الأحد، 14 يونيو 2015

كتاب الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام- بَابٌ فِي الْبُيُوعِ وَمَا شَاكَلَهَا- فصل في بيع الخيار والثنيا

[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ وَالثُّنْيَا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ وَالثُّنْيَا
بَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزُ الْوُقُوعِ ... لِأَجَلٍ يَلِيقُ بِالْمَبِيعِ
كَالشَّهْرِ فِي الْأَصْلِ، وَبِالْأَيَّامِ ... فِي غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ وَالطَّعَامِ
وَهُوَ بِالِاشْتِرَاطِ عِنْدَ الْعَقْدِ ... وَلَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ النَّقْدِ
(ابْنُ عَرَفَةَ) بَيْعُ الْخِيَارِ بَيْعٌ وُقِفَ بَتُّهُ أَوَّلًا عَلَى إمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ فَخَرَجَ بِقَوْلِهِ وُقِفَ بَتُّهُ بَيْعُ الْبَتِّ، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ غَيْرُ مَدْخُولٍ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ الْخِيَارُ الْحُكْمِيُّ أَيْ الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ حُكْمٌ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى الْبَتِّ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ، فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الرَّدِّ وَالتَّمَاسُكِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْبَتِّ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ بَتُّهُ أَوَّلًا عَلَى إمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ، فَيُقَالُ فِيهِ: بَيْعٌ آلَ إلَى خِيَارٍ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مِنِّي عَلَى خِيَارٍ وَبَيْعُ الثُّنْيَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عَمَّمَ ابْنُ رُشْدٍ لَفْظَ بَيْعِ الثُّنْيَا فِي بِيَاعَاتِ الشُّرُوطِ الْمُنَافِيَةِ لِلْبَيْعِ قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: بَيْعُ الشُّرُوطِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بَيْعُ الثُّنْيَا كَالْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُ وَلَا يَهَبُ (ابْنُ عَرَفَةَ) وَخَصَّهُ الْأَكْثَرُ بِمَعْنَى قَوْلِهَا فِي بُيُوعِ الْآجَالِ فَمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مِنِّي رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ قَالَ فِيهَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا اهـ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي خَصَّهُ بِهِ الْأَكْثَرُ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِبَيْعِ الثُّنْيَا،
وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ النَّاظِمُ بِدَلِيلِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ
بَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزُ الْوُقُوعِ
الْبَيْتَيْنِ أَخْبَرَ أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى الْخِيَارِ جَائِزٌ.
(قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) وَبَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزٌ وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَشْتَرِي مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ وَأَنَا عَلَيْكَ فِيهِ بِالْخِيَارِ إلَى وَقْفِ كَذَا
(قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) مُوجَبُ الْخِيَارِ. إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ هُوَ التَّرَوِّي، وَالثَّانِي هُوَ النَّقِيصَةُ، وَخِيَارُ التَّرَوِّي مُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِلتَّرَدُّدِ فِي الْعَقْدِ لَكِنْ أَجَازَهُ الشَّرْعُ لِيَدْخُلَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْلَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَازَ الْخِيَارُ أَصْلًا لَا فِي الثَّلَاثَةِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا اهـ وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِجَوَازِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَرْبِ أَجَلٍ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَحَدُّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَفِيهَا فِي الدَّارِ الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ، وَقِيلَ الشَّهْرَانِ وَفِيهَا فِي الرَّقِيقِ الْجُمُعَةُ وَنَحْوُهَا وَقِيلَ شَهْرٌ لِكِتْمَانِهِ عُيُوبَهُ وَفِيهَا يَرْكَبُ الدَّابَّةَ الْيَوْمَ وَنَحْوَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَرِيدَيْنِ هَذَا فِي الرُّكُوبِ وَإِلَّا فَتَجُوزُ الثَّلَاثَةُ، وَفِي الثَّوْبِ الثَّلَاثَةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِبَاسُهُ بِخِلَافِ اسْتِخْدَامِ الرَّقِيقِ (التَّوْضِيحُ)
وَفِي قَوْلِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ يَضْرِبُ مِنْ الْأَجَلِ أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ
(1/331)

تَقْلِيلًا لِلْغَرَرِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فَإِنْ شَرَطَ لِبَاسَ الثَّوْبِ فَقَالُوا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَإِذَا فُسِخَ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ لِأَجْلِ اللُّبْسِ ابْنُ يُونُسَ بِلَا خِلَافٍ وَقِيلَ لَا كِرَاءَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي كَوْنِ الْمُشْتَرِي لَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ اهـ وَآخِرُهُ بِالْمَعْنَى وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْكِرَاءِ مُخَرَّجٌ لَا مَنْصُوصٌ
(فِي الْمُدَوَّنَةِ) وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ الرُّطَبِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْخُضَرِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ النَّاسُ يُشَاوِرُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُمْ، وَيَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى رَأْيِهِمْ فَلَهُمْ مِنْ الْخِيَارِ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ النَّاسِ بِمَا لَا يَقَعُ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَلَا فَسَادٌ، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ
لِأَجَلٍ يَلِيقُ بِالْمَبِيعِ
كَالشَّهْرِ فِي الْأَصْلِ إلَخْ قَوْلُهُ
وَهُوَ بِالِاشْتِرَاطِ عِنْدَ الْعَقْدِ
يَعْنِي أَنَّ خِيَارَ التَّرَوِّي إنَّمَا يَصِحُّ بِالشَّرْطِ لَا بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَشْرُوطًا مَدْخُولًا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّ ابْنِ عَرَفَةَ لِبَيْعِ الْخِيَارِ.
قَوْلُهُ:
وَلَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ النَّقْدِ
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ اشْتِرَاطُ نَقْدِ الثَّمَنِ قَبْلَ مُضِيِّ أَجَلِ الْخِيَارِ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ
(قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) وَالنَّقْدُ فِيمَا بَعُدَ مِنْ أَجَلِ الْخِيَارِ أَوْ قَرُبَ لَا يَحِلُّ بِشَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ الْخِيَارِ بِغَيْرِ شَرْطِ النَّقْدِ فَلَا بَأْسَ بِالنَّقْدِ فِيهِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَالنَّقْدُ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ وَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِاشْتِرَاطِهِ قَوْلَانِ التَّوْضِيحُ وَالْمَعْرُوفُ الْفَسَادُ مَعَ الِاشْتِرَاطِ
(فَرْعٌ) لَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ السِّلَعِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَجْهُولَةً فَإِنْ عَقَدَا عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِمَا إلَى قُدُومِ زَيْدٍ لَا أَمَارَةَ عِنْدَهُمْ عَلَى قُدُومِهِ أَوْ إلَى أَنْ يُولَدَ لِفُلَانٍ وَلَا حَمْلَ عِنْدَهُ أَوْ إلَى أَنْ يَنْفُقَ سُوقُ السِّلْعَةِ وَلَا أَوَانَ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ عُرْفًا أَنَّهَا تَنْفُقُ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لَكِنْ إنْ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً وَلَا مَجْهُولَةً فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَيُحْمَلُ عَلَى خِيَارِ مِثْلِ السِّلْعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ زَادَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى مَا هُوَ أَمَدُ خِيَارِهَا فَسَدَ الْبَيْعُ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ
(فَرْعٌ) إذَا بِيعَ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ عَلَى خِيَارٍ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَمْ يَجُزْ عَلَى شَرْطِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً سَلَفًا اُنْظُرْ التَّوْضِيحَ
وَالْبَيْعُ بِالثُّنْيَا لِفَسْخٍ دَاعِ ... وَالْخَرْجُ بِالضَّمَانِ لِلْمُبْتَاعِ
وَلَا كِرَاءَ فِيهِ هَبْهُ لِأَجَلْ ... أَوْ لَا وَذَا الَّذِي بِهِ جَرَى الْعَمَلْ

وَالشَّرْحُ لِلثُّنْيَا رُجُوعُ مِلْكِ مَنْ ... بَاعَ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الثَّمَنْ
تَقَدَّمَ أَوَّلَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى تَعْرِيفِ بَيْعِ الثُّنْيَا مَا هُوَ؛ وَأَنَّهُ الْبَيْعُ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ
(2/3)

مَتَى أَتَى بِالثَّمَنِ؛ يُرِيدُ أَوْ إلَى مُدَّةِ كَذَا فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ، وَلَوْ قَدَّمَهُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ لَكَانَ أَوْلَى لِمَا فِي كَلَامِهِ مِنْ تَقْدِيمِ الْحُكْمِ عَلَى التَّصَوُّرِ، فَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى ذَلِكَ فُسِخَ مَا لَمْ يَفُتْ فَإِذَا فُسِخَ لَمْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْغَلَّةَ، لِأَنَّ الضَّمَانَ كَانَ مِنْهُ فَالْغَلَّةُ لَهُ بِخَبَرِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» كَانَ لِأَجَلٍ أَوْ لِغَيْرِ أَجَلٍ لَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ
(قَالَ الْمُتَيْطِيُّ) أَمَّا الثُّنْيَا فَلَا تُجَوِّزُ انْعِقَادَ الْبِيَعِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَبِيعُك هَذَا الْمِلْكَ أَوْ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ كَذَا عَلَى أَنِّي إنْ أَتَيْتُك بِالثَّمَنِ إلَى مُدَّةِ كَذَا وَقَالَ مَتَى أَتَيْتُك بِهِ وَلَمْ يَحُدَّ مُدَّةً فَالْمَبِيعُ مَرْدُودٌ إلَى مَصْرُوفٍ عَلَيَّ فَإِنْ تَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فُسِخَ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَفُتْ ذَلِكَ بِيَدِ الْمُبْتَاعِ فَيُلْزَمْ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْقَبْضِ. وَفَوْتُ الْأُصُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْهَدْمِ، وَالْبِنَاءِ، وَالْغَرْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إلَّا أَشْهَبَ وَأَصْبَغَ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ يُفِيتُهَا، حَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ سَوَاءٌ، وَلِلْمُبْتَاعِ مَا اُغْتُلَّ فِي الْمِلْكِ قَبْلَ الْفَسْخِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ حِينَ بِيعَ ثَمَرٌ مَأْبُورٌ وَاشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَعَ الْأُصُولِ إنْ كَانَ حَاضِرًا إمَّا
(2/4)

مَكِيلَتُهُ إنْ عَلِمَهَا وَوَجَدَهُ يَابِسًا أَوْ الْقِيمَةُ إنْ جَهِلَ الْكَيْلَ أَوْ وَجَدَهُ رَطْبًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ الْمَعْمُولُ بِهِ اهـ وَحَكَى ابْنُ سَلْمُونٍ فِي بَيْعِ الثُّنْيَا قَوْلَيْنِ هَلْ هُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ؛ فَلَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْغَلَّةَ أَوْ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا؛ وَعَلَيْهِ فَيَرُدُّ الْغَلَّةَ وَتَكُونُ لِلْبَائِعِ. قَالَ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا كِرَاءَ فِيهِ كَانَ إلَى أَجَلٍ أَوْ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ الْعَمَلُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ إنْ وَقَعَ إلَى أَجَلٍ كَانَ فِيهِ الْكِرَاءُ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ، وَإِنْ وَقَعَ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ فَلَا كِرَاءَ فِيهِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا حَدَثَ عِنْدَهُ أَمَّا إنْ اشْتَرَى الْأُصُولَ وَفِيهَا ثِمَارٌ مَأْبُورَةٌ، وَاشْتَرَطَهَا الْمُبْتَاعُ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي كَلَامِ الْمُتَيْطِيِّ لِأَنَّهُ دَفَعَ لَهَا حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ، وَلَيْسَتْ بِخَرَاجٍ يَكُونُ لِلْمُبْتَاعِ بِالضَّمَانِ فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ ثَمَنُهُ بِجُمْلَتِهِ فَمِنْ حَقِّ الْبَائِعِ أَنْ يَعُودَ لَهُ أَصْلُهُ بِثَمَرَتِهِ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى النَّاظِمِ بِعَدَمِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَهُوَ ظَاهِرٌ
(الثَّانِي) قَالَ الْحَطَّابُ وَهَذَا كُلُّهُ أَيْ كَوْنُ الْمُشْتَرِي لَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ إنَّمَا هُوَ إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَاسْتَغَلَّهُ إمَّا بِكِرَاءٍ أَوْ سُكْنَى وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَهُوَ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى وَذَلِكَ، أَنَّ الشَّيْخَ يَبِيعُ الدَّارَ مَثَلًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَهِيَ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَوْ خَمْسَةً، وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَتَى جَاءَهُ بِالثَّمَنِ رَدَّهَا إلَيْهِ، ثُمَّ يُؤَجِّرُهَا الْمُشْتَرِي لِبَائِعِهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي، وَقَبْلَ أَنْ يُخْلِيهَا الْبَائِعُ مِنْ أَمْتِعَةٍ بَلْ يَسْتَمِرُّ الْبَائِعُ عَلَى سُكْنَاهَا إنْ كَانَتْ مَحَلَّ سُكْنَاهُ، أَوْ عَلَى وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهَا، أَوْ إجَارَتِهَا، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْمُشْتَرِي الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحُ الرِّبَا، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَاهُ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حُكِمَ بِالْغَلَّةِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِانْتِقَالِ الضَّمَانِ إلَيْهِ، وَهُنَا لَمْ يَنْتَقِلْ الضَّمَانُ لِبَقَاءِ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ بَائِعِهِ، فَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْغَلَّةِ، بَلْ لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَتَسَلَّمَهُ بَعْدَ أَنْ أَخْلَاهُ الْبَائِعُ ثُمَّ آجَرَهُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ الْيَدِ، وَعَادَ إلَيْهَا لِغُلُوٍّ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ وَآلَ الْحَالُ إلَى صَرِيحِ الرِّبَا وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
(الْحَطَّابُ) وَسَمِعْتُ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لِلْمُشْتَرِي بِالْغَلَّةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا كَانَ جَاهِلًا بِفَسَادِ حَالِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَتَعَمَّدَ فَلَا غَلَّةَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ مَنْصُوصًا وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ اهـ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ عِنْدَنَا وَأَكْثَرُ، وَتَجَدُّدُ الدَّارِ فِي مِثْلِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ يُسَاوِي كِرَاؤُهَا خَمْسَ أَوَاقٍ فِي الشَّهْرِ مَثَلًا وَيَكْتَرِيهَا بَائِعُهَا مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِعَشْرِ أَوَاقٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِيَتَوَصَّلَ الْبَائِعُ لِفَائِدَةِ مَالِهِ الَّذِي دَفَعَ لِبَائِعِهَا، وَلَا يَكْفِيهِ فِي ذَلِكَ كِرَاؤُهَا بِمَا تُسَاوِيهِ وَمِنْ مَفَاسِدِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقْتَضِي الْأَجَلُ، وَلَا يَجِدُ مَا يَدْفَعُ لِلْمُشْتَرِي، فَيَمْضِي الْبَيْعُ بِمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا، أَوْ أَقَلُّ فَيَجْتَمِعُ عَلَى بَائِعِهَا كَثْرَةُ مَا أَعْطَى فِي الْكِرَاءِ وَقِلَّةُ الثَّمَنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَةِ، وَلَا تَجِدُ فِيمَنْ يُعَامِلُهُمْ فِي الْغَالِبِ رَأْفَةً وَلَا رَحْمَةً بَلْ قُلُوبُهُمْ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَكَأَنَّهُ تَقَدَّمَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ قَدِيمَةٌ. هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيمَا رَأَيْنَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
(الثَّالِثُ) إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي بَيْعِ الثُّنْيَا الْجَائِزِ
(قَالَ التَّوْضِيحُ) لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى بَيْعِ الْخِيَارِ، وَأَنَّهُ يُورَثُ أَقَامَ أَبُو مُحَمَّدٍ صَالِحٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنَّ الْخِيَارَ يُورَثُ أَنَّ الثُّنْيَا تُورَثُ أَيْ الْجَائِزَةُ إذَا مَاتَ الْمُتَطَوِّعُ لَهُ بِهَا وَهُوَ الْبَائِعُ وَاخْتَلَفُوا إذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي الَّذِي تَطَوَّعَ بِهَا هَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ وَرَثَتَهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إبْرَاهِيمَ أَوْ لَا يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَضْلِ رَاشِدٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْحَطَّابُ وَمَا قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ رَاشِدٍ وَرَجَّحَهُ أَبُو الْحَسَنِ هُوَ الظَّاهِرُ وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ الثُّنْيَا إذَا كَانَتْ عَلَى التَّطَوُّعِ فَهِيَ مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَالْفَلَسِ اهـ وَهَذَا فِي الصَّحِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا الْفَاسِدَةُ فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ كَمَا تَقَدَّمَ اهـ كَلَامُ الْحَطَّابِ
(قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ بِفَضْلِهِ) وَقَدْ قُلْت فِي نَظْمِنَا الْمُسَمَّى بِبُسْتَانِ فِكَرِ الْمُهَجِ فِي تَذْيِيلِ الْمَنْهَجِ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَيْعِ الثُّنْيَا مَا نَصُّهُ
(2/5)

إنْ مَاتَ بَائِعٌ بِثُنْيَا انْتَقَلَتْ ... لِوَارِثٍ وَالْعَكْسُ قَالُوا بَطَلَتْ
إذْ بَائِعٌ فِيهِ كَمَوْهُوبٍ لَهُ ... وَمُشْتَرٍ كَوَاهِبٍ عِ أَصْلَهُ
وَذَاكَ فِي الطَّوْعِ بِهَا أَمَّا إذَا ... كَانَتْ بِشَرْطِ الْفَسَادِ أَنْبِذَا
ثَمَّتْ هَلْ بَيْعُ فَسَادٍ أَوْ سَلَفْ ... يَجُرُّ نَفْعًا فِي الْخَرَاجِ يُخْتَلَفْ
وَذَاكَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَمَّا قَبْلَهُ ... بِالِاتِّفَاقِ رَدَّ مَا اسْتَغَلَّهُ
قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَجَازَ إنْ وَقَعَ بَعْدَ الْعَقْدِ ... طَوْعًا بِحَدٍّ وَبِغَيْرِ حَدِّ
وَحَيْثُمَا شَرْطٌ عَلَى الطَّوْعِ جُعِلْ ... فَالْأَحْسَنُ الْكَتْبُ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلْ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعٍ لِلطَّوْعِ ... لَا مُدَّعِي الشَّرْطِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ
يَعْنِي أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى خِيَارٍ تَارَةً يَكُونُ مَدْخُولًا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِحَيْثُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى خِيَارٍ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا، وَتَارَةً يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْبَتِّ ثُمَّ يَجْعَلُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي نَبَّهَ النَّاظِمُ هُنَا بِقَوْلِهِ وَجَازَ إنْ وَقَعَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَفَاعِلُ جَازَ لِلْخِيَارِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا مِنْ بَيْعِ الْخِيَارِ مُدْخَلَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ بَيْعِ الثُّنْيَا فَلَوْ قَدَّمَهَا عَلَى بَيْعِ الثُّنْيَا لَكَانَ أَنْسَبَ لَا مِنْ بَيْعِ الثُّنْيَا وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ضَرْبِ أَجَلٍ لَأَمَدِ الْخِيَارِ فَإِنْ جَعَلَاهُ فِيهَا وَنَعِمَتْ وَإِنْ لَمْ لَا يَجْعَلَا لَهُ أَجَلًا ضُرِبَ لَهُ مِنْ الْأَجَلِ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْمَبِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ بِحَدٍّ وَبِغَيْرِ حَدٍّ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّارِحِ حَيْثُ نَزَلَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ جَعَلَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ بَعْد تَمَامِ الْبَيْعِ، فَذَلِكَ يَلْزَمُهُمَا إذَا كَانَ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخِيَارُ، وَهُوَ بَيْعٌ مُؤْتَنَفٌ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ صَارَ بَائِعًا اهـ وَإِلَى هَذَا الْفَرْعِ أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ فِي فَصْلِ الْخِيَارِ وَصَحَّ بَعْدَ بَتٍّ.
وَالظَّاهِرُ أَوْ الْمُتَعَيَّنُ أَنَّ مُرَادَ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الثُّنْيَا إذَا وَقَعَتْ طَوْعًا بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَانْبِرَامِهِ فَهِيَ جَائِزَةٌ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ هُنَا تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ قَبْلُ. وَالْبَيْعُ بِالثُّنْيَا لِفَسْخِ دَاعٍ فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ الْبَيْعَ الْمَصْحُوبَ بِالثُّنْيَا يُفْسَخُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عَدَمَ جَوَازِهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالثُّنْيَا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ قَبْلَ الْبَيْتِ وَبَعْدَهُ، وَفَاعِلُ جَازَ عَلَى هَذَا الْبَيْعِ بِالثُّنْيَا الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ، وَيَكُونُ النَّاظِمُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ، وَجَازَ إنْ وَقَعَ الْبَيْتَ لِقَوْلِ ابْنِ سَلْمُونٍ وَغَيْرِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَطَاعَ بِالثُّنْيَا بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ هَذَا الطَّوْعُ إلَى أَجَلٍ وَإِلَى غَيْرِ أَجَلٍ انْتَهَى مَحَلُّ الْحَاجَةِ الْآنَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ النَّاظِمَ كَثِيرًا مَا يَتْبَعُ ابْنَ سَلْمُونٍ فَهُوَ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى فَهْمِ هَذَا النَّظْمِ
(قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ بِفَضْلِهِ) اُنْظُرْ هَلْ يُقَالُ: إنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ - يَصِحُّ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَتِّ - يَحْتَمِلُ بَيْعَ الْخِيَارِ، وَيَحْتَمِلُ بَيْعَ الثُّنْيَا؛ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى جَعْلِ الْخِيَارِ فِي الْحَالِ، وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ بَيْعِ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِي جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ فَهُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي مُنْحَلٌّ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ كَذَا صَرَّحَ بِهِ الرَّصَّاعُ فِي شَرْحِ حَدِّ بَيْعِ الْخِيَارِ وَعَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ أَجَلٍ يَلِيقُ بِالْمَبِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ يَجْرِي عَلَى أَحْكَامِ بَيْعِ الْخِيَارِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ بَيْعٌ مُؤْتَنَفٌ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا قَبِلَ مَا جَعَلَ لَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْخِيَارِ، فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا عَلَى خِيَارٍ لَهُ، وَإِنْ دَلَّتْ قَرَائِنُ الْحَالِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَنِ التَّبَايُعِ، وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ، أَوْ لِأَجَلٍ بَعِيدٍ لَا يُضْرَبُ مِثْلُهُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ، فَهُوَ بَيْعُ ثُنْيَا طَوْعًا بَعْدَ الْعَقْدِ فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ بَيْعِ الثُّنْيَا أَمَّا إنْ وَقَعَ تَصْرِيحٌ بِإِحْدَى الْوِجْهَتَيْنِ فَلَا إشْكَالَ وَعَلَى هَذَا فَبَيْعُ الْخِيَارِ أَعَمُّ مِنْ بَيْعِ الثُّنْيَا فَكُلُّ ثُنْيَا خِيَارٌ وَلَيْسَ كُلُّ خِيَارٍ ثُنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ
وَحَيْثُمَا شَرْطٌ عَلَى الطَّوْعِ جُعِلْ
الْبَيْتَ أَشَارَ بِهِ لِقَوْلِ الْمُتَيْطِيِّ وَذَكَرَ هَذَا الطَّوْعَ فِي آخِرِ
(2/6)

عَقْدِ الِابْتِيَاعِ قَبْلَ تَقْيِيدِ الْإِشْهَادِ، وَبَعْدَ وَصْفِ الْبَيْعِ أَنَّهُ انْعَقَدَ دُونَ شَرْطٍ وَلَا ثُنْيَا وَلَا خِيَارٍ لَمْ يُخِلَّ بِالْعَقْدِ وَكَانَ جَائِزًا كَالتَّبَرِّي مِنْ الْوَصْفِ سَوَاءٌ. وَعَقْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَثِيقَةِ الِابْتِيَاعِ أَحْسَنُ وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ لِيُبْعِدُوا الظِّنَّةَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَفِي ظَاهِرِ قَوْلِ النَّاظِمِ شَرْطٌ عَلَى الطَّوْعِ شِبْهُ تَنَافٍ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطٌ لَيْسَ بِطَوْعٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِقَالَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ طَوْعًا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ فَيَجُوزُ كَتْبُهُ فِي رَسْمِ التَّبَايُعِ وَالْأَحْسَنُ كَتْبُهُ فِي عَقْدٍ وَحَدَهُ مُسْتَقِلٍّ. وَلَوْ قَالَ (وَحَيْثُمَا الثُّنْيَا عَلَى الطَّوْعِ جُعِلْ لَكَانَ أَوْلَى) .
قَوْلُهُ:
وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعٍ لِلطَّوْعِ
الْبَيْتَ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي بَيْعِ الثُّنْيَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا، وَذَلِكَ كَانَ طَوْعًا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ كَانَ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الطَّوْعِ، لِأَنَّهُ ادَّعَى الصِّحَّةَ وَهِيَ الْأَصْلُ لَا لِمُدَّعِي الشَّرْطِ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفَسَادَ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ النَّاظِمُ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ هُوَ الَّذِي فِي وَثَائِق ابْنِ الْعَطَّارِ وَهَلْ بِيَمِينٍ أَوْ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ لَهُ بِالطَّوْعِ قَوْلَانِ وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ عَنْ الْمُشَاوِرِ مَنْ ادَّعَى مِنْهُمَا، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَصْلِ الصَّفْقَةِ حَلَفَ وَفُسِخَ الْبَيْعُ لِمَا قَدْ جَرَى مِنْ عُرْفِ النَّاسِ قَالَ وَبِذَلِكَ كَانَتْ الْفُتْيَا عِنْدَنَا وَقَالَ سَحْنُونٌ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ هَذَا فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِلَّا فَلَا. نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ سَلْمُونٍ وَالْمُتَيْطِيُّ.
وَقَدْ بَحَثَ الشَّارِحُ فِي كَوْنِ الْقَوْلِ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ الْفَسَادُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يَغْلِبُ فِيهَا الْفَسَادُ، وَكَادَتْ أَنْ لَا تَقَعَ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْفَاسِدِ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ فِيهَا عَنْ كَوْنِ الْقَوْلِ لِمُدَّعِي الْفَسَادِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُشَاوِرِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ عَلَى الْفَسَادِ: كَوْنُ الْبَيْعِ يَقَعُ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَتَحَقَّقُهُ الْمُتَبَايِعَانِ، وَلَوْلَا الدُّخُولُ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْتِقَادُ الْبَائِعِ أَنَّ ذَلِكَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي كَالرَّهْنِ، مَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، وَلَا بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ
(تَنْبِيهٌ) مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الثُّنْيَا طَوْعًا أَوْ شَرْطًا إنَّمَا هُوَ إذَا سَقَطَ مِنْ الْوَثِيقَةِ كَوْنُ الْبَيْعِ لَا شَرْطَ فِيهِ وَلَا ثُنْيَا، وَلَا خِيَارَ أَمَّا إنْ كَانَ فِيهَا ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّ
(قُلْت) يَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُرِئَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْ ادَّعَى الْفَسَادَ فُهِمَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُوَثِّقِ، لَا شَرْطَ فِيهِ وَلَا ثُنْيَا. وَعُرِفَ مَعْنَاهُ، فَلَا إشْكَالَ فِي كَوْنِ الْقَوْلِ قَوْلَ مُدَّعِي الصِّحَّةِ وَإِنْ لَمْ يُقْرَأْ عَلَيْهِ أَوْ قُرِئَ وَلَمْ يَتَنَازَلْ مَعَهُ لِفَهْمِ مَا ذُكِرَ وَلَا لِعَدَمِ فَهْمِهِ، فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ، لِأَنَّ جُلَّ الْمُوَثِّقِينَ يَكْتُبُونَ الْوَثِيقَةَ عَلَى الْمِسْطَرَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِفَهْمِ بَعْضِ فُصُولِهَا، هَذَا فِي الْكَاتِبِ. فَمَا بَالُك بِالْعَامِّيِّ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْعَامَّةَ عِنْدَنَا الْيَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى الثُّنْيَا الَّتِي تَفِي الْمُوَثِّقَ، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَ ذَلِكَ: الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ. فَكَيْفَ يُؤَاخَذُ بِمَا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. وَهَذَا أَيْضًا مَا لَمْ يَكُنْ الْمُدَّعِي قَدْ أَشْهَدَ بِإِسْقَاطِ دَعْوَاهُ وَاسْتِرْعَاءَاتِهِ. فَلَا يُلْتَفَتُ حِينَئِذٍ إلَى دَعْوَاهُ. وَلَوْ أَثْبَتَهَا بِبَيِّنَةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَجَابَ الْإِمَامُ السَّنُوسِيُّ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ آخِرَ السِّفْرِ الثَّالِثِ فِي صُلْحٍ اُدُّعِيَ فَسَادُهُ وَقَدْ كَانَ أَشْهَدَ بَعْضَ الْمُصَالِحِينَ بِإِسْقَاطِ دَعْوَى الْفَسَادِ.
(تَفْرِيعٌ) تَقَدَّمَ أَنَّ الثُّنْيَا عَلَى وَجْهَيْنِ: مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّوْعُ إلَى أَجَلٍ لَزِمَ الْمُبْتَاعَ مَتَى جَاءَهُ الثَّمَنُ فِي خِلَالِ الْأَجَلِ، أَوْ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، أَوْ بَعْدَهُ، عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْ الْمَبِيعِ وَيُعِيدَهُ إلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ تَفْوِيتُهُ فِي خِلَالِ الْأَجَلِ، فَإِنْ فَعَلَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ نُقِضَ إنْ أَرَادَهُ الْبَائِعُ، وَرُدَّ إلَيْهِ. وَإِنْ أَفَاتَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَلَمْ يَأْتِ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ إلَّا عَلَى بُعْدٍ مِنْ انْقِضَائِهِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَضْرِبَا فِي ذَلِكَ أَجَلًا فَلِلْبَائِعِ أَخْذُهُ مَتَى جَاءَهُ بِالثَّمَنِ فِي قُرْبِ الزَّمَنِ أَوْ بَعْدَهُ مَا لَمْ يَفُتْهُ الْمُبْتَاعُ، فَإِنْ أَفَاتَهُ الْمُبْتَاعُ فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ إلَيْهِ. فَإِنْ قَامَ عَلَيْهِ حِينَ إرَادَةِ التَّفْوِيتِ، فَلَهُ مَنْعُهُ بِالسُّلْطَانِ إذَا كَانَ مَالُهُ حَاضِرًا. فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ مَنْعِ السُّلْطَانِ رُدَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ فَوَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ بِتَوْقِيفِهِ نُقِدَ تَفْوِيتُهُ. نَقَلَهُ الشَّارِحُ عَنْ الْمُتَيْطِيِّ وَنَحْوَهُ فِي ابْنِ سَلْمُونٍ
(2/7)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق