَانَ سَاكِنًا فِي تِلْكَ الدَّارِ إنْ كَانَتْ دَارًا، كَمَا يَسْكُنُ الرَّجُلُ فِي دَارِ نَفْسِهِ، حَتَّى هَلَكَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَرْيَةً، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِقَسْمِهَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَأْتُوهُ بِحَوْزِ مَا كَانَ لِلْهَالِكِ مِنْهَا وَصِفَتِهِ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ يَعْرِفُونَهُ مِلْكًا لِلْهَالِكِ أَوْ فِي يَدَيْهِ وَعِمَارَتِهِ، حَتَّى هَلَكَ خِيفَةَ أَنْ يُدْخِلُوا فِي قِسْمَتِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ. اهـ.
وَجَازَ أَنْ يُثْبِتَ مِلْكًا شُهِدَا ... وَبِالْحِيَازَةِ سِوَاهُمْ شَهِدَا
إنْ كَانَ ذَا تَسْمِيَةٍ مَعْرُوفَهْ ... وَنِسْبَةٍ مَشْهُورَةٍ مَأْلُوفَهْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى مِلْكًا بِيَدِ غَيْرِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ لَهُ أَوْ لِمَوْرُوثِهِ إلَّا أَنَّ الْبَيِّنَةَ، لَمْ تُعَرِّفْ حُدُودَ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَلَمْ تَشْهَدْ بِهَا، وَشَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أُخْرَى بِحُدُودِ ذَلِكَ الْمِلْكِ، فَحَازَتْهُ وَتَطَوَّفَتْ عَلَيْهِ وَعَرَّفَتْ حُدُودَهُ وَمُنْتَهَاهُ، وَلَمْ تَعْرِفْ لِمَنْ هُوَ، فَإِنَّ الشَّهَادَتَيْنِ تُلَفَّقُ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي الْمَذْكُورِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ لَهُ تَسْمِيَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ تَسْمِيَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَهُمْ فَالتَّسْمِيَةُ، مِثْلُ بَعْضِ الْأَجِنَّةِ عِنْدَنَا اُشْتُهِرَتْ بِأَسْمَاءٍ صَارَتْ عَلَمًا عَلَيْهَا، كَابْنِ الصَّفَّارِ وَابْنِ قَضِيبٍ وَحَجَّاجَةٍ وَاللَّهَبِ وَجِنَانِ الْخَادِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالنِّسْبَةُ، مِثْلُ الْجِنَانِ الَّذِي بَابُهُ أَوَّلًا عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ لِلزَّنْقَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوْ الْحَانُوتِ
(2/176)

الْخَامِسَةِ عَنْ يَسَارِ الْخَارِجِ مِنْ سُوقٍ كَذِمَارِ الْكَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ أَشْهَدَ بَعْضَ أَهْلِ الْمَوْضِعِ بِأَنَّ الْجِنَانَ الْمَعْرُوفَ بِاسْمٍ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا؛ هُوَ لِذَوِي فُلَانٍ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الشَّاهِدُ جَارًا لِمَالِكِهِ أَوْ صَدِيقًا لَهُ، وَيُهْدِي لَهُ مِنْ غَلَّتِهِ وَفَاكِهَتِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حُدُودَهُ وَمُنْتَهَاهُ؛ لِكَوْنِهِ إنَّمَا رَآهُ وَدَخَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَرُبَّمَا يَكُونُ لَمْ يَدْخُلْهُ قَطُّ، وَلَكِنْ يَتَحَقَّقُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْجِنَانَ الْمَعْرُوفَ بِكَذَا هُوَ لِفُلَانٍ، وَشَهِدَ آخَرُونَ بِمَعْرِفَةِ حُدُودِهِ وَمُنْتَهَاهُ، وَمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَمَرَافِقِهِ، وَلَا يَعْلَمُونَ لِمَنْ هُوَ كَالْخَدَمِ الَّذِينَ يَسْتَأْجِرُهُمْ الْمُسَاقِي فِي الْجِنَانِ، وَيَخْدُمُونَ مَعَهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلَمْ تَدْعُهُمْ حَاجَةٌ لِمَعْرِفَةِ رَبِّهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ لَهُمْ غَرَضٌ بِهِمَا، فَتُلَفَّقُ الشَّهَادَتَانِ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَيَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَنِسْبَةٍ: بِمَعْنَى أَوْ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ التَّسْمِيَةِ وَالنَّسَبِ كَافٍ وَحْدَهُ فِي اعْتِمَادِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ (قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ) : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ هَلَكَ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَوَلَدٌ وَتَرَكَ أَرْضًا فَخَاصَمَ وَلَدَهُ قَوْمٌ، فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَرْضُهُمْ، وَلَمْ يُشْهِدُوا عَلَى الْحُدُودِ وَشَهِدَ قَوْمٌ عَلَى حُدُودِ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهَا لَهُمْ. وَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا، لِمَنْ هِيَ؟
قَالَ: مَالِكٌ إذَا شَهِدُوا عَلَى الْحُدُودِ وَثَبَتَتْ شَهَادَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّهَا لَهُمْ رَأَيْتُهَا لَهُمْ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هَذَا كَمَا قَالَ: مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْمَالِكِ تُلَفَّقُ إلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا عَلَى الْحَوْزِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْأَرْضُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْلُومَةُ الْمُسَمَّاةُ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِالنِّسْبَةِ أَوْ التَّسْمِيَةِ عَنْ سِوَاهَا عِنْدَ مَنْ عَرَفَ حُدُودَهَا فَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ: نَعْلَمُ أَنَّ الْأَرْضَ الْفُلَانِيَّةَ لِفُلَانٍ، وَلَا نَحُوزُهَا، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: نَحْنُ نَعْلَمُ حُدُودَهَا، وَلَا نَدْرِي لِمَنْ هِيَ وَجَبَ أَنْ تُلَفَّقَ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ إذْ لَا يَقْدَحُ فِي عِلْمِ مَنْ شَهِدَ أَنَّهَا لِفُلَانٍ جَهْلُهُ بِحُدُودِهَا، وَلَا يَقْدَحُ فِي عِلْمِ مِنْ شَهِدَ بِمَعْرِفَةِ حُدُودِهَا جَهْلُهُ بِمُلَّاكِهَا اهـ.
(قَالَ الشَّارِحُ) : أَقُولُ: تَعْيِينُ الْعُرُوضِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالسِّلَاحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَالْحَيَوَانُ كُلُّهُ، الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ وَالرَّقِيقُ وَغَيْرُهَا، هُوَ نَظِيرُ الْحِيَازَةِ فِي الْأُصُولِ، وَهَلْ يُمْكِنُ تَلْفِيقُ التَّعْيِينِ فِيهَا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِهِ مَعَ شَهَادَةِ مِثْلِهَا بِالْمِلْكِ؟ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْعُرُوضِ مُسْتَبْعَدُ الْوُقُوعِ وَلَكِنَّهُ مُمْكِنٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ فِي الدَّوَابِّ أَقْرَبُ كَمَا إذَا فَرَضْنَا فَرَسًا لَهُ اسْمُ عَلَمٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ فِي الرَّقِيقِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا التَّمْيِيزِ الدَّقِيقِ بِالْعَلَمِيَّةِ وَالصِّفَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إثْبَاتُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ عَلَى الصِّفَةِ.
(قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : وَإِنْ كَانَتْ يَعْنِي الْجَارِيَةَ غَائِبَةً، فَالشَّهَادَةُ فَبِهَا عَلَى النَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَالِاسْمِ جَائِزَةٌ، وَيَكْتُبُ الْحَكَمُ الَّذِي شُهِدَ عَلَى الصِّفَةِ فِيهَا عِنْدَهُ عَلَى الصِّفَةِ إلَى الْحَكَمِ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَارِيَةُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى الصِّفَةِ، وَيُرْسِلُ كِتَابَهُ مَعَ شَاهِدَيْنِ يُشْهِدُهُمَا عَلَى كِتَابِهِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ الْحُكْمَ بِالثُّبُوتِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ وُجِدَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ جَوَارٍ كَبِيرَةٌ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، كَلَّفَهُ الْحَاكِمُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَيَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا فِي الْبَلْدَةِ لَمْ يُكَلِّفْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
(قَالَ الشَّارِحُ) أَقُولُ حَيْثُ لَمْ تُوجَدْ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَهِيَ الَّتِي عَيَّنَهَا الِاسْمُ وَالصِّفَةُ.
وَمُشْتَرِي الْمِثْلِيِّ مَهْمَا يُسْتَحَقْ ... مُعْظَمُ مَا اشْتَرَى لَهُ التَّخْيِيرُ حَقْ
فِي الْأَخْذِ لِلْبَاقِي مِنْ الْمَبِيعِ ... بِقِسْطِهِ وَالرَّدِّ لِلْجَمِيعِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْهُ الْيَسِيرُ مَا اُسْتُحِقَّ ... يَلْزَمُهُ الْبَاقِي بِمَا لَهُ يَحِقْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِثْلِيًّا مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ كَالْقَمْحِ وَالزَّيْتِ وَالْجَوْزِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ إنْ اُسْتُحِقَّ مُعْظَمُهُ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِمَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَبَيْنَ رَدِّ الْجَمِيعِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْقَلِيلُ مِنْهُ فَقَطْ، فَيَلْزَمُهُ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ، أَيْضًا قَالَ: الشَّارِحُ وَالْيَسِيرُ هُنَا الثُّلُثُ فَأَدْنَى قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَلَوْ كَانَ مَا ابْتَاعَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْقَلِيلُ مِنْهُ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ
(2/177)

الثَّمَنِ وَلَزِمَهُ مَا بَقِيَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَحْبِسَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدَّهُ وَكَذَلِكَ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ قَبْلَ الرِّضَا بِهِ. اهـ.
وَمَسْأَلَةُ اسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ تَأْتِي فِي قَوْلِ النَّاظِمِ:
وَالْخَلَفُ فِي تَمَسُّكٍ بِمَا بِقِي ... بِقِسْطِهِ مِمَّا انْقِسَامُهُ اُتُّقِيَ
وَتَأَمَّلْ عِبَارَةَ ابْنِ يُونُسَ حَيْثُ قَالَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَبِيرِ: فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْبِسَ مَا بَقِيَ أَوْ يَرُدَّهُ فَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ وَالرَّدُّ لِلْجَمِيعِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَخَذَ جُزْأَهُ، وَانْصَرَفَ، وَلَمْ يَبْقَ الْكَلَامُ إلَّا فِي الْبَاقِي، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاظِمُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمِثْلِيِّ، وَفِي الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمُقَوَّمِ مَعَ كَوْنِ الْمُسْتَحَقِّ مُعَيَّنًا، وَفِي الْبَيْتَيْنِ بَعْدَهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِمَّا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا.
وَمَا لَهُ التَّقْوِيمُ بِاسْتِحْقَاقِ ... أَنْفَسِهِ يُرَدُّ بِالْإِطْلَاقِ
إنْ كَانَ فِي مُعَيَّنٍ وَلَا يَحِلْ ... إمْسَاكُ بَاقِيهِ لِمَا فِيهِ جُهِلْ
وَإِنْ يَكُنْ أَقَلَّهُ فَالْحُكْمُ أَنْ ... يَرْجِعَ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنْ
(2/178)

لَمَّا قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمِثْلِيِّ تَكَلَّمَ هُنَا عَنْ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمُقَوَّمِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مُقَوَّمًا فَاسْتُحِقَّ بَعْضُهُ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا شَائِعًا كَثُلْثٍ أَوْ رَبْعٍ مَثَلًا، فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا كَثَوْبٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَثْوَابٍ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ وَجْهَ الصَّفْقَةِ، وَأَفْضَلَ مَا فِيهَا، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْجَمِيعَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ وَجْهِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الصَّفْقَةِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي الْحِسِّ، فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَعْنَى وَغَيْرُهُ قَلِيلٌ.
وَالْأَقَلُّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ، فَيُفْسَخُ الْجَمِيعُ فَإِذَا تَمَسَّكَ بِالْأَقَلِّ فَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَ شِرَاءَهُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ غَيْرَ وَجْهِ الصَّفْقَةِ، فَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا اسْتَحَقَّ، يَتَمَسَّكُ بِالْبَاقِي؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ، كَمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُلِّ.
(قَالَ ابْنُ يُونُسَ) : قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ اشْتَرَى ثِيَابًا كَثِيرَةً أَوْ صَالَحَ بِهَا عَنْ دَعْوَاهُ، فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهَا أَوْ وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ قَبْلَ قَبْضِهَا أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَافِهًا رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ وَجُهَ الصَّفْقَةَ، مِثْل أَنْ يَقَعَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ انْتَقَصَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَاسَكَ بِمَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ إذْ لَا يُعْرَفُ، حَتَّى يُقَوَّمَ، وَقَدْ وَجَبَ الرَّدُّ فَصَارَ بَيْعًا مُؤَقَّتًا. اهـ.
فَقَوْلُهُ: بِاسْتِحْقَاقٍ يَتَعَلَّقُ بِيَرُدُّ، وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْأَنْفَسَ، فَيُرَدُّ الْبَاقِي، وَلَوْ رَدِّ رَضِيَ الْمُتَبَايِعَانِ بِعَدَمِ الرَّدِّ، وَأَحْرَى فِي الْجَمِيعِ إذَا أَرَادَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَالْقَوْلُ لِمَنْ أَرَادَ الرَّدَّ، وَاسْمُ كَانَ يَعُودُ عَلَى اسْتِحْقَاقٍ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ فِي مُعَيَّنٍ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَيَأْتِي حُكْمُهُ قَرِيبًا وَمَا مِنْ قَوْلِهِ لِمَا فِيهِ جُهِلْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ لِلْجُلِّ الْحَاصِلِ فِيهِ لِمَا يَنُوبُ الْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ وَاسْمُ يَكُنْ: ضَمِيرُ الْمُسْتَحَقِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِيرُ أَقَلِّهِ لِلْمَبِيعِ الْمُقَوَّمِ، وَفَاعِلُ يَرْجِعُ ضَمِيرُ الْمُشْتَرِي، وَضَمِيرُ حِصَّتِهِ لِلْمُسْتَحَقِّ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ يَكُنْ عَلَى الشِّيَاعِ الْمُسْتَحَقّْ ... وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْقَسْمُ أَحَقْ
وَالْخُلْفُ فِي تَمَسُّكٍ بِمَا بَقِيَ ... بِقِسْطِهِ مِمَّا انْقِسَامُهُ اُتُّقِيَ
يَعْنِي أَنَّهُ، إذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا شَائِعًا كَالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضُهُ يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ بِلَا ضَرَرٍ، فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُفِدْ الْحُكْمَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمِثْلِيِّ إنْ اُسْتُحِقَّ الْقَلِيلُ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إلَّا الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ مَا اُسْتُحِقَّ وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْكَثِيرُ خُيِّرَ فِي التَّمَاسُكِ بِمَا بَقِيَ، أَوْ رَدِّهِ قَالَ: الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ قَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ: أَوْ اسْتَحَقَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْأَجْزَاءِ فِيمَا يَنْقَسِمُ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إلَّا الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ مَا اُسْتُحِقَّ اهـ يَعْنِي، وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْجُزْءَ الْكَثِيرَ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ التَّمَاسُكِ بِمَا بَقِيَ أَوْ رَدِّهِ.
وَنَقَلَ الشَّارِحُ عَلَى فِقْهِ هَذَا الْبَيْتِ قَوْلَ الْمُقَرَّبِ إنْ أَرَادَ أَنْ يَحْبِسَ مَا سُلِّمَ فِي يَدَيْهِ، وَيَرْجِعَ بِثَمَنِ مَا اُسْتُحِقَّ، فَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَلَى الْعَدَدِ، وَكَانَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْأَجْزَاءِ، نِصْفَ مَا اشْتَرَى أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَذَلِكَ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا رَضِيَ بِهِ يَصِيرُ لَهُ بِثَمَنٍ مَعْرُوفٍ اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ فِي رَدِّ الْبَاقِي بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مَعَ أَنَّهُ فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمِثْلِيِّ، فَتَأَمَّلْهُ مَعَ نَقْلِ الْحَطَّابِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَعَ مَا قَدَّمَ النَّاظِمُ فِي الْمِثْلِيِّ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَقَوْلُهُ
وَالْخَلَفُ فِي تَمَسُّكٍ بِمَا بَقِيَ
الْبَيْتَ يَعْنِي أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيمَا إذَا اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ شَائِعٌ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ هَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَاسَكَ بِمَا بَقِيَ أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؟ وَيَتَعَيَّنُ الرَّدُّ لِلْبَاقِي هَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ الْبَيْتِ وَنَقَلَ عَلَيْهِ الشَّارِحُ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ فِي التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي أَوْ رَدِّهِ دُونَ تَحَتُّمِ الرَّدِّ فَلَمْ يُنْقَلْ عَلَيْهِ نَصًّا وَلَفْظُهُ، وَفِي الْمُقَرَّبِ، وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَمَّنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ، مِثْلُ الشَّجَرَةِ أَوْ الثَّوْبِ، فَاسْتَحَقَّ بَعْضَ ذَلِكَ فَقَالَ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَهَذَا مِثْلُ الرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ اهـ.
وَتَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ يُونُسَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمِثْلِيِّ، وَفِي الْحَطَّابِ فِي الْمَحَلِّ الْمَذْكُورِ إثْرَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مَا نَصُّهُ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْيَسِيرِ مِنْ الْأَجْزَاءِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْجَمِيعِ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَالْيَسِيرُ النِّصْفُ فَأَقَلُّ. اهـ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ فَكَالْعَيْبِ، مَا نَصُّهُ: وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ حُكْمِ اسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، فَنَقُولُ: إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو
(2/179)

إمَّا أَنْ يَكُونَ شَائِعًا أَوْ مُعَيَّنًا فَإِنْ كَانَ شَائِعًا فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي التَّمَسُّكِ، وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الثَّمَنِ وَفِي رَدِّهِ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّ الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرَ وَإِنْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَوَّمًا أَوْ مِثْلِيًّا فَإِنْ كَانَ مُقَوَّمًا كَالْعَرْضِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ وَجْهُ الصَّفْقَةِ تَعَيَّنَ رَدُّ الْبَاقِي، وَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْأَقَلِّ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْأَقَلَّ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْأَكْثَرَ خُيِّرَ فِي التَّمَاسُكِ وَالرُّجُوعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَفِي الرَّدِّ زَادَ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَثَرَ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ وَكَذَلِكَ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ قَبْلَ الرِّضَا بِهِ. اهـ.
أَيْ فَيَتَخَيَّرُ فِي التَّمَاسُكِ وَالرَّدِّ. اهـ. وَفِي شَرْحِ الْمَوَّاقِ لِقَوْلِ الشَّيْخ خَلِيلٍ أَوْ اُسْتُحِقَّ شَائِعٌ، وَإِنْ قَلَّ مَا نَصُّهُ اُنْظُرْ هَذَا مَعَ مَا يَتَقَرَّرُ قَالَ عِيسَى قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ إذَا اُسْتُحِقَّ عَبْدٌ مِنْ الرَّقِيقَ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ شَيْءٌ يَكُونُ مِنْ الرَّقِيقِ يَسِيرًا فِي عَدَدِهِمْ، أَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ إذَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ عَبِيدٍ بِأَعْيَانِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَرَأَيْت إنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ الْيَسِيرُ سَهْمًا اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فِي جَمِيعِ الرَّقِيقِ بَعْدَ مَنْعِ الْوَطْءِ إنْ كَانَ فِيهَا جَارِيَةٌ قَالَ: سَوَاءٌ اسْتَحَقَّ فِي جَمِيعِهَا سَهْمًا أَوْ عَبِيدًا بِأَعْيُنِهِمْ إنْ كَانَ يَسِيرًا لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَقِيلَ: لَهُ قَاسِمْ شَرِيكَكَ أَنْظِرْهُ أَبَدًا، كُلُّ شَيْءٍ يُسْتَحَقُّ، وَهُوَ يُقَسِّمُ رَقِيقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي اسْتَحَقَّ مِنْهُ يَسِيرًا لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ فِي الرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ رَدَّهُ إنْ شَاءَ كَانَ الَّذِي اسْتَحَقَّ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، قِيلَ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ، مِثْلُ الشَّجَرَةِ قَالَ: هُوَ كَاسْتِحْقَاقِ الْيَسِيرِ مِنْ الْعَدَدِ لَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ مَا اُسْتُحِقَّ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْيَسِيرِ مِنْ الْأَجْزَاءِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْجَمِيعِ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَالْيَسِيرُ النِّصْفُ فَأَقَلُّ، وَالْكَثِيرُ الْجُلُّ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَهَذَا فِي الْعُرُوضِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَإِنَّهُ يَرَى فِيهِ اسْتِحْقَاقَ الثُّلُثِ فَمَا زَادَ كَثِيرًا. اهـ.
وَفِي شَرْحِ شَيْخِ شُيُوخِنَا الْعَالِمِ الْمُتَفَنِّنِ أَبِي الْعَبَّاسِ سَيِّدِي أَحْمَدَ الْمَنْجُور لِلنَّظْمِ الْمُسَمَّى بِالْمَنْهَجِ الْمُنْتَخَبِ فِي قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ لِلْإِمَامِ سَيِّدِي عَلِيِّ بْنِ قَاسِمٍ الزَّقَّاقِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ
هَلْ الْيَسَارَةُ بِنَفْسٍ تُعْتَبَرْ
إلَى آخِرِ مَا نَصَّهُ ابْنُ رُشْدٍ وَالدَّارُ إنْ اُسْتُحِقَّ عُشْرُهَا أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ، وَكَانَتْ لَا تَنْقَسِمُ أَعْشَارًا، فَلَهُ رَدُّ جَمِيعِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَنْقَسِمُ، وَفِي التَّقْيِيدِ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْبَيَانِ وَالرَّدُّ يَجِبُ إذَا اُسْتُحِقَّ مَا هُوَ كَثِيرُ كَثُلُثِ الدَّارِ أَوْ مَا فِيهِ ضَرَرٌ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا كَالْعُشْرِ، فَإِنْ اشْتَرَى دَارًا وَاسْتُحِقَّ عُشُرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ لَا تَتَجَزَّأُ أَعْشَارًا أَوْ كَانَتْ تَتَجَزَّأُ، وَلَمْ يَكُنْ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ كَانَ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ عَلَى حِدَةٍ إلَّا أَنَّ التَّجَزِّيَ يُنْقِصُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنَّ لَهُ الرَّدَّ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَتَجَزَّأُ أَعْشَارًا لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ، وَمَخْرَجٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهَا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَهَذَا فِي دَارِ السُّكْنَى، وَأَمَّا دَارُ الْغَلَّةِ فَلَا تُرَدُّ إلَّا بِاسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ دُورًا عَدَدًا، فَاسْتُحِقَّ بَعْضُ أَعْيَانِهَا، فَإِنَّهَا إذْ ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ إنْ اُسْتُحِقَّ الْجُلُّ، فَأَكْثَرُ كَانَ لَهُ الرَّدُّ، ثُمَّ قَالَ: فِي تَعْدَادِ الْمَسَائِلِ الَّتِي النِّصْفُ فِيهَا يَسِيرٌ وَالْكَثِيرُ مَا فَوْقَهُ مِنْهَا مَا إذَا تَعَدَّدَ الْمَبِيعُ فَاسْتُحِقَّ أَوْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَجُهَ الصَّفْقَةِ، وَهُوَ مَا فَوْقَ النِّصْفِ كَخَمْسَةِ أَثْوَابٍ مُتَسَاوِيَةِ الْقِيمَةِ يُسْتَحَقُّ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ يَثْبُتُ عَيْبُهَا، فَفِي الْعَيْبِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْجَمِيعِ أَوْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، وَفِي الِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَيَّنُ رَدُّ الْبَاقِي عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ فَأَقَلَّ، فَفِي الْعَيْبِ لَيْسَ لَهُ إلَّا رَدُّ الْمَعِيبِ بِحِصَّتِهِ يَوْمَ عَقْدِهِ، وَفِي الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِمَا يَنُوبُ الْمُسْتَحَقّ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي. اهـ.
ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي النَّظْمِ الْمَذْكُورِ
كَذَاكَ جُزْءُ عُرُوضٍ يُسْتَحَقُّ فَخُذْ ... إنْ أَمْكَنَ الْقَسْمُ وَخُيِّرَ إنْ عُدِمْ
مَا نَصُّهُ يَعْنِي بِالْجُزْءِ الشَّائِعِ وَبِالْعُرُوضِ مَا عَدَا الدُّورَ وَالطَّعَامَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَرْضَ إذَا اُسْتُحِقَّ مِنْهُ جُزْءٌ شَائِعٌ وَالْعَرَضُ مِمَّا يَنْقَسِمُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ النِّصْفَ فَأَقَلَّ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ مَا اُسْتُحِقَّ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ
(2/180)

فِي التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي أَوْ الرَّدِّ بِخِلَافِ مَا لَا يَنْقَسِمُ فَلَهُ الرَّدُّ مُطْلَقًا، كَانَ السَّهْمُ الْمُسْتَحَقُّ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا، وَتَقَدَّمَ هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ. اهـ.
وَإِنْ يَكُنْ فِي الْفَيْءِ مَالُ الْمُسْلِمِ ... فَهْوَ لَهُ مِنْ قَبْلِ قَسْمِ الْمُغْنَمِ
وَإِنْ يَقُمْ مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ قُسِّمَا ... فَهُوَ بِهِ أَوْلَى بِمَا تَقَوَّمَا
يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً فَوَجَدُوا فِيهَا مَالَ مُسْلِمٍ مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، فَهُوَ لِرَبِّهِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَلَا يَأْخُذْهُ رَبُّهُ إنْ شَاءَهُ إلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي قُوِّمَ بِهِ حِينَ الْقَسْمِ، وَكَذَلِكَ مَا عُرِفَ أَنَّهُ لِذِمِّيٍّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْغَنِيمَةِ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَبْلَ الْقَسْمِ، فَإِنْ عُلِمَ رَبُّهُ بِعَيْنِهِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا رُدَّ مَجَّانًا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ قُسِّمَ، وَلَمْ يُوقَفْ.
(التَّوْضِيحُ) إذَا عُرِفَ رَبُّهُ، وَكَانَ حَاضِرًا، وَلَمْ يُقْسَمْ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَجَّانًا أَيْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ حَمْلُهُ خَيْرًا لِرَبِّهِ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ الْكِرَاءَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ أَرْفَقَ بِيعَ وَيُنْفِذُ فِيهِ الْإِمَامُ الْبَيْعَ وَلَا يَكُونُ لِرَبِّهِ غَيْرُ الثَّمَنِ، وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُقْسَمُ تَغْلِيبًا لِحَقِّ الْمُجَاهِدِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ: يُوقَفُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَكِنْ مَذْهَبُ ابْنِ الْمَوَّازِ: يُوقَفُ مَا رُجِيَ الْعِلْمُ بِصَاحِبِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَقْفُهُ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَسْمِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِثَمَنِهِ إنْ عُلِمَ، وَإِلَّا فَبِقِيمَتِهِ (التَّوْضِيحُ) هَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ قَبْلَ الْقَسْمِ يَعْنِي إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْقَسْمِ فَلِمَالِكِهِ أَخْذُهُ إنْ شَاءَ بِالثَّمَنِ أَيْ بِالْقَدْرِ الَّذِي قُوِّمَ بِهِ فِي الْغَنِيمَةِ قَالَ فِي الْبَيَانِ: وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ لِرَبِّ السِّلْعَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا إنْ شَاءَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الْقَدْرَ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ ابْنُ رُشْدٍ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقِسْمَةِ. اهـ. بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ.
وَفِي الشَّارِحِ عَنْ الْمُقَرَّبِ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا إنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ أَحْرَزَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ وَأَبَقَ الْعَبِيدُ إلَيْهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوا أَصْحَابَهُ اقْتَسَمُوا، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِذَا أَحْرَزَ أَهْلُ الشِّرْكِ جَارِيَةً لِمُسْلِمٍ، ثُمَّ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَلَا يَحِلُّ لِمَنْ صَارَتْ إلَيْهِ سِهَامُهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا لِمُسْلِمٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ الْعَدُوِّ لَا أُحِبُّ أَنْ يَطَأَهَا، اشْتَرَاهَا فِي بِلَادِ الْحَرْبِ أَوْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ وَطِئَهَا فَحَمَلَتْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهَا مَضَى عِتْقُهُ. اهـ.
(تَنْبِيهٌ) أَطْلَقَ النَّاظِمُ الْفَيْءَ عَلَى الْغَنِيمَةِ، وَالِاصْطِلَاحُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ مَالَ الْحَرْبِيِّ إمَّا غَنِيمَةٌ أَوْ مُخْتَصٌّ بِآخِذِهِ أَوْ فَيْءٌ فَالْغَنِيمَةُ مَا كَانَ بِقِتَالٍ أَوْ بِحَيْثُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مَا كَانَ بِقِتَالٍ أَيْ مَا مُلِكَ بِقِتَالٍ احْتَرَزَ بِهِ مِمَّا مُلِكَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَزَادَ قَوْلَهُ: أَوْ بِحَيْثُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ لِيُدْخِلَ فِيهِ مَا انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ بَعْدَ نُزُولِ الْجَيْشِ، وَأَمَّا مَا انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْجَيْشِ، فَهُوَ فَيْءٌ وَالْمُخْتَصُّ بِآخِذِهِ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ حَرْبِيٍّ غَيْرِ مُؤْمِنٍ عَلِمَهُ أَوْ كُرْهًا دُونَ صُلْحٍ وَلَا قِتَالِ مُسْلِمٍ وَلَا قَصَدَهُ بِخُرُوجِهِ إلَيْهِ مِثَالُهُ مَا هَرَبَ بِهِ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ أَوْ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَخَرَجَ بِمَالِهِ أَوْ مَا غَنِمَهُ الذِّمِّيُّونَ.
وَالْفَيْءُ مَا سِوَاهُمَا أَيْ مَا سِوَى الْغَنِيمَةِ، وَسِوَى الْمُخْتَصِّ بِآخِذِهِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْفِقْهُ الْمَذْكُورُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ يُوجَدُ فِي الْغَنِيمَةِ يَجْرِي فِيهِ إذَا وُجِدَ فِي الْفَيْءِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُخِذَ مَالُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَهْلُهَا مَحْصُورُونَ، وَهُمْ الْغَانِمُونَ، فَأَحْرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْفَيْءِ الَّذِي هُوَ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَتَعْبِيرُ النَّاظِمِ بِالْفَيْءِ صَحِيحٌ، وَيُقَالُ: وَكَذَا إنْ وُجِدَ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ أَنَّهُ تَوَسُّعٌ، وَأَطْلَقَ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ مَعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُوَافِقًا، فَلَا يَخْفَى مَا فِي تَعْبِيرِهِ بِالْفَيْءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ النَّاظِمَ أَطْلَقَ الْفَيْءَ عَلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ إنَّمَا يُعَبِّرُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِالْغَنِيمَةِ لَا بِالْفَيْءِ، وَتَفْصِيلُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَالَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْغَنِيمَةُ إذْ هِيَ الَّتِي تُقْسَمُ لَا الْفَيْءُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(2/181)

وَمُشْتَرٍ وَحَائِزٌ مَا سَاقَ مَنْ ... أُمِّنَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالثَّمَنْ
يَعْنِي أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَدِمَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَبَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَلَيْسَ لِمَالِكِهِ الْمُسْلِمِ نَزْعُهُ مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهِ أَوْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالثَّمَنِ، وَلَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِغَيْرِ مَالِكِهِ شِرَاءُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ النَّاظِمِ وَهِيَ مَا قَدِمُوا بِهِ لِبَلَدِنَا، وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ لِبَلَدِهِمْ، وَاشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ، وَقَدِمَ بِهِ، فَإِنَّ لِرَبِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَمِمَّنْ وُهِبَ لَهُ بِلَا ثَمَنٍ.
(قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : نَصَّ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: عَلَى أَنَّهُ إنْ اشْتَرَى مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ أَحَدٌ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِرَبِّهِ أَخْذُهُ، وَلَوْ بِالثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا يَشْتَرِيه مِنْ الْحَرْبِيِّ بِبَلَدِ الْحَرْبِ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ وُهِبَ عَبِيدَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَ بِهِمْ كَانَ لِرَبِّهِمْ أَخْذُهُمْ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَاَلَّذِي قَدِمَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَوْ وَهَبَهُمْ لِأَحَدٍ لَمْ يَأْخُذْهُمْ سَيِّدُهُمْ. اهـ. فَقَوْلُهُ: إذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْ اشْتَرَى مِنْهُ فِي بَلَدِنَا، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مُسْتَأْمَنًا، وَقَابَلَهُ بِالْمُشْتَرِي مِنْ الْحَرْبِيِّ بِبَلَدِ الْحَرْبِ وَقَوْلُهُ: عَبِيدًا لَا خُصُوصِيَّةَ لِلْعَبِيدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضُ مِثَالٍ، وَفِي الشَّارِحِ عَنْ الْمُقَرَّبِ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ دَخَلَ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ عَبِيدٌ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الْعَدُوُّ قَدْ أَسَرَهُمْ، لَمْ يُؤْخَذُوا مِنْهُ لَا بِالثَّمَنِ وَلَا بِالْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا دَخَلَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ بِيَدِهِ لِمُسْلِمٍ، وَإِنْ بَاعَ مَا بِيَدِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ نَفَذَ بَيْعُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمُوا عَلَى رَأْسٍ مِنْ أَهْلِ ذِمَّتِنَا كَانُوا رَقِيقًا لَهُمْ، وَأَهْلُ ذِمَّتِنَا فِي هَذَا كَعَبِيدِنَا. اهـ.
فَقَوْلُهُ: وَإِنْ بَاعَ مَا بِيَدِهِ مِنْ ذَلِكَ، هِيَ مَسْأَلَةُ النَّاظِمِ، وَتَقَدَّمَتْ مَسْأَلَةُ الْهِبَةِ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ آخِرَ كَلَامِ التَّوْضِيحِ الْمَنْقُولِ آنِفًا وَأَمَّا مَسْأَلَةُ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَوْ وَهَبُوهُ بِبَلَدِهِمْ، فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ دَخَلْت إلَى بَلَدِ الْحَرْبِ فَابْتَعْتَ عَبْدَ الْمُسْلِمِ مِنْ حَرْبِيٍّ أَسَرَهُ وَأَبَقَ إلَيْهِ أَوْ وَهَبَهُ لَك الْحَرْبِيُّ وَكَافَأْتَهُ عَلَيْهِ فَلِسَيِّدِهِ أَخْذُهُ بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْكَ مَا أَدَّيْتَ فِيهِ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ عِوَضٍ، وَإِنْ لَمْ تُثِبْ وَاهِبَكَ أَخَذَهُ رَبُّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. اهـ.
عَلَى نَقْلِ الْمَوَّاقِ فَقَوْلُ النَّاظِمِ: مَا سَاقَ، مَا: اسْمُ مَوْصُولٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ يَتَنَازَعُ فِيهِ مُشْتَرٍ وَحَائِزٌ وَقَوْلُهُ: وَحَائِزٌ: أَيْ بِغَيْرِ شِرَاءٍ وَهُوَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ سَاقَهُ مِنْ فَاعِلِ سَاقَ وَأُمِّنَ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ الْمِيمِ مَكْسُورَةً صِلَةُ مَنْ وَجُمْلَةُ لَا يُؤْخَذُ: خَبَرُ مُشْتَرٍ وَبِالثَّمَنِ: يَتَعَلَّقُ بِيُؤْخَذْ الْمَنْفِيِّ
وَيُؤْخَذُ الْمَأْخُوذُ مِنْ لِصٍّ بِلَا ... شَيْءٍ وَمَا يُفْدَى بِمَا قَدْ بَذَلَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ وَجَدَ مَالَ غَيْرِهِ بِيَدِ لِصٍّ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِيَرُدَّهُ لِرَبِّهِ، فَإِنَّ لِرَبِّهِ أَخْذَهُ مِمَّنْ أَخَذَهُ مِنْ اللِّصِّ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَيْضًا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَيُؤْخَذُ الْمَأْخُوذُ مِنْ لِصٍّ بِلَا
شَيْءٍ، وَأَمَّا إنْ أَخَذَهُ مِنْ اللِّصِّ بِفِدَاءٍ وَعِوَضٍ، فَلَا يَأْخُذُهُ رَبُّهُ حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْعِوَضَ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يُفْدَى بِمَا قَدْ بَذَلَا (قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ) : وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَهُ مِنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ، فَلَهُ أَخْذُهُ بِلَا ثَمَنٍ فَإِنْ فُدِيَ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا فُدِيَ بِهِ. اهـ.
(الْمَوَّاقُ) عَنْ ابْنِ بَشِيرٍ فِي رُجُوعِ مَنْ فَدَى مَا بِيَدِ لِصٍّ بِفِدَائِهِ عَلَى رَبِّهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ (ابْنُ عَرَفَةَ) كَثِيرٌ عُرُوضُ هَذِهِ النَّازِلَةِ بِإِقْلِيمِنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِدَاهُ بِحَيْثُ يُرْجَى لِرَبِّهِ خَلَاصُهُ مِنْ اللِّصِّ بِأَمْرٍ حِرْمَانُ فَادِيهِ، وَمَا ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ إلَّا أَخْذَهُ بِالْفِدَاءِ. اهـ.
وَفِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لِابْنِ نَاجِي وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِيمَا فُدِيَ مِنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ هَلْ يَأْخُذُهُ رَبُّهُ مَجَّانًا أَوْ بِالثَّمَنِ الَّذِي فَدَاهُ؟ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يُرْتَضَى مِنْ شُيُوخِنَا لِكَثْرَةِ النَّهْبِ فِي بِلَادِنَا، فَيَحِلُّ مَنْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْأَعْرَابِ أَوْ مَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ، فَيَفْتَدِي مِنْ أَيْدِيهمْ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْتَهِبُونَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلَوْ أَخَذَهُ مَالِكُهُ مِنْ يَدِ مَنْ فَدَاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَانَ سَدًّا لِهَذَا الْبَابِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ.
(قُلْت) : وَبِهِ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّبِينِيُّ يُفْتِي، وَيُوَجِّهُهُ بِمَا تَقَدَّمَ قَائِلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّهَا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي (قَالَ ابْنُ هَارُونَ) : وَالْقَوْلَانِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْفِدَاءَ لِرَبِّهِ وَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهِ
(2/182)

الْفِدَاءَ لِنَفْسِهِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ تَمَلُّكَهُ، فَلَا يُخْتَلَفُ أَنَّ لِرَبِّهِ أَخْذَهُ مَجَّانًا كَالِاسْتِحْقَاقِ (قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ) : وَكَثِيرٌ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ هُوَ مُنْتَصِبٌ لِتَخْلِيصِ مَا بِأَيْدِي الْمُنْتَهَبِينَ، هَلْ يَكُونُ لِلْآخِذِ الْأُجْرَةُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ الْفِدَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ سَلَفٌ، وَإِجَارَةٌ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ غَيْرَهُ، فَفِي إجَازَةِ ذَلِكَ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ. اهـ.
فَقَوْلُهُ: بِلَا شَيْءٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقُ بِ " يُؤْخَذُ " أَيْ يَأْخُذُ رَبُّ الشَّيْءِ بِلَا شَيْءٍ أَيْ ثَمَنٍ، وَلَا عِوَضِ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذِ مِنْ اللِّصِّ يَعْنِي إذَا لَمْ يَدْفَعْ آخِذُهُ لِلِّصِّ شَيْئًا بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَا يُفْدَى بِمَا قَدْ بَذَلَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَأْخُوذِ أَيْ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِلَا ثَمَنٍ مِنْ اللِّصِّ لِرَبِّهِ أَخْذُهُ أَيْ كَذَلِكَ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا إذَا لَمْ يُعْطِ آخِذُهُ لِلِّصِّ شَيْئًا بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ كَمَا مَرَّ، وَالْبَذْلُ: الْعَطَاءُ، أَيْ بِمَا قَدْ أَعْطَى وَدَفَعَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/183)

[فَصْلٌ فِي الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْأُمَنَاءِ]
ِ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) هِيَ مُشَدَّدَةُ الْيَاءِ الْجَوْهَرِيُّ، وَكَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ وَعَيْبٌ وَأُنْكِرَ عَلَى الْجَوْهَرِيِّ كَوْنُهَا مَنْسُوبَةً إلَى الْعَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَقَالُوا يَتَعَيَّرُونَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ عَيْنُهُ يَاءٌ وَالْعَارِيَّةُ عِنْدَ غَيْرِهِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُعَاوَرَةِ وَهِيَ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ يُقَالُ: هُمْ يَتَعَاوَرُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ، أَيْ يَأْخُذُونَ، وَيُعْطُونَ. اهـ. وَانْظُرْ الرَّصَّاعَ فَقَدْ تَكَلَّمَ مَعَ الْجَوْهَرِيِّ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَحَدَّهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: مَصْدَرًا أَوْ اسْمًا عَلَى عَادَتِهِ: إذَا كَانَ لِلْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ مَعْنَيَانِ، فَالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا بِعِوَضٍ، فَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: مَنْفَعَةٍ تَمْلِيكُ الذَّوَاتِ، مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ الْحَقِيقِيَّ فِي الذَّوَاتِ لَيْسَ إلَّا لِخَالِقِهَا، وَلَكِنْ الْقَصْدُ كَمَالُ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ، وَيَخْرُجُ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ فِيهَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُعِيرَ لِمِثْلِهِ بِخِلَافِ الِانْتِفَاعِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مُؤَقَّتَةٍ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ الْمُطْلَقَةِ، كَمَا إذَا مَلَكَ الْعَبْدُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ وَوَهَبَهَا إيَّاهُ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِعَارِيَّةٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْحَبْسُ بِذَلِكَ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْحَبْسَ فِيهِ مِلْكُ الِانْتِفَاعِ لَا الْمَنْفَعَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيهِ بِالْإِطْلَاقِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: لَا بِعِوَضٍ أَخْرَجَ بِهِ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا بِعِوَضٍ وَيَعْنِي بِالتَّوْقِيتِ، إمَّا لَفْظًا أَوْ عَادَةً وَلَا تَدْخُلُ الْعُمْرَى وَالْإِخْدَامُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَارِيَّةُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَتَدْخُلَانِ اُنْظُرْ الرَّصَّاعَ، وَأَمَّا حَدُّهَا اسْمًا، فَهِيَ مَالٌ ذُو مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ مُلِكَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالْأُمَنَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَا اُسْتُعِيرَ رَدُّهُ مُسْتَوْجِبُ ... وَمَا ضَمَانُ الْمُسْتَعِيرِ يَجِبُ
إلَّا بِقَابِلِ الْمَغِيبِ لَمْ يُقِمْ ... بَيِّنَةً عَلَيْهِ أَنَّهُ عُدِمْ
أَوْ مَا الْمُعَارُ فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَا ... تَعَدٍّ أَوْ فَرَّطَ فِيهِ مُطْلَقَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ لِرَبِّهِ يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ مَا يُعَارُ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِمِثْلِهِ مِنْ الزَّمَانِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ لِحَدِيثِ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» أَيْ يَجِبُ رَدُّهَا وَتَأْدِيَتُهَا لِصَاحِبِهَا بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُهَا الْمُسْتَعِيرُ عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ قَضَى إرْبَهُ مِنْهَا، حَتَّى يَأْتِيَ رَبُّهَا إلَيْهَا، بَلْ تَكُونُ مُؤْنَةُ رَدِّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ الَّذِي
(2/184)

اسْتَظْهَرَ ابْنُ رُشْدٍ.
(قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : فَرْعٌ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَأُجْرَةُ حَمْلِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي أُجْرَةِ رَدِّهَا فَقِيلَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقِيلَ عَلَى الْمُعِيرِ أَبُو الْحَسَنِ، وَاخْتُلِفَ فِي عَلَفِ الدَّابَّةِ الْمُعَارَةِ، فَقِيلَ عَلَى الْمُعِيرِ، وَقِيلَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. اهـ.
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى ضَمَانِ الشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ، لَا يَضْمَنُ الْعَارِيَّةَ إلَّا فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ بِمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَثْبُتَ تَعَدِّي الْمُعِيرِ أَوْ تَفْرِيطُهُ فِي الْعَارِيَّةِ، حَتَّى هَلَكَتْ كَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَمْ لَا وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي بِالْإِطْلَاقِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَمْ لَا، وَكَذَا لَا يَضْمَنُهَا مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَفْرِيطُهُ، وَلَا تَعَدِّيهِ (قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ،) ، وَالْعَارِيَّة فِي ضَمَانِ صَاحِبِهَا إنْ تَحَقَّقَ هَلَاكُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَعِيرِ إلَّا أَنَّهَا نَوْعَانِ يَظْهَرُ هَلَاكُهُ، وَلَا يَكَادُ يَخْفَى كَالرِّبَاعِ وَالْحَيَوَانِ، فَهَذَا النَّوْعُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي هَلَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي يَخْفَى هَلَاكُهُ، وَيُغَابُ عَلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي هَلَاكِهِ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِهِ، فَإِنْ قَامَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ بِغَيْرِ سَبَبِهِ كَالسُّوسِ فِي الثَّوْبِ صَدَّقَهُ فِيهِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا أَضَاعَهُ، وَلَا أَرَادَ إفْسَادًا.
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْت مَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ فَتَلِفَ عِنْدَهُ أَيَضْمَنُهُ فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَوْ يُخَالِفُ إلَى غَيْرِ مَا اسْتَعَارَهُ، وَفِيهِ أَيْضًا قُلْت لَهُ: فَمَنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا فَضَاعَ عِنْدَهُ أَيَضْمَنُهُ قَالَ: نَعَمْ، وَكَذَلِكَ الْعُرُوض كُلُّهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا مِنْ الْعُرُوضِ فَكَسَرَهُ أَوْ أَحْرَقَهُ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ سُرِقَ مِنْهُ أَوْ احْتَرَقَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يُعْذَرُ بِهِ وَتَقُومُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَيَّعَ أَوْ فَرَّطَ، ثُمَّ قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ الرَّجُلُ يَسْتَعِيرُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، مِثْلُ الْفَأْسِ وَالْمِنْشَارِ فَيَأْتِي بِهِ مَكْسُورًا، وَيَقُولُ الْكَسْرُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي أَعَرْتَنِيهِ فِيهِ قَالَ: لَا يُصَدَّقُ وَهُوَ ضَامِنٌ. اهـ. بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ.
(فَرْعٌ) مَا عُلِمَ أَنَّهُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْمُسْتَعِيرِ كَالسُّوسِ فِي الثَّوْبِ يَحْلِفُ مَا أَرَادَ فَسَادًا وَلَا ضَيَّعَ وَيَبْرَأُ وَأَلْحَقَ التُّونُسِيُّ النَّارَ بِالسُّوسِ، وَقَالَ: اللَّخْمِيُّ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّارَ لَا تَحْدُثُ إلَّا مِنْ فِعْلِهِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَالسُّوسُ إنَّمَا يَحْدُثُ مِنْ الْغَفْلَةِ عَنْ اللِّبَاسِ وَقَرْضُ الْفَأْرِ لَا يَحْدُثُ
(2/185)

إلَّا لِأَمْرٍ كَانَ مِنْ اللِّبَاسِ مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَانْظُرْ التَّوْضِيحَ، وَمَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ ظَاهِرٌ إلَّا فِي قَرْضِ الْفَأْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِذَا اشْتَرَطَ إسْقَاطَ الضَّمَانِ فِيمَا يُضْمَنُ أَوْ إثْبَاتَهُ فِيمَا لَا يُضْمَنُ فَفِي إفَادَتِهِ قَوْلَانِ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُسْتَعِيرٍ حَلَفَا ... فِي رَدِّ مَا اسْتَعَارَ حَيْثُ اخْتَلَفَا
مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُغَابُ عَادَهْ ... عَلَيْهِ أَوْ أُخِذَ بِالشَّهَادَهْ
فَالْقَوْلُ لِلْمُعِيرِ فِيمَا بَيَّنَهْ ... وَمُدَّعِي الرَّدِّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَهْ
يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ، فَقَالَ الْمُعِيرُ لَمْ تَرُدَّهَا. وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ: رَدَدْتُهَا فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتْ عَارِيَّةً مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْضُهَا بِإِشْهَادٍ، فَالْقَوْلُ: قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ: أَنَّهُ رَدَّهَا مَعَ يَمِينِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ: قَوْلُ الْمُعِيرِ: أَنَّهَا لَمْ تُرَدَّ سَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِإِشْهَادٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ إذَا قَبَضَهُ بِإِشْهَادٍ، فَإِنَّ الْقَوْلَ: قَوْلُ الْمُعِيرِ: أَنَّهَا لَمْ تُرَدَّ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، فَقَوْلُهُ: حَلَفَا: صِفَةٌ لِمُسْتَعِيرٍ وَأَلِفُهُ لِلْإِطْلَاقِ وَفِي رَدٍّ أَيْ عَلَى نَحْوِ {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَأَلِفُ اخْتَلَفَا لِلتَّثْنِيَةِ أَيْ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَعَادَةً: مَنْصُوبٌ عَلَى إسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَعَلَيْهِ: يَتَعَلَّقُ بِ يُغَابُ وَقَوْلُهُ: أَوْ أَخَذَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ: عَطْفٌ عَلَى يُغَابُ وَمَعْنَى فِيمَا بَيَّنَهْ: أَيْ ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الرَّدِّ وَمُدَّعِي الرَّدِّ: هُوَ الْمُسْتَعِيرُ.
(قَالَ الْمَوَّاقُ) فِي شَرْحِ قَوْلِهِ كَدَعْوَاهُ رَدِّ مَا لَمْ يَضْمَنْ مَا نَصُّهُ: قَالَ مُطَرِّفٌ يُصَدَّقُ الْمُسْتَعِيرُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا ادَّعَى رَدَّ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ إلَّا إنْ كَانَ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يُصَدَّقُ اهـ. وَانْظُرْ إذَا ادَّعَى رَدَّ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُعِيرِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: وَسَوَاءٌ أَخَذَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.
(قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) فَمِنْ حَقِّ: الْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُعِيرِ فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ دَفْعُهَا إلَيْهِ بِلَا إشْهَادٍ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْمَوَّاقِ وَهُوَ كَكَلَامِ النَّاظِمِ فِقْهًا وَتَرْتِيبًا.
وَالْقَوْلُ فِي الْمُدَّةِ لِلْمُعِيرِ ... مَعْ حَلِفِهِ وَعَجْزِ مُسْتَعِيرِ
كَذَاكَ فِي مَسَافَةٍ لِمَا رُكِبْ ... قَبْلَ الرُّكُوبِ ذَا لَهُ فِيهِ يَجِبْ
وَالْمُدَّعِي مُخَيَّرٌ أَنْ يَرْكَبَا ... مِقْدَارَ مَا حُدَّ لَهُ أَوْ يَذْهَبَا
وَالْقَوْلُ مِنْ بَعْدِ الرُّكُوبِ ثَبَتَا ... لِلْمُسْتَعِيرِ إنْ بِمُشْبِهٍ أَتَى
وَإِنْ أَتَى فِيهِ بِمَا لَا يُشْبِهُ ... فَالْقَوْلُ لِلْمُعِيرِ لَا يَشْتَبِهُ
تَعَرَّضَ فِي الْأَبْيَاتِ لِاخْتِلَافِ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، إمَّا فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ إلَيْهَا أَوْ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ الَّتِي أَعَارَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَهَا إلَيْهَا، فَأَخْبَرَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْعَارِيَّةِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُعِيرِ مَعَ يَمِينِهِ لَكِنْ إنْ عَجَزَ الْمُسْتَعِيرُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَى، فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَيْهِ
(2/186)

فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ حِينَئِذٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَسَافَةِ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الرُّكُوبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ.
فَإِذَا حَلَفَ، فَيُقَالُ لِلْمُسْتَعِيرِ، إمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى الْمَسَافَةِ الَّتِي ادَّعَى أَوْ اذْهَبْ، وَلَا شَيْءَ لَك، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ الرُّكُوبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا إنْ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ، فَإِنْ ادَّعَى مَا لَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ لِلْمُعِيرِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَجَدْت فِي مَسَائِلِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَنَّ مَالِكًا قَالَ فِيمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَكِبَهَا إلَى مَوْضِعٍ، فَلَمَّا رَجَعَ زَعَمَ رَبُّهَا أَنَّهُ أَعَارَهَا إيَّاهُ إلَى دُونِ مَا رَكِبَهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ، إنْ ادَّعَى مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ نَصًّا سَوَاءٌ قَالَ فِيهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَذَلِكَ إذَا رَكِبَ وَرَجَعَ، فَالْمُعِيرُ مُصَدَّقٌ عَلَيْك مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِي عَلَيْك مَا لَا يُشْبِهُ. اهـ.
وَتَبَيَّنَ بِهَذَا النَّقْلِ أَنَّ قَوْلَ النَّاظِمِ كَذَاك فِي مَسَافَةٍ إلَخْ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا ادَّعَى مَا يُشْبِهُ، كَمَا فِي النَّظْمِ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْكِرَاءِ فِي ... مَا يُسْتَعَارُ مَعْ يَمِينٍ اُقْتُفِيَ
مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ ... بِهِ فَقَلْبُ الْقَسَمِ التَّحْقِيقُ
يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ رَبُّ الشَّيْءِ: هُوَ عِنْدَك عَلَى وَجْهِ الْكِرَاءِ، وَقَالَ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الشَّيْءِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَكْرَاهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ يَأْنَفُ عَنْ الْكِرَاءِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ لِمَنْصِبِهِ وَشَرَفِهِ وَغِنَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْعَارِيَّةِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا.
(قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ رَكِبَ دَابَّةَ رَجُلٍ إلَى بَلَدٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَعَارَهُ إيَّاهَا وَقَالَ: رَبُّهَا أَكْرَيْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّهَا زَادَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ ابْنِ رَاشِدٍ مَعَ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ يُونُسَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَعْرُوفًا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَيْسَ يُكْرِي الدَّوَابَّ لِشَرَفِهِ وَقَدْرِهِ اهـ. زَادَ فِي التَّوْضِيحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ مَعَ يَمِينِهِ.
(2/187)

وَيَضْمَنُ الْمُودَعُ مَعْ ظُهُورِ ... مَخَايِلِ التَّضْيِيعِ وَالتَّقْصِيرِ
وَلَا ضَمَانَ فِيهِ لِلسَّفِيهِ ... وَلَا الصَّغِيرِ مَعْ ضَيَاعٍ فِيهِ
تَكَلَّمَ هُنَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ اسْمًا وَمَصْدَرًا، فَالِاسْمُ الْوَدِيعَةُ، وَالْمَصْدَرُ الْإِيدَاعُ أَيْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَاهُمَا فَحَدُّهَا مَصْدَرًا (قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ) : نَقْلُ مُجَرَّدِ حِفْظِ مِلْكٍ يُنْقَلُ (قَالَ الرَّصَّاعُ) : وَإِنَّمَا قَالَ مُجَرَّدُ حِفْظٍ وَلَمْ يَقُلْ حِفْظٌ لِيَخْرُجَ مَا فِيهِ نَقْلُ الْحِفْظِ مَعَ التَّصَرُّفِ كَالْوَكَالَةِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ، فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْحِفْظِ فَقَطْ، وَيُخْرِجُ الْإِيصَاءَ وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ مِلْكٍ إذَا أَوْدَعَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ لِحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَدِيعَةً، وَقَوْلُهُ: يُنْقَلُ صِفَةٌ لِلْمِلْكِ، وَأَخْرَجَ بِهِ مَا لَا يُنْقَلُ مِنْ الْأُصُولِ كَالرَّبْعِ. اهـ. ثُمَّ بَحَثَ فِي اشْتِرَاطِ النَّقْلِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ ظَاهِرُهَا صِحَّةُ إيدَاعِ الرَّبْعِ، فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت، قَالَ: الرَّصَّاعُ قَالَ الشَّيْخُ: وَيَدْخُلُ فِي الْحَدِّ إيدَاعُ الْوَثَائِق، فَذِكْرُ الْحُقُوقِ يُخْرِجُ حِفْظَ الْإِيصَاءِ وَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَأَزْيَدَ مِنْ الْحِفْظِ وَقَدْ قَالَ فِي الْوَدِيعَةِ: إنَّ خَاصِّيَّتَهَا مُجَرَّدُ الْحِفْظِ، وَحَدُّهَا اسْمًا: مُتَمَلَّكٌ نُقِلَ مُجَرَّدُ حِفْظِهِ يَنْتَقِلُ. اهـ. وَيُفْهَمُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِّ مِنْ مَعْنَى الْحَدِّ الْمَصْدَرِيِّ، وَقَوْلُهُ يَنْتَقِلُ صِفَةٌ لِمُتَمَلَّكٍ، ثُمَّ قَالَ الرَّصَّاعُ مَا مَعْنَاهُ إنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَى الْمَصْدَرِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِمْ: الْوَدِيعَةُ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً وَمَنْدُوبَةً وَمُحَرَّمَةً؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ لَا الِاسْمِيُّ قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ابْنُ عَرَفَةُ هُنَا حَدُّهَا اسْمًا كَذَا وَمَصْدَرًا كَذَا كَمَا هِيَ عَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَصْلُهَا فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ، وَلَيْسَتْ مَصْدَرًا وَلَا اسْمَ مَصْدَرٍ، وَلَكِنْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهَا قَصْدُ الْمَصْدَرِ كَانَ حَدُّهَا كَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ كَانَ حَدُّهَا كَذَا، فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَصْدَرًا أَوْ اسْمَ مَصْدَرٍ قَالَ: حَدُّهَا اسْمًا كَذَا، وَحَدُّهَا مَصْدَرًا
كَذَا قَوْلُهُ:
وَيَضْمَنُ الْمُودَعُ مَعَ ظُهُورِ
الْبَيْتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إذَا هَلَكَتْ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ التَّضْيِيعِ لَهَا وَالتَّقْصِيرِ فِي حِفْظِهَا، فَيَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ، وَعَطَفَ النَّاظِمُ التَّقْصِيرَ عَلَى التَّضْيِيعِ كَأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُتَلَازِمَيْنِ، وَمَثَّلُوا التَّقْصِيرَ بِإِيدَاعِهَا عِنْدَ الْغَيْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَنَقْلِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَخَلْطِهَا بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ كَقَمْحٍ بِشَعِيرٍ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، فَهَلَكَتْ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ هَذَا فِي حَقِّ الرَّشِيدِ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ
(2/188)

وَالسَّفِيهُ الْبَالِغُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إنْ قَصَّرَا وَضَيَّعَا وَضَمِيرُ فِيهِ: الْأَوَّلُ لِلتَّقْصِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّضْيِيعُ لِتَلَازُمِهِمَا وَلَامُ لِلسَّفِيهِ أَيْ الْبَالِغِ بِمَعْنَى عَلَى نَحْوِ {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] .
وَضَمِيرُ فِيهِ: الثَّانِي لِلْمُودَعِ بِالْفَتْحِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةِ ضَيَاعٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّضْيِيعِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) ، وَشَرْطُهَا كَالْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ (التَّوْضِيحُ) أَيْ مَنْ جَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَلَهُ أَنْ يُودِعَ، وَيُودَعَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ بِالْكَسْرِ كَالْمُوَكِّلِ وَالْمُودَعِ أَيْ بِالْفَتْحِ كَالْوَكِيلِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) .
فَمَنْ أَوْدَعَ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا أَوْ أَقْرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ، فَأَتْلَفَهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَذِنَ أَهْلُهُ (التَّوْضِيحُ) ، وَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ قَدْ سَلَّطَ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ (اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ) إلَّا أَنْ يَصْرِفَا ذَلِكَ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْهُ، وَلَهُمَا مَالٌ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِالْأَقَلِّ مِمَّا أَتْلَفَاهُ أَوْ مِمَّا صَوَّنَا مِنْ مَالِهِمَا (اللَّخْمِيُّ) ، فَإِنْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمَالُ، ثُمَّ أَفَادَ غَيْرُهُ لَمْ يَتْبَعْهُمَا فِيهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ، هُوَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِهِ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ اهـ. وَآخِرُهُ بِالْمَعْنَى (تَنْبِيهٌ) ، لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّوْضِيحِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ إلَخْ، أَنَّ الْمَحْجُورَ لَا يَضْمَنُ مَا اسْتَعَارَ، وَادَّعَى ضَيَاعَهُ، وَكَذَلِكَ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ فِي الْحَجْرِ
وَكُلُّ مَا أَتْلَفَهُ الْمَحْجُورُ ... فَغُرْمُهُ مِنْ مَالِهِ الْمَشْهُورُ
إلَّا لِمَنْ طَوْعًا إلَيْهِ صَرَفَهْ ... وَفِي سِوَى مَصْلَحَةٍ قَدْ أَتْلَفَهْ
وَهُوَ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالتَّجْرُ بِالْمُودَعِ مَنْ أَعْمَلَهُ ... يَضْمَنُهُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ
يَعْنِي، أَنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا إنْ هَلَكَتْ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَهُ إنْ حَصَلَ فِيهَا لَا لِرَبِّهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا وَقْتَ التَّجْرِ بِهَا مِنْهُ وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : وَإِنْ تَجِرَ بِهَا يَعْنِي الْوَدِيعَةِ كَانَ لَهُ الرِّبْحُ يَعْنِي بِضَمَانِهِ. اهـ.
(وَقَالَ فِي الرِّسَالَةِ) : وَمَنْ تَجِرَ بِوَدِيعَةٍ، فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَالرِّبْحُ لَهُ، إنْ كَانَتْ عَيْنًا قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهَا: قَوْلُهُ: إنْ كَانَتْ عَيْنًا رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَرْضًا مُقَوَّمًا كَانَ التَّجْرُ بِهَا حَرَامًا قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْمَنْجُورُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْمَنْهَجِ:
وَالرِّبْحُ تَابِعٌ لِمَالٍ مَا عَدَا ... غَصْبًا وَدِيعَةً وَتَفْلِيسًا بَدَا
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ إذَا رَدَّ رَأْسَ الْمَالِ، كَمَا هُوَ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَرُدَّهُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ فَاعْرِفْهُ. اهـ. (وَفِي الْمُقَرَّبِ) إنْ رَدَّ الْمَالَ بَعْدَمَا رَبِحَ فِيهِ بَرِئَ.
(2/189)

وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُودَعٍ فِيمَا تَلِفْ ... وَفِي ادِّعَاءِ رَدِّهَا مَعَ الْحَلِفْ
مَا لَمْ يَكُنْ يَقْبِضُهُ بِبَيِّنَهْ ... فَلَا غِنًى فِي الرَّدِّ أَنْ يُبَيِّنَهْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَادَّعَى تَلَفَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ سَوَاءٌ قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ أَوْ بِغَيْرِ إشْهَادٍ، وَأَمَّا إنْ ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّهَا لِرَبِّهَا، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ فَكَذَلِكَ أَيْضًا الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ، وَهُوَ مُرَادُ النَّاظِمِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى رَدِّهَا (قَالَ فِي الرِّسَالَةِ:) ، وَالْمُودَعُ إنْ قَالَ: رَدَدْتُ الْوَدِيعَةَ إلَيْك صُدِّقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ، وَإِنْ قَالَ: ذَهَبَتْ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ بِكُلِّ حَالٍ وَنَحْوُهُ فِي الْجَوَاهِرِ، وَزَادَ التَّصْرِيحَ بِالْيَمِينِ حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَفْظُهُ إذَا طُولِبَ الْمُودَعُ بِالرَّدِّ، فَادَّعَى التَّلَفَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الرَّدَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهَا بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ الرَّدَّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. اهـ.
فَقَوْلُهُ قَوْلُ مُودَعٍ بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ عِنْدَهُ وَ " مَا " مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا تَلِفْ مَصْدَرِيَّةٌ وَضَمِيرُ رَدَّهَا لِلْوَدِيعَةِ، وَمَعَ الْحَلِفْ رَاجِعٌ لِدَعْوَى التَّلَفِ، وَالرَّدِّ، وَضَمِيرُ يَقْبِضُهُ لِلشَّيْءِ الْمُودَعِ بِبَيِّنَةٍ لِلرَّدِّ أَيْ يُثْبِتُهُ.
وَالْأُمَنَاءُ فِي الَّذِي يَلُونَا ... لَيْسُوا لِشَيْءٍ مِنْهُ يَضْمَنُونَا
كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالدَّلَّالِ ... وَمُرْسَلٍ صُحْبَتَهُ بِالْمَالِ
وَعَامِلِ الْقِرَاضِ وَالْمُوَكَّلِ ... وَصَانِعٍ لَمْ يَنْتَصِبْ لِلْعَمَلِ
وَذُو انْتِصَابٍ مِثْلُهُ فِي عَمَلِهْ ... بِحَضْرَةِ الطَّالِبِ أَوْ فِي مَنْزِلِهْ
وَالْمُسْتَعِيرُ مِثْلُهُمْ وَالْمُرْتَهِنْ ... فِي غَيْرِ قَابِلِ الْمَغِيبِ فَاسْتَبِنْ
وَمُودَعٌ لَدَيْهِ وَالْأَجِيرُ ... فِيمَا عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَالْمَأْمُورُ
وَمِثْلُهُ الرَّاعِي كَذَا ذُو الشَّرِكَهْ ... فِي حَالَةِ الْبِضَاعَةِ الْمُشْتَرَكَهْ
وَحَامِلٌ لِلثِّقْلِ بِالْإِطْلَاقِ ... وَضَمِنَ الطَّعَامَ بِالْإِنْفَاقِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ بِلَا يَمِينِ ... وَالِاتِّهَامُ غَيْرُ مُسْتَبِينِ
وَقِيلَ مِنْ بَعْدِ الْيَمِينِ مُطْلَقَا ... وَالْأَوَّلُ الْأَوْلَى لَدَى مَنْ حَقَّقَا
عَدَّدَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْأُمَنَاءَ وَذَكَرَ أَنَّ حُكْمَهُمْ عَدَمُ ضَمَانِ شَيْءٍ مِمَّا يَلُونَهُ لِأَمَانَتِهِمْ، إمَّا بِالْأَصَالَةِ أَوْ يَجْعَلُ الْخَصْمُ لَهُمْ ذَلِكَ. (فَأَوَّلُهُمْ) : وَلِيُّ الْمَحْجُورِ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَوَصِيِّهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَدَّعُونَ مِنْ تَلَفِ مَالِ مَحْجُورِهِمْ، أَمَّا دَعْوَى الدَّفْعِ بَعْدَ الرُّشْدِ فَلَا يُصَدَّقُونَ فِيهِ.
(الثَّانِي) : الدَّلَّالُ وَيُقَالُ لَهُ السِّمْسَارُ فِيمَا وَلِيَ بَيْعَهُ وَتَسْوِيقَهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ: فِي تَضْمِينِهِمْ ابْنُ رُشْدٍ، وَاَلَّذِي أُفْتِي بِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ تَضْمِينُهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ (ابْنُ رَاشِدٍ) ، وَرَأَيْت بَعْضَ قُضَاةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة ضَمَّنَ السِّمْسَارَ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ النَّاسِ الْعَامَّةِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ.
(الثَّالِثُ) : الْمُرْسَلُ مَعَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ مَا أُمِرَ بِهِ وَيُقَال: فِيهِ الْمُبْضَعُ مَعَهُ مَالٌ أَيْ الَّذِي أُرْسِلَتْ مَعَهُ الْبِضَاعَةُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ.
(الرَّابِعُ) : عَامِلُ الْقِرَاضِ لَا يَضْمَنُ مَالَ الْقَرْضِ إنْ ادَّعَى التَّلَفَ أَيْ الضَّيَاعَ بِسَرِقَةٍ وَنَحْوِهَا
(2/190)

قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) قَيَّدَهُ اللَّخْمِيُّ بِأَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُشْبِهُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ فِي بَلَدِ السِّلَعِ هَلْ يَخْسَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِثْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا ذَكَرَ (وَفِي التَّوْضِيحِ أَيْضًا بَابُ الشَّرِكَةِ) وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ يَدَّعِي الْخَسَارَةَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهَا أَنَّهُ يَضْمَنُ.
(الْخَامِسُ) : الْوَكِيلُ كَانَ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مُفَوَّضًا أَوْ مَخْصُوصًا سَوَاءٌ ادَّعَى تَلَفَ السِّلْعَةِ الَّتِي وُكِّلَ عَلَى بَيْعِهَا أَوْ تَلَفَ ثَمَنِهَا إنْ بَاعَ، وَكَذَا لَا يَضْمَنُ فِي الْوَكَالَةِ عَلَى الشِّرَاءِ أَوْ الِاقْتِضَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
(السَّادِسُ) : الصَّانِعُ الَّذِي لَمْ يُنَصِّبْ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ أَوْ نَصَّبَ نَفْسَهُ إذَا كَانَ بِحَضْرَةِ رَبِّ الشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَأْتِي بَعْضُ الْكَلَامِ فِي الصَّانِعِ.
(السَّابِعُ) : الْمُسْتَعِيرُ لَا يَضْمَنُ الْعَارِيَّةَ فِي وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهَا كَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ لَا الثَّانِي: مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ تَفْرِيطُهُ وَلَا تَعَدِّيهِ.
(الثَّامِنُ) : الْمُرْتَهِنُ بِكَسْرِ الْهَاءِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ الَّذِي لَا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ الَّذِي يُغَابُ عَلَيْهِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ.
(التَّاسِعُ) : الْمُودَعُ عِنْدَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا ادَّعَى تَلَفَهَا قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ أَوْ بِغَيْرِ إشْهَادٍ.
(الْعَاشِرُ) : الْأَجِيرُ فِيمَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ، كَذَا فَسَّرَهُ النَّاظِمُ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ، وَلَمْ يَزِدْ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي الْأَجِيرَ الَّذِي تَحْتَ يَدِ الصَّانِعِ، فَإِنْ كَانَ لِلصَّانِعِ أُجَرَاءُ أَوْ صُنَّاعٌ تَحْتَ يَدِهِ فَتَلِفَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ بِغَيْرِ تَعَدٍّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ صُنَّاعٌ لَهُ خَاصَّةً، وَالصَّانِعُ الْخَاصُّ لَا يَضْمَنُ، كَمَا يَأْتِي، وَأَمَّا لَوْ غَابَ عَلَى السِّلَعِ، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ: وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ الْخِلَافُ فِي ضَمَانِ حَارِسِ ثِيَابِ دَاخِلِ الْحَمَّامِ (الْحَادِي
(2/191)

عَشَرَ) : الْمَأْمُورُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ يَتَعَدَّ فَحَصَلَ هَلَاكٌ أَوْ تَلَفٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
(الثَّانِي عَشَرَ) : الرَّاعِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا إذَا لَمْ يَتَعَدَّ وَلَا فَرَّطَ، وَعَلَيْهِ فِيمَا ضَلَّ أَوْ هَلَكَ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا فَرَّطَ وَلَا تَعَدَّى، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يُلْقِي النَّاسُ إلَيْهِ غَنَمَهُمْ، أَنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا تَلِفَ مِنْهَا، وَرَآهُ كَالصَّانِعِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) : الشَّرِيكُ فِيمَا هَلَكَ بِيَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ أَوْ خَسِرَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَالَةِ الْبِضَاعَةِ الْمشُتَرَكَةِ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ مُفَوَّضًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُفَوَّضٍ.
(الرَّابِعَ عَشَرَ) : حَامِلُ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ غَيْرِ الطَّعَامِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ سَوَاءٌ حَمَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِالْإِطْلَاقِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِطْلَاقِ حَامِلُ الطَّعَامِ لِنَصِّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ (ابْنُ الْحَاجِبِ) .
وَأَمَّا أَجِيرٌ حَمَلَ غَيْرَ الطَّعَامِ، فَإِنْ غَرَّ أَوْ فَرَّطَ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا (التَّوْضِيحُ) إنْ غَرَّ بِفِعْلٍ ضَمِنَ، وَإِنْ غَرَّ بِقَوْلٍ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَفِي حَمْلِ الطَّعَامِ يَضْمَنُ مُطْلَقًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِصُحْبَةِ رَبِّهِ وَقَالَ بِهِ
(2/192)

الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ (التَّوْضِيحُ) أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَقْوَاتِ وَالْإِدَامِ بَلْ يَضْمَنُ جَمِيعَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ لِسُرْعَةِ مَدِّ الْأَيْدِي إلَيْهِ خِلَافًا لِابْنِ حَبِيبٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ فَرَّطَ أَمْ لَا يَعْنِي، وَلَا يُفَصَّلُ فِيهِ، كَمَا يُفَصَّلُ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ اللَّخْمِيُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ. اهـ.
وَإِلَى ضَمَانِ حَامِلِ الطَّعَامِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ.
وَضَمِنَ الطَّعَامَ بِاتِّفَاقٍ
وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي الْأَلْفِيَّةِ:
وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ ... خَارِجَةُ الْقَاسِمُ، ثُمَّ عُرْوَةُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللَّهِ ... سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
إمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمٌ ... أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمٌ
(2/193)

مَا نَصُّهُ مِنْ الْمَعْدُودِينَ فِي أَكَابِرِ التَّابِعِينَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَهُمْ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَهَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ، كَمَا قَالَ الْحَاكِمُ: وَجَعَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَكَانَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ذَكَرَهُمْ أَبُو الزِّنَادِ، فَجَعَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ مَكَانَ أَبِي سَلَمَةَ أَوْ سَالِمٍ اهـ.
وَقَدْ نَظَمَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى جَعْلِ أَبِي بَكْرٍ مَكَانَ السَّابِعِ، وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ فَقَالَ:
أَلَا كُلُّ مَنْ لَا يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ ... فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنْ الْحَقِّ يُحِدَّهُمْ
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ ... سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ يُحِدَّهُمْ
وَمَعْنَى ضِيزَى أَنَّهَا جَائِرَةٌ.
فَقَوْلُهُ عَنْ الْحَقِّ يُحِدَّهُمْ تَفْسِيرٌ لِضِيزَى قَوْلُهُ: وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ بِلَا يَمِينِ الْبَيْتَيْنِ لَمَّا عَدَّ الْأُمَنَاءَ الَّذِينَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ اسْتَطْرَدَ فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ، هَلْ يُصَدَّقُونَ فِي دَعْوَى التَّلَفِ وَنَحْوِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الضَّمَانُ بِغَيْرِ يَمِينٍ أَوْ بِيَمِينٍ؟ ، وَأَخْبَرَ آخِرَ الْبَيْتَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْيَمِينِ، هُوَ الْأَوْلَى عِنْدَ مَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ، وَأَمْعَنَ الْفِكْرَ، وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمَنْهَجِ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الْيَمِينِ، وَقَوْلُهُ:
وَالِاتِّهَامُ غَيْرُ مُسْتَبِينِ
شَرَحَهُ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ:
الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ بِلَا يَمِينِ
وَإِنَّ اتِّهَامَهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ حُكْمِ الْأَمَانَةِ غَيْرُ مُسْتَبِينٍ. اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ:
وَالِاتِّهَامُ غَيْرُ مُسْتَبِينِ:
حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سُقُوطَ الْيَمِينِ عَنْهُمْ هُوَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَهِيَ حَيْثُ لَمْ تَتَبَيَّنْ تُهْمَةٌ يَعْنِي، وَأَمَّا إنْ تَبَيَّنَتْ فَالْيَمِينُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ الشَّارِحُ عَنْ أُصُولِ الْفُتْيَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُمْ بِلَا يَمِينٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ. اهـ.
وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ بَانَتْ تُهْمَةٌ أَمْ لَا، فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْقَوْلِ بِلُزُومِ الْيَمِينِ حَيْثُ تَتَبَيَّنُ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى وَاَللَّهُ
(2/194)

أَعْلَمُ.
(تَتْمِيمٌ) ذَكَرَ النَّاظِمُ الْأُمَنَاءَ الَّذِينَ لَا يَضْمَنُونَ، وَسَكَتَ عَنْ مُقَابِلِيهِمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ، وَقَدْ عَدَّ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَنْهَجِ نَحْوَ التِّسْعَةِ، فَقَالَ:
يَضْمَنُ ذُو إرْثٍ وَرَهْنٍ وَخِيَارْ ... وَصَانِعُ عِرْسٍ وَحَاضِنُ مُعَارْ
وَحَامِلُ الطَّعَامِ كَاَلَّذِي حُبِسْ ... لِثَمَنِ ذَا غَيْبَةٍ إنْ اُلْتُبِسْ تَلَفُهُ
إلَخْ (فَالْأَوَّلُ) : الْوَارِثُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ دَيْنٌ أَوْ طَرَأَ وَارِثٌ أَوْ نَحْوُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَادَّعَى أَحَدُ الْوَرَثَةِ تَلَفَ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْعَيْنِ وَالطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ، وَاخْتُلِفَ إذَا قَامَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى الضَّيَاعِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَضْمَنُونَ.
(وَالثَّانِي) : الْمُرْتَهِنُ يَضْمَنُ الرَّهْنَ الَّذِي يُغَابُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ، فَلَا يَضْمَنُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. (وَالثَّالِثُ) : الْبَائِعُ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ مِنْهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ. (وَالرَّابِعُ) : الصَّانِعُ يَضْمَنُ مَصْنُوعَهُ إنْ ادَّعَى ضَيَاعَهُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلصَّنْعَةِ عِيَاضٌ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِلرَّجُلِ أَوْ الْجَمَاعَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَالصَّانِعُ الْخَاصُّ الَّذِي لَمْ يُنَصِّبْ نَفْسَهُ لِلصَّنْعَةِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ التَّضْمِينَ إنَّمَا كَانَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِي بَيْتِ رَبِّ السِّلْعَةِ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ جَلَسَ مَعَهُ أَمْ لَا ابْنُ حَبِيبٍ؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَجِيرٌ خَاصٌّ الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ رَبُّهُ مُلَازِمًا لَهُ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِحُضُورِهِ مَعَهُ يُشْبِهُ الصَّانِعَ الْخَاصَّ. (وَالْخَامِسُ) : الزَّوْجَةُ إذَا قَبَضَتْ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ مَهْرٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَادَّعَتْ تَلَفَهُ، فَتَضْمَنُ لَهُ نِصْفَهُ.
(وَالسَّادِسُ) : الْحَاضِنُ يَضْمَنُ مَا قَبَّضَ الْمَحْضُونَةَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مُؤَنِ الْمَحْضُونِ فَيَدَّعِي تَلَفَهُ، فَيَضْمَنُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ.
(وَالسَّابِعُ) : الْمُعَارُ، فَيَضْمَنُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ، وَيَضْمَنُ أَيْضًا مَا ثَبَتَ تَعَدِّيهِ فِيهِ أَوْ تَفْرِيطُهُ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَمْ لَا (الثَّامِنُ) : حَامِلُ الطَّعَامِ يَضْمَنُهُ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الَّذِينَ لَا يَضْمَنُوا. (التَّاسِعُ) : الْبَائِعُ الَّذِي يَحْبِسُ سِلْعَتَهُ، حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ أَوْ لِلْإِشْهَادِ، فَيَضْمَنُ تِلْكَ السِّلْعَةَ، كَمَا يَضْمَنُ الرَّهْنَ.
وَحَارِسُ الْحَمَّامِ لَيْسَ يَضْمَنُ ... وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بَلْ يَضْمَنُ
يَعْنِي أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي حَارِسِ ثِيَابِ دَاخِلِ الْحَمَّامِ، هَلْ يَضْمَنُهَا أَوْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) وَأَمَّا حَارِسُ الثِّيَابِ إنْ أَكْرَاهُ صَاحِبُ الْحَمَّامِ لِحِفْظِ الثِّيَابِ بِأُجْرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ إلَّا أَنْ يُضَيِّعَ أَوْ يُفَرِّطَ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْ النَّاسِ الدَّاخِلِينَ لِلْحَمَّامِ، فَقَالَ مَالِكٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ (ابْنُ لُبَابَةَ) ، وَمَا سِوَاهُ خَطَأٌ وَضَمَّنَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ نَفْيَ الضَّمَانِ عَلَى الْحَمَّامِيِّ وَالْحَارِسِ، وَلَوْ دُفِعَ لَهُ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَالْمُودَعِ يُدْفَعُ لَهُ أُجْرَةٌ عَلَى أَمَانَتِهِ (ابْنُ الْقَاسِمِ) ، وَلَوْ قَالَ الْحَارِسُ: جَاءَنِي إنْسَانٌ فَشَبَّهْتُهُ بِك فَدَفَعْت إلَيْهِ الثِّيَابَ، ضَمِنَ (اللَّخْمِيُّ) ، وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إنْ رَأَى إنْسَانًا يَأْخُذُ ثِيَابَكَ، فَتَرَكَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ أَنْتَ. اهـ.

[فَصْلٌ فِي الْقَرْضِ]
ِ وَهُوَ السَّلَفُ الْقَرْضِ وَهُوَ السَّلَفُ حَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: دَفْعُ مُتَمَوَّلٍ فِي عِوَضٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُ لَا عَاجِلًا تَفَضُّلًا فَقَوْلُهُ: مُتَمَوَّلٍ أَخْرَجَ بِهِ مَا لَيْسَ بِمُتَمَوَّلٍ إذَا دَفَعَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَرْضٍ وَلَا يُقْرَضُ، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي عِوَضٍ أَخْرَجَ بِهِ الْهِبَةَ قَوْلُهُ: غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ أَخْرَجَ بِهِ دَفْعَهُ فِي الْمُخَالِفِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ قَوْلُهُ: لَا عَاجِلًا عَطْفٌ بِلَا عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ
(2/195)

الْمُتَمَوَّلُ الْمَدْفُوعُ فِي عِوَضٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ حَالَةَ كَوْنِهِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا لَا عَاجِلًا، أَخْرَجَ بِهِ الْمُبَادَلَةَ الْمِثْلِيَّةَ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهَا الْحَدُّ لَوْلَا الزِّيَادَةُ، وَقَوْلُهُ تَفَضُّلًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ دُفِعَ لِأَجْلِ تَفَضُّلِ الْمُقْرِضِ عَلَى الْمُقْتَرِضِ وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ مِمَّا قُصِدَ بِدَفْعِهِ نَفْعُهُمَا مَعًا أَوْ نَفْعُ الْمُقْرِضِ أَوْ نَفْعُ أَجْنَبِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا قُصِدَ نَفْعُ الْمُقْتَرِضِ فَقَطْ
الْقَرْضُ جَائِزٌ وَفِعْلٌ جَارِ ... فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ فِي الْجَوَارِي
وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَجُرَّ مَنْفَعَهْ ... وَحَاكِمٌ بِذَاكَ كُلٌّ مَنَعَهْ
وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ أَنْ يُرَدَّا ... قَبْلَ انْقِضَاءِ أَجَلٍ قَدْ حُدَّا
وَإِنْ رَأَى مُسَلِّفٌ تَعْجِيلَهُ ... أُلْزِمَ مَنْ سَلَّفَهُ قَبُولَهُ.
اشْتَمَلَتْ الْأَبْيَاتُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ (الْأُولَى) : أَنَّ الْقَرْضَ أَيْ السَّلَفَ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْجَوَارِي، فَلَا يَجُوزُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَغَيْرَ بِمَعْنَى إلَّا وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَنْ تَسَلَّفَ جَارِيَةً جَازَ لَهُ رَدُّهَا بِعَيْنِهَا إنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، فَإِنْ رَدَّهَا فَقَدْ آلَ أَمْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ جَارِيَةً اسْتَمْتَعَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ رَدَّهَا لَهُ، وَهُوَ مِنْ إعَارَةِ الْفُرُوجِ.
(قَالَ الشَّارِحُ فِي تَمْهِيدِ ابْنِ فَتْحُونٍ) الْقَرْضُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَحْصُرُهُ صِفَتُهُ سِوَى الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّ لِلْمُقْرِضِ فِي كُلِّ شَيْءٍ اقْتَرَضَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ الْمَغِيبِ عَلَيْهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.
وَيَلْزَمُ الْمُقْرِضَ أَخْذُهُ مِنْهُ، فَلَوْ أُجِيزَ الْقَرْضُ فِي الْإِمَاءِ، لَكَانَ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِجَارِيَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَقْتَرِضَهَا مِنْهُ، فَيَطَأَهَا مَا شَاءَ، ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إلَى عَارِيَّةِ الْفُرُوجِ، وَإِبَاحَةِ وَطْئِهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ، فَسُدَّ هَذَا الْبَابُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَقْتَرِضَهَا ذُو مَحْرَمٍ أَوْ امْرَأَةٌ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا لِسَلَامَةِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ عَارِيَّةِ الْفُرُوجِ الْمَحْظُورَةِ ا. هـ.
فَإِذَا اقْتَرَضَ أَمَةً رَدَّهَا مَا بَطَّأَهَا ابْنُ يُونُسَ، فَإِنْ فَاتَتْ بِالْوَطْءِ، فَالْأَصْوَبُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا لَا رَدَّ مِثْلِهَا. اهـ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْقَرْضِ أَنْ لَا يَجُرَّ مَنْفَعَةً لِلْمُقْرِضِ بِالْكَسْرِ، فَإِنْ جَرَّ لَهُ مَنْفَعَةً لَمْ يَجُزْ كَسَلَفِهِ قَمْحًا قَدِيمًا لِيَرُدَّ لَهُ جَدِيدًا أَوْ سَائِسًا أَوْ عَفِنًا لِيَرُدَّ لَهُ جَيِّدًا (قَالَ فِي الْوَاضِحَةِ) : لَا يَجُوزُ سَلَفُ الطَّعَامِ السَّائِسِ، وَلَا الْعَفِنِ، وَلَا الْقَدِيمِ، لِيَأْخُذَ جَدِيدًا إلَّا إنْ نَزَلَتْ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ، فَسَأَلُوا رَبَّ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ إذْ الْمَنْفَعَةُ لَهُمْ دُونَهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ حِينَئِذٍ بَاعَهُ بِثَمَنٍ غَالٍ، وَفِي الْغَالِبِ أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ يَكُونُ وَقْتَ الْأَدَاءِ أَرْخَصَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ سَائِسٍ، وَلَا مَعْفُونٍ. اهـ.
وَإِلَى هَذِهِ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي فَقَوْلُهُ: أَنْ لَا يَجُرَّ مَنْفَعَهْ أَيْ لِلْمُقْرِضِ، وَقَوْلُهُ: وَحَاكِمٌ بِذَاكَ كُلٌّ مَنَعَهْ شَرَحَهُ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: وَالْحَاكِمُ بِإِجَازَةِ ذَلِكَ كُلُّ الْمَذْهَبِ عَلَى مَنْعِهِ اهـ.
، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ حَاكِمٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، وَمَعْنَاهُ الْمُؤَدِّي، وَالْمُوَصِّلُ، وَبَاءُ بِذَاكَ لِلْغَايَةِ عَلَى حَدٍّ " وَقَدْ أَحْسَنَ بِي " أَيْ إلَيَّ وَالْإِشَارَةُ لِجَرِّ الْمَنْفَعَةِ، وَالتَّقْدِيرُ، وَالْقَرْضُ الْمُؤَدِّي وَالْمُوَصِّلُ إلَى جَرِّ الْمَنْفَعَةِ كُلُّ الْفُقَهَاءِ مَنَعَهُ، وَلَمْ يُجِزْهُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : أَنَّ الْقَرْضَ إذَا كَانَ لِأَجَلٍ مَحْدُودٍ لَمْ يَلْزَمْ الْمُقْتَرِضَ رَدُّهُ قَبْلَ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُقْتَرِضُ، وَهُوَ الْمِدْيَانُ تَعْجِيلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ، فَذَلِكَ لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ، وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْتَيْنِ (قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ) : لَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي قَرْضِهِ مُنِعَ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالْعَادَةِ.
(وَفِي الْمُدَوَّنَةِ) إذَا كَانَ لَك دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ إلَى أَجَلٍ، فَعَجَّلَهَا لَك قَبْلَ الْأَجَلِ جُبِرَتْ عَلَى أَخْذِهَا كَانَتْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ انْتَهَى. وَفِي الرِّسَالَةِ وَمَنْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ مُؤَجَّلٍ، فَلَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ قَبْلَ
(2/196)

أَجَلِهِ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ الْعُرُوضَ، وَالطَّعَامَ مِنْ قَرْضٍ لَا مِنْ بَيْعٍ. اهـ.
فَقَوْلُ النَّاظِمِ: وَإِنْ رَأَى مُسَلِّفٌ تَعْجِيلَهُ يَشْمَلُ الْعَيْنَ وَالْعَرْضَ وَالطَّعَامَ الْحُكْمُ فِي الْقَرْضِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ الْعَيْنُ مِنْ غَيْرِهَا فِي الْبَيْعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق