الجمعة، 12 يونيو 2015

كتاب الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام - باب في البيوع وما شاكلها - [فَصْلٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَالتَّصْيِيرِ]

باب في البيوع وما شاكلها

كتاب
الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام
المعروف  بشرح ميارة


المؤلف
 أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد الفاسي، ميارة
(المتوفى: 1072هـ) 
الناشر: دار المعرفة
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

[بَابٌ فِي الْبُيُوعِ وَمَا شَاكَلَهَا]




[فَصْلٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَالتَّصْيِيرِ]


(فَصْلٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَالتَّصْيِيرِ)
تَوْلِيَةُ الْمَبِيعِ جَازَتْ مُطْلَقَا ... وَلَيْسَ ذَاكَ فِي الطَّعَامِ مُتَّقَى
(ابْنُ عَرَفَةَ) : التَّوْلِيَةُ تَصْيِيرُ مُشْتَرٍ مَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِ بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ، وَهِيَ فِي الطَّعَامِ غَيْرَ جُزَافٍ قَبْلَ كَيْلِهِ رُخْصَةٌ لِلْحَدِيثِ اهـ، وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ: " لِغَيْرِ بَائِعِهِ " الْإِقَالَةَ وَبِقَوْلِهِ: " بِثَمَنِهِ " مَا إذَا صَيَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَأَقَلَّ فَإِنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَيْسَ بِتَوْلِيَةٍ قَوْلُهُ: " تَوْلِيَةُ الْمَبِيعِ ".
(الْبَيْتَ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ الْمُشْتَرَى طَعَامًا، أَوْ غَيْرَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَإِلَى هَذَا الْعُمُومِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " مُطْلَقًا " وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَجَائِزَةٌ لِلْحَدِيثِ.
(وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْأُصُولِ، وَغَيْرِهَا جَائِزَةٌ وَفِي النَّوَادِرِ مِنْ الْوَاضِحَةِ قَالَ: الْإِقَالَةُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ مُخْرَجَةٌ بِرُخْصَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا خَرَجَ بَيْعُ الْعَرِيَّةِ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَكَمَا خَرَجَتْ الْحَوَالَةُ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ مَالِكٌ: " وَمَنْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ فَوَلَّى بَعْضَهَا قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ مِثْلُ أَنْ يُوَلِّيَ رُبُعَهَا بِرُبُعِ الثَّمَنِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي جَمِيعِ الْعُرُوضِ كُلِّهَا (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى بَأْسًا بِالشَّرِكَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالْإِقَالَةِ فِي الطَّعَامِ وَفِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إذَا أَسْلَمَ فِيهَا وَانْتَقَدَ الثَّمَنَ اهـ.
وَالشَّرْطُ فِي التَّصْيِيرِ أَنْ يُقَدَّرَا ... دَيْنٌ وَانِجَازٌ لِمَا تَصَيَّرَا
وَالْعَرَضُ صَيِّرْهُ بِلَا مُنَازَعَهْ ... وَالْحَيَوَانُ حَيْثُ لَا مُوَاضَعَهْ
وَجَائِزٌ فِيهِ مَزِيدُ الْعَيْنِ ... حَيْثُ يَقِلُّ عَنْهُ قَدْرُ الدَّيْنِ
وَالْخُلْفُ فِي تَصْيِيرِ مَا كَالسُّكْنَى ... أَوْ ثَمَرٍ مُعَيَّنٍ لِيُجْنَى
اشْتَمَلَتْ الْأَبْيَاتُ عَلَى خَمْسِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّصْيِيرِ الْأُولَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الدَّيْنِ الْمُصَيَّرِ فِيهِ لِأَنَّ التَّصْيِيرَ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ وَمِنْ شَرْطِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ مَعْرِفَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا صُيِّرَ تَمَخِّيًا كَمَا يَأْتِي، وَإِلَى هَذَا الشَّرْطِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَالشَّرْطُ فِي التَّصْيِيرِ أَنْ يُقَدَّرَا
دَيْنٌ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَيْضًا قَبْضُ الشَّيْءِ الْمُصَيَّرِ نَاجِزًا (قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ) وَتَصْيِيرُ الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا فِي الدُّيُونِ مِنْ نَاحِيَةِ الْبُيُوعِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُفْتَقِرٌ إلَى أَنَّ إنْجَازَ التَّقَابُضِ فِي حِينِ الصَّفْقَةِ فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَسَدَ، وَدَخَلَهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ كَمَنْ صَيَّرَ فِي دَيْنِهِ دَارًا غَائِبَةً أَوْ حَاضِرَةً عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ مُدَّةً قَرِيبَةً، أَوْ بَعِيدَةً أَوْ سِلْعَةً عَلَى الْخِيَارِ أَوْ جَارِيَةً يُتَوَاضَعُ مِثْلُهَا أَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مِنْ وَخْشِ الرَّقِيقِ عَلَى الْعُهْدَةِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّأْخِيرِ وَيَجُوزُ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ مِنْ الْوَخْشِ إذَا بِيعَا عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الرَّائِعَةِ لِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ لَا تَسْقُطُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ صَيَّرَ إلَيْهِ فِي دَيْنِهِ
(2/75)

سُكْنَى دَارٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ الْمَعْمُولُ بِهِ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ دَيْنِهِ دَارًا غَائِبَةً لِأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ، أَوْ عَبْدًا بِخِيَارٍ أَوْ أَمَةً تُتَوَاضَعُ أَوْ سُكْنَى دَارٍ وَجُعِلَ قَبْضُ أَوَائِلِ السُّكْنَى قَبْضًا لِآخِرِهَا كَمَا جَازَ عِنْدَهُ اكْتِرَاؤُهَا بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ وَجُعِلَ قَبْضُ أَوَائِلِ السُّكْنَى قَبْضًا لِجَمِيعِهِ وَلَمْ يَرَهُ مِنْ الدَّيْنَيْنِ الْمَضْمُونَيْنِ جَمِيعًا قَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ هُوَ أَقْيَسُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ شِرَاءُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ اهـ.
وَإِلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ نَاجِزًا أَشَارَ بِقَوْلِهِ.: " وَالْإِنْجَازُ لِمَا تَصَيَّرَا ".
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ يَجُوزُ تَصْيِيرُ الْعُرُوضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَكَذَا الْحَيَوَانُ إلَّا الْأَمَةَ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى الْمُوَاضَعَةِ وَمَا لَا يُقْبَضُ فِي الْحَالِ كَالدَّارِ الْغَائِبَةِ، وَالْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُتَيْطِيِّ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَالْعَرَضُ صَيِّرْهُ بِلَا مُنَازَعَهْ
الْبَيْتَ وَيَجُوزُ فِي لَفْظِ الْعَرَضِ النَّصْبُ عَلَى الِاشْتِغَالِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَكَذَا لَفْظُ الْحَيَوَانِ.
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمُصَيَّرِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ رَبُّ الدَّيْنِ الْمُصَيَّرُ لَهُ الْعَرَضُ مِنْ الْعَيْنِ مَا يُكْمِلُ بِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْعَرَضِ الْمُصَيَّرِ فِيهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِائَةً فَيُصَيِّرَ لَهُ عَرَضًا يُسَاوِي مِائَةً وَعِشْرِينَ وَيَزِيدَهُ رَبُّ الدَّيْنِ عِشْرِينَ وَيَشْتَرِطَ أَنْ تَكُونَ مُعَجَّلَةً، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَجَائِزٌ فِيهِ مَزِيدُ الْعَيْنِ
الْبَيْتَ فَضَمِيرُ فِيهِ لِلتَّصْيِيرِ وَضَمِيرُ عَنْهُ لِلْعَرَضِ الْمُصَيَّرِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عَنْ قِيمَةِ الْعَرَضِ الْمُصَيَّرِ وَ " قَدْرُ الدَّيْنِ " فَاعِلُ يَقِلُّ.
(قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ) : وَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ لَهُ زَادَ فِي الدَّارِ زِيَادَةً عَلَى الدَّيْنِ جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بُدٌّ مِنْ تَنَاجُزِ الْقَبْضِ كَانَ الدَّيْنُ مُعْظَمَ الثَّمَنِ، أَوْ يَسِيرًا مِنْهُ لِمَا يَدْخُلُهُ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ اهـ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ النَّاظِمِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُتَيْطِيِّ: وَإِنْ كَانَ الْمُصَيَّرُ لَهُ زَادَ فِي الدَّارِ زِيَادَةً إلَخْ أَنَّ الَّذِي صُيِّرَتْ لَهُ الدَّارُ فِي دَيْنِهِ قَاصٌّ رَبَّهَا بِالدَّيْنِ وَزَادَ زِيَادَةً لِكَوْنِ قِيمَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ وَكَذَلِكَ عَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَرَضِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْعَرَضِ أَنْ يَزِيدَ مِنْ الْعَيْنِ مَا يُكْمِلُ بِهِ خَلَاصَ دَيْنِهِ قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ: " وَكَذَلِكَ إنْ صَيَّرَ لَهُ مِلْكًا فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً زَادَهَا لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنَاجُزِ " اهـ.
وَهَذَا إذَا عَطَفْنَا قَوْلَ ابْنِ سَلْمُونٍ: " وَزِيَادَةً " عَلَى " مِلْكًا " وَأَمَّا إنْ عَطَفْنَاهُ عَلَى دَيْنٍ فَتَكُونُ هِيَ مَسْأَلَةَ النَّاظِمِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْوَثِيقَةِ الَّتِي ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِي تَصْيِيرِ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُقْبَضُ كُلُّهُ دَفْعَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا وَتَقَدَّمَ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْمُتَيْطِيِّ: وَكَذَلِكَ إنْ صَيَّرَ إلَيْهِ فِي دَيْنِهِ سُكْنَى دَارٍ. . . إلَخْ.
وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَالْخُلْفُ فِي تَصْيِيرِ مَا كَالسُّكْنَى
الْبَيْتَ فَقَوْلُهُ: " أَوْ ثَمَرٍ " عُطِفَ عَلَى " مَا " وَقَوْلُهُ: " لِيُجْنَى " أَيْ لِكَوْنِهِ يُجْنَى شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَا يُتَنَجَّزُ قَبْضُ جَمِيعِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
(فَرْعٌ) وَهَلْ يَفْتَقِرُ التَّصْيِيرُ إلَى حِيَازَةٍ أَمْ لَا وَعَلَى الْحِيَازَةِ فَهَلْ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ يَكْفِي فِيهَا الِاعْتِرَافُ قَالَ الْمِكْنَاسِيُّ فِي مَجَالِسِهِ: قُلْت أَفْتَى فِيهَا الْقَاضِي أَبُو سَالِمٍ إبْرَاهِيمُ الْيَزْنَاسِيُّ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حِيَازَةٍ وَهُوَ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ وَأَفْتَى الْفَقِيهُ الْعَبْدُوسِيُّ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى حِيَازَةٍ قَالَ الْمُتَيْطِيُّ
(2/76)

وَبِافْتِقَارِهِ إلَى الْحِيَازَةِ جَرَى الْعَمَلُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِمَا بِالْحَوْزِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: وَالصَّوَابُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ أَنَّ التَّصَيُّرَ فِي الْمُعَيَّنِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَوْزٍ وَلَا يَدْخُلُهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ اهـ.
(قُلْت) وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ فَصْلِ اعْتِصَارِ الْهِبَةِ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمُصَيَّرُ فِيهِ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَفْتَقِرُ التَّصْيِيرُ إذْ ذَاكَ لِحَوْزٍ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَيَفْتَقِرُ لِلْحَوْزِ لِلتُّهْمَةِ إلَى قَصْدِ الْهِبَةِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى إسْقَاطِ الْحِيَازَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْمَوَّاقِ قَبْلَ بَابِ الرَّهْنِ مُتَّصِلًا بِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصْيِيرُ كَالْبَيْعِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إخْلَاءٍ، وَلَا إلَى حِيَازَةٍ بِهَذَا أَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِيمَنْ وَهَبَ أَجْنَبِيًّا جُزْءًا مِنْ مَالِهِ مُشَاعًا وَاعْتَمَرَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَعَ الْوَاهِبِ أَنَّهُ جَائِزٌ اهـ.
اُنْظُرْ مَا الْمُرَادُ بِالْحَوْزِ هَلْ هُوَ الْقَبْضُ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي التَّصْيِيرِ السَّلَامَةُ مِنْ فَسْخِ مَا فِي الذِّمَّةِ فِيمَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ وَلَوْ كَانَ مُعَيَّنًا عَلَى الْمَشْهُورِ لِقَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ: كَكَالِئٍ بِمِثْلِهِ فَسْخُ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ وَلَوْ مُعَيَّنًا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ، أَوْ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْقَبْضِ وَهُوَ الْحَوْزُ، فَإِنَّ كُلَّ حَوْزٍ قَبْضٌ وَلَيْسَ كُلُّ قَبْضٍ حَوْزًا فَالْقَبْضُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَتَّصِلَ بِالتَّصْيِيرِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَوْزُ وَيُشْتَرَطُ فِي الْحَوْزِ دَوَامُهُ مُدَّةً فِي يَدِ الْحَائِزِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْقَبْضِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّصْيِيرَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ، وَالْحَوْزُ مَعًا وَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ تَصْيِيرَ الْمُعَيَّنِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَوْزٍ أَوْ قَبْضٍ إذْ الْمُعَيَّنُ لَا تَحْمِلُهُ الذِّمَمُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ فَسْخِ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ وَإِنَّ التَّصْيِيرَ الْمُفْتَقِرَ لِلْحَوْزِ هُوَ حَيْثُ يَكُونُ الدَّيْنُ الْمُصَيَّرُ فِيهِ ثَابِتًا بِإِقْرَارِ الْمُصَيِّرِ فَيُتَّهَمُ عَلَى التَّحَيُّلِ عَلَى إسْقَاطِ الْحَوْزِ فِي الْهِبَةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الدَّيْنُ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حَوْزٍ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُحَقَّقَةٌ.
وَامْتَنَعَ التَّصْيِيرُ لِلصَّبِيِّ ... إنْ لَمْ يَكُنْ ذَا أَبٍ أَوْ وَصِيِّ
(2/77)

يَعْنِي أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِصَبِيٍّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصْيِيرُ لِلصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ لِأَنَّهُ لَا يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ، فَيَدْخُلُ التَّصْيِيرَ عَدَمُ التَّنَاجُزِ فَيَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ.
(قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ) : وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ لِلصَّغِيرِ أَوْ لِلْيَتِيمِ قِيلَ أَجْنَبِيٌّ أَوْ قَرِيبٌ غَيْرُ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ، وَأَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يُصَيِّرَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِلْكًا، فَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ جَازَ ذَلِكَ وَكَانَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الْقَابِضَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَوَصِيٌّ فَلَا يَصِحُّ التَّصْيِيرُ بِوَجْهٍ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَتَعَذَّرُ فِيهِ فَيَدْخُلُهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ اهـ. .
وَالْأَبُ كَالْوَصِيِّ فِي التَّصْيِيرِ ... تَمَخِّيًا بِالْجَهْلِ لِلْمَحْجُورِ
يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ أَنْ يُصَيِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ إلَى نَظَرِهِ شَيْئًا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُصَيَّرُ فِي مُقَابَلَةِ مَا جَهِلَهُ الْمُصَيِّرُ الْمَذْكُورُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُصَيَّرَ مِنْ نَفْسِهِ لِمَحْجُورِهِ فَقَوْلُهُ: " لِلْمَحْجُورِ " يَتَعَلَّقُ بِ " التَّصْيِيرِ "، وَ " تَمَخِّيًا " مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالتَّمَخِّي التَّبَرِّي، وَالِاسْتِسْلَامُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: " تَمَخَّيْتُ مِنْ الشَّيْءِ وَامَّخَيْتُ مِنْهُ إذَا تَبَرَّأْتُ مِنْهُ وَتَحَرَّجْتُ " اهـ.
وَبَاءُ " بِالْجَهْلِ " سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ " تَمَخِّيًا ".
(قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ) : وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَجْهُولًا قَدْرُهُ لَا يَعْرِفُهُ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ وَإِنَّمَا اسْتَهْلَكَ لَهُ مَالًا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، فَتَمَخَّى مِنْهُ بِأَنْ صَيَّرَ لَهُ فِي ذَلِكَ دَارًا، أَوْ مِلْكًا جَازَ التَّصْيِيرُ، وَصَحَّ الْقَبْضُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا لَمْ يَسْكُنْ الْمُصَيِّرُ فِيهِ، وَيَسْقُطُ مِنْ نَصِّ الْوَثِيقَةِ مَعْرِفَةُ السَّدَادِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا صُيِّرَتْ الدَّارُ فِيهِ اهـ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدَّيْنَ مُحَقَّقٌ إلَّا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوَّلَ هَذَا الْبَابِ مِنْ اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ قَدْرِ الدَّيْنِ الْمُصَيَّرِ فِيهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ كَهَذَا جَازَ التَّصْيِيرُ فِي الْمَجْهُولِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الدَّيْنَ وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ شَيْءٌ جَهِلَهُ، أَوْ نَسِيَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْقَبْضِ، وَالدَّفْعِ فَيُصَيِّرُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا احْتِيَاطًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ وَالْأَوَّلَ وَاجِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّارِحِ فِي حَلِّ الْبَيْتِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ مِنْ مَالِهِ وَفِي فَصْلِ التَّصْيِيرِ مِنْ ابْنِ سَلْمُونٍ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَاتَّفَقَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي هَذَا التَّمَخِّي، وَاخْتَلَفَا فِي التَّعْلِيلِ فَرَآهُ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْعًا جُهِلَ فِيهِ الثَّمَنُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حِيَازَةٍ وَرَآهُ سَحْنُونٌ صَدَقَةً فَلَا شُفْعَةَ، وَيَفْتَقِرُ إلَى حِيَازَةٍ قَالَ: وَقَوْلُ سَحْنُونٍ أَظْهَرُ عِنْدِي اهـ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ نَازِلَةٌ وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِوَصَايَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَالٌ عَلَى مِقْدَارِهِ لِمَحْجُورٍ لَهُ تَمَخِّيًا لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ الَّذِي كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْوَصَايَا وَأَبْطَلَهَا فَهَلْ الْجَارِي عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ بَيْعٌ جُهِلَ فِيهِ الثَّمَنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .
(2/78)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق