الأربعاء، 13 مايو 2015

كتاب الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام – باب في الضرر وسائر الجنايات

[بَابٌ فِي الضَّرَرِ وَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ]
ِ
وَمُحْدِثٌ مَا فِيهِ لِلْجَارِ ضَرَرْ ... مُحَقَّقٌ يُمْنَعُ مِنْ غَيْرِ نَظَرْ
كَالْفُرْنِ وَالْبَابِ وَمِثْلِ الْأَنْدَرِ ... أَوْ مَا لَهُ مَضَرَّةٌ بِالْجُدُرِ
فَإِنْ يَكُنْ يَضُرُّ بِالْمَنَافِعِ ... كَالْفُرْنِ بِالْفُرْنِ فَمَا مِنْ مَانِعِ
يَعْنِي: أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ مُحَقَّقٌ لِجَارِهِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُزَالُ الضَّرَرُ عَنْ الْجَارِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَذَلِكَ كَإِحْدَاثِ الْفُرْنِ الَّذِي يُؤْذِي الْقَرِيبَ مِنْهُ بِدُخَانِهِ وَنَارِهِ وَالْبَابِ الَّذِي يَضُرُّ بِفَتْحِ مَحَلِّهِ مِنْ الْحَائِطِ وَدَوَرَانُ دَفَّتِهِ وَصَرِيرُ رِتَاجِهِ وَتَطَلُّعِ الْخَارِجِ مِنْهُ فِي الزُّقَاقِ غَيْرِ النَّافِذِ وَالْأَنْدَرِ الَّذِي يَضُرُّ بِتِبْنِهِ وَغُبَارِهِ وَكَذَلِكَ مَا يَضُرُّ بِالْجُدُرِ مِنْ حُفْرَةِ مِرْحَاضٍ أَوْ تَسْرِيبِ قَنَاةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَأَدْخَلَ الْكَافَ عَلَى الْفُرْنِ لِيُدْخِلَ الْحَمَّامَ وَالتَّنُّورَ وَنَحْوُهُمَا وَأَدْخَلَ لَفْظَ الْمِثْلِ عَلَى الْأَنْدَرِ لِيَدْخُلَ الْإِصْطَبْلُ وَنَحْوُهُ كَمَنْ يَنْفُضُ حَصِيرَهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَإِنَّهُ يُؤْذِي الْمَارِّينَ بِالطَّرِيقِ بِغُبَارِهِ.
وَاحْتَرَزَ بِوَصْفِ الضَّرَرِ الَّذِي يَكُونُ مُتَوَقَّعًا غَيْرَ وَاقِعٍ وَلَا مُتَحَقَّقٍ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى نَقْصِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ إضْرَارٍ بِالرَّقَبَةِ كَإِحْدَاثِ الْفُرْنِ بِإِزَاءِ الْفُرْنِ أَوْ الرَّحَى بِقُرْبِ الرَّحَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي عَرْصَتِهِ مِمَّا يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ
(2/244)

مِنْ بِنَاءِ حَمَّامٍ أَوْ فُرْنٍ لِلْخَبْزِ أَوْ لِسَبْكِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ كِيرٍ لِعَمَلِ الْحَدِيدِ أَوْ رَحَى مِمَّا يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ وَقَالَهُ فِي الدُّخَانِ وَوَجْهُ ذَلِكَ ضَرَرُ الدُّخَانِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي دُورِهِمْ وَيَضُرُّ بِهِمْ (وَفِي الْمُقَرَّبِ) قُلْتُ فَإِنْ كَانَتْ فِي عَرْصَةٍ وَأَرَدْتُ أَنْ أَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ كَنِيفًا قُرْبَ جُدَرَانِ الْجِيرَانِ فَقَامَ عَلَيَّ الْجِيرَانُ فَقَالَ إنْ كَانَ مَا يُحْدِثُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ.
وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ لِسَحْنُونٍ فَمَنْ أَحْدَثَ أَنْدَرًا فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِدَارِ جَارِهِ يَقَعُ فِيهِ التِّبْنُ فَقَالَ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَنْدَرِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ مَا يَضُرُّ بِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ) وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مَنْ أَحْدَثَ إصْطَبْلًا عِنْدَ بَيْتِ جَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِبَوْلِ الدَّوَابِّ وَزِبْلِهَا بِبَيْتِ جَارِهِ وَحَرَكَتِهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ النَّوْمِ (وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ) لَيْسَ لَك أَنْ تَفْتَحَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ بَابًا يُقَابِلُ بَابَ جَارِك أَوْ يُقَارِبُهُ وَلَا تُحَوِّلَ بَابًا هُنَالِكَ إذَا مَنَعَكَ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْتَحَ فِيهِ بَابَكَ لِي فِيهِ مِرْفَقٌ أَفْتَحُ فِيهِ بَابِي فِي سُتْرَةٍ وَلَا أَدَعُكَ أَنْ تَفْتَحَ قُبَالَةَ بَابِي أَوْ قُرْبَهُ فَتَتَّخِذَ عَلَيَّ فِيهِ الْمَجَالِسَ وَشِبْهَ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ مَا يَضُرُّ بِهِ وَأَمَّا فِي السِّكَّةِ النَّافِذَةِ فَلَكَ أَنْ تَفْتَحَ مَا شِئْتَ أَوْ تُحَوِّلَ بَابَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فِي الْفَتْحِ قُبَالَةَ جَارِهِ وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ انْحِطَاطَ الْقِيمَةِ لَا يُرَاعِي اتِّفَاقَ الْجَمِيعِ
(2/245)

فِيمَنْ أَحْدَثَ فُرْنًا عَلَى فُرْنٍ أَوْ حَمَّامًا عَلَى حَمَّامٍ أَوْ رَحًى عَلَى رَحًى قَدِيمَةٍ وَلَا يَضُرُّ الْمُحْدِثُ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَدِيمِ فِي شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ إلَّا فِي نُقْصَانِ الْغَلَّةِ أَوْ قِلَّةِ الْعِمَارَةِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مُحْدِثُ ذَلِكَ مِنْ إحْدَاثِهِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْقَدِيمِ اعْتِرَاضُهُ فِي ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) سُئِلَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ سِرَاجٍ عَمَّنْ أَرَادَ إحْدَاثَ بُرْجٍ وَاِتِّخَاذَ حَمَّامٍ فَأَجَابَ اتِّخَاذُ الْحَمَّامِ فِي الْأَبْرَاجِ جَائِزٌ مَضَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ (قَالَ اللَّخْمِيُّ) قَالَ مَالِكٌ: مِنْ أَمْرِ النَّاسِ اتِّخَاذُ الْأَبْرَاجِ لَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يُجَاوِرَهُ فَدَّانٌ لِأَحَدٍ فَيَضُرَّ بِهِ أَوْ يُحْدِثَ الْبُرْجَ بِقُرْبِ بُرْجٍ آخَرَ فَأَخَذَ لَهُ الْحَمَّامَ فَيُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِهِ قَالَهُ ابْنُ سِرَاجٍ (فَائِدَةٌ) قَالَ فِي أَوَّلِ نَوَازِلِ الضَّرَرِ مِنْ الْمِعْيَارِ فِي سِيَاقِ أَسْئِلَةٍ سُئِلَ عَنْهَا الْقَاضِي ابْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ وَسُئِلَ عَمَّنْ عَمِلَ فِي دَارِهِ رَحًى فَاشْتَكَى جَارُهُ الضَّرَرَ مِمَّا لَحِقَ حِيطَانَ دَارِهِ مِنْ هَذِهِ الرَّحَى بِمَ يُعْلَمُ هَزُّ هَذِهِ الرَّحَى وَهَلْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الْحَائِطِ فَأَجَابَ قَالَ يُؤْخَذُ طَبَقٌ مِنْ كَاغَدٍ وَتُرْبَطُ أَرْكَانُهُ بِأَرْبَعَةِ خُيُوطٍ فِي كُلِّ رُكْنٍ خَيْطٌ وَتُجْمَعُ أَطْرَافُ الْخُيُوطِ وَتُعَلَّقُ فِي السَّقْفِ الَّذِي عَلَى الْحَائِطِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الدَّارِ وَبَيْنَ الرَّحَى مِنْ جِهَةِ الدَّارِ وَيُعْمَلُ عَلَى الْكَاغَدِ حَبَّاتٍ مِنْ كُزْبَرٍ يَابِسٍ، وَيُقَال لِصَاحِبِ الرَّحَى هُزَّ رَحَاكَ فَإِنْ اهْتَزَّ الْكُزْبَرُ عَلَى الْكَاغَدِ قِيلَ لِصَاحِبِ الرَّحَى اقْلَعْ رَحَاكَ لِأَنَّهَا تَضُرُّ بِالْجَارِ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَزَّ الْكُزْبَرُ قِيلَ لِصَاحِبِ الدَّارِ اُتْرُكْ صَاحِبَ الرَّحَى يَخْدُمُ لِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ بِك فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَائِطِ سَقْفٌ وَإِنَّمَا هُوَ سِتْرُهُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْكُزْبَرَ عَلَى الْحَائِطِ وَتُخْتَبَرُ بِمَا ذُكِرَ. اهـ بِبَعْضِ اخْتِصَارٍ.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ ابْنِ الرَّامِي قَالَ الَّذِي عِنْدِي فِي الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ فِي دَارِهِ الرَّحَى إنَّهُ يَبْعُدُ عَنْ حَائِطِ الْجَارِ بِثَمَانِيَةِ أَشْبَارٍ مِنْ حَدِّ دَوَرَانِ الْبَهِيمَةِ إلَى حَائِطِ الْجَارِ وَيُشْغَلُ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ بَيْنَ دَوَرَانِ الْبَهِيمَةِ وَحَائِطِ الْجَارِ إمَّا بِبَيْتٍ أَوْ مَخْزَنٍ أَوْ بِمُحَازٍ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَائِلٍ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَحَائِطِ الْجَارِ وَذُكِرَ أَيْضًا فِيمَنْ أَحْدَثَ خَلْفَ بَيْتِ جَارِهِ رِوَاءً لِدَابَّةٍ فَاشْتَكَى صَاحِبُ الْبَيْتِ ضَرَرَ الدَّابَّةِ.
فَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ الْمَذْكُورُ بِوُجُوبِ زَوَالِهِ وَإِخْرَاجِ الدَّابَّةِ مِنْهُ فَصَاحَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَقَالَ لَيْسَ لِي غِنًى عَنْ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا مَعَاشِي فَاسْتَفْهِمْ لِي أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِمَ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْ جَارِي فَسُئِلَ عُرَفَاءُ الْبُنْيَانِ عَنْ أَمْرِهِ فَقَالُوا يَحْفِرُ أَسَاسًا وَيَنْزِلُ فِيهِ قَدْرَ الْقَامَةِ خَلْفَ الْحَائِطِ الَّذِي هُوَ صَدْرُ الْبَيْتِ وَيَرْفَعُ فِي حَقِّهِ حَائِطًا مِنْ تَحْتِ وَجْهِ الْأَرْضِ بِخَمْسَةِ أَشْبَارٍ إلَى مُنْتَهَى السَّقْفِ فَعَرَّفُوا الْقَاضِي بِمَا أَمَرُوا بِهِ صَاحِبَ الدَّابَّةِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ انْقَطَعَ الضَّرَرُ عَنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ بِذَلِكَ. فَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْهَدُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَطُولَ الزَّمَانُ وَيَنْزِعَ ذَلِكَ الْحَائِطَ وَيَسْتَحِقَّ الْمَرْبِطَ بِالْقِدَمِ اهـ وَلَسْتُ فِي عُهْدَةِ تَصْحِيفٍ إنْ وُجِدَ فِيهِ إذْ لَمْ أَجِدْ فِي الْوَقْتِ غَيْرَهُ
وَهُوَ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يَثْبُتَا ... خِلَافُهُ بِذَا الْقَضَاءُ ثَبَتَا
يَعْنِي: أَنَّهُ إذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي الضَّرَرِ هَلْ هُوَ قَدِيمٌ فَيَبْقَى وَلَا يُزَالُ أَوْ حَادِثٌ فَيُزَالُ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يَثْبُتَ قِدَمُهُ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ عَلَى مُدَّعِي قِدَمِهِ قَالَ (ابْنُ سَلْمُونٍ) وَاخْتُلِفَ فِي الضَّرَرِ إنْ أَشْكَلَ هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ اهـ وَمِنْ قَوْلِهِ بِذَا الْقَضَاءُ ثَبَتَا يُفْهَمُ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا آخَرَ لَا يُقْضَى بِهِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى الْقِدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ حُدُوثُهُ وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْبَيْت مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَأْتِي لَهُ فِي فَصْلِ مُسْقِطِ الضَّرَرِ مِنْ كَوْنِ الضَّرَرِ يُحَازُ بِمَا تُحَازُ بِهِ الْأَمْلَاكُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُحَازُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا بَلْ يَجِبُ رَفْعُهُ وَإِزَالَتُهُ قَدِيمًا كَانَ أَوْ حَادِثًا وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ تَعَرَّضَ لَهُ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَإِنْ يَكُنْ تَكَشُّفًا فَلَا يُقَرْ ... بِحَيْثُ الْأَشْخَاصُ تَبِينُ وَالصُّوَرْ
يَعْنِي: إذَا كَانَ الضَّرَرُ تَكَشُّفًا بِحَيْثُ تَبِينُ بِهِ الْأَشْخَاصُ وَالصُّوَرُ فَإِنَّهُ يُزَالُ وَلَا يُقَرُّ (قَالَ الشَّارِحُ)
(2/246)

وَتَبِينُ الْأَشْخَاصُ وَهُوَ بِحَيْثُ يُتَبَيَّنُ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو وَتَبِينُ الصُّوَرُ بِحَيْثُ يُتَبَيَّنُ الذَّكَرُ مِنْ الْأُنْثَى وَالْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ كُوَّةً أَوْ بَابًا فِي غُرْفَةٍ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى مَا فِي دَارِ جَارِهِ أَوْ أُسْطُوَانِهِ أَوْ غُرْفَتِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَحْدَثَهَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِغَلْقِ الْكُوَّةِ وَالْبَابِ بِالْبُنْيَانِ وَقَلْعِ الْعَتَبَةِ مِنْ الْبَابِ وَلَمْ تُتْرَكْ الْعَتَبَةُ فِيهَا لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا ثُمَّ طَالَ الزَّمَانُ وَنُسِيَ الْأَمْرُ كَانَتْ حُجَّةً لِلْبَابِ وَيَقُولُ: إنَّمَا أَغْلَقْتُهُ لِأُعِيدَهُ مَتَى شِئْتُ وَلِذَلِكَ يُقْضَى بِقَلْعِ الْعَتَبَةِ فِي بَابِ الدَّارِ إذَا حُكِمَ بِغَلْقِهِ اهـ وَكَذَلِكَ يُقْضَى بِقَلْعِ عَتَبَةِ الْكُوَّةِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عَتَبَةِ الْبَابِ (وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) الْمُشَاوِرُ إنَّمَا يُمْنَعُ إذَا تَبَيَّنَتْ الْأَشْخَاصُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ فَلَا يُمْنَعُ اهـ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ
وَمَا بَنَتْنِ الرِّيحِ يُؤْذِي يُمْنَعُ ... فَاعِلُهُ كَالدَّبْغِ مَهْمَا يَقَعُ
يَعْنِي إذَا كَانَ الضَّرَرُ الْحَادِثُ عَلَى الْجَارِ بَنَتْنِ الرَّائِحَةِ كَالدَّبْغِ فَإِنَّ فَاعِلَهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (قَالَ فِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) عَنْ الْمُشَاوِرِ بَعْدَ إجَازَتِهِ مَا يُتَأَذَّى بِصَوْتِهِ كَالْكَمَدِ وَشِبْهِهِ مَا نَصُّهُ بِخِلَافِ أَنْ يُحْدِثَ فِي دَارِهِ أَوْ حَانُوتِهِ دِبَاغًا أَوْ يَفْتَحَ بِقُرْبِ جَارِهِ مِرْحَاضًا وَلَا يُغَطِّيهِ أَوْ مَا تُؤْذِيهِ رَائِحَتُهُ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ الْمُنْتِنَةَ تَخْرِقُ الْخَيَاشِيمَ وَتَصِلُ إلَى الْمِعَى وَتُؤْذِي الْإِنْسَانَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ» فَكُلُّ رَائِحَةٍ تُؤْذِي يُمْنَعُ مِنْهَا لِهَذَا قَالَ وَبِهِ الْعَمَلُ. اهـ.
وَبِنَتْنِ: يَتَعَلَّقُ بِيُؤْذِي، وَجُمْلَةُ يُمْنَعُ فَاعِلُهُ: خَبَرُ مَا الْمَوْصُولَةِ، وَصِلَتُهَا: يُؤْذِي
وَقَوْلُ مَنْ يُثْبِتُهُ مُقَدَّمُ ... عَلَى مَقَالِ مَنْ بِنَفْيٍ يَحْكُمُ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ أَمْرًا فَادَّعَى جَارُهُ أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا وَادَّعَى الْمُحْدِثُ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ فَمَنْ أَثْبَتَ الضَّرَرَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ نَفَاهُ.
قَالَ فِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ إنْ أَتَى بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى فُلَانٍ فِي ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي شَهِدَتْ بِالضَّرَرِ أَتَمُّ شَهَادَةً وَأَوْلَى بِالْحُكْمِ بِهَا انْتَهَى وَنَحْوُهُ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ
(2/247)

وَإِنْ جِدَارٌ سَاتِرٌ تَهَدَّمَا ... أَوْ كَانَ خَشْيَةَ السُّقُوطِ هُدِّمَا
فَمَنْ أَبَى بِنَاءَهُ لَنْ يُجْبَرَا ... وَقِيلَ لِلطَّالِبِ إنْ شِئْتَ اُسْتُرَا
وَعَامِدٌ لِلْهَدْمِ دُونَ مُقْتَضِي ... عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ وَحْدَهُ قُضِيَ
إنْ كَانَ ذَا وُجْدٍ وَكَانَ مَالَهُ ... وَالْعَجْزُ عَنْهُ أَدَبًا أَنَالَهُ
وَإِنْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا فَمَنْ هَدَمْ ... دُونَ ضَرُورَةٍ بِنَاءَهُ الْتَزَمْ
وَإِنْ يَكُنْ لِمُقْتَضٍ فَالْحُكْمُ أَنْ ... يَبْنِيَ مَعْ شَرِيكِهِ وَهُوَ السَّنَنْ
مِنْ غَيْرِ إجْبَارٍ فَإِنْ أَبَى قُسِمْ ... مَوْضِعُهُ بَيْنَهُمَا إذَا حُكِمْ
الْجِدَارُ السَّاتِرُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ وَشِبْهِهِمَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِأَحَدِ مَالِكَيْ الدَّارَيْنِ أَوْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ مَالِكَيْ الدَّارَيْنِ وَهُدِمَ فَإِنْ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ هَدَمَهُ مَالِكُهُ خَوْفَ سُقُوطِهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ بَلْ إنْ شَاءَ بَنَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ بِنَاءَهُ فَإِنْ طَالَبَهُ الْجَارُ بِبِنَائِهِ فَيُقَالُ لَهُ إنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَقْصِدْ ضَرَرَكَ فَإِنْ شِئْتَ فَاسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ دَعْ وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِالْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
وَأَمَّا إنْ هَدَمَهُ مَالِكُهُ لِغَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَحْدَهُ بِبِنَائِهِ لِظُهُورِ قَصْدِ إرَادَةِ الضَّرَرِ بِالْجَارِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَالْجِدَارُ مِلْكٌ لَهُ كَمَا هُوَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى تَعَمُّدِهِ لِهَدْمِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى بِنَائِهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ
وَعَامِدٌ لِلْهَدْمِ دُونَ مُقْتَضِي
الْبَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْجَارَيْنِ فَهَدَمَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُوهُ لِهَدْمِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بِنَاؤُهُ لِأَنَّهُ هَدَمَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا فَمَنْ هَدَمْ ... دُونَ ضَرُورَةٍ بِنَاءَهُ الْتَزَمَ
وَإِنْ هَدَمَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِيهِ لِمُوجِبٍ كَخَوْفِ سُقُوطِهِ فَبِنَاؤُهُ عَلَيْهِمَا لَكِنْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَى بِنَائِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَائِهِ فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا وَامْتَنَعَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بِنَائِهِ فَإِنْ تَحَاكَمَا حُكِمَ بَيْنَهُمَا بِقِسْمَةِ مَوْضِعِ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ (قَالَ فِي الْمَقْصِدِ الْمَحْمُودِ) وَإِنْ سَقَطَ جِدَارُ رَجُلٍ أَوْ هَدَمَهُ خَوْفَ سُقُوطِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إعَادَتِهِ وَقِيلَ لِجَارِهِ اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك أَوْ دَعْ وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِإِعَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا مَالَ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا فَتَسَقَّطَ فَأَبَى أَحَدُهُمَا مِنْ الْإِعَادَةِ فَإِنْ كَانَ يَنْقَسِمُ قُسِمَ وَإِلَّا قُضِيَ عَلَى الْآبِي مِنْهُمَا بِالْبِنَاءِ مَعَ صَاحِبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ يُقْسَمُ بِخَيْطٍ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قِسْمَةِ عَرْضِهِ عَلَى طُولِهِ.
وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَرْضًا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ مِمَّا يَلِيهِ (وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ) قَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْجِدَارِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَتَهَدَّمُ فَيُرِيدُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَهُ وَيَأْبَى ذَلِكَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِبِنَائِهِ وَإِنْ أَحَبَّ الْآخَرُ أَنْ يَسْتُرَ دَارِهِ سَتَرَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجِدَارُ بَيْنَهُمَا فَيُؤْمَرُ أَنْ يَبْنِيَ مَعَ صَاحِبِهِ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ قَالَ عِيسَى يُؤْمَرُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ مَعَهُ بِحُكْمٍ فَإِنْ كَرِهَ قَاسَمَهُ مَوْضِعَ الْجِدَارِ فَأَخَذَ نِصْفَهُ مِمَّا يَلِيهِ.
قَالَ سَحْنُونٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَائِطِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى الْإِصْلَاحِ أَوْ يَتَهَدَّمُ فَلَا يُرِيدُ أَحَدُهُمَا الْإِصْلَاحَ وَلَا الْبُنْيَانَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْبَرُ الَّذِي يَأْبَى مِنْهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُجْبَرُ إذَا لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى إذَا كَانَ حَائِطٌ بَيْنَ دَارَيْنِ فَهَدَمَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَهُ إذَا كَانَ قَدْ هَدَمَهُ عَلَى وَجْهِ الضَّرَرِ وَإِذَا كَانَ هَدَمَهُ لِلْإِصْلَاحِ فَعَجَزَ عَنْهُ أَوْ انْهَدَمَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ كَمَا كَانَ، وَرَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يُجْبَرُ عَلَى بُنْيَانِهِ كَانَ هُوَ الَّذِي هَدَمَهُ أَوْ انْهَدَمَ مِنْ غَيْرِ هَادِمٍ إذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى بُنْيَانِهِ فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا عَنْهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بُنْيَانِهِ. اهـ.
وَجِدَارٌ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ تَهَدَّمَا وَهُدِّمَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَالطَّالِبُ أَيْ لِلْبِنَاءِ وَالْوُجْدُ مُثَلَّثُ الْوَاوِ مَصْدَرُ وَجَدَ فِي الْمَالِ أَيْ اسْتَغْنَى وَأَوْجَدَهُ أَيْ أَغْنَاهُ، يُقَالُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْجَدَنِي بَعْدَ فَقْدِي قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ وَقَوْلُهُ وَكَانَ مَالَهُ أَيْ مِلْكًا وَمَالًا مِنْ مَالِهِ وَأَدَبًا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَنَالَ، وَإِنْ يَكُنْ أَيْ الْجِدَارُ السَّاتِرُ مُشْتَرَكًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ فِي الْجِدَارِ الْمَمْلُوكِ لِأَحَدِ الْجَارَيْنِ وَبِنَاءَهُ مَفْعُولُ الْتَزَمَ وَإِنْ يَكُنْ أَيْ هَدْمُهُ وَالسَّنَنُ أَيْ الطَّرِيقُ
(2/248)

وَإِنْ تَدَاعَيَاهُ فَالْقَضَاءُ ... لِمَنْ لَهُ الْعُقُودُ وَالْبِنَاءُ
يَعْنِي إذَا تَنَازَعَ الْجَارَانِ فِي الْحَائِطِ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِمَنْ تَكُونُ لَهُ عُقُودُهُ وَعَلَيْهِ يَكُونُ بِنَاؤُهُ فَفِي الْمَقْصِدِ الْمَحْمُودِ وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي جِدَارٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ لِمَنْ لَهُ الْعُقُودُ وَالْقُمُطُ وَالْبِنَاءُ مَعَ يَمِينِهِ (وَفِي مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلَانِ فِي جِدَارٍ بَيْنَ دَارَيْهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِيهِ فَإِنْ كَانَ عَقْدُ بِنَائِهِ إلَيْهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا يُرِيدُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا إلَى أَحَدِهِمَا وَمُنْقَطِعًا إلَى الْآخَرِ فَهُوَ لِمَنْ إلَيْهِ الْعَقْدُ، ثُمَّ قَالَ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْعُقُودِ فِي الْبُنْيَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ. اهـ.
وَفِي الرِّسَالَةِ وَيُقْضَى بِالْحَائِطِ لِمَنْ إلَيْهِ الْقُمُطُ وَالْعُقُودُ قَالَ الشَّيْخُ الْجُزُولِيُّ الشَّيْخُ أَرَادَ بِالْحَائِطِ هُنَا الْجِدَارَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْبُسْتَانَ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ يُسَمَّى حَائِطًا قَالَ قَبْلَ هَذَا وَإِذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ أَصْنَافٌ مِنْ الثَّمَرِ وَقَالَ وَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى إخْرَاجِ مَا فِي الْحَائِطِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ تَمَامِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَدَاعِيَانِ فِي شَيْءٍ بِأَيْدِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي حَائِطٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ وَتَكَافَأَتَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِمَنْ إلَيْهِ الْقُمُطُ وَالْعُقُودُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَتَيْنِ قُسِمَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْضَى بِالْحَائِطِ لِمَنْ إلَى جِهَتِهِ الْقُمُطُ وَالْعُقُودُ، ثُمَّ قَالَ وَالْقُمُطُ وَالْعُقُودُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعَاقِدِ الْأَرْكَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُشَدُّ بِهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَقِيلَ هُمَا مُتَبَايِنَانِ فَالْقُمُطُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُشَدُّ بِهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِثَارِ وَالْعُقُودُ عِبَارَةٌ عَنْ تَدَاخُلِ الْأَرْكَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقُمُطُ مَعَاقِدُ الْحِيطَانِ وَاحِدُهَا قِمَاطٌ فَالْقَمْطُ الشَّدُّ وَمِنْهُ قَمَطَ الصَّبِيَّ لَفَّهُ فِي الْخِرَقِ قَالَهُ الْمَغْرَاوِيُّ.
وَقَالَ الزَّنَاتِيُّ الْقَمْطُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَشُدُّ بِهِ وَجْهَهُ بِمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْتَثِرَ تُرَابُهُ وَيُثَقَّفَ غُبَارُهُ بِشَيْءٍ قَوِيٍّ عَلَى مَا بُنِيَ بِهِ إمَّا جِيرٌ أَوْ تُرَابٌ صَحِيحٌ وَقَدْ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ زِينَةً وَالْعُقُودُ هِيَ أَرْكَانُ الْغُرَفِ وَالْعَلَالِيِّ وَقِيلَ الْقَمْطُ الْفُرَجُ غَيْرُ النَّافِذَةِ وَقِيلَ تَوْجِيهُ الْآجُرِّ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا قُمْطٌ وَلِلْآخَرِ الْعُقُودُ قُضِيَ بِهِ لِمَنْ إلَيْهِ الْعُقُودُ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْقُمْطِ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ وَفِي مَجَالِسِ الْقَاضِي الْمِكْنَاسِيِّ وَحَقِيقَةُ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الرُّكْنُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ طَرَفَا الْحَائِطِ آجُرُّهُ مُرَكَّبٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَاشْتِبَاكِ الْأَصَابِعِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّ بِهِ طَاقَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ فَالْحَائِطُ لِمَنْ الطَّاقُ إلَى نَاحِيَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ طَاقٌ، وَذَكَرُوا أَنَّ وَجْهَهُ إلَى إحْدَى الدَّارَيْنِ فَالْحَائِطُ لِمَنْ الْوَجْهُ إلَيْهِ وَقِيلَ إنَّ الْوَجْهَ هُوَ الْقُمْطُ وَقِيلَ الْقُمْطُ هُوَ السَّوَارِي الَّتِي تُبْنَى فِي الْحَائِطِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ سِوَارِي فَالْحَائِطُ لِمَنْ هِيَ فِي جِهَتِهِ فَإِنْ عَرِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ مَعَ كَوْنِهِ مُقْبِلًا مِنْ طَرَفَيْهِ وَعَلَيْهِ حُمِّلَ خَشَبٌ فَالْحَائِطُ لِمَنْ حُمِّلَ الْخَشَبُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ لِمَنْ هِيَ مِنْ نَاحِيَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَخَالَفَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي حَمْلِ الْخَشَبِ وَقَالَا لَا يُمْلَكُ الْحَائِطُ بِحَمْلِ الْخَشَبِ عَلَيْهِ وَفَصَّلَ ابْنُ الرَّامِي التُّونُسِيُّ فِي الْخَشَبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا أَوْ تَكُونَ مُزْرَقَةً فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا كَانَ الْحَائِطُ لِمَنْ لَهُ الْخَشَبُ وَإِنْ كَانَتْ مُزْرَقَةً فَلَا تُوجِبُ مِلْكًا اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ فَقَدْ أَطَالَ فِي ذَلِكَ آخِرَ الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ.
فَائِدَةٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي الْمِكْنَاسِيُّ قَبْلَ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ قِيلَ إنَّ مِنْ حَقِّ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي شُهُودِ أَهْلِ الْبَصَرِ فِي الْمَبَانِي وَيَخْتَبِرَ أَحْوَالَهُمْ فِي أُجْرَتِهِمْ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا مِنْهَا أَنْ لَا يُحَكَّمُوا فِي حَائِطٍ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَإِنَّمَا يَصِفُونَهُ فَقَطْ بِوَصْفٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَيُوَضِّحُ الْبَيَانَ فَيَصِفُ الدَّارَ أَوْ الْحَانُوتَ أَوْ الْفُنْدُقَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ بِوَصْفٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ احْتِمَالٌ بِاعْتِبَارِ الْخُشُبِ وَالْحِيطَانِ هَلْ هِيَ مَعْقُودَةٌ إلَيْهَا أَوْ جَائِزَةٌ عَنْهَا أَوْ مُقْبِلَةٌ فِي مُنْتَهَى حَدِّهَا يَصِفُ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِهَا الْأَرْبَعِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْبَائِعُ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ نَظَرَ فِيهِ الْقَاضِي بَعْدَ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ فِيهِ وَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ اهـ
(2/249)

[فَصْلٌ فِي ضَرَرِ الْأَشْجَارِ]
ِ
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْأَشْجَارِ ... جَنْبَ جِدَارٍ مُبْدِيَ انْتِشَارِ
فَإِنْ يَكُنْ بَعْدَ الْجِدَارِ وُجِدَا ... قُطِعَ مَا يُؤْذِي الْجِدَارَ أَبَدَا
وَحَيْثُ كَانَ قَبْلَهُ يُشَمَّرُ ... وَتَرْكُهُ وَإِنْ أَضَرَّ الْأَشْهَرُ
يَعْنِي إنْ كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ أَوْ أَشْجَارٌ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ لِغَيْرِهِ وَأَضَرَّتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ أَوْ الْأَشْجَارُ بِذَلِكَ الْجِدَارِ بِانْتِشَارِ أَغْصَانِهَا وَامْتِدَادِ فُرُوعِهَا حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ حُدُودِ مِلْكِ رَبِّهَا فَلَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إنْ سَبَقَ الْجِدَارُ الْأَشْجَارَ وَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ تِلْكَ الْأَغْصَانِ مَا أَضَرَّ وَانْتَشَرَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَادِثٌ عَلَى الْجِدَارِ، وَكُلُّ حَادِثٍ مِنْ الضَّرَرِ يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ وَإِنْ سَبَقَتْ الْأَشْجَارُ الْجِدَارَ فَقَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُقْطَعُ مَا أَضَرَّ وَانْتَشَرَ وَخَرَجَ عَنْ أَرْضِ صَاحِبِهِ وَهُوَ مُرَادُهُ بِالتَّشْمِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُتْرَكُ وَلَا يُزَالُ وَإِنْ أَضَرَّ وَهُوَ أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمُطَرِّفٍ وَوَجْهُهُ كَوْنُ الْحَائِطِ فِي مِلْكِ رَبِّهِ قَدْ بَنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسُوغُ لَهُ بِنَاؤُهُ فِيهِ فَلَا سَبِيلَ لَأَنْ يَسْتَحِقَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِفُرُوعِ شَجَرَتِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ حُدُودِ مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِابْنِ الْمَاجِشُونِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَجَرَةً قَدْ اسْتَحَقَّتْ بِانْتِشَارِهَا هَوَاءَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَقَدْ سَبَقَ انْتِشَارُ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ لِبُنْيَانِهِ، وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ، لَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْهَرُ.
فَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ فِي الشَّجَرَةِ تَكُونُ إلَى جَانِبِ جِدَارِ الرَّجُلِ فَيُصَوِّرُ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ أَقْدَمَ مِنْ الْجِدَارِ وَكَانَتْ عَلَى حَالِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مِنْ انْبِسَاطٍ فَلَا تُقْطَعُ، وَإِنْ حَدَثَ لَهَا أَغْصَانٌ بَعْدَ مَا بَنَى الْجِدَارَ تَضُرُّ بِالْجِدَارِ فَلِيُشَمِّرْ مِنْهَا كُلَّ مَا أَضَرَّ بِالْجِدَارِ مِمَّا حَدَثَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ تُتْرَكُ وَمَا حَدَثَ وَانْتَشَرَ مِنْ أَغْصَانِهَا وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالْجِدَارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا شَأْنُ الشَّجَرِ فَقَدْ صَارَ مِنْ حَرِيمِهَا قَبْلَ بِنَاءِ الْجِدَارِ وَقَالَ أَصْبَغُ كَقَوْلِ مُطَرِّفٍ وَبِهِ أَقُولُ. قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَقَالَهُ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَقَالُوا أَجْمَعَ وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ مُحْدَثَةً بَعْدَ الْجِدَارِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ كُلُّ مَا آذَى الْجِدَارَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ.
(قَالَ الشَّارِحُ) : وَلَا خَفَاءَ بِوَجْهِ هَذَا الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ إذَا كَانَتْ الشَّجَرَةُ أَقْدَمَ مِنْ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْحَائِطِ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ قَدْ مَلَكَتْ هَوَاءَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بَنَى فِيهِ حَائِطَهُ. اهـ فَقَوْلُهُ:
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْأَشْجَارِ
.. إلَخْ كُلُّ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنْ يَكُنْ بَعْدَ الْجِدَارِ وُجِدَا ... قُطِعَ مَا يُؤْذِي الْجِدَارَ أَبَدَا
وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا الْوَاقِعَةِ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَمِنْ الْأَشْجَارِ بَيَانٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا، وَجَنْبُ، خَبَرُ كَانَ وَمُبْدِيَ حَالٌ مِنْ الْأَشْجَارِ وَاسْمُ يَكُنْ أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَشْجَارِ وَكَذَا اسْمُ كَانَ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ، وَضَمِيرُ قَبْلُهُ لِلْجِدَارِ.
وَمَنْ تَكُنْ لَهُ بِمِلْكٍ شَجَرَهْ ... أَغْصَانُهَا عَالِيَةٌ مُنْتَشِرَهْ
فَلَا كَلَامَ عِنْدَ ذَا لِجَارِهَا ... لَا فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَا انْتِشَارِهَا
وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَنْ هَوَاءِ ... صَاحِبِهَا يُقْطَعُ بِاسْتِوَاءِ
(2/250)

يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي مِلْكِهِ فَطَالَتْ أَغْصَانُهَا وَانْتَشَرَتْ حَتَّى صَارَتْ يَتَشَرَّفُ مِنْهَا عَلَى دَارِ جَارِهِ إذَا طَلَعَ يَجْنِيهَا، فَلَا كَلَامَ لِلْجَارِ فِي ذَلِكَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي التَّكَشُّفِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يُؤْذِنُهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْنِيَهَا، وَغَايَةُ مَالَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَغْصَانِهَا مَا خَرَجَ عَنْ هَوَاءِ صَاحِبِهَا وَيَكُونُ الْقَطْعُ مُسَامِتًا لِطَرَفِ أَرْضِ صَاحِبِهَا وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ بِاسْتِوَاءِ.
(قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ:) قَالَ ابْنُ وَهْبٍ فِي شَجَرَةٍ فِي دَارِ رَجُلٍ فَطَالَتْ حَتَّى صَارَ يَتَشَرَّفُ مِنْهَا عَلَى دَارِ جَارِهِ: إذَا طَلَعَ يَجْنِيهَا أَوْ غَرَسَهَا قَرِيبًا فَزَعَمَ أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يُطْرَقَ مِنْهَا فَيُدْخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ.
قَالَ: إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ إلَّا مَا خَافَ مِنْ الطَّرْقِ أَوْ مِمَّنْ يَجْنِيهَا فَلَا حُجَّةَ وَيُؤْذِنُهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يَجْنِيَهَا، وَأَمَّا إنْ خَرَجَ مِنْ فُرُوعِهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَلْيَقْطَعْ الْخَارِجَ فَقَطْ. وَنَحْوُهُ لِأَصْبَغَ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ: إنْ كَانَ عِظَمُهَا وَامْتِدَادُهَا صُعُودًا إلَى السَّمَاءِ فَلَا تُغَيَّرُ عَنْ حَالِهَا كَالْبُنْيَانِ يَرْفَعُهُ الرَّجُلُ فِي حَقِّهِ فَيَسْتُرُ بِهِ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ عَنْ جَارِهِ، وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا مُدَّتْ فِي أَرْضِ جَارِهِ فَلْتُشَمَّرْ وَتُقْطَعْ وَتُرَدَّ إلَى حَالٍ لَا تُؤْذِي. وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَلْيُقْطَعْ حَتَّى تَعُودَ فُرُوعُهَا حَدَّ أَرْضِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْأَرْضِ لِرَبِّهَا. اهـ
وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَفَّارُ فِي شَجَرَةٍ لِرَجُلٍ أَضَرَّتْ شَجَرَةَ جَارِهِ بِقَطْعِ مَا خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ عَنْ هَوَاءِ صَاحِبِهَا، يُؤْمَرُ بِذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ تَكُنْ بِمِلْكِ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ ... وَانْتَشَرَتْ حَتَّى أَظَلَّتْ جُلَّهُ
فَمَا لِرَبِّ الْمِلْكِ قَطْعُ مَا انْتَشَرْ ... لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَا شَأْنُ الشَّجَرْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مَلَكَهَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ قِسْمَةٍ وَعَظُمَتْ وَانْتَشَرَتْ حَتَّى أَظَلَّتْ جُلَّ الْمِلْكِ الَّذِي هِيَ فِيهِ فَلَا كَلَامَ لِرَبِّ ذَلِكَ الْمِلْكِ فِي قَطْعِ مَا انْتَشَرَ مِنْهَا وَطَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الشَّجَرِ، فَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ مَدْخُولًا عَلَيْهِ فَفِي ابْنِ يُونُسَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ: وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الَّتِي تَكُونُ لِلرَّجُلِ فِي أَرْضِ الرَّجُلِ بِمِيرَاثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قِسْمَةٍ فَامْتَدَّتْ ارْتِفَاعًا وَانْبِسَاطًا حَتَّى أَضَرَّتْ بِالْأَرْضِ فَلَا قَوْلَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ اهـ
وَالْحُكْمُ فِي الطَّرِيقِ حُكْمُ الْجَارِ ... فِي قَطْعِ مَا يُؤْذِي مِنْ الْأَشْجَارِ
يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ قَطْعُ مَا أَضَرَّ مِنْ الشَّجَرَةِ بِالْجَارِ كَذَلِكَ يَجِبُ قَطْعُ مَا أَضَرَّ مِنْهَا بِالْمَارِّينَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ وَمِلْكِ الْجَارِ إلَّا بِتَعْدَادِ الْمُنْتَفِعِينَ بِالطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهَا حَبْسٌ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِوَاءَ الْحُكْمِ أَوْ تَأَكُّدَهُ إذَا اُعْتُبِرَتْ كَثْرَةُ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَاخْتِلَافُهُمْ بِالضَّعْفِ وَعَدَمِ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ كَالشَّأْنِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ مَعَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ. (فَرْعٌ) قَالَ الْبَاجِيُّ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَجْنِحَةِ عَنْ الْحِيطَانِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَنَاحُ بِأَسْفَلِ الْجِدَارِ حَيْثُ يَضُرُّ بِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَيُمْنَعُ اهـ وَانْظُرْ: هَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَلِكَ تَحْتَ الْأَرْضِ؟ وَسَمِعَ أَصْبَغُ ابْنَ الْقَاسِمِ لِمَنْ لَهُ دَارَانِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جِدَارَيْهِمَا غُرْفَةً أَوْ مَجْلِسًا فَوْقَ الطَّرِيقِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْإِضْرَارُ بِتَضْيِيقِ الطَّرِيقِ.
(ابْنُ رُشْدٍ) هَذَا رَفَعَ بِنَاءً رَفْعًا يُجَاوِزُ رَأْسَ الْمَارِّ رَاكِبًا وَنَحْوَهُ فِي الزَّاهِي وَكَذَا الْأَجْنِحَةُ انْتَهَى نَقْلُ ابْنِ عَرَفَةَ وَفِي نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ سُنَّةُ الْأَنْهَارِ وَالطُّرُقِ الِارْتِفَاقُ بِهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى نَهْرٍ إذَا كَانَتْ الضِّفَّتَانِ لَهُ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، وَأَبَاحَ لَهُ صَاحِبُ الثَّانِيَةِ ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ لِلسُّلْطَانِ أَنَّ الْوَادِيَ لَهُ انْتَهَى مِنْ الْمَوَّاقِ وَفِي نَظْمِ إيضَاحِ الْمَسَالِكِ لِوَلَدِ مُؤَلِّفَةِ الْعَالِمِ الشَّهِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ سَيِّدِي عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْعَالِمِ الْحَافِظِ سَيِّدِي أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي تَرْجَمَةِ مَنْ مَلَكَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ، هَلْ يَمْلِكُ بَاطِنَهَا وَهِيَ التَّرْجَمَةُ الثَّامِنَةُ وَالْمِائَةُ مِنْ تَرَاجِمِ النَّظْمِ الْمَذْكُورِ
وَمَا عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ هَوَاءِ ... فَهْوَ لِمَنْ سَبَقَ بِالْإِحْيَاءِ
بِرَوْشَنٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَضُرْ ... بِمَنْ عَلَى تِلْكَ الْمَحَجَّةِ يَمُرْ.
(2/251)

[فَصْلٌ فِي مُسْقِطِ الْقِيَامِ بِالضَّرَرِ]
ِ
وَعَشْرَةُ الْأَعْوَامِ لِامْرِئٍ حَضَرْ ... تَمْنَعُ إنْ قَامَ بِمُحْدَثِ الضَّرَرْ
وَذَا بِهِ الْحُكْمُ وَبِالْقِيَامِ ... قَدْ قِيلَ بِالزَّائِدِ فِي الْأَيَّامِ
يَعْنِي مَنْ أُحْدِثَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَاضِرٌ وَسَكَتَ وَلَا مَانِعَ لَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَضَى لِذَلِكَ عَشَرَةُ أَعْوَامٍ فَلَا قِيَامَ لَهُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ الْحُكْمُ. قَالَ الشَّارِحُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ وَقِيلَ: لَهُ الْقِيَامُ بَعْدَ الْعَشَرَةِ أَعْوَامٍ إذَا كَانَ بِالْأَيَّامِ الْيَسِيرَةِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ الَّذِي هُوَ أَحَدُ جُمُوعِ الْقِلَّةِ. (وَقَوْلُهُ: بِمُحْدَثِ الضَّرَرِ) مُحْدَثُ بِفَتْحِ الدَّالِ: اسْمُ مَفْعُولٍ وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَمَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ يُحَازُ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ إزَالَةُ ضَرَرِ دُخَانِ الْحَمَّامِ وَغُبَارِ الْأَنْدَرِ وَنَتَنِ الدَّبَّاغِينَ قَدِيمًا كَانَ أَوْ حَادِثًا مَا نَصُّهُ: لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقِدَمِ وَإِنَّمَا حِيَازَةُ التَّقَادُمِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَثَرُ مَنْ حَازَ عَلَى خَصْمِهِ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَا تَكُونُ الْحِيَازَةُ فِي أَفْعَالِ الضَّرَرِ حِيَازَةً تَقْوَى بِهَا حُجَّةٌ، بَلْ يَزِيدُهُ طُولُ التَّقَادُمِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الضَّرَرِ يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَتَزَايَدُ؛ كَفَتْحِ بَابٍ عَلَى جَارِهِ أَوْ كُوَّةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِمَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَمْلَاكُ عَلَى مَنْ حِيزَتْ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا يُحْدِثُ مِنْ الْكُنُفِ وَالْمَطَاهِرِ وَالْحُفَرِ الَّتِي يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِمَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَمْلَاكُ مِنْ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّمَا طَالَ زَمَنُهُ كَثُرَ وَزَادَ ضَرَرُهُ. (وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ) : وَمَنْ أُحْدِثَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ مِنْ اطِّلَاعٍ أَوْ خُرُوجٍ بِمِرْحَاضِهِ قُرْبَ جِدَارِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمُضِرَّةِ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَا اعْتَرَضَ فِيهِ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِيَامِ فِيهِ فَلَا قِيَامَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، هُوَ كَالِاسْتِحْقَاقِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَابْنُ الْعَطَّارِ ثُمَّ حَكَى الْمُتَيْطِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، الْعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ قَالَ: وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ (وَفِي طُرُرِ ابْنِ عَاتٍ) وَحِيَازَةُ الضَّرَرِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجْنبِيِّينَ سَوَاءٌ، عَلَى الْقَوْلِ بِحِيَازَتِهِ وَلَا يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَرَابَةِ وَالْأَجْنبِيِّينَ كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَمْلَاكِ بِالْحِيَازَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَرْبٍ فِي مَسَائِلِهِ. اهـ وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي حَوْزِ الضَّرَرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحَازُ بِمَا تُحَازُ بِهِ الْأَمْلَاكُ وَهُوَ الَّذِي فِي النَّظْمِ، وَمِثْلُهُ تَقَدَّمَ عَنْ الْمُتَيْطِيِّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحَازُ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ سَلْمُونٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَتَزَايَدُ فَلَا يُحَازُ وَلَا يَتَزَيَّدُ فَيُحَازُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ سَلْمُونٍ عَنْ كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ وَلَوْ أَرَادَ النَّاظِمُ التَّنْصِيصَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَقَالَ:
وَثَالِثُ الْأَقْوَالِ فِي حَوْزِ الضَّرَرْ ... مَا لَا يَزِيدُ ضَرُّهُ لِمَنْ أَضَرْ
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يُحَازُ مَا لَا يَزِيدُ ضَرَرُهُ فَالْأَوَّلُ يُحَازُ مُطْلَقًا وَالثَّانِي مُقَابِلُهُ لَا يُحَازُ مُطْلَقًا.
هَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى الطَّرِيقَةِ الْحَاجِبِيَّةِ مِنْ كَوْنِ صَدْرِ
(2/252)

الثَّالِثِ دَلِيلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَعَجُزِهِ دَلِيلَ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّارِحُ هُنَا عَنْ طُرُرِ ابْنِ عَاتٍ أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ قَسَّمَ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ مِمَّا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِاتِّفَاقٍ كَالْأَنْدَرِ الْمُضِرِّ بِتِبْنِهِ وَغُبَارِهِ لِلدَّارِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ وَدُخَانِ الْحَمَّامِ وَالْفُرْنِ وَالرَّائِحَةِ الْقَبِيحَةِ كَالدِّبَاغِ وَمَا يَضُرُّ بِالْجُدْرَانِ كَالْكَنِيفِ إلَى جَنْبِ حَائِطِ جَارِهِ أَوْ رَحًى تَضُرُّ بِجُدْرَانِهِ، وَضَرَرِ الِاطِّلَاعِ مِنْ فَتْحِ كُوَّةٍ أَوْ بَابٍ أَوْ قَضْبَةٍ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى عِيَالِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِاتِّفَاقٍ؛ كَإِحْدَاثِ فُرْنٍ بِقُرْبِ فُرْنٍ آخَرَ أَوْ حَمَّامٍ بِقُرْبِ آخَرَ فَيَضُرُّ بِهِ فِي قِلَّةِ عِمَارَتِهِ وَنُقْصَانِ غَلَّتِهِ أَوْ يَبْنِي فِي دَارِهِ مَا يَمْنَعُ بِهِ جَارَهُ الضَّوْءَ أَوْ الشَّمْسَ أَوْ الرِّيحَ، وَضَرَرُ الْأَصْوَاتِ كَالْحَدَّادِ وَالْكَمَّادِ وَالنَّدَّافِ، وَفِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ خِلَافٌ شَاذٌّ، وَمِنْهُ مَا يُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِ الْمَنْعِ مِنْهُ؛ كَأَنْ يُحْدِثَ فِي أَرْضِهِ بِنَاءً قُرْبَ أَنْدَرِ جَارِهِ يَمْنَعُهُ بِهِ الرِّيحَ عِنْدَ الذَّرْوِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ نَافِعٍ يُمْنَعُ وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ سَحْنُونٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ.
وَمَنْ رَأَى بُنْيَانَ مَا فِيهِ ضَرَرْ ... وَلَمْ يَقُمْ مِنْ حِينِهِ بِمَا ظَهَرْ
حَتَّى رَأَى الْفَرَاغَ مِنْ إتْمَامِهِ ... مُكِّنَ بِالْيَمِينِ مِنْ قِيَامِهِ
فَإِنْ يَبِعْ بَعْدُ بِلَا نِزَاعِ ... فَلَا قِيَامَ فِيهِ لِلْمُبْتَاعِ
وَإِنْ يَكُنْ حِينَ الْخِصَامِ بَاعَا ... فَالْمُشْتَرِي يَخْصِمُ مَا اسْتَطَاعَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ رَأَى جَارَهُ يَبْنِي مَا يَلْحَقُهُ بِبُنْيَانِهِ ضَرَرٌ فَسَكَتَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِهِ، وَأَرَادَ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ مَنْعِهِ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ سُكُوتَهُ مَا كَانَ رِضًا مِنْهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَ دَارِهِ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلَ الْجَارُ بُنْيَانَهُ، وَلَمْ يُخَاصِمْهُ وَلَا نَازَعَهُ فِيمَا بَنَى، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا قِيَامَ لَهُ، وَإِنْ خَاصَمَ وَبَاعَ أَثْنَاءَ خِصَامِهِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الضَّرَرِ الْمُحْدَثِ عَلَى مُشْتَرَاهُ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِ، عَلَى أَنَّ فِي بَيْعِ مَا فِيهِ خُصُومَةٌ مَا لَا يَخْفَى.
(قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : وَمَنْ قَامَ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ بُنْيَانًا أَضَرَّ بِهِ بِقُرْبِ الْفَرَاغِ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّ سُكُوتَهُ حَتَّى كَمُلَ الْبُنْيَانُ لَمْ يَكُنْ عَلَى إسْقَاطِهِ مِنْهُ لِلْوَاجِبِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُقْطَعُ الضَّرَرُ. (وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ) فِي رَجُلٍ لَهُ دَارٌ ظَهْرُهَا فِي زُقَاقِ قَوْمٍ غَيْرِ نَافِذٍ فَفَتَحَ الرَّجُلُ بَابَ دَارِهِ إلَى هَذَا الزُّقَاقِ وَبَقِيَ كَذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ ثُمَّ بَاعَ الْقَوْمُ دُورَهُمْ فَأَرَادَ مُبْتَاعُهَا إغْلَاقَ هَذَا الْبَابِ الْمُحْدَثِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِلْبَائِعِينَ قَبْلَ الْقِيَامِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ حَلَّ مَحَلَّهُمْ فَجَاوَبَنِي ابْنُ عَتَّابٍ لَيْسَ لِلْمُبْتَاعِينَ فِيهِ كَلَامٌ وَلَا اعْتِرَاضٌ وَإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ لِلْبَائِعِينَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا حَتَّى بَاعُوا فَهُوَ رِضًا مِنْهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ أَنَّهُ لَا كَلَامَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُونَ بَاعُوا وَقَدْ خَاصَمُوا فِي ذَلِكَ.
(وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ) : الْمَعْرُوفُ أَنَّ لِلْمُبْتَاعِ الْقِيَامَ عَلَى مُحْدِثِ الضَّرَرِ عَلَى الدَّارِ وَتُبَاعُ وَكَأَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْبَائِعِ فِي ذَلِكَ. اهـ. وَقَالَ فَضْلٌ فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ حَبِيبٍ: اُنْظُرْ، هَلْ يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى خُصُومَةٍ؟ اهـ مِنْ الشَّارِحِ (وَفِي ابْنِ سَلْمُونٍ) : وَمَنْ أُحْدِثَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ فِيهِ ضَرَرٌ فَسَكَتَ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّ سُكُوتَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ رِضًا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِيهِ، فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ مَا أُحْدِثَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ وَلَا تَكَلَّمَ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُبْتَاعِ الْقِيَامُ بِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ وَبَاعَهُ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ، فَإِنَّ لِلْمُبْتَاعِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ وَيَقُومَ بِمَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. اهـ وَهُوَ كَلَامُ النَّاظِمِ حَرْفًا حَرْفًا
وَمَانِعُ الرِّيحِ أَوْ الشَّمْسِ مَعَا ... لِجَارِهِ بِمَا بَنَى لَنْ يُمْنَعَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ بَنَى بُنْيَانًا يَمْنَعُ جَارَهُ الرِّيحَ أَوْ الشَّمْسَ أَوْ هُمَا مَعًا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : قُلْتُ: فَلَوْ بَنَى فَمَنَعَنِي بُنْيَانُهُ الشَّمْسَ الَّتِي كَانَتْ تَسْقُطُ فِي دَارِي وَالرِّيحَ، فَهَلْ لِي أَنْ أَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا. اهـ (وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ) قَالَ مَالِكٌ مَنْ رَفَعَ بُنْيَانَهُ فَتَجَاوَزَ بُنْيَانًا لِيُشْرِفَ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ رَفْعِ
(2/253)

بِنَائِهِ وَمُنِعَ مِنْ الضَّرَرِ بِهِ، وَإِنْ رَفَعَ بُنْيَانَهُ. فَسَدَّ عَلَى جَارِهِ كُوَاهُ وَأَظْلَمَتْ أَبْوَابُ غُرَفِهِ وَكُوَاهَا وَمَنَعَهُ الشَّمْسَ أَنْ تُرْفَعَ فِي حُجْرَتِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ هَذَا الْبُنْيَانِ.
قَالَ ابْنُ نَافِعٍ يُمْنَعُ مِنْ ضَرَرِهِ مَنْعِ الضَّوْءِ وَالشَّمْسِ وَالرِّيحِ. اهـ (فَرْعٌ) إذَا كَانَ الْبُنْيَانُ يَحْبِسُ الرِّيحَ عَنْ الْأَنْدَرِ فَفِي الْوَاضِحَةِ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْبُنْيَانِ وُجِدَ عِنْدَهُ مَنْدُوحَةٌ أَمْ لَا. وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَوْضِعٍ يُبْطِلُ بِهِ أَنْدَرَ رَجُلٍ قَدْ تَطَاوَلَ انْتِفَاعُهُ بِهِ وَدِرَاسَتُهُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَسَوَاءٌ احْتَاجَ صَاحِبُ الْبُنْيَانِ إلَى الْبُنْيَانِ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ بُنْيَانًا يَضُرُّهُ فِي أَنْدَرِهِ. اهـ وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: لَا مَانِعَ ضَوْءِ شَمْسٍ وَرِيحٍ إلَّا الْأَنْدَرَ قَالَ الشَّارِحُ: إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ مَنْعُ مَانِعِ الرِّيحِ عَنْ الْأَنْدَرِ فَمِثْلُهُ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَانِعِ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الرِّيحِ عَنْ مَرْجٍ، فَصَارَ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْأَنْدَرِ وَمِثْلُهُ نَشِيرُ الْعَصِيرِ وَمَرْبِدُ التَّمْرِ. (فَرْعٌ) قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ: فَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا بَعِيدَةً مِنْ بِئْرِ جَارِهِ فَانْقَطَعَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى، وَعُلِمَ أَنَّ انْقِطَاعَهُ مِنْ أَجْلِ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ، فَقَالَ: إذَا عُلِمَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ، وَيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِرَدْمِهَا، وَسَوَاءٌ حَفَرَهَا فِي الْوَسَطِ أَوْ فِي غَيْرِ الْوَسَطِ.

[فَصْلٌ فِي الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي]
وَغَاصِبٌ يَغْرَمُ مَا اسْتَغَلَّهُ ... مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَرُدُّ أَصْلَهُ
حَيْثُ يُرَى بِحَالِهِ فَإِنْ تَلِفْ ... قُوِّمَ وَالْمِثْلُ بِذِي مِثْلٍ أُلِفْ
(ابْنُ عَرَفَةَ)
الْغَصْبُ أَخْذُ مَالٍ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ظُلْمًا قَهْرًا لَا لِخَوْفِ قِتَالٍ (الرَّصَّاعُ) قَوْلُهُ: أَخْذُ مَالٍ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمَالِ كَأَخْذِ امْرَأَةٍ وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ غَصْبًا فَلَيْسَ مَقْصُودًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اصْطِلَاحًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لُغَةً. (قُلْتُ) : اصْطِلَاحُهُمْ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالِاغْتِصَابِ كَمَا يَأْتِي لِلنَّاظِمِ بَعْدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ: غَيْرِ مَنْفَعَةٍ أَخْرَجَ بِهِ التَّعَدِّيَ وَهُوَ أَخْذُ الْمَنَافِعِ كَسُكْنَى رَبْعٍ وَحَرْثِهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَدٍّ وَلَيْسَ بِغَصْبٍ. وَقَوْلُهُ: ظُلْمًا أَخْرَجَ بِهِ أَخْذَهُ بِغَيْرِ بَاطِلٍ وَمَا ظَفِرَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَأَخَذَهُ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَمَا يُنْتَزَعُ مِنْ الْعَبْدِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُكَاتَبٍ عَجَزَ. وَقَوْلُهُ: قَهْرًا أَخْرَجَ بِهِ السَّرِقَةَ وَالنُّهْبَةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ، أَيْ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ظُلْمًا لَكِنْ لَا قَهْرَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: لَا لِخَوْفِ قِتَالٍ أَخْرَجَ بِهِ الْحِرَابَةَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْغِيلَةَ بِقَوْلِهِ قَهْرًا إذْ لَا قَهْرَ فِي الْغِيلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ مَالِكِهِ
(2/254)

وَأَمَّا التَّعَدِّي فَقَالَ الرَّصَّاعُ قَالَ الْمَازِرِيُّ مِنْ غَيْرِ الْغَصْبِ وَأَحْسَنُ مَا مُيِّزَ بِهِ عَنْهُ أَنَّ التَّعَدِّيَ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ الْحَقِّ دُونَ قَصْدِ تَمَلُّكِ الرَّقَبَةِ أَوْ إتْلَافُهُ أَوْ بَعْضِهِ دُونَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ. فَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حَقٍّ أَخْرَجَ بِهِ الْإِجَارَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَغَيْرَهُمَا، وَقَوْلُهُ: دُونَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أَخْرَجَ بِهِ الْغَصْبَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ (إتْلَافُهُ) هَذَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ التَّعَدِّي وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمِلْكِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ بَعْضِهِ. زَادَهُ لِيُدْخِلَ فِيهِ هَلَاكَ بَعْضِ الشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ: دُونَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أَخْرَجَ بِهِ الْغَصْبَ أَيْضًا. (قَالَ الرَّصَّاعُ) : وَبَعْدَ أَنْ قَيَّدْتُ هَذَا مِنْ كِتَابِ الْغَصْبِ رَأَيْتُ تَرْجَمَةَ التَّعَدِّي فِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ فِيهِ: التَّصَرُّفُ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهِ دُونَ قَصْدِ تَمَلُّكِهِ.
قَوْلُهُ:
وَغَاصِبٌ يَغْرَمُ مَا اسْتَغَلَّهُ
الْبَيْتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا وَاسْتَغَلَّهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْغَلَّةِ الَّتِي اسْتَغَلَّ مِنْهُ، وَيَرُدُّ أَيْضًا نَفْسَ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ إنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ، فَإِنْ تَلِفَ بِيَدِ الْغَاصِبِ غَرِمَ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ مُقَوَّمًا أَوْ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا. (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ:) وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي بِحَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ مَالَهُ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، أَوْ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ إنْ كَانَ فَائِتًا، إلَّا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ آحَادُهُ كَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ مِثْلَهُ. اهـ وَهَذَا إذَا تَلِفَ رَأْسًا وَأَمَّا إنْ تَعَيَّبَ، وَلَمْ يَتْلَفْ فَفِي الرِّسَالَةِ مَا حَاصِلُهُ، أَنَّهُ إنْ تَغَيَّرَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ بِنَقْصِهِ، أَوْ تَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ وَلَوْ كَانَ النَّقْصُ بِتَعَدِّيهِ خُيِّرَ رَبُّهُ أَيْضًا بَيْنَ أَخْذِهِ أَوْ أَخْذِ مَا نَقَصَهُ الْعَيْبُ وَبَيْنَ تَضْمِينِهِ قِيمَتَهُ.
أَمَا وُجُوبُ رَدِّ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا رَدُّ الْغَلَّةِ فَقَالَ الْإِمَامُ الْقَلْشَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَةِ: وَيَرُدُّ الْغَاصِبُ الْغَلَّةَ وَلَا يَرُدُّهَا غَيْرُ الْغَاصِبِ مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ: وَتَحْصِيلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْغَلَّاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: غَلَّةٌ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ عَلَى هَيْئَتِهِ وَخِلْقَتِهِ كَالْوَلَدِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَعَ الْأُمِّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْوَلَدِ وَقِيمَةِ الْأُمِّ. الثَّانِي غَلَّةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ خِلْقَتِهِ وَهَيْئَتِهِ كَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالثَّمَرَةِ وَفِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ لِضَمَانِهِ وَلِحَدِيثِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ.» الثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُ رَدُّهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ قِيمَتَهَا إنْ ادَّعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ: مَعَ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ. وَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْغَلَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْغَلَّةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ.
الثَّالِثُ: الْغَلَّةُ الَّتِي هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ وَهِيَ الْأَكْرِيَةُ وَالْخَرَاجَاتُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَاخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يُكْرِيَ أَوْ يَنْتَفِعَ أَوْ يُعَطِّلَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إنْ أَكْرَى وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ انْتَفَعَ أَوْ عَطَّلَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إنْ أَكْرَى أَوْ انْتَفَعَ وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ عَطَّلَ. الْخَامِسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْأُصُولِ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا اغْتَلَّ مِنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ بَقَائِهَا وَقِيَامِهَا، وَأَمَّا مَا اغْتَلَّ مِنْهَا بِتَصَرُّفٍ، وَتَفْوِيتُهَا وَتَحْوِيلُ عَيْنِهَا كَالدَّنَانِيرِ يَغْصِبُهَا فَيَغْتَلُّهَا بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالطَّعَامِ يَزْرَعُهُ فِي أَرْضِهِ، فَالْغَلَّةُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ إلَى غَصْبِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْغَلَّةِ الَّتِي قَصَدَ إلَى غَصْبِهَا؛ سَوَاءٌ أَكْرَى أَوْ انْتَفَعَ أَوْ عَطَّلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُزَالُ بِهِ أَوْ مِمَّا لَا يُزَالُ بِهِ.
اهـ وَقَالَ الْقَلْشَانِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ آخِرَ بَابِ الشُّفْعَةِ وَالْهِبَةِ: وَلَا غَلَّةَ لِلْغَاصِبِ وَيَرُدُّ مَا أَكَلَ مِنْ غَلَّةٍ أَوْ انْتَفَعَ. مَا نَصُّهُ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ وُجُوبُ رَدِّ الْغَاصِبِ الْغَلَّةَ بِالْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْصُوبُ رَبْعًا أَوْ رَقِيقًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ اسْتَغَلَّهَا أَوْ اسْتَعْمَلَهَا وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ رَدِّ الْغَلَّةِ مُطْلَقًا رَوَاهُ أَشْهَبُ وَابْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ التَّحْقِيقُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الذَّوَاتِ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ مَنَافِعِهَا فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْغَاصِبُ الْغَلَّةَ لَمَا كَانَ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ سِوَى فَائِدَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَغْصُوبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِغَرَضِ الْغَاصِبِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ اخْتِصَاصُ الضَّمَانِ بِغَلَّةِ الرِّبَاعِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ دُونَ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ الْمُتَيْطِيُّ سَلَكَ مَسْلَكَ الْمُقَابَلَةِ فَجَعَلَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ فِي
(2/255)

الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَلَهُ الْغَلَّةُ وَأَسْقَطَ عَنْهُ النَّفَقَةَ فِي الرَّبْعِ وَجَعَلَ عَلَيْهِ رَدَّ الْغَلَّةِ. قِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ الرَّبْعَ مَأْمُونٌ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَالرَّقِيقُ وَالدَّوَابُّ الْخَوْفُ فِيهِمَا قَائِمٌ فَكَانَتْ الْغَلَّةُ لَهُ بِالضَّمَانِ. وَقِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ غَاصِبَ الْحَيَوَانِ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تَبْقَى بِيَدِهِ حَتَّى تَتْلَفَ صَارَ الْغَاصِبُ فِيهِمَا غَاصِبًا لِلرِّقَابِ حَقِيقَةً، وَالرَّبْعُ شَأْنُهُ الْبَقَاءُ حَتَّى لَيُدْرَى بِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَغَاصِبُ الْمَنْفَعَةِ لَا خِلَافَ فِي رَدِّهِ الْغَلَّةَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَاصِبِ الرَّقَبَةِ. اهـ
وَالْقَوْلُ لِلْغَاصِبِ فِي دَعْوَى التَّلَفْ ... وَقَدْرِ مَغْصُوبٍ وَمَا بِهِ اتَّصَفْ
هَكَذَا كَقَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ وَالْقَوْلُ لَهُ فِي تَلَفِهِ وَنَعْتِهِ وَقَدْرِهِ وَحَلِفٌ. وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي تَلَفِهِ وَصِفَتِهِ وَمَبْلَغِهِ. (التَّوْضِيح) يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ: هَلْ تَلِفَ الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ أَمْ لَا؟ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ أَوْ مَبْلَغِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ وَإِنْ غَصَبَ جَارِيَةً وَادَّعَى هَلَاكَهَا وَاخْتُلِفَ فِي صِفَتِهَا صُدِّقَ الْغَاصِبُ فِي الصِّفَةِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، فَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ صُدِّقَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ.
وَكَذَلِكَ نَصَّ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْغَاصِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَدَدِ. وَلَمْ أَرَ فِي الْأُمَّهَاتِ وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَى الْغَاصِبِ إذَا ادَّعَى التَّلَفَ لَكِنْ نَصَّ فِيهَا عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا كَانَ مِمَّا يُعَابُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْلِفُ إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي تَلَفَهُ، وَكَذَلِكَ فِي رَهْنِ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْغَاصِبُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمَا وَقَدْ نَصَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى وُجُوبِ الْيَمِينِ هُنَا فِي التَّلَفِ. وَقَالَ أَشْهَبُ يُصَدَّقُ الْغَاصِبُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ ادَّعَى مَا لَا يُشْبِهُ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: هِيَ صَمَّاءُ بَكْمَاءُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ وَلَمْ يَنُصَّ النَّاظِمُ عَلَى وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ اتِّكَالًا مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ. يَعْنُونَ بِيَمِينٍ، وَإِذَا قَالُوا: مُصَدَّقٌ فَيَعْنُونَ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَلَكِنَّ هَذَا غَالِبٌ لَا مُطَّرِدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْغُرْمُ وَالضَّمَانُ مَعْ عِلْمٍ يَجِبْ ... عَلَى الَّذِي انْجَزَّ إلَيْهِ مَا غَصَبْ
بِإِرْثٍ أَوْ مِنْ وَاهِبٍ أَوْ بَائِعِ ... كَالْمُتَعَدِّي غَاصِبِ الْمَنَافِعِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ انْجَزَّ إلَيْهِ الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ إمَّا بِإِرْثٍ مِنْ الْغَاصِبِ أَوْ بِهِبَةٍ مِنْهُ أَوْ بِشِرَاءٍ مِنْهُ أَيْضًا مَعَ كَوْنِ مَنْ انْجَرَّ إلَيْهِ ذَلِكَ عَالِمًا بِكَوْنِ مَوْرُوثِهِ أَوْ الْوَاهِبِ لَهُ أَوْ الْبَائِعِ لَهُ غَصَبَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَنَزَّلُ
(2/256)

مَنْزِلَةَ الْغَصْبِ فِي ضَمَانِ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ أَوْ مِثْلَهُ إنْ تَلِفَ، فَالْغُرْمُ نَتِيجَةُ الضَّمَانِ. فَلَوْ قَالَ: وَالْغُرْمُ بِالضَّمَانِ بِالْبَاءِ السَّبَبِيَّةِ، لَكَانَ أَوْضَحَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَمَّا تَرْجَمَ لِلْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي، وَذَكَرَ بَعْضَ أَحْكَامِ الْغَصْبِ أَفَادَ هُنَا بِالشَّطْرِ الثَّانِي مِنْ الْبَيْتِ الثَّانِي أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ هُوَ غَاصِبُ الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ غَاصِبٌ لِلرِّقَابِ، وَشَبَّهَهُ بِالْغَاصِبِ فِي كَوْنِهِ يَضْمَنُ وَيَلْزَمُهُ الْغُرْمُ لِلشَّيْءِ الْمُتَعَدَّى فِيهِ، أَمَّا مَنْ أَنْجَرَّ إلَيْهِ الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِيهَا مَعَ غَيْرِهَا: مَنْ ابْتَاعَ شَيْئًا مِنْ غَاصِبٍ إنْ قَبِلَهُ مِنْهُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ غَاصِبٌ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي الْغَلَّةِ وَالضَّمَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَلَوْ بِيعَ الْمَغْصُوبُ أَوْ وُرِّثَ فَإِنْ عَلِمَ فَكَالْغَاصِبِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي السَّمَاوِيِّ. (التَّوْضِيحُ) فَاعِلُ عَلِمَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ: فَكَالْغَاصِبِ أَيْ فِي لُزُومِ رَدِّ الْغَلَّاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْغَصْبِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَلَا عُذْرَ لَهُ بَلْ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ. أَيْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمَا أَيْ الْمُشْتَرِي وَالْوَارِثُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِمَّا هَلَكَ أَوْ نَقَصَ مِمَّا لَا صُنْعَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَهُوَ مُرَادُهُ بِالسَّمَاوِيِّ. انْتَهَى الْمُحْتَاجُ لَهُ الْآنَ مِنْهُ وَأَمَّا الْمُتَعَدِّي فَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ اللَّخْمِيِّ أَنَّ التَّعَدِّيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: يَسِيرٌ لَمْ يُبْطِلْ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ فَلَا يَضْمَنُهُ بِذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا رَفَأَهُ أَوْ قَصْعَةً أَصْلَحَهَا وَغَرِمَ مَا نَقَصَهَا بَعْدَ الْإِصْلَاحِ وَإِنَّمَا لَزِمَهُ إصْلَاحُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بَعْدَ إصْلَاحِهِ وَقَدْ كَانَ فِي مَنْدُوحَةٍ عَنْ ذَلِكَ.
(2/257)

وَيَسِيرٌ أَبْطَلَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. فِيهِ خِلَافٌ؛ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ يَضْمَنُ جَمِيعَهُ فَإِنْ قَطَعَ ذَنَبَ دَابَّةِ الْقَاضِي أَوْ أُذُنَهَا ضَمِنَهَا وَكَذَلِكَ مَرْكُوبُ كُلِّ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَرْكَبُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَلِذَلِكَ سَوَاءٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّابَّةُ حِمَارًا أَوْ بَغْلًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْكُوبِ وَالْمَلْبُوسِ كَقَلَنْسُوَةِ الْقَاضِي وَطَيْلَسَانِهِ وَعِمَامَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا قُصِدَ إلَيْهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَإِنْ كَانَ التَّعَدِّي كَثِيرًا وَلَمْ يُبْطِلْ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْيَسِيرِ.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ لَوْ تَعَدَّى عَلَى شَاةٍ بِأَمْرٍ قَلَّ لَبَنُهَا بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ عُظْمُ مَا تُرَادُ لَهُ اللَّبَنَ ضَمِنَ قِيمَتَهَا إنْ شَاءَ رَبُّهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَزِيرَةَ اللَّبَنِ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا، وَأَمَّا النَّاقَةُ أَوْ الْبَقَرَةُ فَإِنَّمَا فِيهَا مَا نَقَصَهَا وَإِنْ كَانَتْ غَزِيرَةَ اللَّبَنِ فَفِيهَا مَنَافِعُ غَيْرُ ذَلِكَ بَاقِيَةٌ. انْتَهَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَمَّا النَّاقَةُ أَوْ الْبَقَرَةُ إلَخْ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْيَسِيرِ أَيْ الْيَسِيرِ الَّذِي لَمْ يُبْطِلْ الْغَرَضَ، وَإِنْ كَانَ التَّعَدِّي كَثِيرًا أَبْطَلَ الْمَقْصُودَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ. (قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ:) مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدِ رَجُلٍ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ جَمِيعًا فَقَدْ أَبْطَلَهُ وَيَضْمَنُ الْجَارِحُ قِيمَتَهُ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ مِثْلُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنًا وَاحِدَةً أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ وَشِبْهَهُ، فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ. (ابْنُ رُشْدٍ) : إنْ قَطَعَ الْوَاحِدَةَ مِنْ صَانِعٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ اتِّفَاقًا. اهـ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا أَفَاتَ الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَثِيرًا كَانَ أَوْ يَسِيرًا، وَمَا لَمْ يُفِتْهُ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ كَثِيرًا كَانَ أَوْ يَسِيرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِلَى هَذَا التَّقْسِيمِ أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالْمُتَعَدِّي جَانٍ عَلَى بَعْضٍ غَالِبًا فَإِنْ أَفَاتَ الْمَقْصُودَ كَقَطْعِ ذَنَبِ دَابَّةِ ذِي هَيْئَةٍ أَوْ أُذُنِهَا أَوْ طَيْلَسَانِهِ أَوْ لَبَنِ شَاةٍ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ قَلَعَ عَيْنَيْ عَبْدٍ أَوْ يَدَيْهِ فَلَهُ أَخْذُهُ وَنَقْصُهُ أَوْ قِيمَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُفِتْهُ فَنَقْصُهُ؛ كَلَبَنِ بَقَرَةٍ وَيَدِ عَبْدٍ أَوْ عَيْنِهِ. اهـ
وَشُبْهَةٌ كَالْمِلْكِ فِي ذَا الشَّانِ
لِقَوْلِهِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»
وَلَا يَكُونُ الرَّدُّ فِي اسْتِحْقَاقِ ... وَفَاسِدِ الْبَيْعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَا فِي السِّلْعَةِ ... مَوْجُودَةً فِي فَلَسٍ وَالشُّفْعَةِ
يَعْنِي أَنَّ شُبْهَةَ الْمِلْكِ كَالْمِلْكِ فِي كَوْنِهَا تُوجِبُ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ اسْتِحْقَاقَ الْغَلَّةِ. وَعَنْهُ عَبَّرَ بِهَذَا الشَّأْنِ أَيْ الْأَمْرِ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ، وَهُوَ لِمَنْ تَكُونُ الْغَلَّةُ؟ وَدَلِيلُ كَوْنِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ كَالْمِلْكِ.
قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ.» وَالْخَرَاجُ الْغَلَّةُ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ ضَمَانُ الشَّيْءِ مِنْهُ إذَا هَلَكَ فَإِنَّ لَهُ غَلَّةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ عَلَيْهِ التَّوَى فَلَهُ النَّمَا وَالْتَوَى بِالْمُثَنَّاةِ وَالْقَصْرِ أَيْ ضَمَانُ الشَّيْءِ إذَا هَلَكَ وَالنَّمَا الزِّيَادَةُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَلَّةُ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ كَانَ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ وَرِثَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اسْتَغَلَّهُ كَدَارٍ فَسَكَنَهَا أَوْ أَرْضٍ فَحَرَثَهَا أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ وَاسْتَخْدَمَهُ أَوْ أَكْرَاهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ وَأَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ، فَلَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ، أَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَحَلِّهَا، وَقَدْ كَانَ اسْتَغَلَّهُ وَنُقِضَ الْبَيْعُ لِفَسَادِهِ، فَلَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ أَيْضًا؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ مَا زَالَ قَائِمًا بِيَدِ مُشْتَرِيهِ فَرَدَّهُ لِبَائِعِهِ أَوْ قَدْ فَاتَ وَغَرِمَ ثَمَنَهُ أَوْ قِيمَتَهُ.
وَهُوَ مُرَادُهُ بِالْإِطْلَاقِ، أَوْ وَجَدَ عَيْبًا فِيمَا اشْتَرَى فَرَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ وَكَانَ قَدْ اسْتَغَلَّهُ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَاسْتَغَلَّهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ حَتَّى فَلِسَ فَجَاءَ الْبَائِعُ فَوَجَدَ سِلْعَتَهُ فِي جُمْلَةِ مَالِ مُشْتَرِيهَا الَّذِي فَلِسَ فَأَخَذَهَا فِي الثَّمَنِ فَلَا يَرْجِعُ بِالْغَلَّةِ عَلَى الْمُفْلِسِ، أَوْ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ مَثَلًا وَسَكَنَهُ ثُمَّ جَاءَ شَرِيكٌ فَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ الْمِلْكُ
(2/258)

مِنْ يَدِهِ لَا يَرُدُّ الْغَلَّةَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ؛ لِكَوْنِ ضَمَانِ ذَلِكَ الْمِلْكِ كَانَ مِنْهُ، فَالْغَلَّةُ لَهُ إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ يُتَصَوَّرُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَمَا عَدَاهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ فِي إيضَاحِ الْمَسَالِكِ مَا نَصُّهُ) : تَنْبِيهٌ: لِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَالشُّفْعَةُ، وَالتَّفْلِيسُ. وَقَدْ نَظَمْتُهَا فَقُلْتُ:
وَلَا يَرُدُّ مُشْتَرٍ غَلَّةَ مَا ... قَدْ اشْتَرَاهُ فَاحْفَظَنْهُ وَاعْلَمَا
فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ... وَفَاسِدِ الْبَيْعِ بِلَا شِقَاقِ
وَفَلَسٍ وَشُفْعَةٍ يَا طَالِبُ ... مُكَمِّلَيْنِ عِدَّةَ الْمَطَالِبِ
فَفِي الْمُقَدِّمَاتِ ذَا الْمَذْكُورُ ... وَفِي خَلِيلٍ مِثْلُهُ مَشْهُورُ
وَاخْتَلَفَ الْمَشْهُورُ بِمَاذَا تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إنْ لَمْ تُفَارِقْ الْأُصُولَ فَاحْفَظْهَا بِمَا ضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ تَجِد عفزا شسيا فَالتَّاءُ (مِنْ تَجِدَّ) لِلتَّفْلِيسِ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ لِلْجِدَادِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِي التَّفْلِيسِ إلَّا بِالْجِدَادِ، وَالْعَيْنُ وَالْفَاءُ (مِنْ عفزا) لِلرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالزَّايُ الزَّهْوُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ مَعَ أُصُولِهَا إذَا أَزْهَتْ وَلَمْ تُجَدَّ، وَلَا يَبِسَتْ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالشِّينُ وَالسِّينُ مِنْ (شسيا) لِلشُّفْعَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالْيَاءُ لِلْيُبْسِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تُرَدُّ مَعَ أُصُولِهَا، وَإِنْ أَزْهَتْ مَا لَمْ تَيْبَسْ فِي الشُّفْعَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. اهـ
(وَفِي التَّوْضِيحِ) عَنْ الْمَازِرِيِّ قَالَ: كَانَ بَعْضُ أَشْيَاخِي يَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْأُخْرَى. اهـ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ غَازِيٍّ بَعْدَ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ السَّابِقِ وَقَبْلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ فِي التَّوْضِيحِ، وَقَدْ كُنْتُ نَظَمْتُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي رَجَزٍ مَعَ زِيَادَةِ بَعْضِ الْفَوَائِدِ، فَقُلْتُ:
الْخَرْجُ بِالضَّمَانِ فِي التَّفْلِيسِ ... وَالْعَيْبُ عَنْ جَهْلٍ وَعَنْ تَدْلِيسِ
وَفَاسِدٍ وَشُفْعَةٍ وَمُسْتَحَقْ ... ذِي عِوَضٍ وَلَوْ كَوَقْفٍ فِي الْأَحَقْ
وَالْجَدُّ فِي الثِّمَارِ فِيمَا اُنْتُقِيَا ... يَضْبِطُهُ تَجِدَّ عفزا شسيا
الْخَرْجُ وَالْخَرَاجُ لُغَتَانِ اجْتَمَعَتَا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] وَدَخَلَ تَحْتَ الْكَافِ مِنْ قَوْلِنَا: كَوَقْفِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَمَعْنَى فِي الْأَحَقِّ: فِي الْقَوْلِ الْأَحَقِّ تَلْوِيحًا بِقَوْلِ الْمُغِيرَةِ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَمَعْنَى اُنْتُقِيَ اُخْتِيرَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، قَالَ: وَاخْتَصَرْتُهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الْمُجْتَثِّ، فَقُلْتُ:
ضَمِّنْ بِخَرْجٍ وَفِيَّا ... تَجِدَّ عفزا شسيا
عَلَى أَنَّا مَسْبُوقُونَ بِهَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي هُوَ تَجِدَّ عفزا شسيا، سَبَقَ إلَيْهِ الْوَانُّوغِيُّ اهـ.
(تَنْبِيهٌ) عَدَمُ رَدِّ الْغَلَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ إنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ لَا غَلَّةَ فِيهِ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَلَا يَوْمَ الرَّدِّ، وَاغْتَلَّ الْمُشْتَرِي فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْغَلَّةَ، وَبَانَ بِهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ يَوْمَ الْبَيْعِ أَوْ يَوْمَ الرَّدِّ فَلِكُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ فَإِنْ أَرَدْتَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فَرَاجِعْ الْحَطَّابَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْغَلَّةُ لَهُ لِلْفَسْخِ وَلَمْ تُرَدَّ بِخِلَافِ وَلَدٍ وَثَمَرَةٍ أُبِّرَتْ وَصُوفٍ تَمَّ إلَخْ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّارِحُ هُنَا نُصُوصَ الْفِقْهِ عَلَى عَدَمِ رَدِّ الْغَلَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَرَأَيْتُ جَلْبَهُ مِمَّا يَطُولُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ.
وَمُتْلِفُ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَهْ ... مِمَّا لَهُ كَيْفِيَّةٌ مَعْهُودَهْ
صَاحِبُهُ خُيِّرَ فِي الْأَخْذِ لَهُ ... مَعْ أَخْذِهِ لِأَرْشِ عَيْبِ جُلِّهِ
أَوْ أَخْذِهِ لِقِيمَةِ الْمَعِيبِ ... يَوْمَ حُدُوثِ حَالَةِ التَّعْيِيبِ
وَلَيْسَ إلَّا الْأَرْشُ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ ... يَسِيرَةٌ وَالشَّيْءُ مَعَهَا فِي سَعَهْ
مِنْ بَعْدِ رَفْوِ الثَّوْبِ أَوْ إصْلَاحِ ... مَا كَانَ مِنْهُ قَابِلَ الصَّلَاحِ
يَعْنِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا كَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ وَالصَّحْفَةِ وَنَحْوِهَا إذَا تَعَدَّى عَلَيْهَا مُتَعَدٍّ وَأَتْلَفَهَا أَوْ عَيَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ سَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ هَذَا الْمُتَعَدِّي أَتْلَفَ بِسَبَبِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْأَهُ عَلَى مَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَيَأْخُذَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَعَدِّي مَا بَيْنَ قِيمَةِ شَيْئِهِ سَالِمًا وَمَعِيبًا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ لِلَّذِي جَنَى
(2/259)

عَلَيْهِ وَأَفْسَدَهُ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ أَفْسَدَهُ، وَهَذَا إذَا أَبْقَى الشَّيْءَ مَعِيبًا أَمَا إذَا ذَهَبَ رَأْسًا كَمَا إذَا أَحْرَقَ ثَوْبًا، فَلَيْسَ إلَّا الرُّجُوعَ بِالْقِيمَةِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا فَعَلَ الْمُتَعَدِّي يَسِيرًا بِحَيْثُ كَانَ الشَّيْءُ بَعْدَ تَلَفِهِ مَازَالَ يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إلَّا الْأَرْشُ وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَالِمًا وَمَعِيبًا بَعْدَ إصْلَاحِ مَا يَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ مِنْ ذَلِكَ؛ كَرَفْوِ الثَّوْبِ مِمَّا حَدَثَ فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ، وَكَالسَّيْفِ يُصْلِحُ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ الْفُلُولِ.
(قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : قُلْتُ: فَمَنْ كَسَرَ صَحْفَةً لِرَجُلٍ أَوْ عَصًا أَوْ شَقَّ لَهُ ثَوْبًا، فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَفْسَدَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا: إنْ كَانَ فَسَادًا يَسِيرًا. كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفُوَهُ ثُمَّ يَغْرَمَ مَا نَقَصَهُ بَعْدَ الرَّفْوِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا أَخَذَ الثَّوْبَ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ أَفْسَدَهُ، فَاَلَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ هُوَ عَلَى مِثْلِ هَذَا. قَالَ: وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَتْبَعَهُ بِمَا أَفْسَدَ بِحَبْسِ الثَّوْبِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ كَثِيرًا. وَفِي الْجَوَاهِرِ: وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْفَسَادِ الْكَثِيرِ: إنَّمَا لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ جَمِيعِ الثَّوْبِ أَوْ يَأْخُذَهُ بِنَقْصِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِمَّا نَقَصَهُ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَرَّةً، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَالَ: وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْأَوَّلِ فَفِي مَعْنَى الْفَسَادِ مَا أَتْلَفَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي الصُّورَةِ يَسِيرَةً؛ مِثْلَ قَطْعِ ذَنَبِ الدَّابَّةِ أَوْ أُذُنِهَا ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
كَالْمُتَعَدِّي غَاصِبِ الْمَنَافِعِ
فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْتَ.

[فَصْلٌ فِي الِاغْتِصَابِ]
ِ
وَوَاطِئٌ لِحُرَّةٍ مُغْتَصِبَا ... صَدَاقُ مِثْلِهَا عَلَيْهِ وَجَبَا
إنْ ثَبَتَ الْوَطْءُ وَلَوْ بِبَيِّنَهْ ... بِأَنَّهُ غَابَ عَلَيْهَا مُعْلِنَهْ
وَقِيمَةُ النَّقْصِ عَلَيْهِ فِي الْأَمَهْ ... هَبْهَا سِوَى بِكْرٍ وَغَيْرَ مُسْلِمَهْ
وَالْوَلَدُ اُسْتُرِقَّ حَيْثُ عُلِمَا ... وَالْحَدُّ مَعْ ذَاكَ عَلَيْهِ فِيهِمَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ غَصَبَ امْرَأَةً وَأَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا وَزَنَى بِهَا مُكْرَهَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، إنْ ثَبَتَ الْوَطْءُ إمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ بِأَنَّهُ غَابَ عَلَيْهَا غَيْبَةً يُمْكِنُ وُقُوعُ الْوَطْءِ فِيهَا وَادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ وَطْؤُهُ لَهَا وَغَيَّا النَّاظِمُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِيهَا؛ فَيَكُونُ غَيْرُهَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْوَطْءِ أَوْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَحْرَى فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ. وَهَذَا إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَثَبَتَ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ عَلِمَا وَفَسَّرَهُ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: إذَا عَلِمَ بِرِقِّهَا. اهـ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ:) وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَكْرَهَ أَمَةً أَوْ حُرَّةً فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَفِي الْأَمَةِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، خِلَافَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا صَدَاقَ عَلَيْهِ مَعَ الْحَدِّ، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى مُعَايَنَةِ الْفِعْلِ، أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى غَيْبَتِهِ عَلَيْهَا. اهـ اسْتَطْرَدَ الشَّارِحُ عَنْ الْمُقَرَّبِ حُكْمَ مَنْ اغْتَصَبَ امْرَأَةً وَوَطِئَهَا فِي دُبُرِهَا وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ إلَّا عَلَى الِاغْتِصَابِ وَالْخَلْوَةِ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْوَطْءَ وَأَنْكَرَ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بَلْ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً شَدِيدَةً. وَوَاطِئٌ مُبْتَدَأٌ سَوَّغَهُ الْعَمَلُ فِي الْحُرَّةِ وَمُغْتَصِبًا حَالٌ مِنْ وَاطِئٍ لِتَخْصِيصِهِ بِالْعَمَلِ الْمَذْكُورِ، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ وَجَبَا عَلَيْهِ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ الْكُبْرَى خَبَرُ وَاطِئٍ، وَمُعْلِنَةٌ صِفَةُ بَيِّنَةٍ، وَغَيْرَ مُسْلِمَةٍ بِالنَّصْبِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِهَبْ وَهُوَ سِوَى، وَعُلِمَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ أَيْ شَاعَ، وَعُلِمَ وَضَمِيرُ عَلَيْهِ لِلْوَاطِئِ، وَضَمِيرُ فِيهِمَا لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/260)

وَإِنْ يَكُنْ ذَا الْغَصْبُ بِالدَّعْوَى فَفِي ... تَفْصِيلِهِ بَيَانٌ حُكْمُهُ يَفِي
فَحَيْثُمَا الدَّعْوَى عَلَى مَنْ قَدْ شُهِرْ ... بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ نُظِرْ
فَإِنْ تَكُنْ بَعْدَ التَّرَاخِي زَمَنَا ... حُدَّتْ لِقَذْفٍ وَبِحَمْلٍ لِلزِّنَا
وَحَيْثُمَا رَحِمُهَا مِنْهُ بَرِيّ ... فَالْحَدُّ تَسْتَوْجِبُهُ فِي الْأَظْهَرِ
وَذَاكَ فِي الْمَجْهُولِ حَالًا إنْ جُهِلْ ... حَالٌ لَهَا أَوْ لَمْ تَحُزْ صَوْنًا نُقِلْ
وَإِنْ تَكُنْ مِمَّنْ لَهَا صَوْنٌ فَفِي ... وُجُوبِهِ تَخْرِيجًا الْخُلْفُ قُفِيّ
وَحَيْثُ قِيلَ لَا تُحَدُّ إنْ نَكَلْ ... فَالْمَهْرُ مَعْ يَمِينِهَا لَهُ حَصَلْ
وَمَا عَلَى الْمَشْهُورِ بِالْعَفَافِ ... مَهْرٌ وَلَا حَلْفٌ بِلَا خِلَافِ
لَمَّا قَدَّمَ حُكْمَ مَا إذَا ثَبَتَ الْغَصْبُ بِبَيِّنَةٍ ذَكَرَ هُنَا حُكْمَ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ وَقَسَّمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالدِّينِ وَالْخَيْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ، لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ دَيِّنًا أَوْ لَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْفِسْقِ وَقِلَّةِ الدِّينِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا إمَّا أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ حَالَةَ وُقُوعِهِ وَجَاءَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ وَإِمَّا أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ وَتَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى مَا إذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَهَرِ بِالدِّينِ أَوْ عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ، وَلَمْ تَقُمْ فِي الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ شُهِرَ بِالدِّينِ وَتَرَاخَتْ الدَّعْوَى، فَإِنَّهَا تُحَدُّ حَدَّ قَذْفِهَا لِلرَّجُلِ الْمَشْهُورِ بِالدِّينِ وَلِلزِّنَا إنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَيَتَعَدَّدُ الْحَدَّانِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ فَفِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا قَوْلَانِ الْأَظْهَرُ وُجُوبُهُ وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ ذَا الْغَصْبُ إلَى قَوْلِهِ:
وَحَيْثُمَا رَحِمُهَا مِنْهُ بَرِيّ
الْبَيْتَ، أَيْ مِنْ الْحَمْلِ.
(وَفِي الْمُخْتَصَرِ لِلشَّيْخِ خَلِيلٍ) وَإِنْ ادَّعَتْ اسْتِكْرَاهًا عَلَى غَيْرِ لَائِقٍ بِلَا تَعَلُّقٍ حُدَّتْ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ فِي الْبَيْتِ الثَّامِنِ: وَمَا عَلَى الْمَشْهُورِ بِالْعَفَافِ مَهْرٌ وَلَا حَلِفٌ وَأَحْرَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: وَذَاكَ فِي الْمَجْهُولِ حَالًا، الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةِ حُكْمَ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ وَتَرَاخَى قِيَامُهَا أَيْضًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ لِحَالِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ جُهِلَ حَالُهَا أَوْ عُلِمَ كَوْنُهَا غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالصِّيَانَةِ، فَالْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَشْهُورِ بِالدِّينِ مِنْ أَنَّهَا تُحَدُّ لِلزِّنَا وَالْقَذْفِ وَإِنْ عُلِمَ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالصِّيَانَةِ فَفِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهَا لِلرَّجُلِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ، وَعَلَى كَوْنِهَا لَا تُحَدُّ يَحْلِفُ لِرَدِّ دَعْوَاهَا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَأَخَذَتْ مِنْهُ الصَّدَاقَ وَإِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَذَاكَ فِي الْمَجْهُولِ حَالًا، الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَمَا عَلَى الْمَشْهُورِ بِالْعَفَافِ
الْبَيْتَ، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الدَّعْوَى عَلَى الْمَشْهُورِ بِالدِّينِ فَمَحَلُّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَحَيْثُمَا رَحِمُهَا مِنْهُ بَرِيّ،
الْبَيْتَ وَكَأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ مِنْ تَقْدِيمٍ، وَفُهِمَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمَرْأَةِ حَيْثُ الدَّعْوَى عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ أَنَّهُ لَا يُفَصَّلُ فِيهَا إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ بِالدِّينِ بَلْ الْحُكْمُ مَا تَقَدَّمَ، كَيْفَ كَانَ حَالُ الْمَرْأَةِ هَذَا مَا تُعْطِيهِ أَلْفَاظُ النَّاظِمِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ الشَّارِحُ) : وَقَدْ اعْتَمَدَ النَّاظِمُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ قَالَ فِيهَا مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْأَبْيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا إنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا فَغَابَ عَلَيْهَا وَوَطِئَهَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا عَلَى دَعْوَاهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ مُتَّهَمٍ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَنْقَسِمُ إلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً مُتَعَلِّقَةً بِهِ مُتَشَبِّثَةً فَاضِحَةً نَفْسَهَا تَدَّعِي إنْ كَانَتْ بِكْرًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَشَبُّثٍ، وَلَا تَدْمَى، وَهِيَ بِكْرٌ فَيَأْتِي فِي جُمْلَةِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِهِ فَهَذَا لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الرَّجُلِ وَأَنَّهَا تُحَدُّ لَهُ حَدَّ الْقَذْفِ وَحَدَّ الزِّنَا إنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ فَيُخَرَّجُ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَى
(2/261)

الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوَطْءِ أَمَةِ رَجُلٍ وَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، أَوْ بِوَطْءِ امْرَأَةٍ وَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَتُحَدُّ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ قَوْلِهَا، وَلَا تُحَدُّ عَلَى مَذْهَبِ أَشْهَبَ وَهُوَ نَصُّ ابْنِ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ.
وَكَذَا الْمَجْهُولُ الْحَالِ فِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا كَانَتْ هِيَ مَجْهُولَةَ الْحَالِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الصَّوْنِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الصَّوْنِ وَكَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَيَتَخَرَّجُ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهَا لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَحْلِفُ بِدَعْوَاهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُحَدُّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَكَانَ لَهَا صَدَاقُهَا عَلَيْهِ. اهـ وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مَعَ أَنَّهَا سِتَّةٌ كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْمَعْرُوفِ بِالْفِسْقِ مِنْ قِيَامِهَا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَبَاقِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ كَكَلَامِ النَّاظِمِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجَزَاهُمَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا.
وَحَيْثُ دَعْوَى صَاحَبَتْ تَعَلُّقَا ... حَدُّ الزِّنَا يَسْقُطُ عَنْهَا مُطْلَقَا
وَالْقَذْفُ فِيهِ الْحَدُّ لِابْنِ الْقَاسِمِ ... وَحَلْفُهُ لَدَيْهِ غَيْرُ لَازِمِ
وَمَنْ نَفَى الْحَدَّ فَعِنْدَهُ يَجِبْ ... تَحْلِيفُهُ بِأَنَّ دَعْوَاهَا كَذِبْ
وَمِنْ نُكُولِهِ لَهَا الْيَمِينُ ... وَتَأْخُذُ الصَّدَاقَ مَا يَكُونُ
وَحَدُّهَا لَهُ اتِّفَاقًا إنْ تَكُنْ ... لَيْسَ لَهَا صَوْنٌ وَلَا حَالٌ حَسَنْ
وَعَدَمُ الْحَدِّ كَذَا لِلْمُنْبَهِمْ ... حَالًا إذَا كَانَتْ تَوَقَّى مَا يَصِمْ
وَإِنْ تَكُنْ لَا تَتَوَقَّى ذَلِكَا ... فَالْحَلْفُ تَخْرِيجًا بَدَا هُنَالِكَا
تَكَلَّمَ فِي الْأَبْيَاتِ عَلَى مَا إذَا ادَّعَتْ الِاغْتِصَابَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْمَجْهُولِ الْحَالِ، وَقَامَتْ فِي الْحِينِ بِحَيْثُ جَاءَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ لِقَوْلِهِ:
وَحَيْثُ دَعْوَى صَاحَبَتْ تَعَلُّقَا
فَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ قَبْلُ:
فَإِنْ تَكُنْ بَعْدَ التَّرَاخِي زَمَنًا
فَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ مُتَعَلِّقَةً بِصَالِحِ الْحَالِ فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا يَسْقُطُ عَنْهَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَوْ لَا، وَهُوَ مُرَادُهُ بِالْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا تُحَدُّ لِقَذْفِهَا لِلرَّجُلِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّجُلِ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ عَلَى تَكْذِيبِهَا، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَوَجَبَ لَهَا الصَّدَاقُ وَمَحَلُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعْرُوفَةً بِالصِّيَانَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِلْقَذْفِ اتِّفَاقًا، هَذَا كُلُّهُ فِي الدَّعْوَى عَلَى صَالِحِ الْحَالِ مَعَ التَّشَبُّثِ بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَحَيْثُ دَعْوَى صَاحَبَتْ تَعَلُّقَا
الْأَبْيَاتَ الْخَمْسَةَ، ثُمَّ أَشَارَ لِحُكْمِ مَا إذَا جَاءَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُنْبَهِمِ الْأَمْرُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنْظَرُ لِلْمَرْأَةِ إنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالصِّيَانَةِ وَالْعَفَافِ فَلَا تُحَدُّ لِقَذْفِهِ اتِّفَاقًا، وَإِلَى الِاتِّفَاقِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَذَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَفِي حَدِّهَا لِلْقَذْفِ قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَعَدَمُ الْحَدِّ كَذَا لِلْمُنْبَهِمِ الْبَيْتَيْنِ.
وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالصَّالِحِ أَوْ بِالْمَجْهُولِ لَا تُحَدُّ لِلزِّنَا، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَعَلَى سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهَا، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا وَطِئَ وَلَا يَلْزَمُهُ صَدَاقٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا انْقَلَبَتْ عَلَى الزَّوْجَةِ فَتَحْلِفُ وَيَلْزَمُهُ صَدَاقُهَا. وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ مَجْهُولَ حَالٍ فَيَجِبْ ... تَحْلِيفُهُ وَمَعْ نُكُولٍ يَنْقَلِبْ
فَمَحَلُّ هَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَإِنْ تَكُنْ لَا تَتَوَقَّى ذَلِكَا ... فَالْحَلْفُ تَخْرِيجًا بَدَا هُنَالِكَا
قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إثْرَ مَا تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ الْأَبْيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَتَأْتِيَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ مُتَشَبِّثَةً، قَدْ بَالَغَتْ فِي فَضِيحَةِ نَفْسِهَا فَهَذَا الْوَجْهُ يُسْقِطُ عَنْهَا حَدَّ الزِّنَا وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لِمَا بَالَغَتْ فِي فَضِيحَةِ نَفْسِهَا، وَاخْتُلِفَ: هَلْ تُحَدُّ لَهُ حَدَّ الْقَذْفِ أَمْ لَا؟ .
فَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَى أَنَّهَا تُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ أَنَّهَا لَا تُحَدُّ لَهُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يَمِينَ لَهَا عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُحَدُّ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُحَدُّ لَهُ، فَيَحْلِفُ عَلَى تَكْذِيبِ دَعْوَاهَا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَاسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ صَدَاقَهَا، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُبَالِي بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُبَالِي بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا، فَتُحَدُّ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا.
(2/262)

وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ لَمْ تُحَدَّ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُبَالِي بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُبَالِي بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا فَيَتَخَرَّجُ إيجَابُ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهَا لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. اهـ
وَفِي ادِّعَائِهَا عَلَى الْمُشْتَهِرِ ... بِالْفِسْقِ حَالَتَانِ لِلْمُعْتَبِرِ
حَالُ تَشَبُّثٍ وَبِكْرٌ تَدْمَى ... فَذِي سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهَا عَمَّا
فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا وَإِنْ حَمْلٌ ظَهَرْ ... وَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ حَلْفٌ مُعْتَبَرْ
وَحَيْثُ قِيلَ إنَّهَا تَسْتَوْجِبُهْ ... فَبَعْدَ حَلْفٍ فِي الْأَصَحِّ تَطْلُبُهْ
وَإِنْ يَكُنْ مَجْهُولَ حَالٍ فَيَجِبْ ... تَحْلِيفُهُ وَمَعْ نُكُولٍ يَنْقَلِبْ
وَحَالَةٌ بَعْدَ زَمَانِ الْفِعْلِ ... فَالْحَدُّ سَاقِطٌ سِوَى مَعْ حَمْلِ
وَلَا صَدَاقَ ثَمَّ إنْ لَمْ يَنْكَشِفْ ... مِنْ أَمْرِهِ بِالسَّجْنِ شَيْءٌ فَالْحَلِفْ
وَإِنْ أَبَى مِنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ ... وَلِصَدَاقِ الْمِثْلِ مِنْهُ اسْتَوْجَبَتْ
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ مَا إذَا ادَّعَتْ الِاغْتِصَابَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِالْفِسْقِ بِحَالَتَيْهِ أَيْ مَعَ كَوْنِهَا مُتَشَبِّثَةً بِهِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا إنْ جَاءَتْ مُتَشَبِّثَةً بِهِ، أَوْ جَاءَتْ تَدْمَى، إنْ كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّهَا يَسْقُطُ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ مَعًا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَوْ لَا.
وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: عَمَّا. أَيْ فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا ثُمَّ غَيَّا بِظُهُورِ الْحَمْلِ فَقَالَ: وَإِنْ حَمْلٌ ظَهَرَ. أَيْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ سُقُوطِ الْحَدَّيْنِ عَنْهَا، هَلْ لَهَا صَدَاقٌ أَمْ لَا؟ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى كَوْنِهَا تَسْتَوْجِبُ الصَّدَاقَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ يَمِينِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَفِي ادِّعَائِهَا عَلَى الْمُشْتَهَرِ بِالْفِسْقِ الْأَبْيَاتَ الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قِيَامُهَا بَعْدَ زَمَانِ الْفِعْلِ، فَقَالَ:
وَحَالَةٌ بَعْدَ زَمَانِ الْفِعْلِ
الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَدَّ سَاقِطٌ عَنْهَا لَا لِقَذْفِهَا لِلرَّجُلِ وَلَا لِزِنَاهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ فَتُحَدُّ وَلَا صَدَاقَ لَهَا عَلَى
(2/263)

الرَّجُلِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي أَمْرِهِ فَيَسْجُنُهُ وَيَتَجَسَّسُ عَنْ أَمْرِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَعْوَى الْمَرْأَةِ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ أَوْ بُطْلَانُ دَعْوَاهَا بَرِئَ.
وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ حَلَفَ أَنَّهُ مَا وَطِئَ وَبَرِيءَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَوَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَكُنْ مَجْهُولَ حَالٍ فَيَجِبْ
(الْبَيْتَ) فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَحَلَّهُ قَبْلَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ مُتَّصِلًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُشْتَهَرِ بِالْفِسْقِ، وَالْمُشْتَهَرُ بِالْفِسْقِ لَيْسَ مَجْهُولَ الْحَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ:) وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْفِسْقِ وَلَا تَأْتِيَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ فَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ وَلَا حَدُّ الزِّنَا لِنَفْسِهَا، إلَّا أَنْ يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَا صَدَاقَ لَهَا وَيَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي أَمْرِهِ فَيَسْجُنُهُ وَيَتَجَسَّسُ عَنْ أَمْرِهِ، وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا يَكْشِفُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ اُسْتُحْلِفَ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَاسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ صَدَاقَ مِثْلِهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْفِسْقِ وَتَأْتِيَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ مُتَشَبِّثَةً تَدْمَى إنْ كَانَتْ بِكْرًا فَهَذَا الْوَجْهُ يُسْقِطُ عَنْهَا حَدَّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ وَحَدَّ الزِّنَا، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ. وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ لَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ لِلْأَمَةِ مَا نَقَصَهَا فَأَحْرَى أَنْ يُوجِبَ لِلْحُرَّةِ صَدَاقَ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ وَهِيَ رِوَايَةُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فِي الْقَذْفِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَشَرَّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْرَقِ فِي زَمَانِهِ. وَالثَّالِثُ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ إنَّهُ يَجِبُ لَهَا الصَّدَاقُ إنْ كَانَتْ حُرَّةً وَلَا شَيْءَ لَهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً.
وَاخْتُلِفَ إذَا وَجَبَ لَهَا الصَّدَاقُ بِدَعْوَاهَا مَعَ مَا بَلَغَتْ إلَيْهِ مِنْ فَضِيحَةِ نَفْسِهَا: هَلْ يَجِبُ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ؟ فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تَأْخُذُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَى أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ إلَّا بَعْدَ الْيَمِينِ. وَهُوَ أَوْضَحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ لَمْ يَكُنْ لَهَا صَدَاقٌ وَاسْتُحْلِفَ هُوَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَتْ وَأَخَذَتْ صَدَاقَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. اهـ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ إلَخْ هُوَ الَّذِي تَبِعَ الْمُؤَلِّفَ فِي ذِكْرِهِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ

[فَصْلٌ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ]
(فَصْلٌ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ) (ابْنُ عَرَفَةَ) السَّرِقَةُ أَخْذُ مُكَلَّفٍ حُرًّا لَا يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ أَوْ مَالًا مُحْتَرَمًا لِغَيْرِهِ نِصَابًا أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ بِقَصْدٍ وَاحِدٍ خُفْيَةً لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ. (قَالَ الرَّصَّاعُ) : السَّرِقَةُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ سَرَقَ وَيُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ سَرَقًا، قَالَ الْمَازِرِيُّ هِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ، هَذَا حَدُّهَا عُرْفًا فَيَخْرُجُ أَخْذُهُ قَهْرًا وَغَصْبًا وَحِرَابَةً وَغِيلَةً وَخَدِيعَةً. قَالُوا: وَيَرِدُ عَلَيْهِ الِاخْتِلَاسُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْضُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخُ فِي قَيْدِهِ فِي الطَّرْدِ، وَمَا أَدْخَلَ فِي الْعَكْسِ، فَقَوْلُهُ: أَخْذُ، مُنَاسِبٌ لِاسْمِ الْمَصْدَرِ، وَإِذَا أُرِيدَ الِاسْمُ قِيلَ: مَأْخُوذُ مُكَلَّفٍ حُرًّا لَا يَعْقِلُ. إلَخْ.
وَأَخْرَجَ بِالْمُكَلَّفِ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ إلَى أَنْ يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ سِنَّ الِاحْتِلَامِ عَادَةً. وَقَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُ. أَدْخَلَ بِهِ الصَّبِيَّ قَبْلَ بُلُوغِهِ إذَا لَمْ يَعْقِل إذَا أُخِذَ مِنْ حِرْزِهِ فَإِنَّهُ سَرِقَةٌ يُقْطَعُ بِهِ. وَمَعْنَى: لَا يَعْقِلُ لَا يَفْهَمُ لِقُوَّةِ صِغَرِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَهِيمَةِ لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا وَلَا تَتَكَلَّمُ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: نِصَابًا أَيْ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ مِنْ الْعُرُوضِ، وَهَلْ الْمُرَاد مَا قَصَدَ كَوْنَهُ نِصَابًا فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَنْ سَرَقَ ثَوْبًا خَلِقًا فَوَجَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مَعَ كَوْنِهِ إنَّمَا قَصَدَ الثَّوْبَ الَّذِي لَيْسَ بِنِصَابٍ؟ أَوْ الْمُرَادُ مَا وَجَدَ فِيهِ النِّصَابَ فَيَرِدُ عَلَيْهِ إذَا سَرَقَ خَشَبَةً فَوَجَدَ فِيهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ. وَالْأَوَّلُ وَارِدٌ عَلَى الْعَكْسِ وَالثَّانِي عَلَى الطَّرْدِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ نِصَابٌ مَوْجُودٌ مَقْصُودٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حِرْزِهِ. أَخْرَجَ بِهِ مَا إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ حِرْزٌ بِوَجْهٍ. وَقَوْلُهُ: أَوْ مَالًا مُحْتَرَمًا أَخْرَجَ بِهِ أَخْذَ غَيْرِ الْأَسِيرِ مَالَ حَرْبِيٍّ وَسَرِقَةَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا يَجُوزُ مِلْكُهُ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: بِقَصْدٍ وَاحِدٍ. ذَكَرَهُ لِيُدْخِلَ بِهِ إذَا سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ مِرَارًا بِقَصْدٍ وَاحِدٍ حَتَّى كَمُلَ النِّصَابُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، وَقَوْلُهُ: لَا شُبْهَةَ فِيهِ يُخْرِجُ أَخْذَ الْأَبِ
(2/264)

مَالَ ابْنِهِ، وَمَنْ أَخَذَ طَعَامًا فِي {زَمَنِ} الْمَجَاعَةِ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ، وَالْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَقُّهُ أَنْ يُقَيِّدَ الشُّبْهَةَ بِالْقَوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُقْطَعُ. وَقَوْلُهُ: خُفْيَةً أَخْرَجَ بِهِ غَيْرَ الْخُفْيَةِ إذَا كَانَ غَلَبَةً قَهْرًا أَوْ ظُلْمًا.
(2/265)

وَمُدَّعٍ عَلَى امْرِئٍ أَنْ سَرَقَهْ ... وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بِالْمُحَقَّقَهْ
فَإِنْ يَكُنْ مُدَّعِيًا ذَاكَ عَلَى ... مَنْ حَالُهُ فِي النَّاسِ حَالُ الْفُضَلَا
فَلَيْسَ مِنْ كَشْفٍ لِحَالِهِ وَلَا ... يَبْلُغُ بِالدَّعْوَى عَلَيْهِ أَمَلَا
وَإِنْ يَكُنْ مُطَالِبًا مِنْ يُتَّهَمْ ... فَمَالِكٌ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ حَكَمْ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ سُرِقَ لَهُ مَالٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَمْ يُحَقِّقْ عَلَيْهِ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا كَانَتْ تُهْمَةً فَقَطْ وَالتُّهْمَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هِيَ الدَّعْوَى الَّتِي لَا تُحَقَّقُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. هَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ الشَّيْخِ وَفَسَّرَ الشَّارِحُ قَوْلَهُ:
وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بِالْمُحَقَّقَهْ
لِكَوْنِ الدَّعْوَى لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ بَعِيدًا عَنْ التُّهْمَةِ بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُكْشَفُ عَنْ حَالِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ لِهَذِهِ الدَّعْوَى لِبُعْدِهَا عَادَةً زَادَ الشَّارِحُ: وَعَدَمُ تَحْقِيقِهَا عَلَيْهِ وَلَا تُفِيدُ مُدَّعِيَهَا شَيْئًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ أَنْ يُسْجَنَ حَتَّى يُخْتَبَرَ حَالُهُ وَقَدْ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ بِحَسَبِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ الْحَالِيَّةُ مِنْ شُهْرَةِ تُهْمَتِهِ وَثُبُوتِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ سَرِقَةً وَاتَّهَمَ بِهَا مَنْ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَلَا يُتَّهَمُ فَلَا يُكْشَفُ، وَأَمَّا أَهْلُ التُّهَمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُكْشَفُوا وَيُسْتَقْصَى عَلَيْهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ الضَّرْبُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالْعُلَمَاءِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ مِنْ كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ قَالَ: وَمَنْ جَاءَ إلَى الْوَالِي بِرَجُلٍ فَقَالَ: سَرَقَ مَتَاعِي فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ مُتَّهَمًا هُدِّدَ وَامْتُحِنَ وَحُلِّفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَفِيهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قُلْتُ لِمُطَرِّفٍ فِيمَنْ سُرِقَ لَهُ مَتَاعٌ فَاتَّهَمَ مِنْ جِيرَانِهِ رَجُلًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ أَوْ اتَّهَمَ رَجُلًا غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ أَيُسْجَنُ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَا يُطَالُ سَجْنُهُ.
وَذَكَرُوا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةِ بَعِيرِهِ وَقَدْ صَحِبَهُ فِي السَّفَرِ» قَالَ مُطَرِّفٌ وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ مَعْرُوفًا بِهَا كَانَ سَجْنُهُ أَطْوَلَ وَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ مَعَ ذَلِكَ بَعْضُ السَّرِقَةِ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ. وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ غَيْرُ مَا فِي يَدَيْهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، حَبَسَهُ وَكَشَفَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ حَبَسَهُ أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ فِي السِّجْنِ. وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَفِيهِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ يُسْجَنُ بِقَدْرِ رَأْيِ الْإِمَامِ ثُمَّ يُعَاقَبُ وَيُسَرَّحُ وَلَا يُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ. قَالَ أَشْهَبُ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فَإِنَّهُ يُسْجَنُ بِقَدْرِ مَا اُتُّهِمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَدْرِ حَالِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْلَدُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
اهـ نَقْلُ الشَّارِحِ فَانْظُرْ قَوْلَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَاتُّهِمَ بِهَا مَنْ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ. وَقَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ لِمُطَرِّفٍ: فَاتَّهَمَ مِنْ جِيرَانِهِ رَجُلًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ أَوْ اتَّهَمَ رَجُلًا غَرِيبًا وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةِ بَعِيرِهِ. وَقَوْلَ مُطَرِّفٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِهَا. وَقَوْلَ أَشْهَبَ يُسْجَنُ بِقَدْرِ مَا اُتُّهِمَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ اتَّهَمَ رَجُلًا وَلَمْ يَجْزِمْ بِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي سَرَقَ مَتَاعَهُ وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ الشَّارِحِ فِي حَلِّ كَلَامِ النَّاظِمِ وَعَدَمِ تَحْقِيقِهَا عَلَيْهِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ مَنْ جَاءَ إلَى الْوَالِي بِرَجُلٍ فَقَالَ: سَرَقَ مَتَاعِي أَنَّ الدَّعْوَى مُحَقَّقَةٌ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّرِقَةُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَحَكَمُوا بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ... مِنْ ذَاعِرٍ يُحْبَسُ لِاخْتِبَارِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى السَّرِقَةَ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِهَا وَبِالذِّعَارَةِ فَحُبِسَ لِاخْتِبَارِ حَالِهِ فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ مِنْ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فَفِي مُعِينِ ابْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ عَنْ سَحْنُونٍ وَإِذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالسَّرِقَةِ وَالذِّعَارَةِ وَادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ لِاخْتِبَارِ ذَلِكَ فَأَقَرَّ فِي السِّجْنِ بِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ وَهَذَا الْحَبْسُ خَارِجٌ مِنْ الْإِكْرَاهِ. (وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) : مَنْ أُخِذَ فِي تُهْمَةِ قَتْلٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ ثُمَّ أَخْرَجَ الْمَقْتُولَ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ وَجَاءَ بِسَلَبِهِ فَلَمَّا أُمِرَ بِهِ لِيُقْتَلَ، قَالَ: مَا قَتَلْتُهُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ مَنْ قَتَلَهُ. قُتِلَ وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ فَلَا يَنْفَعُهُ رُجُوعُهُ
(2/266)

بَعْدَ إقْرَارِهِ وَلَا يُدْفَعُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْمَالِ يُقِرُّ بِهِ ثُمَّ يُنْكِرُ. اهـ (اللَّخْمِيُّ) فِيمَنْ أَقَرَّ بَعْدَ التَّهْدِيدِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِإِقْرَارِهِ وَلَا يُؤْخَذُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَإِنْ أَخْرَجَ السَّرِقَةَ أَوْ الْقَتِيلَ فِي حَالِ التَّهْدِيدِ لَمْ أَقْطَعْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ حَتَّى يُقِرَّ بَعْدَ ذَلِكَ آمِنًا.
وَعَلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَثَبَتَ بِإِقْرَارٍ إنْ طَاعَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ عَيَّنَ السَّرِقَةَ أَوْ أَخْرَجَ الْقَتِيلَ. اهـ وَالذَّاعِرُ الْمُخِيفُ الْمُفْزِعُ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ فِي الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: ذَعَرَ بِهِ ذُعْرًا أَفْزَعَهُ وَالِاسْمُ الذُّعْرُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ ذُعِرَ فَهُوَ مَذْعُورٌ. اهـ وَقَالَ فِي الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ: وَدَعِرَ الْعُودُ بِالْكَسْرِ يَدْعَرُ دَعْرًا فَهُوَ عُودٌ دَعِرٌ أَيْ رَدِيءٌ كَثِيرُ الدُّخَانِ، وَمِنْهُ أُخِذَتْ الدَّعَارَةُ وَهِيَ الْفِسْقُ وَالْخُبْثُ. يُقَالُ: هُوَ خَبِيثٌ دَاعِرٌ بَيِّنُ الدَّعَرِ وَالدَّعَارَةِ، وَالْمَرْأَةُ دَاعِرَةٌ. اهـ (وَفِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ حَجَرٍ) فِي الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَوْلُ دُعَّارِ طَيِّئٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ جَمْعُ دَاعِرٍ وَهُوَ السَّارِقُ. اهـ وَقَالَ فِي الْمُعْجَمَةِ: قَوْلُهُ: ذَعَرْتُهَا أَيْ أَفْزَعْتُهَا، وَقَوْلُهُ: ذُعْرًا أَيْ فَزَعًا. اهـ وَفِي الْمَشَارِقِ فِي الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ: فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ؟ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ أَيْ فُسَّاقُهَا وَسُرَّاقُهَا وَشِرَارُهَا، وَالدَّاعِرُ الدَّنِيءُ الْفَاسِقُ. اهـ وَقَالَ فِي فَصْلِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَا ذَعَرْتُهُ أَيْ أَفْزَعْتُهُ، وَالذُّعْرُ الْفَزَعُ. اهـ
وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِاعْتِرَافِ ... أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ بِلَا خِلَافِ
يَعْنِي أَنَّ السَّارِقَ إذَا اعْتَرَفَ بِالسَّرِقَةِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِهَا عَدْلَانِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ اتِّفَاقًا يَعْنِي مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ كَكَوْنِ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، وَأَخَذَهُ مِنْ الْحِرْزِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (قَالَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ) : وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ يَجِبُ بِأَمْرَيْنِ: إمَّا بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِإِقْرَارٍ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْمُقِرُّ إلَى أَنْ يُحَدَّ (قَالَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) : مِمَّا يَتَأَكَّدُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى عَيْنِ السَّرِقَةِ وَيَوْمِهَا حَسْبَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ نَعْجَةً وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ كَبْشًا وَاجْتَمَعَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَوْضِعِ وَالْفِعْلِ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَا تَجُوزُ وَلَا يُقْطَعُ.
وَلَوْ اجْتَمَعَا عَلَى الْكَبْشِ وَصِفَتِهِ وَقَالَ هَذَا: سُرِقَتْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَالَ الْآخَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ تَجُزْ أَيْضًا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَكُلُّهُ قَوْلُ مَالِكٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ شَرِبَ أَمْسِ خَمْرًا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ شَرِبَهُ الْيَوْمَ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ لَا مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ وَشَهَادَتُهُمَا فِي الْقَذْفِ مِنْ مَعْنَى الْإِقْرَارِ يُقْضَى بِهَا، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْيَوْمُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ بِالْمَدِينَةِ وَآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ بِمِصْرَ لَمْ يُحَدَّ وَقَالَهُ أَصْبَغُ اهـ وَذَكَرَ الشَّارِحُ هُنَا سُؤَالًا وَجَوَابًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ الْفِقْرِيَّةِ الَّذِينَ اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ تَحْلِيلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَانْظُرْهُ إنْ شِئْتَ. (وَفِي مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ) فِي شَهَادَةِ الزِّنَا وَنُدِبَ سُؤَالُهُمْ كَالسَّرِقَةِ مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ أُخِذَتْ؟
وَمَنْ أَقَرَّ وَلِشُبْهَةٍ رَجَعْ ... دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ فِي الَّذِي وَقَعْ
وَنَقَلُوا فِي فَقْدِهَا قَوْلَيْنِ ... وَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَى الْحَالَيْنِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَتَارَةً يَرْجِعُ لِشُبْهَةٍ وَتَارَةً يَرْجِعُ لِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَإِنْ رَجَعَ لِشُبْهَةٍ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَإِنْ رَجَعَ لِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ قَوْلَانِ: قِيلَ: يُحَدُّ وَقِيلَ: لَا، وَأَمَّا الْغُرْمُ لِلسَّرِقَةِ فَيَغْرَمُهَا سَوَاءٌ رَجَعَ لِشُبْهَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شُبْهَةٍ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَى الْحَالَيْنِ
فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ لِشُبْهَةٍ وَلَمْ يُحَدَّ فَالْغُرْمُ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ لِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَقُلْنَا: إنَّهُ لَا يُحَدُّ وَانْظُرْ عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْحَدِّ: هَلْ يَغْرَمُ السَّرِقَةَ أَمْ لَا؟
(قَالَ الشَّارِحُ) : وَفِي الْمَنْهَجِ السَّالِكِ: وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إقْرَارُ السَّارِقِ. وَالثَّانِي: قِيَامُ شَاهِدَيْ عَدْلٍ فَإِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى شُبْهَةٍ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ. وَالْآخَرُ لُزُومُهُ. (وَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ) : قَالَ مَالِكٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ مِحْنَةٍ ثُمَّ نَزَعَ لَمْ يُقْطَعْ وَيَغْرَمْ الْمِائَةَ
(2/267)

لِمُدَّعِيهَا. وَقَالَ: لَا يُقَالُ إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ. قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا إخَالُكَ سَرَقْتَ» وَلِقَوْلِهِ «أَلَا تَرَكْتُمُوهُ» وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِعُذْرٍ اهـ فَصَرَّحَ فِي الْمَنْهَجِ السَّالِكِ بِالْغُرْمِ إذَا رَجَعَ لِشُبْهَةٍ وَقَوْلِهِ فِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ وَيَغْرَمُ الْمِائَةَ لِمُدَّعِيهَا فِيهِ إجْمَالٌ: هَلْ رَجَعَ لِشُبْهَةٍ أَوْ لَا؟ وَهَلْ قُطِعَ أَوْ لَا؟
وَكُلُّ مَا سُرِقَ وَهُوَ بَاقِ ... فَإِنَّهُ يُرَدُّ بِاتِّفَاقِ
وَحَيْثُمَا السَّارِقُ بِالْحُكْمِ قُطِعْ ... فَبِاَلَّذِي سَرَقَ فِي الْيُسْرِ اتُّبِعْ
يَعْنِي أَنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ الشَّيْءُ الْمَسْرُوقُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ لِصَاحِبِهِ سَوَاءٌ قُطِعَ السَّارِقُ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ إنْ قُطِعَ السَّارِقُ اُتُّبِعَ بِالسَّرِقَةِ فِي يُسْرِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يُتَّبَعُ بِهَا فِي عُسْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَحَيْثُمَا السَّارِقُ بِالْحُكْمِ قُطِعْ
الْبَيْتَ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقْطَعْ اُتُّبِعَ بِهَا مُطْلَقًا فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْيُسْرِ الَّذِي يَجِبُ مَعَهُ غُرْمُ السَّرِقَةِ أَنْ يَتَّصِلَ يُسْرُهُ مِنْ حِينِ السَّرِقَةِ إلَى يَوْمِ الْقَطْعِ، فَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ مُعْسِرًا أَوْ أُعْسِرَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَمْ يَغْرَمْهَا. (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السِّلْعَةَ الْمَسْرُوقَةَ إذَا وُجِدَتْ بِعَيْنِهَا قَائِمَةً بِيَدِ السَّارِقِ أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا بِإِجْمَاعٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ بَعْدَ نَقْلِهِ خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إتْبَاعِ السَّارِقِ بِالسَّرِقَةِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا إنْ تَلِفَتْ فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّصِلَ الْيُسْرِ مِنْ يَوْمِ سَرَقَ إلَى يَوْمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ضَمِنَ قِيمَةَ السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ عَدِيمًا أَوْ أُعْدِمَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ عَنْهُ الْغُرْمُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي أُصُولِ الْفُتْيَا لِابْنِ الْحَارِثِ: وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّارِقَ وَالْمَقْطُوعَ لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا يَوْمَ السَّرِقَةِ وَيَتَمَادَى ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقَطْعِ. اهـ (ابْنُ عَرَفَةَ) مُوجَبُ السَّرِقَةِ قَطْعُ السَّارِقِ، وَضَمَانُهُ إنْ لَمْ يُقْطَعْ لَازِمٌ لَهُ اتِّفَاقًا. قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ لَوْ سَرَقَ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إمَّا لِقِلَّتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُتْبَعْ بِذَلِكَ فِي عَدَمِهِ وَيُحَاصُّ بِهِ غُرَمَاؤُهُ، وَإِذَا كَانَ يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ لَمْ يُتْبَعْ فِي عَدَمِهِ وَلَا يُتْبَعُ إلَّا فِي يُسْرٍ مُتَّصِلٍ مِنْ يَوْمِ سَرَقَ إلَى يَوْمِ يُقْطَعُ، وَإِلَّا لَمْ يُتْبَعْ وَإِنْ كَانَ مَلِيًّا بَعْدَ عَدَمٍ تَقَدَّمَ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَالْحَدُّ لَا الْغُرْمُ عَلَى الْعَبْدِ مَتَى ... أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ شَرْعًا ثَبَتَا
يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ السَّرِقَةِ. (قَالَ فِي الرِّسَالَةِ) : وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ فِيمَا يَلْزَمُهُ فِي بَدَنِهِ مِنْ حَدٍّ أَوْ قَطْعٍ يَلْزَمُهُ وَمَا كَانَ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا إقْرَارَ لَهُ. اهـ وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِغُرْمِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى سَيِّدِهِ فِي مَالِهِ وَسَكَّنَ رَاءَ السَّرِقَةِ لِلْوَزْنِ، وَانْظُرْ هَلْ يُعْرَبُ شَرْعًا مَنْصُوبًا عَلَى إسْقَاطِ الْخَافِضِ وَيَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلَّقِ الْخَبَرِ أَيْ الْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ بِالشَّرْعِ؟ وَثَبَتَ بَدَلٌ مِنْ أَقَرَّ.
(2/268)

[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الدِّمَاء]
ِ
الْقَتْلُ عَمْدًا لِلْقِصَاصِ مُوجِبُ ... بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ
مِنْ اعْتِرَافِ ذِي بُلُوغٍ عَاقِلِ ... أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ
أَوْ بِالْقَسَامَةِ وَبِاللَّوْثِ تَجِبْ ... وَهُوَ بِعَدْلٍ شَاهِدٍ بِمَا طُلِبْ
أَوْ بِكَثِيرٍ مِنْ لَفِيفِ الشُّهَدَا ... وَيَسْقُطُ الْإِعْذَارُ فِيهِمْ أَبَدَا
وَمَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ أَشْهَبُ ... قَسَامَةً بِغَيْرِ عَدْلٍ يُوجِبُ
أَوْ بِمَقَالَةِ الْجَرِيحِ الْمُسْلِمِ ... الْبَالِغِ الْحُرِّ فُلَانٌ بِدَمِ
يَشْهَدُ عَدْلَانِ عَلَى اعْتِرَافِهِ ... وَصِفَةُ التَّمْيِيزِ مِنْ أَوْصَافِهِ
أَوْ بِقَتِيلٍ مَعَهُ قَدْ وُجِدَا ... مَنْ أَثَرُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ قَدْ بَدَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَهُوَ مُرَادُهُ بِالْقِصَاصِ وَإِنَّمَا يُقْتَصُّ مِنْ الْقَاتِلِ إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِمَا يَجِبُ ثُبُوتُهُ بِهِ، وَهُوَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: (أَوَّلُهَا: اعْتِرَافُ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا.
(الثَّانِي) : شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ. (الثَّالِثُ) : الْقَسَامَةُ وَهِيَ حَلِفُ وُلَاةِ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ قَتَلَهُ إذَا وُجِدَ اللَّوْثُ وَهُوَ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي وَيَأْتِي بَعْضُ مُثُلِهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
الْقَتْلُ عَمْدًا لِلْقِصَاصِ مُوجِبُ
إلَى قَوْلِهِ وَبِاللَّوْثِ تَجِبُ ثُمَّ فَسَّرَ اللَّوْثَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ بِالْقَتْلِ، هُوَ مُرَادُهُ بِمَا طَلَبَ. الثَّانِي: شَهَادَةُ اللَّفِيفِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ غَيْرُ عُدُولٍ وَلَا يُعْذَرُ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَدْخُولٌ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ وَيُعْذَرُ إلَى الْقَاتِلِ فَيُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَتْ لَك مَنْفَعَةٌ مِنْ غَيْرِ بَابِ الشُّهُودِ فَأْتِ بِهَا وَيُوَسَّعُ لَهُ فِي الْأَجَلِ.
الثَّالِثُ: رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَلَوْ غَيْرَ عَدْلٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَمَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ أَشْهَبُ
الْبَيْتَ. فَمَالِكٌ مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ يُوجِبُ خَبَرُهُ، وَقَسَامَةَ مَفْعُولُ يُوجِبُ. الرَّابِعُ: قَوْلُ الْجَرِيحِ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْمُمَيِّزِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ إذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ عَدْلَانِ يَعْنِي وَفِيهِ جُرْحٌ ظَاهِرٌ. الْخَامِسُ: إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالْمُتَّهَمُ قُرْبَهُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَإِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَهُوَ بِعَدْلٍ شَاهِدٍ بِمَا طُلِبْ
.. إلَخْ.
وَضَمِيرُ ثُبُوتِهِ لِلْقَتْلِ عَمْدًا (وَمِنْ اعْتِرَافٍ) بَيَانٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي لَفْظِ مَا مِنْ قَوْلِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ وَشَاهِدَيْ عَطْفٌ عَلَى اعْتِرَافٍ وَبِقَتْلِ يَتَعَلَّقُ بِشَاهِدَيْ وَبِالْقَسَامَةِ عَطْفٌ عَلَى اعْتِرَافٍ أَيْضًا، وَبَاؤُهُ بِمَعْنَى مِنْ وَبِاللَّوْثِ يَتَعَلَّقُ بِتَجِبُ وَضَمِيرُ هُوَ يَعُودُ عَلَى اللَّوْثِ (وَبِكَثِيرٍ) عَطْفٌ عَلَى بِعَدْلٍ وَبِمَقَالَةِ عَطْفٌ عَلَى بِكَثِيرٍ، وَفُلَانٌ بِدَمِ هُوَ الْمَحْكِيُّ بِقَوْلِهِ أَوْ بِمَقَالَةِ، وَضَمِيرُ اعْتِرَافِهِ لِلْجَرِيحِ، وَكَذَا ضَمِيرُ أَوْصَافِهِ، وَبِقَتِيلٍ عَطْفٌ عَلَى (بِمَقَالَةِ) وَجُمْلَةُ قَدْ وُجِدَ مَعَهُ صِفَةُ قَتِيلٍ وَمَنْ أَثَرُ الْقَتْلِ نَائِبُ وُجِدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) : تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا هُوَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ أَيْ لَا فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ (قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ) : قَالَ فِي التَّلْقِينِ: الْعَمْدُ مَا قُصِدَ بِهِ إتْلَافُ النَّفْسِ بِآلَةٍ تَقْتُلُ غَالِبًا وَلَوْ بِمُثْقَلٍ أَوْ بِإِصَابَةِ
(2/269)

الْمَقْتَلِ كَعَصْرِ الْأُنْثَيَيْنِ وَشِدَّةِ الضَّغْطِ وَالْخَنْقِ. زَادَ ابْنُ الْقَصَّارِ أَوْ يُطْبِقُ عَلَيْهِ بَيْتًا وَيَمْنَعُهُ الْغِذَاءَ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا. اهـ
(وَفِي مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ) : إنْ قَصَدَ ضَرَبًا وَإِنْ بِقَضِيبٍ كَخَنْقٍ وَمَنْعِ طَعَامٍ وَمُثْقَلٍ. قَالَ شَارِحُهُ الْحَطَّابُ أَيْ قَصَدَ ضَرْبَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ ضَرْبُهُ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الشَّخْصَ الْمَضْرُوبَ نَفْسَهُ أَوْ قَصَدَ أَنْ يَضْرِبَ شَخْصًا عُدْوَانًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ، أَمَّا لَوْ قَصَدَ ضَرْبَ مَنْ يَحِلُّ لَهُ ضَرْبُهُ، فَأَصَابَ غَيْرَهُ فَهُوَ خَطَأٌ. قَالَ فِي النَّوَادِرِ فِي تَرْجَمَةِ صِفَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ: قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا يَظُنُّهُ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ فَهُوَ مِنْ الْخَطَأِ لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى مِثْلُ ذَلِكَ «فِي مُسْلِمٍ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ بِعَهْدِ النَّبِيِّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَظُنُّونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَوَدَاهُ النَّبِيُّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُهْدِرْهُ. اهـ» (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) : إذَا لَمْ يَعْمِدْ لِلْقَتْلِ وَلَا لِلتَّضْرِيبِ مِثْلَ أَنْ يَرْمِيَ الشَّيْءَ فَيُصِيبَ إنْسَانًا فَيَقْتُلَهُ فَهُوَ قَتْلُ خَطَإٍ بِإِجْمَاعٍ، لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَإِنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ: إنْ قَصَدَ ضَرْبًا يُرِيدُ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ لَا عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالْأَدَبِ، قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَإِنْ قَصَدَ الضَّرْبَ وَلَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ، وَكَانَ الضَّرْبُ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ، فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ ذَلِكَ عَمْدٌ وَفِيهِ الْقِصَاصُ إلَّا فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ. (وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : وَأَمَّا اللَّعِبُ فَفِي الْمُقَدِّمَاتِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ خَطَأٌ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ. اهـ كَلَامُ الْحَطَّابِ. ابْنُ الْحَاجِبِ) فَلَوْ لَطَمَهُ أَوْ وَكَزَهُ أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا مُتَعَمِّدًا عَلَى وَجْهِ الْقَتْلِ لَا اللَّعِبِ فَمَاتَ عَاجِلًا أَوْ مَغْمُورًا لَمْ يَتَكَلَّمْ فَفِيهِ الْقَوَدُ، فَلَوْ مَاتَ بَعْدُ وَقَدْ تَكَلَّمَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا فَالْقَوَدُ بِقَسَامَةٍ، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَوْ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ أَمَّا لَوْ أَنْفَذَ لَهُ مَقْتَلًا فَلَا قَسَامَةَ وَلَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ وَعَاشَ أَيَّامًا. وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّرْبَ إمَّا عَمْدٌ أَوْ خَطَأً وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا.
وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ وَعَلَيْهِ، فَهَلْ يَلْحَقُ بِالْعَمْدِ أَوْ بِالْخَطَأِ؟ ثَالِثُهَا أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا تُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَطَرِيقَةُ الْبَاجِيِّ تَحْكِي الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِيهِ، وَفِي ابْنِ الْحَاجِبِ وَالزَّوْجِ وَالْمُؤَدِّبِ وَنَحْوِهِ يُصِيبُ مَقْتَلًا أَوْ غَيْرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَطَأِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعَمْدُ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ وَعَنْ مَالِكٍ: شِبْهُ الْعَمْدِ بَاطِلٌ لَا أَعْرِفُهُ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ. اُنْظُرْ التَّوْضِيحَ. (وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ) وَالْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ أَثَرٌ فِي الدَّرْءِ بِاحْتِمَالِ الشَّبَهِ إذَا ادَّعَيَا عَدَمَ الْقَصْدِ كَمَا لَوْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ وَادَّعَى أَدَبَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ شَرَكَهُ أَحَدٌ فِي قَتْلِهِ قُتِلَ، أَمَّا لَوْ قَتَلَ مَعَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ بَطْنَهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِابْنِهِ بِحَالٍ.
(الثَّانِي) : إنَّمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومَ الدَّمِ، فَلَا قِصَاصَ فِي قَتْلِ مُرْتَدٍّ وَلَا زِنْدِيقٍ وَلَا زَانٍ مُحْصَنٍ وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ قَاتِلُهُمْ؛ لِلِافْتِيَاتِ، وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا. (الثَّالِثُ) : يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ الَّذِي يُقْتَصُّ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنْ كَوْنِهِ عَاقِلًا بَالِغًا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْمَقْتُولِ بِإِسْلَامٍ مُطْلَقًا حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ بِحُرِّيَّةٍ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا أَيْضًا.
(الرَّابِعُ) : الْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ إنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ لَا غَيْرُ أَوْ الْعَفْوُ إنْ شَاءَ الْوَلِيُّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَ أَشْهَبُ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ أَوْ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَيَأْتِي لِلنَّاظِمِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ
وَإِنْ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْمَالِ قَبِلْ
.. إلَخْ. (الْخَامِسُ) : مَا ذَكَرَ النَّاظِمُ مِنْ أَنَّ الْقَتْلَ يَثْبُتُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ نَحْوُهُ فِي الرِّسَالَةِ، وَلَفْظُهَا: وَلَا تُقْتَلُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ أَوْ بِالْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ يُقْسِمُ الْوُلَاةُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ. (السَّادِسُ) : نَقَلَ الشَّارِحُ عَنْ نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرَ النَّاظِمُ مِنْهَا خَمْسَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ سَادِسًا وَهُوَ: إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ مُعَايَنَةَ الضَّرْبِ أَوْ الْجَرْحِ ثُمَّ يَمُوتُ بَعْدَ أَيَّامٍ.
وَسَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى الْإِجْهَازِ. وَثَامِنًا: وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلٌ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا. فَقَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ بِذَلِكَ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافَ الْخَطَأِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْسَمُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ. وَتَاسِعًا: وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى مُعَايَنَةِ الضَّرْبِ ثُمَّ يَمُوتُ الْمَضْرُوبُ بَعْدَ
(2/270)

أَيَّامٍ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ فِي ذَلِكَ. وَعَاشِرًا: وَهِيَ تَدْمِيَةُ الْمُدَمَّى، وَلَيْسَ بِهِ جُرْحٌ ظَاهِرٌ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِالتَّدْمِيَةِ الْبَيْضَاءِ. (التَّوْضِيح) وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: قَتَلَنِي. أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ فِيهِ جُرْحٌ أَمْ لَا، قِيلَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَهُ أَصْبَغُ وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ إلَّا مَعَ الْجُرْحِ. الْمُتَيْطِيُّ وَبِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعَمَلُ وَالْحُكْمُ. اهـ (اللَّخْمِيُّ) اُخْتُلِفَ إنْ قَالَ: قَتَلَنِي عَمْدًا. وَلَا جِرَاحَ بِهِ وَأَبْيَنُ ذَلِكَ أَنْ لَا يُقْسِمَ مَعَ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ. ابْنُ عَرَفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اضْطِرَابٌ. وَقَالَ الْمُتَيْطِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْحُكْمُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَدْمِيِّ أَثَرُ جُرْحٍ أَوْ ضَرْبٍ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى فُلَانٍ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَهُ أَصْبَغُ
وَهْيَ بِخَمْسِينَ يَمِينًا وُزِّعَتْ ... عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مُنِعَتْ
بَعْدَ ثُبُوتِ الْمَوْتِ وَالْوُلَاةِ ... وَيَحْلِفُونَهَا عَلَى الْبَتَاتِ
ضَمِيرُ هِيَ لِلْقَسَامَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَهَذَا فِي الْعَمْدِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْخَطَأِ يَعْنِي أَنَّ الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتُوَزَّعُ عَلَى الذُّكُورِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ إنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ اُكْتُفِيَ بِحَلِفِ الْخَمْسِينَ، وَإِنْ كَانَ الْوُلَاةُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، وَطَاعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِحَلِفِ الْخَمْسِينَ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ إلَّا الذُّكُورُ بِخِلَافِ الْخَطَأِ كَمَا يَأْتِي، فَإِنْ كَانَتْ الْقَسَامَةُ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ عَلَى الْجُرْحِ أَوْ الضَّرْبِ أَوْ بِالْقَتْلِ وَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُ الْمَجْرُوحِ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ مَوْتِهِ؛ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مَا زَالَ حَيًّا.
وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْوُلَاةِ، وَأَنَّهُمْ الْمُسْتَحِقُّونَ لِدَمِهِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْبَتِّ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا عَلَى الْعِلْمِ. (ابْنُ عَرَفَةَ) : الْقَسَامَةُ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْئِهَا عَلَى إثْبَاتِ الدَّمِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) : إنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ وُزِّعَتْ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ اُجْتُزِئَ بِالْخَمْسِينَ عَلَى الْأَصَحِّ وَفِي الِاجْتِزَاءِ بِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْهُمَا قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. (ابْنُ رُشْدٍ) إنْ كَانَ وُلَاةُ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ وَطَاعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِحَمْلِ الْخَمْسِينَ يَمِينًا جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يُعَدَّ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ نَاكِلًا؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ قِيمَ بِهِ. الرِّسَالَةُ، وَتَحْلِفُ امْرَأَةٌ فِي الْعَمْدِ وَفِي ابْنِ شَاسٍ وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَمْدِ بِوَجْهٍ.
التَّوْضِيحُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْمَوْتِ لِاحْتِمَالِ بَقَائِهِ حَيًّا. اهـ يَعْنِي، إذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ
(2/271)

بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ بِالْجَرْحِ أَوْ الضَّرْبِ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةً. التَّوْضِيحُ وَقَوْلُهُ: عَصَبَةً. أَيْ عَصَبَةَ الْقَتِيلِ وَسَوَاءٌ وَرِثُوا أَمْ لَا. اهـ (الْمُدَوَّنَةُ) يَمِينُ الْقَسَامَةِ عَلَى الْبَتِّ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَعْمَى أَوْ غَائِبًا حِينَ الْقَتْلِ، قَالَ سَحْنُونٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِالْخَبَرِ وَالسَّمَاعِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْمُعَايَنَةِ. اهـ وَبَاءُ بِخَمْسِينَ زَائِدَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا أَنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْخَبَرِ الْمُثْبَتِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى السَّمَاعِ. قَالَهُ فِي الْمُغْنِي. وَقَوْلُهُ: وَالْوُلَاةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَبَعْدَ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْوُلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَتْ التَّدْمِيَةُ وَالْمُدَمَّى لَمْ يَبْرَأْ فِي عِلْمِ الشُّهُودِ وَجَبَ سَجْنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمُدَمَّى فَيُطْلَقَ، أَوْ يَمُوتَ الْمُدَمَّى بِتِلْكَ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ صِحَّةً كَامِلَةً، فَيُقْسِمَ الْوَرَثَةُ وَيَسْتَفِيدُوا بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ وَعِدَّةِ وَرَثَتِهِ، وَيَحْلِفُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ.
قَالَهُ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ. (فَرْعٌ) إذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الضَّرْبِ يَحْلِفُونَ: لَمَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ. وَإِذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَلَى الْجَرْحِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فَيَحْلِفُونَ: لَقَدْ جَرَحَهُ، وَلَقَدْ مَاتَ مِنْ جَرْحِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْقَسَامَةُ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ حَيَا حَيَاةً بَيِّنَةً، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ فِي غَمْرَةِ الْمَوْتِ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَلَى الْقَتْلِ فَيَحْلِفُونَ: لَقَدْ قَتَلَهُ وَلَقَدْ جَرَحَهُ الْجُرْحَ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ لَا أَكْثَرَ مِنْ طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ (وَفِي الْمُقَرَّبِ) قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ يَحْلِفُونَ يَمِينَ الْقَسَامَةِ؟ قَالَ: يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ، أَوْ لَمَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ إنْ كَانَ حَيًّا بَعْدَ الضَّرْبِ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْبَتِّ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَلَا يَحْلِفُونَ عَلَى الْعِلْمِ.
(فَرْعٌ) إذَا وُزِّعَتْ الْأَيْمَانُ فَانْكَسَرَتْ يَمِينٌ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاوَى الْكَسْرُ أَوْ يَخْتَلِفَ، فَإِنْ تَسَاوَى حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينًا. (ابْنُ الْجَلَّابِ) : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْلِفَ وَاحِدٌ فَقَطْ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ قَوْلًا فِي التَّسَاوِي بِالْقُرْعَةِ، كَثَلَاثَةِ بَنِينَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا، وَإِنْ اخْتَلَفَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَحْلِفُهَا أَكْثَرُهُمْ نَصِيبًا مِنْ الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ فَإِنْ كَانَ ابْنٌ وَبِنْتٌ حَلَفَ الِابْنُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَحَلَفَتْ الْبِنْتُ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهَا نَابَهَا مِنْ الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ ثُلُثَاهَا. وَقِيلَ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ كَالتَّسَاوِي. وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ: ثَالِثٌ يَحْلِفُ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَيْمَانِ فَيَحْلِفُهَا الِابْنُ فِي الْمِثَالِ الْمَفْرُوضِ. انْتَهَى مِنْ التَّوْضِيحِ
وَتُقْلَبُ الْأَيْمَانُ مَهْمَا نَكَلَا ... وَلِيُّ مَقْتُولٍ عَلَى مَنْ قَتَلَا
وَيَحْلِفُ اثْنَانِ بِهَا فَمَا عَلَا ... وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِهَا لَنْ يُقْتَلَا
يَعْنِي أَنَّهُ إذَا نَكَلَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقَسَامَةِ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تُقْلَبُ عَلَى الْقَاتِلِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْقَتْلِ وَاحِدًا حَلَفَ الْخَمْسِينَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، كَمَا فِي الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا.
(2/272)

قَالَ فِي الرِّسَالَةِ) : وَإِنْ نَكَلَ مُدَّعُو الدَّمِ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى جَمَاعَةٍ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النُّكُولِ هُوَ مَنْ لَهُ اسْتِيفَاءُ الدَّمِ، وَأَمَّا نُكُولُ الْمُعِينِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالْمُعِينُ مَنْ لَيْسَ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ كَالْإِخْوَةِ مَعَ الْبَنِينَ، وَبَنِي الْعَمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ نُكُولِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَحَكَى ابْنُ الْحَاجِّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُسْجَنُ حَتَّى يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا. الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَطُولَ سَجْنُهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. (فَرْعٌ) إذَا رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَوْلِيَائِهِ أَوْ لَا؟ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: نَفْيُ الِاسْتِعَانَةِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَمُطَرِّفٍ وَالثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْلِفُ مَعَ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ. وَالثَّالِثُ: لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ وُلَاةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفُوا الْأَيْمَانَ كُلَّهَا أَوْ يَحْلِفَهَا الْمُتَّهَمُ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا بَعْضَهَا وَيَحْلِفَ هُوَ بَقِيَّتَهَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَلَا يَخْفَى وَجْهُهُ. انْتَهَى مِنْ التَّوْضِيحِ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَيَحْلِفُ اثْنَانِ بِهَا فَمَا عَلَا
فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ الْبَيْتَيْنِ قَبْلَ هَذَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الْعَصَبَةِ وَرِثُوا أَمْ لَا. (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَوَالِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ. التَّوْضِيحُ أَيْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنْ الدَّعْوَى وَضُرِبَ مِائَةً وَسُجِنَ عَامًا، وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَظَاهِرُهُ تَأْبِيدُ حَبْسِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. اهـ وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَسَامَةَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إذَا نَكَلَ عَنْهَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَهِيَ الْمُشَارُ لَهَا فِي أَوَّلِ الْبَيْتَيْنِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ عَصَبَةُ نَسَبٍ وَلَا مَوَالِي. ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ: وَإِنْ نَكَلَ الْمُعِينُ وَلَمْ يَكُنْ وَلِيُّ الدَّمِ إلَّا وَاحِدًا فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ غَيْرَ هَذَا، وَإِلَّا فَقَدْ بَطَلَ الدَّمُ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِهَا لَنْ يُقْتَلَا
إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّوْثُ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَلَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ إلَّا وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: خِلَافًا لِلْمُغِيرَةِ (التَّوْضِيحُ) لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أَضْعَفُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ. وَقَاسَ الْمُغِيرَةُ ذَلِكَ عَلَى الشَّهَادَةِ. اهـ أَيْ عَلَى ثُبُوتِ الدَّمِ بِالشَّهَادَةِ فَيُقْتَلُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ. (فَرْعٌ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ وَجَبَ لِقَوْمٍ دَمُ رَجُلٍ بِقَسَامَتِهِ فَلَمَّا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ أَقَرَّ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْمُقِرَّ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْأَوَّلَ بِقَسَامَةٍ، وَلَا يُقْتَلُ إلَّا وَاحِدٌ. اهـ
(فَرْعٌ) وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ إلَّا وَاحِدٌ، فَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُونَ قَتْلَهُ. (ابْنُ الْقَاسِمِ) عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ: وَإِذَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ قَالُوا فِي الْقَسَامَةِ: لَمَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ. وَلَا يَقُولُونَ: مِنْ ضَرْبِهِمْ. اهـ وَقَالَ أَشْهَبُ: الْأَوْلِيَاءُ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعَيِّنُوهُ أَوَّلًا، كَمَا تَقَدَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارُوهُ بَعْدَ حَلِفِهِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ. (التَّوْضِيحُ) فِي قَوْلِ أَشْهَبَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَقْسَمُوا عَلَى الْجَمِيعِ ثُمَّ اخْتَارُوا وَاحِدًا، يَكُونُ مِنْ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ، إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمْ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ. (تَنْبِيهٌ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يُعَيِّنُونَ وَاحِدًا يُقْسِمُونَ عَلَيْهِ، إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ لَا يُقْسَمُ إلَّا عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَتَوْزِيعُ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. اهـ
(فَرْعٌ) كَمَا تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ
(2/273)

أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، كَذَلِكَ تُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا إذَا عَفَا مَنْ يَجُوزُ عَفْوُهُ، فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا لَا يُبَرِّئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا. نَقَلَهُ الشَّارِحُ عَنْ مُفِيدِ ابْنِ هِشَامٍ، يَعْنِي وَيُرْجِعُ الدِّيَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) الْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَهْمَا نَكَلَا وَلِيُّ مَقْتُولٍ جِنْسُ الْوَلِيِّ لَا الْوَاحِدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَدَّدَ الْوَلِيُّ وَنَكَلَ وَاحِدٌ وَأَرَادَ غَيْرُهُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ أَنْ يَحْلِفَ فَلَا تُقْلَبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. كَذَا قَالَ الشَّارِحُ وَلَفْظُهُ: وَإِنْ نَكَلَ مُسْتَحِقُّ الدَّمِ عَنْ الْأَيْمَانِ فَإِنَّ الْحُكْمَ إنْ كَانَ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ خَاصَّةً، فَإِنَّ الدَّمَ يَبْطُلُ وَإِنْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ فَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ إذَا كَانَ فِي قُعُودِ الْعَافِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مِنْ الْعَصَبَةِ مَنْ يَحْلِفُ مَعَهُ، وَيَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ الْعَافِي أَقْعَدَ بِالْمَقْتُولِ مِنْ الْبَاقِينَ بَعْدَهُ فَيَرْجِعَ لِلدِّيَةِ. اهـ
وَتَأَمَّلْ هَذَا مَعَ قَوْلِهِمْ: إنْ عَفَا أَحَدٌ مِمَّنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا قَتْلَ. وَقَوْلَ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَاللَّفْظُ لَهَا: وَإِنْ عَفَا أَحَدُ الْبَنِينَ فَلَا قَتْلَ وَلِمَنْ بَقِيَ نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ. وَنَقَلَ الشَّارِحُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ:
وَعَفْوِ بَعْضٍ مُسْقِطُ الْقِصَاصِ
الْبَيْتَيْنِ، عَنْ نَوَازِلِ ابْنِ الْحَاجِّ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ نَكَلَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَصَبَةِ أَوْ عَفَا، فَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبَ كَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، سَقَطَ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ الْأَبْعَدَ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلِلْأَقْرَبِ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يَحْلِفُ مَعَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ، وَيَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ. اهـ وَعَلَى هَذَا يُفْهَمُ كَلَامُ الشَّارِحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَيْسَ فِي عَبْدٍ وَلَا جَنِينِ ... قَسَامَةٌ وَلَا عَدُوِّ الدِّينِ
(2/274)

يَعْنِي أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِي قَتْلِ عَبْدٍ وَلَا جَنِينٍ وَلَا كَافِرٍ، بَلْ مَنْ قَامَ لَهُ لَوْثٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ، حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً وَاسْتَحَقَّ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ.
(أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ) فَفِي الْمُوَطَّأِ: قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبِيدِ أَنَّهُ إذَا أُصِيبَ الْعَبْدُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ يَمِينًا وَاحِدَةً، ثُمَّ كَانَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ قَسَامَةٌ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ، فَإِنْ قُتِلَ الْعَبْدُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ قَسَامَةٌ وَلَا يَمِينٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ بِشَاهِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ (الْمَوَّاقُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ سَيِّدُهُ أَوْ يَرْضَى سَيِّدُ الْمَقْتُولِ بِأَخْذِ قِيمَةِ عَبْدِهِ. اهـ
(وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجَنِينِ) فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إنْ ضُرِبَتْ امْرَأَةٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَقَالَتْ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ فَفِي الْمَرْأَةِ الْقَسَامَةُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ أَنَّهُ كَجُرْحٍ مِنْ جِرَاحِهَا، وَلَا قَسَامَةَ فِي الْجِرَاحِ، وَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِشَاهِدٍ عَدْلٍ، فَيَحْلِفُ وُلَاتُهُ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَسْتَحِقُّونَ دِيَتَهُ. (ابْنُ يُونُسَ) : يُرِيدُ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَرِثُ الْغُرَّةَ يَمِينًا أَنَّهُ قَتَلَهُ. اهـ
(وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكَافِرِ) فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي نَصْرَانِيٍّ قَامَ عَلَى قَتْلِهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ مُسْلِمٌ: يَحْلِفُ وُلَاتُهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ عَلَى قَاتِلِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ نَصْرَانِيًّا. اهـ.
(تَتِمَّةٌ) وَكَذَلِكَ لَا قَسَامَةَ فِي جُرْحٍ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا قَسَامَةَ فِي الْجُرْحِ، لَكِنْ مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَدْلًا عَلَى جُرْحٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلْيَحْلِفْ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَقْتَصُّ فِي الْعَمْدِ، وَيَأْخُذُ الْعَقْلَ فِي الْخَطَأِ. قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: لِمَ قَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ مَالِكًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّهُ لَشَيْءٌ اسْتَحْسَنَّاهُ، وَمَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا. اهـ وَهَذِهِ إحْدَى الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَالَ فِيهَا مَالِكٌ بِمَا اسْتَحْسَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِ الشَّيْخِ ابْنِ غَازِيٍّ فِي نَظَائِرِ الرِّسَالَةِ،
وَقَالَ مَالِكٌ بِالِاخْتِيَارِ ... فِي شُفْعَةِ الْأَنْقَاضِ وَالثِّمَارِ
وَالْجُرْحُ مِثْلُ الْمَالِ فِي الْأَحْكَامِ ... وَالْخَمْسُ فِي أُنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ
وَقَسَامَةٌ: اسْمُ لَيْسَ وَلَا عَدُوِّ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى جَنِينٍ، وَالْمُرَادُ بِعَدُوِّ الدِّينِ الْكَافِرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقَوَدُ الشَّرْطُ بِهِ الْمِثْلِيَّهْ ... فِي الدَّمِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّهْ
وَقَتْلُ مُنْحَطٍّ مَضَى بِالْعَالِي ... لَا الْعَكْسُ وَالنِّسَاءُ كَالرِّجَالِ
تَقَدَّمَ لِلنَّاظِمِ أَوَّلَ الْبَابِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ الَّذِي يُقْتَصُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا غَيْرَ حَرْبِيٍّ، وَزَادَ هُنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ لِلْمَقْتُولِ فِي الدَّمِ أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ؛ احْتِرَازًا مِمَّا إذَا زَادَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ بِإِسْلَامٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ، فَلَا يُقْتَصُّ حِينَئِذٍ مِنْ الْقَاتِلِ؛ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ وَالْمُمَاثَلَةِ، فَلِأَجْلِ الزِّيَادَةِ بِالْإِسْلَامِ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا، قَتَلَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَلِأَجْلِ الزِّيَادَةِ بِالْحُرِّيَّةِ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْإِسْلَامِ، فَلَوْ تَمَيَّزَ الْقَاتِلُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْمَقْتُولُ بِالْإِسْلَامِ، فَقَتَلَ كَافِرٌ حُرٌّ عَبْدًا مُسْلِمًا، فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ الْقَاتِلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمَّا أَوْهَمَ اشْتِرَاطُ التَّكَافُؤِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ
(2/275)

الْعَبْدُ بِالْحُرِّ وَلَا الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، رَفَعَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: وَقَتْلُ مُنْحَطٍّ مَضَى بِالْعَالِي لَا الْعَكْسُ. فَالْعَالِي هُوَ الْمُسْلِمُ، وَالْمُنْحَطُّ الْكَافِرُ، فَيُقْتَلُ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ حُرًّا وَالْمُسْلِمُ الْمَقْتُولُ عَبْدًا.
وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا كَانَ الْمُسْلِمُ الْقَاتِلُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، كَانَ الْكَافِرُ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَالْعَالِي أَيْضًا هُوَ الْحُرُّ وَالْمُنْحَطُّ الْعَبْدُ، فَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ. وَيُقْتَلُ الْحُرُّ الْكَافِرُ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْعَكْسُ الْمَنْفِيُّ فِيهِ الْقِصَاصُ هُوَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَأَمَّا الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ فَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ. (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) قُلْتُ: فَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْمَمْلُوكِ، أَوْ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِي الْعَمْدِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ: لَا، وَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا فِي الْجِرَاحَاتِ.
(وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ) : وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَلَا يُقْتَلُ الْحُرُّ وَلَا الْحُرَّةُ بِالْعَبْدِ وَلَا بِالْأَمَةِ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الْمُسْلِمَةُ بِالْكَافِرِ وَلَا بِالْكَافِرَةِ. (وَفِي الْمُقَرَّبِ) : قُلْتُ: فَيُقْتَصُّ مِنْ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ وَلِلرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ. (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) : وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَرْتَبَةُ الْمَقْتُولِ نَاقِصَةً عَنْ مَرْتَبَةِ الْقَاتِلِ؛ لِعَدَمِ حُرِّيَّةٍ أَوْ إسْلَامٍ.
(تَنْبِيهٌ) وَلَا أَثَرَ لِفَضِيلَةِ الرُّجُولِيَّةِ، فَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَلَا الْعَدَدِ فَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَكَذَا لَا أَثَرَ لِلْعَدَالَةِ وَالشَّرَفِ وَسَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ وَصِحَّةِ الْجِسْمِ، فَيُقْتَلُ الْعَدْلُ بِالْفَاسِقِ وَالشَّرِيفُ بِالْمُشَرَّفِ، وَالصَّحِيحُ بِالْأَجْذَمِ، وَيُقْتَلُ الْأَعْمَى الْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالسَّالِمِ. قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ (تَتِمَّةٌ) إذَا صَادَفَ الْقَتْلُ تَكَافُؤَ الدِّمَاءِ لَمْ يَسْقُطْ بِزَوَالِهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ بَعْدَ قَتْلِهِ كَافِرًا، أَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ قَتْلِهِ عَبْدًا، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْقَتْلِ، وَهُوَ حَاصِلُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : وَلَا يُعْتَرَضُ بِمَا إذَا أَوْصَى لِوَارِثٍ فَصَارَ غَيْرَ وَارِثٍ، وَالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمَآلِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مُنْحَلٌّ. اهـ
وَهَذَا إذَا زَالَ التَّكَافُؤُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا إذَا زَالَ بَيْنَ حُصُولِ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ كَعِتْقِ أَحَدِهِمَا أَوْ إسْلَامِهِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَبَعْدَ الْجُرْحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ دِيَةِ الْحُرِّ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ حَالُ الْإِصَابَةِ وَالْمَوْتِ أَيْ حَالُ حُصُولِ الْمُسَبَّبِ. وَقَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ حَالُ الرَّمْيِ. اُنْظُرْ ابْنَ الْحَاجِبِ وَالتَّوْضِيحَ فَقَدْ أَطَالَا فِي ذَلِكَ. (فَائِدَةٌ) سُمِّيَ الْقِصَاصُ قَوَدًا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقُودُ الْجَانِيَ بِحَبْلٍ فِي رَقَبَتِهِ وَتُسَلِّمُهُ فَسُمِّيَ الْقِصَاصُ قَوَدًا؛ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ
وَالشَّرْطُ فِي الْمَقْتُولِ عِصْمَةُ الدَّمِ ... زِيَادَةٌ لِشَرْطِهِ الْمُسْتَقْدَمِ
لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، فَبَعْضُهَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ الْفَصْلِ:
مِنْ اعْتِرَافِ ذِي بُلُوغٍ عَاقِلِ
وَبَعْضُهَا فِي الْبَيْتَيْنِ قَبْلَ هَذَا، وَهُوَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْمَقْتُولِ بِحُرِّيَّةٍ أَوْ إسْلَامٍ، بَلْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهِمَا، أَوْ أَحَطَّ رُتْبَةً، وَشُرُوطٌ فِي الْمَقْتُولِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُسَاوِيًا لِلْقَاتِلِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَوْ كَوْنِ الْمَقْتُولِ أَرْفَعَ مِنْ الْقَاتِلِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْبَيْتَيْنِ قَبْلَ هَذَا، وَإِلَى شُرُوطِ الْمَقْتُولِ هَذِهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
زِيَادَةٌ لِشَرْطِهِ الْمُسْتَقْدَمِ
وَيُزَادُ فِي شُرُوطِ الْمَقْتُولِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَوْنِهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِغِيلَةٍ أَوْ حِرَابَةٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَلَيْسَ عَلَى قَاتِلِهِمْ إلَّا الْأَدَبُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ قِصَاصًا، فَإِنَّهُ مَعْصُومُ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَحِقِّ دَمِ مَقْتُولِهِ. (قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ) : الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقَتِيلُ وَشَرْطُ كَوْنِهِ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، وَالْعِصْمَةُ بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْأَمَانُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ، وَالْحَرْبِيُّ مُهْدَرٌ دَمُهُ، وَالْمُرْتَدُّ كَذَلِكَ. قَالَ (سَحْنُونٌ) وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ زِنْدِيقًا أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا أَوْ قَطَعَ سَارِقًا قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُقُوقٌ لَا بُدَّ أَنْ تُقَامَ، وَلَا تَخْيِيرَ فِيهَا وَلَا عَفْوَ، فَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فَمَعْصُومٌ فِي غَيْرِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ عَدَا عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فَقَتَلَهُ فَدَمُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ.
وَيُقَالُ: لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الْآخَرِ، أَرْضُوا أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ، وَشَأْنُكُمْ بِقَاتِلِ وَلِيِّكُمْ فِي الْقَتْلِ وَالْعَفْوِ. فَإِنْ لَمْ يُرْضُوهُمْ فَلِأَوْلِيَاءِ الْأَوَّلِ قَتْلُهُ، أَوْ الْعَفْوُ
(2/276)

وَلَهُمْ أَنْ لَا يَرْضَوْا بِمَا بُذِلَ لَهُمْ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا. اهـ
وَإِنْ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْمَالِ قَبِلْ ... وَالْقَوَدَ اسْتَحَقَّهُ فِيمَنْ قُتِلْ
فَأَشْهَبُ قَالَ لِلِاسْتِحْيَاءِ ... يُجْبَرُ قَاتِلٌ عَلَى الْإِعْطَاءِ
وَلَيْسَ ذَا فِي مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ ... دُونَ اخْتِيَارِ قَاتِلٍ بِلَازِمِ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ هُوَ الْقِصَاصُ لَا غَيْرُ أَوْ الْعَفْوُ مَجَّانًا بِلَا شَيْءٍ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ لِمَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَلَى الدِّيَةِ. وَقَالَ بِهِ وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ وَيَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ، وَذَلِكَ إذَا عَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ فَأَبَى الْقَاتِلُ وَبَذَلَ دَمَهُ فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الدِّيَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ يُجْبَرُ الْقَاتِلُ عَلَى إعْطَاءِ الدِّيَةِ.
قَالَ فِي أُصُولِ الْفُتْيَا لِابْنِ حَارِثٍ: وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقَاتِلِ عَلَى أَنْ يَغْرَمَ إلَيْهِ الدِّيَةَ، فَأَبَى الْقَاتِلُ مِنْ غُرْمِهَا، وَبَذَلَ دَمَهُ فَذَلِكَ لَهُ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ يُخَالِفُهُ وَيَقُولُ: إنْ وَجَدَ لِحَقْنِ دَمِهِ سَبِيلًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْفِكَهُ، وَاعْتَلَّ فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا فَدَاهُ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ كَانَ عَلَى الْمُفْدَى أَنْ يَغْرَمَ مَا فَدَاهُ بِهِ كُرْهًا، وَاعْتَلَّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِأَنْ قَالَ: إنَّمَا يُحَامِي عَنْ مَالِ وَارِثٍ يَصِيرُ إلَيْهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. اهـ. وَ (وَلِيُّ الدَّمِ) فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ قَبِلَ، وَ (الْقَوَدَ) مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، (لِلِاسْتِحْيَاءِ) يَتَعَلَّقُ بِيَجْبُرُ أَوْ بِالْإِعْطَاءِ، وَ (عَلَى الْإِعْطَاءِ) يَتَعَلَّقُ بِيَجْبُرُ.
وَعَفْوُ بَعْضٍ مُسْقِطُ الْقِصَاصِ ... مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قُعْدُدِ انْتِقَاصِ
وَشُبْهَةٌ تَدْرَؤُهُ وَمِلْكُ ... بَعْضِ دَمِ الَّذِي اعْتَرَاهُ الْهُلْكُ
ذَكَرَ فِي الْبَيْتَيْنِ بَعْضَ مُسْقِطَاتِ الْقِصَاصِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ إذَا عَفَا بَعْضُ مَنْ لَهُ اسْتِيفَاءُ الدَّمِ، إلَّا إذَا كَانَ الْعَافِي أَبْعَدَ فِي الدَّرَجَةِ مِنْ الَّذِي لَمْ يَعْفُ، فَالْكَلَامُ لِلْأَقْرَبِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قُعْدُدِ انْتِقَاصِ
وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ مِثْل ضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ أَوْ الْمُؤَدِّبِ لِلْمُتَعَلِّمِ، فَيَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ فَيُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُمَا لِلشُّبْهَةِ، وَهِيَ كَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ فِي ضَرْبِ زَوْجَتِهِ وَمُتَعَلِّمِهِ، وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ إذَا مَلَكَ بَعْضَ دَمِ الْمَقْتُولِ كَأَرْبَعَةِ إخْوَةٍ
(2/277)

يَقْتُلُ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ ثُمَّ يَمُوتُ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ؛ لِإِرْثِ الْقَاتِلِ مِنْ أَخِيهِ بَعْضَ دَمِ الْمَقْتُولِ.
فَلَمَّا مَلَكَ دَمَهُ حِصَّةً صَارَ كَعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ، لَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلٌ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَمِلْكُ بَعْضِ دَمِ الَّذِي اعْتَرَاهُ الْهُلْكُ. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ فَرْعَيْنِ تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ: (الْأَوَّلُ) : فِيمَنْ لَهُ اسْتِيفَاءُ الدَّمِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَوِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ لِأَقْرَبِ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ الذُّكُورِ. (التَّوْضِيحُ) قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي مِيرَاثِ الْوَلَاءِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ، وَفِي النِّكَاحِ لَا يَشِذُّ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي الْعَفْوِ عَنْ الدَّمِ وَالْقِيَامِ بِهِ. اهـ
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ تَرْتِيبَهُمْ فِي النِّكَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَقُدِّمَ ابْنٌ فَابْنُهُ فَأَبٌ فَأَخٌ فَابْنُهُ فَجَدٌّ فَعَمٌّ فَابْنُهُ. (التَّوْضِيحُ) وَقَوْلُهُ: (الْعَصَبَةِ) احْتِرَازٌ مِنْ غَيْرِ الْعَاصِبِ كَالزَّوْجِ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ، وَاحْتِرَازٌ بِالذُّكُورِ مِنْ الْإِنَاثِ فَإِنَّهُ سَيَذْكُرُ مَا فِيهِنَّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ. اهـ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ النِّسَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ كَذَلِكَ أَنَّ لَهُنَّ الِاسْتِيفَاءَ. (التَّوْضِيحُ) وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ. مِمَّا لَوْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِنَّ عَصَبَةٌ كَالْبَنَاتِ مَعَ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْأَخِ فَإِنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ حِينَئِذٍ فِي عَفْوٍ وَلَا قَوَدٍ بِاتِّفَاقٍ. وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ الْعَاصِبُ؛ لِأَنَّ الْعَاصِبَ الْوَاحِدَ يَحْجُبُهُنَّ، وَيُشْتَرَطُ فِي النِّسَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مِمَّنْ يَرِثُهُنَّ احْتِرَازًا مِنْ الْعَمَّاتِ وَشِبْهِهِنَّ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا فِيهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مِمَّنْ لَوْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِنَّ ذَكَرٌ وَرِثَ بِالتَّعْصِيبِ؛ احْتِرَازًا مِنْ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ إلَّا أَنَّ الْعَصَبَةَ الْوَارِثِينَ مَعَ النِّسَاءِ فَوْقَهُمْ سَوَاءٌ. (التَّوْضِيحُ) كَالْبِنْتِ مَعَ الْإِخْوَةِ. وَقَوْلُهُ: سَوَاءٌ. أَيْ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ، فَمَنْ قَامَ بِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَلَا عَفْوَ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْعَصَبَةُ غَيْرُ الْوَارِثِينَ إذَا ثَبَتَ الْقَوَدُ بِقَسَامَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ كَذَلِكَ. اهـ وَذَلِكَ كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ لَا عَفْوَ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ إذَا ثَبَتَ الدَّمُ بِقَسَامَتِهِمْ. وَمَنْ قَامَ بِالدَّمِ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ لَهُ اسْتِيفَاءٌ إمَّا ذُكُورٌ فَقَطْ أَوْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَ الذُّكُورُ فِي مَرْتَبَةِ الْإِنَاثِ كَالْبَنَاتِ مَعَ الِابْنِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْأَخِ فَلَا كَلَامَ لَهُنَّ فِي عَفْوٍ، وَلَا قَوَدٍ وَأَحْرَى إذَا كَانَ الذُّكُورُ أَقْرَبَ.
وَإِنْ كَانَ الْإِنَاثُ أَقْرَبَ وَالذَّكَرُ وَارِثٌ كَالْبِنْتِ مَعَ الْإِخْوَةِ فَلَا عَفْوَ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ فَإِنْ ثَبَتَ الدَّمُ بِقَسَامَةٍ، فَلَا عَفْوَ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَمَنْ قَامَ بِالدَّمِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا كَلَامَ لِلْعَصَبَةِ. (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الْفَرْعُ الثَّانِي) فِيمَا إذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِاعْتِبَارِ سُقُوطِ الْقَوَدِ وَعَدَمِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلدَّمِ تَارَةً يَكُونُ جَمِيعُهُمْ رِجَالًا، وَتَارَةً يَكُونُ جَمِيعُهُمْ نِسَاءً وَتَارَةً يَجْتَمِعْنَ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَإِذَا عَفَا بَعْضُ مَنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ، فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ رِجَالًا سَقَطَ الْقَوَدُ.
(التَّوْضِيحُ) : وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانُوا أَوْلَادًا أَوْ إخْوَةً أَوْ غَيْرَهُمْ كَالْأَعْمَامِ وَالْمَوَالِي، وَلَا خِلَافَ فِي الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، وَأَمَّا الْأَعْمَامُ وَنَحْوُهُمْ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ عَدَمَ السُّقُوطِ، وَأَنَّ لِمَنْ بَقِيَ أَنْ يَقْتُلَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً نَظَرَ الْحَاكِمُ. (التَّوْضِيحُ) هَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا أُخْتَهُ وَابْنَتَهُ فَالِابْنَةُ أَوْلَى بِالْقَتْلِ وَبِالْعَفْوِ، وَهَذَا إذَا مَاتَ مَكَانَهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ رَجُلٍ لَا تُعْرَفُ عَصَبَتُهُ، فَقُتِلَ عَمْدًا وَمَاتَ مَكَانَهُ وَتَرَكَ بَنَاتٍ فَلَهُنَّ أَنْ يَقْتُلْنَ، وَإِنْ عَفَا بَعْضُهُنَّ وَطَلَبَ بَعْضُهُنَّ الْقَتْلَ، نَظَرَ فِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ بِالِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَدْلًا، وَإِنْ رَأَى الْعَفْوَ أَوْ الْقَتْلَ أَمْضَاهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ
(2/278)

هُوَ الَّذِي اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِيهِ يَحُزْنَ الْمِيرَاثَ فَتَتِمُّ الْمُقَابَلَةُ بِسَبَبِهِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا أَبُو عِمْرَانَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَنِّفِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلْإِمَامِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ لِبَيْتِ الْمَالِ مَا بَقِيَ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِهِمَا أَوْ بِبَعْضِهِمَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ. (التَّوْضِيحُ) : هَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ إذَا كَانَ النِّسَاءُ أَقْرَبَ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ أَنَّهُ لَا كَلَامَ لَهُنَّ مَعَ الْمُسَاوِي. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَسْقُطْ. أَيْ الْقَوَدُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْعَفْوِ أَوْ بِبَعْضِهِمَا. أَيْ بِبَعْضِ هَذَا الصِّنْفِ وَبَعْضِ هَذَا الصِّنْفِ، وَأَحْرَى إذَا اجْتَمَعَ جَمِيعُ صِنْفٍ مَعَ بَعْضِ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَّا، أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ، بَلْ عَفَا أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ وَأَرَادَ الصِّنْفُ الْآخَرُ الْقَتْلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا أَوْ بِبَعْضِهِمَا وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ أَرَادَ الْقَتْلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الدَّمُ بِقَسَامَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَصَبَةِ فِي الْعَفْوِ وَالْقَتْلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ أَرَادَ الْعَفْوَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا لَوْ ثَبَتَ الدَّمُ بِبَيِّنَةٍ وَحَازَ النِّسَاءُ الْمِيرَاثَ، فَلَا كَلَامَ لِلْعَصَبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. اهـ وَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدَّمِ إنْ كَانَ الْجَمِيعُ رِجَالًا سَقَطَ الْقَوَدُ بِعَفْوِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَكْثَرَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ كَانُوا نِسَاءً وَلَمْ يَحُزْنَ الْمِيرَاثَ وَلَا عَاصِبَ، فَلَهُنَّ الْقَتْلُ، وَإِنْ عَفَا بَعْضُهُنَّ وَطَلَبَ بَعْضُهُنَّ الْقَتْلَ، نَظَرَ السُّلْطَانُ، وَإِنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ فَالْبِنْتُ أَوْلَى بِالْقَتْلِ وَبِالْعَفْوِ.
وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَإِنْ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَلَا كَلَامَ لِلْإِنَاثِ فِي عَفْوٍ وَلَا قَوَدٍ، وَإِنْ كَانَ النِّسَاءُ أَقْرَبَ كَالْبَنَاتِ مَعَ الْإِخْوَةِ فَإِنْ ثَبَتَ الدَّمُ بِقَسَامَةٍ فَلَا عَفْوَ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّمُ بِبَيِّنَةٍ، وَقَدْ حَازَ النِّسَاءُ الْمِيرَاثَ فَلَا كَلَامَ لِلْعَصَبَةِ فِي عَفْوٍ أَوْ قَوَدٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ لِلْإِنَاثِ، وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْإِشَارَةُ بِالْأَبْيَاتِ الْمَنْسُوبَةِ لِلْإِمَامِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْوَنْشَرِيسِيِّ وَهِيَ
إذَا انْفَرَدَ الرِّجَالُ وَهُمْ سَوَاءٌ ... فَمَنْ يَعْفُو وَيَبْلُغُ مَا يَشَاءُ
وَدَعْ قَوْلَ الْبَعِيدِ بِكُلِّ وَجْهٍ ... كَأَنْ سَاوَتْ بِقُعْدُدِهِمْ نِسَاءُ
فَإِنْ يَكُنْ النَّسَا أَدْنَى فَتَمِّمْ ... بِوَفْقِ جَمِيعِهِمْ عَفْوًا تَشَاءُ
وَإِنْ إرْثًا يَحُزْنَ فَدَعْ رِجَالًا ... إذَا ثَبَتَتْ بِلَا قَسَمٍ دِمَاءُ
اهـ.
فَقَوْلُهُ: (فَإِنْ يَكُنْ النِّسَاءُ أَدْنَى) هُوَ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّمُ بِقَسَامَةٍ بِدَلِيلِ الْبَيْتِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا إذَا انْفَرَدَ النِّسَاءُ وَلَا عَاصِبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُنَّ إنْ لَمْ يَحُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبَنَاتِ فَلَهُنَّ الْقَتْلُ، وَإِنْ عَفَا بَعْضُهُنَّ وَطَلَبَ بَعْضُهُنَّ الْقَتْلَ، نَظَرَ فِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ وَإِنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَلَا عَاصِبَ فَالْبِنْتُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ فِي عَفْوٍ وَضِدِّهِ. وَقَدْ ذَيَّلْتُ الْأَبْيَاتَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقُلْتُ:
كَذَاكَ إذَا انْفَرَدْنَ وَحُزْنَ مَالًا ... فَحُكْمٌ لِلْقَرِيبَةِ مَا تَشَاءُ
وَإِنْ إرْثٌ يُشَطُّ لِبَيْتِ مَالٍ ... فَحَاكِمُنَا يُجَنِّبُ مَا يُسَاءُ
وَأَشَرْتُ بِقَوْلِي (إذَا انْفَرَدْنَ) إلَى أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَا عَاصِبَ وَأَمَّا النِّسَاءُ مَعَ الْعَاصِبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُمْ فِي الْأَبْيَاتِ قَبْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَيْثُ تَقْوَى تُهْمَةٌ فِي الْمُدَّعَى ... عَلَيْهِ فَالسَّجْنُ لَهُ قَدْ شُرِّعَا
يَعْنِي أَنَّ مَنْ اُتُّهِمَ بِالْقَتْلِ، وَقَوِيَتْ التُّهْمَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَنْتَهِ إلَى حَدِّ اللَّوْثِ الْمُوجِبِ لِلْقَسَامَةِ، فَإِنَّهُ يُسْجَنُ حَتَّى يُسْتَبْرَأَ أَمْرُهُ فَيُفْعَلَ مَا يَظْهَرُ مِنْ ثُبُوتِ اللَّوْثِ فَتَجِبَ أَحْكَامُهُ أَوْ اضْمِحْلَالِ التُّهْمَةِ فَيُطْلَقَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ. (قَالَ الشَّارِحُ مَا مَعْنَاهُ) : وَإِذَا سُجِنَ بِالتُّهْمَةِ الْقَاصِرَةِ عَنْ اللَّوْثِ فَأَحْرَى أَنْ يُسْجَنَ مَعَ ثُبُوتِ اللَّوْثِ إذَا لَمْ يُقَمْ بِأَحْكَامِهِ مِنْ الْقَسَامَةِ؛ إمَّا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِهَا أَوْ لِتَوَقِّيهِ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا، إنْ كَانَ. فَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ أُلْطِخَ بِالدَّمِ وَوَقَعَتْ التُّهْمَةُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ ذَلِكَ مَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَسَجْنُ سَنَةٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَبْسُ الطَّوِيلُ جِدًّا، وَلَا يُعَجَّلُ بِإِخْرَاجِهِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بَرَاءَتُهُ، أَوْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْكَثِيرَةُ، وَلَقَدْ
(2/279)

كَانَ الرَّجُلُ يُحْبَسُ بِاللَّطْخِ وَالشُّبْهَةِ، وَيُطَالُ حَبْسُهُ حَتَّى أَنَّ أَهْلَهُ لَيَتَمَنَّوْنَ لَهُ الْمَوْتَ مِنْ طُولِ حَبْسِهِ. اهـ
(فَرْعٌ) وَكَذَلِكَ يُسْجَنُ الْقَاتِلُ إذَا كَانَ مُسْتَحِقُّ الدَّمِ غَائِبًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَفِيلٌ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَيُحْبَسُ، وَلَا يُكْفَلُ؛ إذْ لَا كَفَالَةَ فِي قِصَاصِ نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ، وَكَذَلِكَ يُسْجَنُ الْقَاتِلُ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَفِيلٌ إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ فِي الْعَمْدِ، فَيُسْجَنُ حَتَّى يُزَكَّى بِخِلَافِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَجِرَاحِهِ، فَإِنَّهُ مَالٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَوْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِذَا كَانَ مَالًا فَيُقْبَلُ الْكَفِيلُ، وَهُوَ إمَّا عَلَى الْعَاقِلَةِ إنْ بَلَغَ الثُّلُثَ، أَوْ عَلَى الْجَانِي إنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَكَذَلِكَ يُسْجَنُ الْقَاتِلُ إذَا كَانَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ صَغِيرٌ حَتَّى يَكْبُرَ الصَّغِيرُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، حَكَاهَا ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا
وَالْعَفْوُ لَا يُغْنِي مِنْ الْقَرَابَهْ ... فِي الْقَتْلِ بِالْغِيلَةِ وَالْحِرَابَهْ
يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْغِيلَةِ أَوْ الْحِرَابَةِ، فَإِنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ لَا يُسْقِطُهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلْوَلِيِّ وَالْحِرَابَةُ أَعَمُّ مِنْ الْغِيلَةِ، فَكُلُّ غِيلَةٍ حِرَابَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حِرَابَةٍ غِيلَةً. قَالَ الشَّيْخُ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: حَقِيقَةُ الْغِيلَةِ قَالَ الْبَوْنِيُّ هِيَ الْغَدْرُ وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَى مَالِهِ أَوْ عَلَى زَوْجَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الزَّنَّاقُ الْغِيلَةُ الْقَتْلُ بِحِيلَةٍ وَالْإِتْيَانُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَوَهَّمُهُ. قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ لَا عَفْوَ فِيهِ. قَالَ الْجُزُولِيُّ يَعْنِي لَا لِلْمَقْتُولِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ، وَلَا لِلْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى. اهـ ثُمَّ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ أَيْضًا: وَلِلرَّجُلِ الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ الْعَمْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ قُتِلَ غِيلَةً، وَلِكَوْنِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ قَتْلَ غِيلَةٍ أَوْ حِرَابَةٍ.
وَالْحِرَابَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْخُرُوجُ لِإِخَافَةِ سَبِيلٍ؛ لِأَخْذِ مَالٍ مُحْتَرَمٍ بِمُكَابَرَةِ قِتَالٍ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ إذْهَابِ عَقْلٍ أَوْ قَتْلِ خُفْيَةٍ، أَوْ لِمُجَرَّدِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، لَا لِإِمْرَةٍ وَلَا نَائِرَةٍ، وَلَا عَدَاوَةٍ. (ابْنُ شَاسٍ) لَوْ دَخَلَ بِاللَّيْلِ وَأَخَذَ الْمَالَ بِالْمُكَابَرَةِ، وَمَنَعَ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُوَ مُحَارِبٌ. ابْنُ شَاسٍ قَتْلُ الْغِيلَةِ أَيْضًا مِنْ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ أَنْ يَغْتَالَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا
(2/280)

فَيَخْدَعَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَوْضِعًا فَيَأْخُذَ مَا مَعَهُ، فَهُوَ كَالْحِرَابَةِ. اهـ (وَفِي الْمُدَوَّنَةِ) : سَاقِي السَّكْرَانِ مُحَارِبٌ. اهـ فَقَوْلُهُ: (وَالْعَفْوُ) مُبْتَدَأٌ، وَ (مِنْ الْقَرَابَةِ) أَيْ قَرَابَةِ الْمَقْتُولِ وَأَوْلِيَائِهِ صِفَةٌ لِلْعَفْوِ، وَجُمْلَةُ (لَا يُغْنِي) أَيْ لَا يَكْفِي خَبَرُ الْعَفْوِ وَ (فِي الْقَتْلِ) عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فِي سُقُوطِ الْقَتْلِ، يَتَعَلَّقُ بِ (يُغْنِي) .
وَ (بِالْغِيلَةِ) يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعَفْوُ الصَّادِرُ مِنْ الْقَرَابَةِ، يَعْنِي أَوْ مِنْ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقَاتِلِ لَا يَكْفِي فِي سُقُوطِ الْقَتْلِ الْكَائِنِ بِالْغِيلَةِ، أَوْ الْحِرَابَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِائَةً يُجْلَدُ بِالْأَحْكَامِ ... مَنْ عَنْهُ يُعْفَى مَعَ حَبْسِ عَامِ
وَالصُّلْحُ فِي ذَاكَ مَعَ الْعَفْوِ اسْتَوَى ... كَمَا هُمَا فِي حُكْمِ الْإِسْقَاطِ سَوَا
يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الْقَاتِلِ عَمْدًا أَنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَيُسْجَنُ سَنَةً، سَوَاءٌ عُفِيَ عَنْهُ مَجَّانًا أَوْ صَالَحَ بِمَالٍ فَالصُّلْحُ فِي ذَلِكَ مُسَاوٍ لِلْعَفْوِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: (وَالصُّلْحُ فِي ذَاكَ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الضَّرْبِ وَالسَّجْنِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا هُمَا) إلَخْ، أَيْ كَمَا اسْتَوَى الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ فِي لُزُومِ الضَّرْبِ وَالسَّجْنِ، كَذَلِكَ هُمَا سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ الدَّمِ، فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَالصُّلْحِ، فَضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ لِلْعَفْوِ وَالصُّلْحِ. (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : فَإِنْ عَفَوْا أَوْ صَالَحُوا عَلَى الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ، كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيَضْرِبُهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَيَسْجُنُهُ عَامًا مُسْتَقْبَلًا. (وَفِي الْمُقَرَّبِ) قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَكُلُّ مَنْ قَتَلَ قَتْلًا عَمْدًا، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ وَكَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ عَبْدًا، فَعَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ، فَإِنَّهُ سَيُجْلَدُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ (وَفِي الْمُقَرَّبِ أَيْضًا) قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ فَعُفِيَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمُوا عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَحَبْسُ سَنَةٍ مُسْتَأْنَفَةً بَعْدَ الضَّرْبِ وَلَا يُعْتَدُّ فِيهَا بِمَا كَانَ مِنْ السِّجْنِ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ. (قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ) : قَالَ لِي مُطَرِّفٌ: قَالَ مَالِكٌ النَّفَرُ يُرْمَوْنَ بِالدَّمِ فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَخَيَّرُهُ الْوَرَثَةُ، وَيُقْسِمُونَ عَلَيْهِ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ ضَرْبَ مِائَةٍ وَسَجْنَ سَنَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عُفِيَ عَنْهُ، فَلَمْ يُقْسِمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الضَّرْبِ وَالسَّجْنِ.
(وَفِي طُرَرِ ابْنِ عَاتٍ) : إذَا أَدْمَى عَلَى جَمَاعَةٍ
(2/281)

سُجِنُوا كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ عَلَى مَنْ يُقْسِمُ مِنْهُمْ، وَيُسْجَنُونَ عَامًا إذَا مَاتَ الْمَقْتُولُ مُطْلَقِينَ مِنْ غَيْرِ حَدِيدٍ، فَإِنْ كَانَ جَرِيحًا أَوْ مَرِيضًا سُجِنُوا مُحَدَّدِينَ بِالْحَدِيدِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ قَالَ لَا بُدَّ لِلْمَسْجُونِ فِي الدَّمِ مِنْ الْحَدِيدِ؛ حَتَّى يُرَى مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ بِعَفْوٍ أَوْ قَسَامَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ مِنْ الْحَدِيدِ، وَضَرَبَهُ مِائَةً، وَسَجَنَهُ عَامًا مُسْتَقْبَلًا مِنْ غَيْرِ حَدِيدٍ. اهـ
وَدِيَةُ الْعَمْدِ كَذَاتِ الْخَطَأِ ... أَوْ مَا تَرَاضَى فِيهِ بَيْنَ الْمَلَإِ
وَهْيَ إذَا مَا قُبِلَتْ وَسُلِّمَتْ ... بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ قَدْ تَقَسَّمَتْ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ هُوَ قِصَاصٌ فَإِذَا عَفَا مَنْ لَهُ الْعَفْوُ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَرَضِيَ الْقَاتِلُ بِذَلِكَ لَزِمَ، وَإِذَا عَفَا عَلَى الدِّيَةِ هَكَذَا مُبْهَمَةً فَتُحْمَلُ عَلَى الدِّيَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْخَطَأِ، وَهِيَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ إلَّا أَنَّهَا تُغَلَّظُ فَتَكُونُ مُرَبَّعَةً كُلُّهَا إنَاثٌ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً فَإِذَا قُبِلَتْ مِنْ الْقَاتِلِ فَسَلَّمَهَا لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمْ. قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ: قُلْتُ لَهُ: فَدِيَةُ الْعَمْدِ إذَا تَصَالَحُوا عَلَيْهَا مِمَّنْ تُؤْخَذُ؟ قَالَ: مِنْ الْقَاتِلِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ اصْطَلَحُوا عَلَى شَيْءٍ مَعْرُوفٍ جَازَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى دِيَةٍ مُبْهَمَةٍ كَانَ فِي ذَلِكَ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلَا تُقَطَّعُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، كَمَا تُقَطَّعُ دِيَةُ الْخَطَأِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِوَلِيٍّ أَنْ يَعْمَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] كَذَلِكَ رَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى (وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : فَإِنْ قَبِلَ الْوَلَدُ الدِّيَةَ، أَوْ صَالَحَ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، دَخَلَتْ زَوْجَةُ الْمَيِّتِ وَبَنَاتُهُ مَعَهُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ فَرَائِضِهِمْ. اهـ فَقَوْلُهُ: كَذَاتِ الْخَطَأِ. هَذَا عِنْدَ الْإِبْهَامِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ لِقَدْرِهَا. وَالتَّشْبِيهُ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُخَمَّسَةٌ، وَهَذِهِ مُرَبَّعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: أَوْ مَا تَرَاضَى فِيهِ بَيْنَ الْمَلَإِ هَذَا عِنْدَ تَعْيِينِ قَدْرِهَا مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَالْمَلَأُ الْجَمَاعَةُ يَعْنِي بِهِمْ الْقَاتِلَ وَالْأَوْلِيَاءَ
وَجُعِلَتْ دِيَةُ مُسْلِمٍ قُتِلْ ... عَلَى الْبَوَادِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلْ
وَالْحُكْمُ بِالتَّرْبِيعِ فِي الْعَمْدِ وَجَبْ ... وَأَلْفُ دِينَارٍ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبْ
وَقَدْرُهَا عَلَى أُولِي الْوَرْقِ اثْنَا ... عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا أَدْنَى
وَنِصْفُ مَا ذُكِرَ فِي الْيَهُودِ ... وَفِي النَّصَارَى ثَابِتُ الْوُجُودِ
وَفِي النِّسَاءِ الْحُكْمُ تَنْصِيفُ الدِّيَهْ ... وَحَالُهُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مُغْنِيَهْ
تَكَلَّمَ فِي الْأَبْيَاتِ عَلَى جِنْسِ الدِّيَةِ وَقَدْرِهَا، فَأَخْبَرَ أَنَّ دِيَةَ الْمُسْلِمِ إنْ كَانَ الْجَانِي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ كَالشَّامِيِّ وَالْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ أَلْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ كَالْعِرَاقِيِّ وَالْفَارِسِيِّ وَالْخُرَاسَانِيِّ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَالْمِائَةُ مِنْ الْإِبِلِ إنْ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مُخَمَّسَةٌ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذُكُورٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعَمْدِ فَهِيَ مُغَلَّظَةٌ بِإِسْقَاطِ ابْنِ اللَّبُونِ، فَتَكُونُ مُرَبَّعَةً خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. (فَإِنْ قُلْتَ) : وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ظَاهِرٌ وَكَذَا فِي الْعَمْدِ عَلَى رِوَايَةِ أَشْهَبَ مِنْ كَوْنِ الْوَاجِبِ الْقِصَاصَ لَا غَيْرُ أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَأَيْنَ تُتَصَوَّرُ الدِّيَةُ؟ (فَالْجَوَابُ) : أَنَّ لِوُجُوبِهَا فِي الْعَمْدِ سَبَبَيْنِ: الْعَفْوُ عَلَى دِيَةٍ مُبْهَمَةٍ، أَوْ عَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ. نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْجَوَاهِرِ، وَقَالَ قَبْلَهُ: وَلَا يُؤْخَذُ عِنْدَنَا فِي الدِّيَةِ غَيْرُ هَذَا لَا بَقَرٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا عَرَضٌ. اهـ
فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْبَوَادِي: نَحْنُ نُعْطِي الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ. أَوْ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: نَحْنُ نُعْطِي الذَّهَبَ. قَالَ مَالِكٌ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ إلَّا الذَّهَبُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إلَّا الْوَرِقُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ إلَّا الْإِبِلُ. قَالَهُ فِي الْمُقَرَّبِ. هَذَا فِي دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ عَبْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا
(2/282)

أَوْ كَافِرًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَدِيَةُ الْكِتَابِيِّ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ فَدِيَتُهُ ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ فِي الذَّهَبِ سِتٌّ وَسِتُّونَ دِينَارًا وَثُلُثَا دِينَارٍ لِأَنَّ خُمُسَ أَلْفِ دِينَارٍ مِائَتَا دِينَارٍ وَثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ مَا ذُكِرَ، وَمِنْ الْفِضَّةِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ خُمُسَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا أَلْفَانِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَثُلُثُهَا ثَمَانِمِائَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُؤَلِّفُ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي دِيَةِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَدِيَتُهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ مِنْ دِينِهَا، فَدِيَةُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْكِتَابِيَّةِ نِصْفُ دِيَةِ الْكِتَابِيِّ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيَّةِ نِصْفُ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ، هَذَا حَاصِلُ الْأَبْيَاتِ. فَقَوْلُهُ: مُسْلِمٌ أَيْ حُرٌّ وَقَوْلُهُ: قُتِلَ أَيْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَتَقَدَّمَ مَحَلُّ تَصَوُّرِهَا فِي الْعَمْدِ، عَلَى الْبَوَادِي عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أَهْلِ الْبَوَادِي، وَمِائَةً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجُعِلَ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحُكْمُ بِالتَّرْبِيعِ فِي الْعَمْدِ أَنَّهَا فِي الْخَطَأِ غَيْرُ مُرَبَّعَةٍ، أَيْ بَلْ مُخَمَّسَةٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَبَّعَةِ وَالْمُخَمَّسَةِ، وَأُولِي أَيْ أَصْحَابِ، وَسَكَّنَ رَاءَ الْوَرِقَ ضَرُورَةً.
وَقَوْلُهُ: لَا أَدْنَى. تَأْكِيدٌ لِلْعَدَدِ وَتَكْمِيلٌ لِلْبَيْتِ. وَقَوْلُهُ: وَنِصْفُ مَا ذُكِرَ، أَيْ فِي الْإِبِلِ وَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (فِي الْيَهُودِيِّ) أَيْ وَاجِبٌ أَوْ ثَابِتٌ فِي الْيَهُودِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَهُودِيِّ الْجِنْسُ لَا الْوَاحِدُ، وَيَاؤُهُ لِلنَّسَبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَفِي النَّصَارَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِلَا قَالَ: " النَّصْرَانِيِّ " بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فِي الْيَهُودِيِّ. وَأَعَادَ حَرْفَ الْجَرِّ لِلْوَزْنِ وَثَابِتُ الْوُجُودِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخَبَرِ الْمُسْتَتِرِ مُؤَكِّدَةٌ، وَشَمِلَ قَوْلُهُ فِي النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ، وَضَمِيرُ (حَالُهُ) لِلتَّصْنِيفِ، وَفِي كُلِّ صِنْفٍ أَيْ مِنْ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُغْنِيَةٌ أَيْ عَنْ بَيَانِهَا الْمُبْهَمَاتِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَهُوَ خَبَرُ (حَالُ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي لَفْظِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ مَا يُغْنِي عَنْ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى مَا فِي النَّظْمِ بِغَيْرِهِ، وَلَفْظُهُ: وَدِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى الْبَادِي مُخَمَّسَةً بِنْتُ مَخَاضٍ وَوَلَدَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ وَجَذَعَةٌ.
وَرُبِّعَتْ فِي عَمْدٍ بِحَذْفِ ابْنِ اللَّبُونِ ثُمَّ قَالَ، وَعَلَى الشَّامِيِّ وَالْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى الْعِرَاقِيِّ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلِلْكِتَابِيِّ وَالْمُعَاهَدِ نِصْفُهُ وَلِلْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ ثُلُثُ خُمُسٍ وَأُنْثَى كُلٍّ كَنِصْفِهِ. وَفِي الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ أَيْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ.
(تَفْرِيعٌ) قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ: قَالَ سَحْنُونٌ قُلْتُ: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَجَنَى جِنَايَةً لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ أَتَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ كَانَ مَا جَنَاهُ أَقَلَّ مِنْ بَعِيرٍ، لَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِبِلِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قَطَعَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ: أَنَّ عَلَيْهِ ابْنَتَيْ مَخَاضٍ وَاِبْنَتَيْ لَبُونٍ وَابْنَيْ لَبُونٍ وَحِقَّتَيْنِ وَجَذَعَتَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَفِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ قُلْتُ لِعِيسَى: فَإِنْ أُصِيبَتْ لَهُ أُنْمُلَةٌ؟ قَالَ: يَأْتِي بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ سِنٍّ فَيَكُونُ فِيهَا شَرِيكًا لِلْمَجْرُوحِ ثُلُثَا كُلِّ بَعِيرٍ، وَلِلْجَارِحِ ثُلُثُ كُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا. وَإِنْ أُصِيبَ لَهُ أُنْمُلَتَانِ كَانَ عَلَى الْجَارِحِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ فَيَكُونَ شَرِيكًا مَعَهُ، لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثُلُثَا كُلِّ بَعِيرٍ وَلِلْجَانِي ثُلُثُ كُلِّ بَعِيرٍ. (قُلْتُ) : فَإِنْ أُصِيبَتْ أُصْبُعُ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى الدِّيَةِ مُبْهَمَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْأُصْبُعِ؟ فَقَالَ: عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَانِيَةِ أَبْعِرَةٍ مِنْ أَسْنَانِ الْعَمْدِ الْأَرْبَعِ، مِنْ كُلِّ سِنٍّ بَعِيرَانِ، فَيَكُونَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مِنْ كُلِّ سِنٍّ فَيَكُونَانِ فِيهَا شَرِيكَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ كُلِّ بَعِيرٍ. اهـ وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَمْدٌ، وَدِيَتَهُ مُرَبَّعَةٌ فَثَمَانِيَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَمْكَنَ التَّرْبِيعُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَشْرِيكٍ، وَاثْنَانِ عَلَى صِفَةِ التَّرْبِيعِ، لَا يُمْكِنُ إلَّا مِنْ أَرْبَعَ فَيَكُونَ لِلْجَانِي نِصْفُ كُلِّ بَعِيرٍ مِنْ الْأَرْبَعِ وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَا ... وَالْإِبِلُ التَّخْمِيسُ فِيهَا قُسِّطَا
تَحْمِلُهَا عَاقِلَةٌ لِلْقَاتِلِ ... وَهْيَ الْقَرَابَاتُ مِنْ الْقَبَائِلِ
حَيْثُ ثُبُوتُ قَتْلِهِ بِالْبَيِّنَهْ ... أَوْ بِقَسَامَةٍ لَهَا مُعَيِّنَهْ
يَدْفَعُهَا الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى بِحَسَبْ ... أَحْوَالِهِمْ وَحُكْمُ تَنْجِيمٍ وَجَبْ
مِنْ مُوسِرٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ ذَكَرْ ... مُوَافِقٍ فِي نِحْلَةٍ وَفِي مَقَرْ
يَعْنِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ الدِّيَةُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ، فَتَكُونُ مُخَمَّسَةً عِشْرُونَ مِنْ كُلِّ سِنٍّ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا بَيَانُهُ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَيُعْطِي هَذِهِ الدِّيَةَ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ وَالْقَاتِلُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.
(ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَالْعَاقِلَةُ الْعَصَبَةُ، وَأُلْحِقَ بِالْعَصَبَةِ أَهْلُ الدِّيوَانِ لِعِلَّةِ التَّنَاصُرِ. (التَّوْضِيحُ)
(2/283)

هَكَذَا قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الْعَصَبَةُ. (ابْنُ الْجَلَّابِ) : قَرُبُوا أَوْ بَعُدُوا. (ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ) : وَكَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْلَامِ وَكَانُوا يَتَعَاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ فَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ عُمَرُ الدِّيوَانَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَالَ أَشْهَبُ بِشَرْطِ قِيَامِ الْعَطَاءِ أَيْ إنَّمَا يُلْحَقُ بِشَرْطِ قِيَامٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْمَوَالِي الْأَعْلَوْنَ وَبَيْتُ الْمَالِ. (التَّوْضِيحُ) أَيْ لِمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَا يَرِثُونَهُ يَعْقِلُونَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الدِّيوَانِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى مَعُونَةٍ أَعَانَهُمْ عَصَبَتُهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ دِيوَانٍ فَعَصَبَتُهُ وَيَبْدَأُ بِالْفَخِذِ ثُمَّ الْبَطْنِ ثُمَّ الْعِمَارَةِ ثُمَّ الْفَصِيلَةِ ثُمَّ الْقَبِيلَةِ ثُمَّ أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ فَمَوَالِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَبَيْتُ الْمَالِ إنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا.
وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَأَهْلُ إقْلِيمِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ثُمَّ يَضُمُّ الْأَقْرَبَ الَّذِي مِنْ كُوَرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّلْحِ فَأَهْلُ ذَلِكَ الصُّلْحِ. (التَّوْضِيحُ) : هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ شَاسٍ وَحَاصِلُهُ الْبَدْءُ، بِالْأَقْرَبِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَاجِعٌ إلَى اللُّغَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَوْثَرٍ وَابْنُ أَبِي جَمْرَاءَ فِي وَثَائِقِهِمَا عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّ حَدَّ الْعَاقِلَةِ سَبْعُمِائَةٍ يَنْتَمُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ. وَفِي الْبَيَانِ فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ إذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَلْفًا، فَهُمْ قَلِيلٌ وَيُضَمُّ لَهُمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ اهـ. وَإِلَى بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
تَحْمِلُهَا عَاقِلَةٌ لِلْقَاتِلِ ... وَهِيَ الْقَرَابَاتُ مِنْ الْقَبَائِلِ
ثُمَّ قَالَ فِي الْبَيْتِ الرَّابِعِ: يَدْفَعُهَا الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا ثَبَتَ الدَّمُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِاللَّوْثِ مَعَ الْقَسَامَةِ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ ثُبُوتُ قَتْلِهِ بِالْبَيِّنَةِ الْبَيْتَ.
وَأَمَّا إنْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِاعْتِرَافِ الْجَانِي، فَذَلِكَ فِي مَالِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّاظِمُ فِي الْبَيْتَيْنِ بَعْدَ هَذَا. (قَالَ فِي الرِّسَالَةِ) : وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ قَتْلَ عَمْدٍ وَلَا اعْتِرَافًا بِهِ. (ابْنُ شَاسٍ) : وَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْجَانِي حَمَلَهُ، وَلَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ لَهُ، وَتَكُونُ حَالَّةً. وَقَوْلُهُ: يَدْفَعُهَا الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى. رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَهِيَ الْقَرَابَاتُ مِنْ الْقَبَائِلِ. وَقَوْلُهُ: بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ. أَيْ مِنْ غَنِيٍّ وَدُونَهُ، فَيُوَظِّفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَلَا يَضْرِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ مَا يَضُرُّ بِمَالِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ الْغَنِيِّ بِقَدْرِهِ وَمِمَّنْ دُونَهُ بِقَدْرِهِ. اهـ ثُمَّ أَشَارَ إلَى شُرُوطِ مَنْ تُضْرَبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ مُوسِرٍ مُكَلَّفِ حُرٍّ ذَكَرْ
فَمَفْهُومُهُ أَنَّهَا لَا تُضْرَبُ عَلَى فَقِيرٍ وَلَا عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ وَلَا عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَلَا تُضْرَبُ عَلَى فَقِيرٍ وَلَا عَلَى مُخَالِفٍ فِي الدِّينِ، وَلَا عَلَى عَبْدٍ وَلَا عَلَى صَبِيٍّ وَلَا امْرَأَةٍ. اهـ
وَزَادَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ اللَّخْمِيِّ فِيمَنْ لَا تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْمَجْنُونَ وَالْغَارِمَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ مَا بِيَدِهِ، وَيَفْضُلُ لَهُ مَا يَكُونُ بِهِ فِي عِدَادِ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا شَيْءَ بِيَدِهِ فَهُوَ فَقِيرٌ. اهـ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:
مُوَافِقٍ فِي نِحْلَةٍ وَفِي مَقَرٍّ
إلَيَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تُضْرَبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ أَنْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ فِي النِّحْلَةِ أَيْ فِي الْمَنْحُولِ وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يُنْحَلُ وَيُعْطَى فِي الدِّيَةِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ كُلُّهُمْ أَصْحَابَ إبِلٍ، أَوْ كُلُّهُمْ أَصْحَابَ ذَهَبٍ، أَوْ كُلُّهُمْ أَصْحَابَ فِضَّةٍ أَيْ وَرِقٍ فَلَا يَدْخُلُ بَدْوِيٌّ ذُو إبِلٍ مَعَ حَضَرِيٍّ ذِي ذَهَبٍ، أَوْ وَرِقٍ وَكَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ بَلَدٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَدْخُلُ شَامِيٌّ مَثَلًا مَعَ مِصْرِيٍّ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ أَهْلَ ذَهَبٍ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَفِي مَقَرٍّ. أَيْ فِي مَوْضِعِ الْقَرَارِ وَالسُّكْنَى. وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ قَبِيلَةً وَاحِدَةً، وَعِبَارَةُ الشَّارِحِ: لِأَنَّ السَّاكِنَ بِمَحَلٍّ غَيْرِ مَحَلِّ الْقَاتِلِ لَا تَلْزَمُهُ. اهـ وَقَدْ جَمَعَ النَّاظِمُ بَيْنَ اشْتِرَاطِ الِاتِّفَاقِ فِي النِّحْلَةِ، وَفِي الْمَقَرِّ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الْمَقَرِّ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاتِّفَاقُ فِي النِّحْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِي النِّحْلَةِ الِاتِّفَاقُ فِي الْمَقَرِّ، كَالشَّامِيِّ وَالْمِصْرِيِّ مَعَ أَنَّهُمَا مَعًا أَهْلُ ذَهَبٍ، فَالِاتِّفَاقُ فِي الْمَقَرِّ كَافٍ عَنْ الِاتِّفَاقِ فِي النِّحْلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَلَا دُخُولَ لِلْبَدَوِيِّ مَعَ الْحَضَرِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ قَبِيلَةً عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ خِلَافًا لِأَشْهَبَ كَمَا لَا يَدْخُلُ أَهْلُ مِصْرَ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ. وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ وَيُعَدُّ كَالْمَعْدُومِ.
(التَّوْضِيحُ) : هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَلَّلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ فِي دِيَةٍ وَاحِدَةٍ إبِلٌ وَعَيْنٌ وَأَجَازَ ذَلِكَ أَشْهَبُ قَالَ: وَيُخْرِجُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ مَا يَلْزَمُهُمْ إبِلًا وَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ لَيْسَ مِنْهُمْ وَيُخْرِجُ أَهْلُ الْقُرَى حِصَّتَهُمْ عَيْنًا وَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ لَيْسَ مِنْهُمْ ا. هـ
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قُلْتُ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ جَنَى جِنَايَةً بِمِصْرَ وَلَيْسَ
(2/284)

بِمِصْرَ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ وَهُمْ بِالْعِرَاقِ أَوْ بِالْيَمَنِ كَيْفَ يَكُونُ عَقْلُ مَا جَنَاهُ مِنْ الْقَتْلِ فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ إذَا انْقَطَعَ الْبَدَوِيُّ إلَى الْحَضَرِ فَسَكَنَ الْحَضَرَ عُقِلَ مَعَ أَهْلِ الْحَضَرِ وَلَا يُعْقَلُ أَهْلُ الْحَضَرِ مَعَ أَهْلِ الْبَدْوِ وَلَا أَهْلُ الْبَدْوِ مَعَ أَهْلِ الْحَضَرِ وَلَا يُعْقَلُ أَهْلُ مِصْرَ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ وَلَا أَهْلُ الشَّامِ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ مَسْكَنُهُ مِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ مِصْرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمِصْرَ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ يَحْمِلُ جِنَايَةً ضُمَّ إلَيْهِ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَى قَوْمِهِ فَيَحْمِلُونَ جَرِيرَتَهُ.
ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ إنَّ الْبَدْوِيَّ لَا يَدْخُلُ مَعَ الْحَضَرِيِّ وَلَا الْحَضَرِيُّ مَعَ الْبَدَوِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ فِي دِيَةٍ وَاحِدَةٍ دِيَةُ إبِلٍ وَدَنَانِيرَ أَوْ إبِلٍ وَدَرَاهِمَ أَوْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ فَهُمْ أَجْنَادٌ قَدْ جُنِّدَتْ فَكُلُّ جُنْدٍ عَلَيْهِمْ جَرَائِرُهُمْ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَجْنَادِ. اهـ وَأَمَّا قَوْلُ النَّاظِمِ وَحُكْمُ تَنْجِيمٍ وَجَبَ فَأَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ أَيْ دِيَةَ الْخَطَأِ لَا تُعْطَى حَالَّةً بَلْ مُنَجَّمَةً فَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً فَتُنَجَّمُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ثُلُثُهَا آخِرَ كُلِّ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ لَا مِنْ يَوْمِ الْقَتْلِ وَلَا مِنْ يَوْمِ الْخِصَامِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْكَامِلَةِ فَقِيلَ: تَكُونُ حَالَّةً. وَالْمَشْهُورُ التَّنْجِيمُ فَالثُّلُثُ فِي سَنَةٍ كَمَا فِي الْجَائِفَةِ وَالثُّلُثَانِ فِي سَنَتَيْنِ كَمَا فِي جَائِفَةٍ وَآمَّةٍ.
وَأَمَّا إنْ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَالثُّلُثُ فِي سَنَةٍ وَالسُّدْسُ الْبَاقِي فِي سَنَةٍ أَيْضًا. وَكَذَا إنْ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فَلِلثُّلُثَيْنِ سَنَتَانِ وَلِنِصْفِ السُّدْسِ الْبَاقِي سَنَةٌ أَيْضًا. (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَالْمَشْهُورُ التَّنْجِيمُ بِالْأَثْلَاثِ وَلِلزَّائِدِ سَنَةٌ فَالنِّصْفُ وَالرُّبُعُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَفِي مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ وَنُجِّمَ فِي النِّصْفِ وَالثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِالتَّثْلِيثِ ثُمَّ لِلزَّائِدِ سَنَةٌ. وَإِنَّمَا أَخَّرْتُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهَا فَلَمْ يَصْلُحْ تَوْزِيعُ الْكَلَامِ الْمُرْتَبِطِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَوْنُهَا مِنْ مَالِ جَانٍ إنْ تَكُنْ ... أَقَلَّ مِنْ ثُلْثٍ بِذَا الْحُكْمُ حَسُنْ
كَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مُعْتَرِفِ ... تُؤْخَذُ أَوْ مِنْ عَامِدٍ مُكَلَّفِ
يَعْنِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ تُؤَدِّيهَا مُنَجَّمَةً إنَّمَا ذَلِكَ بِشُرُوطٍ (أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ إمَّا الدِّيَةُ كَامِلَةً أَوْ بَعْضُهَا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الْبَعْضُ ثُلُثَ الدِّيَةِ سَوَاءٌ بَلَغَ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ الْجَانِي عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا إذَا قَطَعَ مُسْلِمٌ إصْبَعَيْ مُسْلِمَةٍ فَذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَتِهَا لِأَنَّهَا تُسَاوِي الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهِ فَالْوَاجِبُ فِي أُصْبُعَيْهَا عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ.
وَالْعِشْرُونَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَتِهَا بِالْأَصَالَةِ الَّتِي هِيَ خَمْسُونَ، وَثُلُثُهَا سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ ثُلُثَ دِيَةِ أَحَدِهِمَا كَمَا لَوْ قَطَعَ لَهَا أُصْبُعًا وَاحِدَةً فَالْوَاجِبُ عَشْرٌ، وَتَكُونُ عَلَى الْجَانِي لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَحَالَّةً لَا مُنَجَّمَةً وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. (الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ ثَابِتَةً بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاللَّوْثِ وَالْقَسَامَةِ أَمَّا إنْ ثَبَتَتْ بِاعْتِرَافِ الْقَاتِلِ فَعَلَى الْجَانِي حَالَّةً أَيْضًا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ كَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مُعْتَرِفٍ تُؤْخَذُ. (الشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنَّ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ وَالْجَانِي عَاقِلٌ بَالِغٌ فَذَلِكَ حَالٌّ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: أَوْ مِنْ عَامِدٍ مُكَلَّفٍ وَاحْتَرَزَ بِالْمُكَلَّفِ مِنْ غَيْرِهِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ عَمْدَهُمَا كَالْخَطَأِ إلَّا أَنَّ النَّاظِمَ صَرَّحَ بِكَوْنِهَا فِي مَالِ الْجَانِي دُونَ الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهَا حَالَّةً غَيْرَ مُنَجَّمَةٍ، وَبِذَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ وَ (الْحُكْمُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (حَسُنَ) وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَوْنِ
(2/285)

وَفِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ مِنْ مَالِهِ ... أَوْ قِيمَةٌ كَالْإِرْثِ فِي اسْتِعْمَالِهِ
يَعْنِي أَنَّ مَنْ ضَرَبَ امْرَأَةً فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَأُمُّهُ حَيَّةٌ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ مِنْ مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَوْ قِيمَةُ الْغُرَّةِ وَيُوَرَّثُ ذَلِكَ عَنْ الْجَنِينِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْغُرَّةُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ مِنْ الْحُمْرِ عَلَى الْأَحْسَنِ أَوْ مِنْ وَسَطِ السُّودَانِ (التَّوْضِيحُ) الْحُمْرُ هُمْ الْبِيضُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثَتْ إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» (ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ) وَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا فِي سِنِّ الْغُرَّةِ حَدًّا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقَلُّهُ سَبْعُ سِنِينَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمَهْمَا بَذَلَ خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ غُرَّةً تُسَاوِي أَحَدَهُمَا وَجَبَ الْقَبُولُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَوْا.
(التَّوْضِيحُ) ظَاهِرُهُ وَتَخْيِيرُ الْجَانِي، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّخْمِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أَنَّ الْجَانِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَغْرَمَ الْغُرَّةَ أَوْ يَأْتِيَ بِعُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ مِنْ كَسْبِهِمْ إمَّا ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافُهُ ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَاسْتَشْكَلَ اللَّخْمِيُّ اشْتِرَاطَ أَنْ تَكُونَ الْغُرَّةُ تُسَاوِي هَذَا الْقَدْرَ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ الْغُرَّةُ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْقِيمَةُ، وَأَثْمَانُ الْعَبِيدِ تَخْتَلِفُ فِي الْبُلْدَانِ فَلَوْ وَجَبَتْ الْغُرَّةُ بِمَوْضِعٍ لَا يُسَاوِي ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ بِأَكْثَرَ. اهـ (وَفِي الْمُقَرَّبِ مَا مَعْنَاهُ) أَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ الْإِبِلِ وَلَا مِنْ الْعَيْنِ قَالَ: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَتْ الْخَمْسُونَ دِينَارًا فِي الْغُرَّةِ وَلَا السِّتُّمِائَةِ الدِّرْهَمِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ. اهـ
(2/286)

وَهَذَا إذَا كَانَ الْجَنِينُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ لِكَوْنِ أَبِيهِ مُسْلِمًا وَكَانَ حُرًّا لِكَوْنِ أُمِّهِ حُرَّةً سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ضُرِبَتْ أُمُّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَكَذَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ وَيَجِبُ فِي جَنِينِ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ جَنِينِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ جَنِينِ الْمَجُوسِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَفِي جَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ وَقِيلَ مَا نَقَصَهَا. (التَّوْضِيحُ) الْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَلَا الْتِفَاتَ إلَى حُرِّيَّةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأُمِّهِ فِي الرِّقِّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِابْنِ وَهْبٍ.
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغُرَّةُ الْجَنِينِ مُشْتَرَطَةٌ بِانْفِصَالِهِ مَيِّتًا قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. (التَّوْضِيحُ) : اُتُّفِقَ عَلَى وُجُوبِ الْغُرَّةِ إذَا انْفَصَلَ فِي حَيَاةِ أُمِّهِ وَاخْتُلِفَ إذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْمَشْهُورُ لَا غُرَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَعُضْوٍ مِنْ الْمَيِّتَةِ. وَالشَّاذُّ لِأَشْهَبَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ. اهـ وَقَوْلُهُ فِي التَّوْضِيحِ: فِي حَيَاةِ أُمِّهِ أَوْ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا. يُرِيدُ مَيِّتًا فِي الْوَجْهَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) الْمُرَادُ بِالْجَنِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَلَدٌ مُضْغَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : هَذَا الْبَابُ وَمَا تَكُونُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ وَمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَاحِدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الدَّمِ الْمُجْتَمِعِ الَّذِي لَا يَذُوبُ بِالْمَاءِ السُّخْنِ. (الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِذَا تَعَدَّدَ الْجَنِينُ تَعَدَّدَ الْوَاجِبُ مِنْ غُرَّةٍ وَدِيَةٍ. (التَّوْضِيحُ) مِنْ غُرَّةٍ يَعْنِي إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ وَدِيَةٍ إنْ اسْتَهَلَّ
وَغُلِّظَتْ فَثُلِّثَتْ فِي الْإِبِلِ ... وَقُوِّمَتْ لِلْعَيْنِ فِي الْقَوْلِ الْجَلِيِّ
وَهُوَ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ... يَخْتَصُّ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ
تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ أَنَّ الضَّرْبَ إمَّا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ: إنْ ضَرَبَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الضَّرْبُ مِنْ زَوْجٍ وَمُؤَدِّبٍ وَأَبٍ لَيْسَ هُوَ عَمْدًا وَإِنَّمَا هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَقَالَ: شِبْهُ الْعَمْدِ بَاطِلٌ لَا أَعْرِفُهُ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ. وَعَلَى ثُبُوتِهِ فَفِيهِ طَرِيقَتَانِ طَرِيقَةُ الْبَاجِيِّ تَحْكِي الِاتِّفَاقَ أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِيهِ، وَطَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ تَحْكِي ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ قِيلَ: هُوَ عَمْدٌ وَقِيلَ: خَطَأٌ. ثَالِثُهَا هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ لَا عَمْدٌ حَقِيقَةً فَتُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ. (وَفِي التَّوْضِيحِ) : لَمْ يُنْكِرْ مَالِكٌ شِبْهَ الْعَمْدِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ بَلْ أَنْكَرَهُ فِيمَا عَدَا الْأَبَ وَحَكَى الْعِرَاقِيُّونَ إثْبَاتَهُ فِيمَا عَدَا الْأَبَ أَيْضًا. (الْبَاجِيُّ) وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْأَبِ (اللَّخْمِيُّ) وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْقَتْلُ بِغَيْرِ آلَةِ الْقَتْلِ كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْبُنْدُقَةِ وَاللَّطْمَةِ وَالْوَكْزَةِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِآلَةٍ لِلْقَتْلِ لَكِنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ كَفِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِوَلَدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ كَمُعَلِّمِ الثِّقَافِ وَالطَّبِيبِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ يُرَادُ بِهَا الْقَتْلُ وَيَتَقَدَّمُهُ بِسَاطٌ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلَ كَالْمُتَصَارَعِينَ وَالْمُتَلَاعَبِينَ. اهـ وَعَلَى تَغْلِيظِ الدِّيَةِ عَلَى مَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ تَكَلَّمَ النَّاظِمُ هُنَا فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ إذَا ضَرَبَ وَلَدَهُ بِحَدِيدَةٍ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا بِدَلِيلِ أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْقَاتِلَ كَذَلِكَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ. ابْنُ الْحَاجِبِ: وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي الْعَمْدِ الَّذِي لَا يَقْتُلُونَ بِهِ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ بِحَدِيدَةٍ وَشَبَهِهَا وَهُوَ عَمْدٌ وَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ مِنْ مَالِهِ وَيُقْتَلُ غَيْرُهُمْ كَفِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ.
(قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : جَمَعَ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ لِتَدْخُلَ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَعْمَامِ وَنَحْوِهِمْ. اهـ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ إلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ لِلْأَبِ كَالْأَبِ وَفِي كَوْنِهِمَا مِنْ الْأُمِّ كَالْأُمِّ أَوْ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ اهـ وَقَالَ قَبْلَهُ: وَلِلْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ أَثَرٌ فِي الدَّرْءِ بِاحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ إذَا ادَّعَيَا عَدَمَ الْقَصْدِ كَمَا لَوْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ وَادَّعَى أَدَبَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ شَرَكَهُ أَحَدٌ فِي قَتْلٍ، أَمَّا لَوْ قَتَلَ مَعَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ اُقْتُصَّ مِنْهُ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ بَطْنَهُ أَوْ حَزَّ يَدَهُ فَقَطَعَهَا أَوْ وَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي عَيْنِهِ فَأَخْرَجَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَرَفَ بِالْقَصْدِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِابْنِهِ بِحَالٍ. (التَّوْضِيحُ) وَأَشَارَ بِقِصَّةِ الْمُدْلِجِيِّ إلَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
(2/287)

أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنُزِيَ فِي جُرْحِهِ فَمَاتَ فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ اُعْدُدْ لِي عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً ثُمَّ قَالَ: أَيْن أَخُو الْمَقْتُولِ؟ قَالَ هَا أَنَا. قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» . اهـ (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَتَغْلِيظُهَا بِالتَّثْلِيثِ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَإِلَى كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
وَغُلِّظَتْ فَثُلِّثَتْ فِي الْإِبِلِ
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَقُوِّمَتْ لِلْعَيْنِ فِي الْقَوْلِ الْجَلِيّ
إلَى أَنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ أَيْضًا إذَا كَانَتْ عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً عَلَى الْقَوْلِ الْجَلِيّ الظَّاهِرِ.
وَتَغْلِيظُهَا هُوَ بِتَقْوِيمِ دِيَةِ الْإِبِلِ الْمُخَمَّسَةِ وَالْمُرَبَّعَةِ أَوْ الْمُثَلَّثَةِ فَمَا كَانَ مِنْ خُمُسٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أُخِذَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ الْأَلْفِ دِينَارٍ أَوْ مِنْ الِاثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَيُزَادُ عَلَيْهِ وَالْمَجْمُوعُ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ غُلِّظَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. فَإِذَا قُوِّمَتْ الْمُثَلَّثَةُ بِمِائَةٍ وَالْمُخَمَّسَةُ أَوْ الْمُرَبَّعَةُ بِثَمَانِينَ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا بِالْخُمُسِ فَيُزَادُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ خُمُسُهَا وَعَلَى الِاثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ خُمُسُهَا وَيَلْزَمُ الْمَجْمُوعُ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَتُغَلَّظُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَتُقَوَّمُ الدِّيَتَانِ وَيُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَهُمَا. اهـ فَقَوْلُ النَّاظِمِ وَقُوِّمَتْ لِلْعَيْنِ أَيْ وَقُوِّمَتْ دِيَةُ الْإِبِلِ مُغَلَّظَةً لِأَجْلِ تَغْلِيظِهَا فِي الْعَيْنِ إذْ بِالتَّقْوِيمِ وَمَعْرِفَةِ الْجُزْءِ الَّذِي بَيْنَ الْمُغَلَّظَةِ وَغَيْرِهَا يُعْرَفُ مَا يُزَادُ عَلَى دِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَضَمِيرُ هُوَ لِلتَّغْلِيظِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ يَخْتَصُّ. وَبِالْآبَاءِ يَتَعَلَّقُ بِيَخْتَصُّ، وَالْأَجْدَادُ عَطْفٌ عَلَى الْآبَاءِ. (فَرْعٌ) الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا مُنَجَّمَةً
وَيَحْلِفُ الذُّكُورُ كَالْإِنَاثِ ... بِنِسْبَةِ الْحُظُوظِ فِي الْمِيرَاثِ
وَإِنْ يَمِينٌ عِنْدَ ذَا تَنْكَسِرُ ... يَحْلِفُهَا مَنْ حَظُّهُ مُوَفَّرُ
وَوَاحِدٌ يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّفَا ... حَيْثُ انْفِرَادُهُ بِمَا تَخَلَّفَا
وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ طَرًّا تُعْتَمَدْ ... بِحَيْثُمَا يَسْقُطُ بِالشَّرْعِ الْقَوَدْ
يَعْنِي أَنَّهُ إذَا وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ فِي الْخَطَأِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُهَا مَنْ يَرِثُ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا يَرِثُ فَمَنْ وَرِثَ ثُمُنًا كَانَ عَلَيْهِ ثُمُنُ الْأَيْمَانِ وَمَنْ وَرِثَ سُدُسًا كَانَ عَلَيْهِ سُدُسُ الْأَيْمَانِ وَعَلَى هَذَا فَقِسْ. فَإِنْ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمْ يَمِينٌ حَلَفَهَا أَكْثَرُهُمْ نَصِيبًا مِنْهَا فَإِنْ انْفَرَدَ الْوَارِثُ كَابْنٍ، حَلَفَ الْخَمْسِينَ. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ جَمِيعُهَا هِيَ فِي الْخَطَأِ لَا فِي الْعَمْدِ، وَعَنْ الْخَطَأِ عَبَّرَ بِمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيهِ بِالشَّرْعِ وَأَمَّا الْعَمْدُ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الْعَصَبَةِ وَلَا يَحْلِفُ فِيهِ وَاحِدٌ وَلَا امْرَأَةٌ. (ابْنُ الْحَاجِبِ) .
وَالْقَسَامَةُ أَنْ يَحْلِفَ الْوَارِثُونَ الْمُكَلَّفُونَ فِي الْخَطَأِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى خَمْسِينَ يَمِينًا مُتَوَالِيَةً عَلَى الْبَتِّ، وَلَوْ كَانَ أَعْمَى أَوْ غَائِبًا، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى ذِي الْأَكْثَرِ مِنْ الْكَسْرِ، وَقِيلَ: عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا لَوْ تَسَاوَى الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ. اهـ وَمِثَالُ انْكِسَارِ الْيَمِينِ وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرُ نَصِيبًا مِنْهَا الْمُشَارُ لَهُ بِقَوْلِ النَّاظِمِ: مَنْ حَظُّهُ مُوَفَّرٌ وَبِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى ذِي الْأَكْثَرِ مِنْ الْكَسْرِ كَمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ ابْنًا وَابْنَةً فَيَحْلِفُ الِابْنُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَتَحْلِفُ الْبِنْتُ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهَا نَابَهَا مِنْ الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ ثُلُثَاهَا وَذَلِكَ أَنَّكَ إذَا قَسَّمْتَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا عَلَى ثَلَاثَةٍ خَرَجَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيَجْتَمِعُ لِلِابْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَالْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا إذَا انْكَسَرَتْ الْيَمِينُ عَلَى السَّوَاءِ كَثَلَاثَةِ بَنِينَ فَإِنَّهَا تُكَمَّلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ سَبْعَةَ عَشَرَ.
(وَفِي الْمُقَرَّبِ) قُلْتُ: وَكَيْفَ يَحْلِفُ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ؟ قَالَ: عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَيُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا يُقْسِمْنَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. قُلْتُ: فَلَوْ أَنَّ قَتِيلًا خَطَأً لَمْ يَدَعْ إلَّا ابْنَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ؟ قَالَ: تَحْلِفُ الِابْنَةُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ عَصَبَةٌ حَلَفَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا وَحَلَفَ الْعَصَبَةُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ. وَإِنْ نَكَلَ الْعَصَبَةُ لَمْ تَأْخُذْ الِابْنَةُ مِيرَاثَهَا حَتَّى تَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُسْتَحَقُّ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ يَمِينًا. قُلْتُ:
(2/288)

فَلَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ ابْنَةٌ حَاضِرَةٌ وَابْنٌ غَائِبٌ بَعِيدُ الْغَيْبَةِ فَقَالَتْ الِابْنَةُ: أَنَا أَحْلِفُ وَآخُذُ حَقِّي. فَقَالَ: إنْ حَلَفْتِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَخَذْت ثُلُثَ الدِّيَةِ وَإِنْ قَدِمَ الْأَخُ حَلَفَ ثُلُثَيْ الْأَيْمَانِ وَأَخَذَ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ.
وَسُوِّغَتْ قَسَامَةُ الْوُلَاةِ ... فِي غَيْبَةِ الْجَانِي عَلَى الصِّفَاتِ
وَيُنْفِذُ الْقِصَاصَ إنْ بِهِ ظُفِرْ ... إقْرَارٌ أَوْ وِفَاقُ مَا مِنْهَا ذُكِرْ
(قَالَ الشَّارِحُ) : يُسَوَّغُ أَنْ يُقْسِمَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ فِي غَيْبَةِ الْقَاتِلِ عَلَى صِفَاتِهِ وَيُنْفِذُ الْقِصَاصَ وَإِنْ ظُفِرَ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إقْرَارُهُ أَنَّهُ هُوَ أَوْ وِفَاقُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا لِمَا ذُكِرَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا. اهـ وَعَلَى الصِّفَاتِ يَتَعَلَّقُ بِقَسَامَةٍ " وَالْقِصَاصَ " مَفْعُولُ يُنْفِذُ وَضَمِيرُ بِهِ لِلْجَانِي وَإِقْرَارٌ فَاعِلُ يُنْفِذُ وَضَمِيرُ مِنْهَا لِلصِّفَاتِ

[فَصْلٌ فِي الْجِرَاحَاتِ]
ِ
جُلُّ الْجُرُوحِ عَمْدُهَا فِيهِ الْقَوَدْ ... وَدِيَةٌ مَعْ خَطَرٍ فِيهَا فُقِدْ
وَفِي جِرَاحِ الْخَطَأِ الْحُكُومَهْ ... وَخَمْسَةٌ دِيَتُهَا مَعْلُومَهْ
فَنِصْفُ عُشْرِ دِيَةٍ فِي الْمُوضِحَةِ ... وَهِيَ الَّتِي تُلْغَى لِعَظْمٍ مُوضِحَهْ
فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ كَذَا الْمُنَقِّلَةُ ... عُشْرٌ بِهَا وَنِصْفُ عُشْرٍ مُعَدِّلَهْ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقًا وَهِيَ الَّتِي ... كَسْرَ فِرَاشِ الْعَظْمِ قَدْ تَوَلَّتْ
وَعُشُرٌ وَنِصْفُهُ فِي الْهَاشِمَهْ ... وَهِيَ لِعَظْمِ الرَّأْسِ تُلْفَى هَاشِمَهْ
وَقِيلَ نِصْفُ الْعُشْرِ أَوْ حُكُومَهْ ... وَثُلُثُ الدِّيَةِ فِي الْمَأْمُومَهْ
وَمَا انْتَهَتْ لِلْجَوْفِ وَهِيَ الْجَائِفَهْ ... كَذَاكَ وَالْأُولَى الدِّمَاغَ كَاشِفَهْ
وَلِاجْتِهَادِ حَاكِمٍ مَوْكُولُ ... فِي غَيْرِهَا التَّأْدِيبُ وَالتَّنْكِيلُ
وَجَعَلُوا الْحُكُومَةَ التَّقْوِيمَا ... فِي كَوْنِهِ مَعِيبًا أَوْ سَلِيمًا
وَمَا تَزِيدُ حَالَةُ السَّلَامَهْ ... يَأْخُذُهُ أَرْشًا وَلَا مَلَامَهْ
الْجِرَاحَاتُ جَمْعُ جِرَاحَةٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى جِرَاحٍ. يُقَالُ: جَرَحَهُ وَالِاسْمُ الْجُرْحُ بِالضَّمِّ وَالْجَمْعُ جُرُوحٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَلَمْ يَقُولُوا: أَجْرَاحٌ إلَّا عَلَى مَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُفْرَدَ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا: جِرَاحَةٌ بِالْكَسْرِ وَالْهَاءِ فِي آخِرِهِ وَلَهُ جَمْعَانِ جِرَاحَاتٌ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَجِرَاحٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْضًا بِوَزْنِ كِتَابٍ وَاللَّفْظُ الثَّانِي جُرْحٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَجَمْعُهُ: جُرُوحٌ. (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) الْمُتَبَادَرُ فِي الِاصْطِلَاحِ أَنَّ الْجُرُوحَ كُلُّ مَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] اهـ.
(وَاعْلَمْ) أَنَّ الْجُرُوحَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَمَا كَانَ مِنْهَا عَمْدًا فَجُلُّهُ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَوَدِ يَعْنِي أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَبَعْضُهُ إنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ فَقَطْ أَيْ شَيْءٌ قَدَّرَهُ الشَّارِعُ إمَّا مَعْلُومٌ
(2/289)

كَثُلُثِ الدِّيَةِ فِي الْجَائِفَةِ مَثَلًا أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْحُكُومَةُ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ إذَا بَرَأَ عَلَى شَيْنٍ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ الشَّارِحِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ مَا فِيهِ خَطَرٌ وَغَرَرٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَا لَا خَطَرَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ. ثُمَّ جِرَاحُ الْعَمْدِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الرَّأْسِ أَوْ فِيمَا عَدَاهُ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِجِرَاحِ الْجَسَدِ، فَجِرَاحُ الرَّأْسِ يُقْتَصُّ فِيهَا مِنْ سَبْعٍ وَهِيَ الْمُوضِحَةُ وَهِيَ مَا أَفْضَى إلَى الْعَظْمِ مِنْ الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ مَدْخَلِ إبْرَةٍ.
وَكَذَا مَا قَبْلَهَا مِنْ الدَّامِيَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ وَالْحَارِصَةِ وَهِيَ الَّتِي تُشَقِّقُ الْجِلْدَ وَالسِّمْحَاقِ وَهِيَ الْكَاشِطُ لِلْجِلْدِ وَالْبَاضِعَةِ وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ أَيْ تَشُقُّهُ وَالْمُتَلَاحِمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْمِلْطَاةِ وَهِيَ الَّتِي يَبْقَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ سِتْرٌ رَقِيقٌ، فَالْوَاجِبُ فِي هَذِهِ السَّبْعِ الْقِصَاصُ أَوْ مَا يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَلَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ مِنْ جِرَاحِ الرَّأْسِ. وَذَلِكَ أَرْبَعٌ: الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ، وَالْمُنَقِّلَةُ وَهِيَ الَّتِي أَطَارَتْ فِرَاشَ الْعَظْمِ وَإِنْ صَغُرَ، وَالْآمَّةُ وَهِيَ مَا أَفْضَى إلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ بِقَدْرِ مَدْخَلِ إبْرَةٍ وَالدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ.
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ يَسْقُطُ ذِكْرُ الْهَاشِمَةِ لِأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَصِيرَ مُنَقِّلَةً عِنْدَهُ وَالْمُنَقِّلَةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَحُكِيَ فِيهَا الْفَتْحُ وَفِرَاشُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَيُقَالُ لَلْآمَّةِ الْمَأْمُومَةُ أَيْضًا وَبَعْدَ كَوْنِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ لَا قِصَاصَ فِيهَا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فَفِي الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةُ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَلَمْ أَقِفْ الْآنَ عَلَى مَا يَجِبُ فِي الدَّامِغَةِ عَمْدًا وَلَعَلَّ سُكُوتَهُمْ عَنْهَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَرْزُوقٍ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّلْقِينِ أَنَّ الدَّامِغَةَ مُرَادِفَةٌ لِلْمَأْمُومَةِ فَيَكُونُ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ جِرَاحَ الرَّأْسِ إحْدَى عَشَرَةَ سَبْعَةٌ فِيهَا الْقِصَاصُ يَعْنِي أَوْ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ وَيَجِبُ الْأَدَبُ، اُقْتُصَّ مِنْهَا أَوْ لَا وَأَرْبَعَةٌ لَا قِصَاصَ فِيهَا وَإِنَّمَا فِيهَا مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى هَذَا فَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي عَمْدِهَا وَهُوَ مَا ذُكِرَ الْآنَ هُوَ الْوَاجِبُ فِي خَطَئِهَا أَيْضًا كَمَا يَأْتِي لِلنَّاظِمِ قَرِيبًا إلَّا فِي الْأَدَبِ، فَإِنَّ الْمُتَعَمِّدَ يُؤَدَّبُ اُقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ لَا دُونَ الْمُخْطِئِ وَلَوْ بَرِئَتْ، هَذِهِ الْأَرْبَعُ عَلَى شَيْنٍ وَعَيْبٍ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ فِيهَا. اهـ (ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَلَوْ كَانَ أَرْشُ الْجِرَاحِ مُقَدَّرًا انْدَرَجَ الشَّيْنُ وَفِي شَيْنِ الْمُوضِحَةِ قَوْلَانِ. اهـ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى انْدِرَاجِ شَيْنِ الْمُوضِحَةِ كَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ وَإِنْ بِشَيْنٍ فِيهِنَّ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ قَالَ مَالِكٌ مَا عَلِمْتُ أَجْرَ الطَّبِيبِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ. (وَفِي التَّوْضِيحِ) عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ يَرَوْنَ الْقَضَاءَ بِأَجْرِ الطَّبِيبِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ.
وَأَمَّا جِرَاحُ الْجَسَدِ عَمْدًا مِنْ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَغَيْرِهِمَا كَالظُّفْرِ وَالْعَضُدِ وَالتَّرْقُوَةِ عِيَاضٌ: هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ عَظْمٌ أَعْلَى الصَّدْرِ الْمُتَّصِلِ بِالْعُنُقِ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْظُمَ الْخَطَرُ، فَإِنْ عَظُمَ كَعِظَامِ أَعْلَى الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَالْفَخِذِ وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ إنْ كَانَ مَخُوفًا فَلَا قِصَاصَ. قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَكَذَا لَا قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ وَلَوْ عَمْدًا وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْبَطْنِ أَوْ مِنْ الظَّهْرِ وَلَوْ بِقَدْرِ مَدْخَلِ إبْرَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ كَمَا فِي الْخَطَأِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَيُقْتَصُّ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالسِّنِّ وَالذَّكَرِ وَالْأَجْفَانِ وَالشَّفَتَيْنِ وَفِي اللِّسَانِ رِوَايَتَانِ. وَفِيهَا إنْ كَانَ مُتْلِفًا لَمْ يُقَدْ مِنْهُ، وَفِيهَا فِي الْأُنْثَيَيْنِ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا وَلَا أَدْرِي مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ؟ وَبَعْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ يُنْظَرُ فَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ إلَّا الْأَدَبُ وَإِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ فَفِيهِ الْأَدَبُ وَالْحُكُومَةُ مَعًا إلَّا الْجَائِفَةَ فَلَا يُزَادُ فِيهَا عَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ. وَلَوْ بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ، وَهُوَ الْعَيْبُ. وَالْحُكُومَةُ (قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَمَعْنَى الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا سَالِمًا بِعَشَرَةٍ مَثَلًا ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعَ الْجِنَايَةِ بِتِسْعَةٍ، وَالتَّفَاوُتُ عَشَرَةٌ فَيَجِبُ عُشْرُ الدِّيَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ فَلَا شَيْءَ. اهـ وَسَيَأْتِي هَذَا لِلنَّاظِمِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الْعَمْدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا جِرَاحُ الْخَطَأِ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَا أَدَبَ وَلَا إشْكَالَ ثُمَّ هِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ، خَمْسَةٌ مِنْهَا فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فَفِي الْمُوضِحَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي
(2/290)

الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا وَفِي الْهَاشِمَةِ كَذَلِكَ وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَكَذَا فِي الْجَائِفَةِ وَمَا عَدَا هَذِهِ الْخَمْسَ إنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَمَا بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ وَعَيْبٍ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ، وَهِيَ تَقْدِيرُهُ عَبْدًا فَرْضًا وَتَقْدِيرًا وَيُقَوَّمُ سَالِمًا وَمَعِيبًا وَتُحْفَظُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَتِلْكَ النِّسْبَةُ هِيَ اللَّازِمَةُ لِلْجَانِي مِنْ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
وَفِي جِرَاحِ الْخَطَأِ الْحُكُومَهْ ... وَخَمْسَةٌ دِيَتُهَا مَعْلُومَهْ
أَيْ وَخَمْسَةٌ مِنْ جِرَاحِ الْخَطَأِ دِيَتُهَا أَيْ الْوَاجِبُ فِيهَا مَعْلُومٌ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ فَسَّرَهَا وَذَكَرَ مَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَقَالَ: وَنِصْفُ عُشْرِ دِيَةٍ فِي الْمُوضِحَةِ إلَخْ فَالْمُوضِحَةُ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِلْجُرْحِ وَمُوضِحَةُ آخِرِ الْبَيْتِ فَاعِلٌ مُؤَنَّثٌ أَيْ مُبِينَةٌ وَكَاشِفَةٌ لِعَظْمِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ. زَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالشَّيْخُ خَلِيلٌ وَالْجَبْهَةِ. وَقَوْلُهُ: كَذَا الْمُنَقِّلَةُ عُشْرٌ بِهَا يَصِحُّ أَنْ يُقْرَأَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ تَخْفِيفًا مِنْ ضَمٍّ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشْرٍ وَيَصِحُّ فَتْحُ الْعَيْنِ ضِعْفُ خَمْسَةٍ، وَكَذَا يَجُوزُ الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ نِصْفُ عُشْرٍ إلَّا أَنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا يَجْرِيَانِ فِي دِيَةِ الْإِبِلِ وَأَمَّا دِيَةُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِمَا إلَّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالشِّينِ، إلَّا أَنْ تُخَفَّفَ الشِّينُ بِالسُّكُونِ لِلْوَزْنِ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِيَجْرِيَ فِي الْجَمِيعِ.
وَقَوْلُهُ مُعَدِّلَهْ. أَيْ أَنَّ الْعُشْرَ وَنِصْفَ الْعُشْرِ يَعْدِلُ جُرْحَ الْمُنَقِّلَةِ وَيُسَاوِي جِنَايَتَهَا، وَيَعْنِي بِالْمَوْضِعَيْنِ الرَّأْسَ وَالْجَبْهَةَ، وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ يَجِبُ فِيهَا، وَلَوْ صَغُرَتْ جِدًّا كَإِبْرَةٍ. (قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) : وَالْمُوضِحَةُ مَا أَفْضَى إلَى الْعَظْمِ وَلَوْ بِقَدْرِ إبْرَةٍ، وَكَسْرَ مَفْعُولُ تَوَلَّتْ وَالْهَاشِمَةُ الْأُولَى فِي الْبَيْتِ اسْمٌ لِلْجُرْحِ وَهَاشِمَةٌ الثَّانِيَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ هَشَمَ إذَا كَسَرَ كَسْرًا بَلِيغًا ثُمَّ أَفَادَ أَنَّ فِي الْهَاشِمَةِ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا نِصْفُ الْعُشْرِ. الثَّانِي: الْحُكُومَةُ لَا غَيْرُ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورُهَا الْأَوَّلُ. وَقَوْلُهُ: وَمَا انْتَهَتْ لِلْجَوْفِ أَيْ وَصَلَتْ إلَيْهِ يَعْنِي إمَّا مِنْ الْبَطْنِ أَوْ مِنْ الظَّهْرِ وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَانْتَهَتْ صِلَتُهَا وَكَذَاكَ خَبَرُ مَا أَيْ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةُ وَجُمْلَةُ وَهِيَ الْجَائِفَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ.
وَقَوْلُهُ: الْأُولَى أَيْ الْمَأْمُومَةُ مُبْتَدَأٌ وَكَاشِفَةٌ خَبَرُهُ وَالدِّمَاغَ مَفْعُولُ كَاشِفَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ فِي جِرَاحِ الرَّأْسِ مَا عَدَا الْجَائِفَةَ. وَقَوْلُهُ:
وَلِاجْتِهَادِ حَاكِمٍ مَوْكُولٌ ... فِي غَيْرِهَا التَّأْدِيبُ وَالتَّنْكِيلُ
يَعْنِي أَنَّ التَّأْدِيبَ وَالتَّنْكِيلَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ بِقَدْرِ عِظَمِ الْجِنَايَةِ وَخِفَّتِهَا وَاعْتِيَادِ الْجَانِي لِذَلِكَ وَوُقُوعِهِ فَلْتَةً. وَضَمِيرُ وَغَيْرِهَا الْجِرَاحُ الْخَطَأُ وَغَيْرِهَا هِيَ جِرَاحُ الْعَمْدِ فَالْأَدَبُ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَمْدِ لَا فِي الْخَطَأِ. (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: لَا بُدَّ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ مِنْ تَأْدِيبِ الْقَاضِي لِلْجَارِحِ اُقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ لَمْ يُقْتَصَّ. اهـ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلُوا الْحُكُومَةَ إلَخْ. لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْحُكُومَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَفِي جِرَاحِ الْخَطَأِ الْحُكُومَهْ
احْتَاجَ إلَى بَيَانِهَا فَذَكَرَهُ فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَالتَّقْوِيمَ مَفْعُولٌ لِجَعَلَ، وَفِي كَوْنِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ " وَحَالَةُ " فَاعِلُ " تَزِيدُ " أَيْ عَلَى حَالَةِ الْعَيْبِ يَأْخُذُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ الْجَانِي حَالَةَ كَوْنِهِ أَرْشًا لِجُرْحِهِ.
وَلَفْظُهُ فِي الْمَنْهَجِ السَّالِكِ: فَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ جُعِلَ جُزْءًا مِنْ دِيَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. اهـ قَالَ الشَّارِحُ: وَلَوْ قَالَ:
يَأْخُذُهُ أَرْشًا لِمَا قَدْ ذَامَهْ
لَكَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً؛ لِأَنَّ (ذَامَهْ) مُرَادِفٌ لِ (عَابَهُ) .
وَتَثْبُتُ الْجِرَاحُ لِلْمَالِ بِمَا ... يَثْبُتُ مَالِيُّ الْحُقُوقِ فَاعْلَمَا
وَفِي ادِّعَاءِ الْعَفْوِ مِنْ وَلِيِّ دَمْ ... أَوْ مِنْ جَرِيحٍ الْيَمِينُ تُلْتَزَمْ
اشْتَمَلَ الْبَيْتَانِ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: (الْأُولَى) أَنَّ الْجِرَاحَ تَثْبُتُ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ وَهُوَ عَدْلٌ أَوْ عَدْلٌ وَيَمِينٌ أَوْ امْرَأَتَانِ وَيَمِينٌ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : قُلْتُ: فَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَجِرَاحَاتِ الْخَطَأِ أَتَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدْنَ مَعَ رَجُلٍ عَلَى مُنَقِّلَةٍ عَمْدًا أَوْ مَأْمُومَةٍ عَمْدًا جَازَتْ شَهَادَتُهُنَّ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَةَ وَالْمُنَقِّلَةَ لَا قَوَدَ فِيهِمَا وَإِنَّمَا فِيهِمَا الدِّيَةُ. اهـ
وَعَلَّلَ النَّاظِمُ ثُبُوتَ الْجِرَاحِ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ بِكَوْنِ الْوَاجِبِ فِيهَا مَالًا؛ لِقَوْلِهِ: لِلْمَالِ. فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ يَتَعَلَّقُ بِ (تَثْبُتُ) وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ جِرَاحُ الْعَمْدِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ
(2/291)

مَعَ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى مَا اسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَوْ أَسْقَطَ النَّاظِمُ قَوْلَهُ: لِلْمَالِ. لَكَانَ أَشْمَلَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) : وَلَا قَسَامَةَ فِي الْجُرْحِ وَلَكِنْ مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَدْلًا عَلَى جُرْحٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلْيَحْلِفْ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً يَقْتَصُّ فِي الْعَمْدِ وَيَأْخُذُ الْعَقْلَ فِي الْخَطَأِ. قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ لِمَ قَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ مَالِكًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ لَشَيْءٌ اسْتَحْسَنَّاهُ وَمَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا. اهـ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَيْتَانِ، وَإِلَيْهَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا ادَّعَى عَلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَيَبْقَى عَلَى حَقِّهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْلِبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي لِلْعَفْوِ فَيَحْلِفُ وَيَبْرَأُ. (قَالَ فِي الْمُقَرَّبِ) : فَإِنْ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ عَفَا عَنْهُ، أَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْقَاتِلِ. اهـ وَلَمْ يَنْقُلْ الشَّارِحُ فِقْهًا عَلَى دَعْوَى الْجَارِحِ عَلَى الْمَجْرُوحِ الْعَفْوَ عَنْهُ، وَهُوَ فِي النَّظْمِ صَرِيحًا. وَقَوْلُهُ: أَوْ مِنْ جَرِيحٍ عَطْفٌ عَلَى وَلِيٍّ.
(تَنْبِيهٌ) اُسْتُشْكِلَ تَوَجُّهُ الْيَمِينِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَئُولُ إلَى الْمَالِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ الْيَمِينُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى بَلْ إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا فَحِينَئِذٍ تَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ وَالْعَبْدِ الْعِتْقَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ دَعْوَى الْعَفْوِ مِنْ دَعْوَى التَّبَرُّعِ، وَقَدْ قَدَّمَ النَّاظِمُ فِيهَا فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنَّ دَعْوَى التَّبَرُّعِ لَا تُوجِبُ يَمِينًا إلَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ تَحْتَ يَدِ الْمُدَّعِي، أَوْ فِي دَعْوَى الْإِقَالَةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَتَّابٍ (وَأُجِيبَ) عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ احْتِيَاطًا إذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيُّ عَفَا ثُمَّ بَدَا لَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ فَاحْتِيطَ بِالْيَمِينِ لِعِظَمِ أَمْنِ النَّفْسِ. (قُلْتُ) : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ ادَّعَى التَّبَرُّعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ تَحْتَ يَدِهِ، كَمَا قَالَ النَّاظِمُ فِي بَابِ الْيَمِينِ:
أَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْمُدَّعِي.
وَقَوَدٌ فِي الْقَطْعِ لِلْأَعْضَاءِ ... فِي الْعَمْدِ مَا لَمْ يُفْضِ لِلْفَنَاءِ
وَالْخَطَأُ الدِّيَةُ فِيهِ تُقْتَفَى ... بِحَسَبِ الْعُضْوِ الَّذِي قَدْ أُتْلِفَا
وَدِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الْمُزْدَوِجْ ... وَنِصْفُهَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُ انْتُهِجْ
وَفِي اللِّسَانِ كَمُلَتْ وَالذَّكَرِ ... وَالْأَنْفِ وَالْعَقْلِ وَعَيْنِ الْأَعْوَرِ
وَفِي الْإِزَالَةِ لِسَمْعٍ أَوْ بَصَرْ ... وَالنِّصْفُ فِي النِّصْفِ وَشَمٌّ كَالنَّظَرْ
وَالنُّطْقُ وَالصَّوْتُ كَذَا الذَّوْقُ وَفِي ... إذْهَابِ قُوَّةِ الْجِمَاعِ ذَا اُقْتُفِيَ
وَكُلُّ سِنٍّ فِيهِ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلْ ... خَمْسٌ وَفِي الْأُصْبُعِ ضِعْفُهَا جُعِلْ
تَكَلَّمَ فِي الْأَبْيَاتِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَتَالِفِ.
وَعَنْ ذَلِكَ عَبَّرَ بِيُفْضِ أَيْ يَئُولُ إلَى الْفَنَاءِ أَيْ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ مِنْهَا كَالْفَخِذِ وَاللِّسَانِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلَا قِصَاصَ ثُمَّ إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ كَاللِّسَانِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَقَطْعِ الرِّجْلِ وَالْفَخِذَ أَوْ كَسْرِهِ مِنْهُ فَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْجَانِي مَعَ الْأَدَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فَالْحُكُومَةُ مَعَ الْأَدَبِ أَيْضًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْعُضْوِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ فَيُقْتَفَى فِيهِ وَيُتَّبَعُ مَا وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ الَّذِي قَدْ أُتْلِفَ بِقَطْعِهِ وَإِبَانَتِهِ.
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
(2/292)

وَالْخَطَأُ الدِّيَةُ فِيهِ تُقْتَفَى
(الْبَيْتَ) وَفِيهِ إجْمَالٌ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: إنَّ كُلَّ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْمُزْدَوِجِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، فَإِنَّ فِي إتْلَافِهِمَا مَعًا الدِّيَةَ كَامِلَةً. وَفِي إتْلَافِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَقَطْعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ أَوْ ذَهَابِ بَصَرِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى اُنْتُهِجَ أَيْ سُلِكَ وَاتُّبِعَ وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً أَيْضًا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ، وَفِي قَطْعِ الذَّكَرِ وَالْأَنْفِ وَفِي الْعَقْلِ إذَا ضَرَبَهُ فَزَالَ عَقْلُهُ وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُزْدَوِجِ لِلسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ أَوْ الْبَصَرِ كُلِّهِ وَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي ذَهَابِ نِصْفِ السَّمْعِ أَوْ نِصْفِ الْبَصَرِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَالنِّصْفُ فِي النِّصْفِ. وَذَهَابُ الشَّمِّ كَذَهَابِ الْبَصَرِ، إنْ ذَهَبَ كُلُّهُ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَهَابِ النُّطْقِ وَالصَّوْتِ وَالذَّوْقِ وَذَهَابِ قُوَّةِ الْجِمَاعِ.
وَيَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ كَامِلَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ الْأَعْضَاءِ، وَفِي عَشْرِ مَنَافِعَ، فَقَالَ: وَالْمُقَدَّرُ مِنْ الْأَعْضَاءِ اثْنَا عَشَرَ: الْأُذُنَانِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْعَيْنَانِ وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، بِخِلَافِ كُلِّ زَوْجٍ فِي الْإِنْسَانِ؛ لِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ، وَالْأَنْفُ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مَارِنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالشَّفَتَانِ وَلِسَانُ النُّطْقِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْهُ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ النُّطْقِ شَيْئًا فَحُكُومَةٌ، وَالْأَسْنَانُ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَأَمَّا الْعَمْدُ فَالْقِصَاصُ، وَالْيَدَانِ مِنْ الْعَضُدِ إلَى الْأَصَابِعِ قَطْعًا أَوْ شَلَلًا فَيَنْدَرِجُ مَا زَادَ عَلَى الْأَصَابِعِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ الْعُشْرِ، إلَّا فِي الْإِبْهَامِ فَنِصْفُهُ، وَالثَّدْيَانِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَحَلَمَتُهُمَا مِثْلُهُمَا إنْ بَطَلَ اللَّبَنُ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَيَانِ، وَمَهْمَا قَطَعَ أَحَدَهُمَا فَدِيَةٌ، وَالشَّفْرَانِ إذَا بَدَا الْعَظْمُ، وَالرِّجْلَانِ كَالْيَدَيْنِ أَيْ فِيهِمَا الدِّيَةُ مِنْ الْأَصَابِعِ وَمِنْ الْوَرِكِ، وَيَنْدَرِجُ مَا فَوْقَ الْأَصَابِعِ قَطْعًا أَوْ شَلَلًا. ثُمَّ قَالَ: وَالْمُقَدَّرُ مِنْ الْمَنَافِعِ عَشْرٌ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالنُّطْقُ وَالصَّوْتُ وَالذَّوْقُ وَقُوَّةُ الْجِمَاعِ وَيَحْلِفُ وَالْإِفْضَاءُ وَالْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
(تَنْبِيهٌ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ: الْعَقْلُ، فَلَوْ زَالَ بِمَا فِيهِ دِيَةٌ تَعَدَّدَتْ، وَذَلِكَ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ فَجُنَّ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ مَا زَالَ الْعَقْلُ بِسَبَبِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْعَقْلِ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا لَوْ أَصَمَّهُ أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَزَالَ عَقْلُهُ، وَقُلْنَا: إنَّ مَحَلَّهُ الدِّمَاغُ. فَلَيْسَ لَهُ إلَّا دِيَةُ الْعَقْلِ. (قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ) : وَإِنْ أُصِيبَ بِمَأْمُومَةٍ، فَذَهَبَ مِنْهَا عَقْلُهُ فَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْ الَّذِي يَقُولُ: إنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ دِيَةُ الْعَقْلِ، وَدِيَةُ الْمَأْمُومَةِ، وَلَا يَدْخُلُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ؛ إذْ لَيْسَ الرَّأْسُ عِنْدَهُ مَحَلًّا لِلْعَقْلِ، كَمَنْ أَذْهَبَ سَمْعَ رَجُلٍ، وَفَقَأَ عَيْنَهُ فِي ضَرْبَةٍ، أَيْ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ مَحَلَّهُ الرَّأْسُ، إنَّمَا لَهُ دِيَةُ الْعَقْلِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْمَأْمُومَةِ، كَمَنْ أَذْهَبَ بَصَرَ رَجُلٍ، وَفَقَأَ عَيْنَيْهِ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ.
(قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّرْعِ. وَمَذْهَبُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَحَلَّهُ الرَّأْسُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفَلَاسِفَةِ. اهـ وَإِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَمَا لَا أَشَارَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَعَدَّدَتْ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِهَا إلَّا الْمَنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ الْمَنَافِعِ الشَّمَّ. (قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ) : وَيَنْدَرِجُ فِي الْأَنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مَعَ الْأُذُنِ. (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : فَإِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ، وَأَذْهَبَ شَمَّهُ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَيَنْدَرِجُ الشَّمُّ فِي الْأَنْفِ كَمَا يَنْدَرِجُ الْبَصَرُ فِي الْعَيْنِ، وَكَمَا يَنْدَرِجُ السَّمْعُ فِي الْأُذُنِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَفِي الصَّوْتِ الدِّيَةُ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: النُّطْقُ أَخَصُّ مِنْ الصَّوْتِ. اهـ وَالْكَلَامُ أَخَصُّ مِنْ النُّطْقِ فَكُلُّ كَلَامٍ نُطْقٌ وَصَوْتٌ وَكُلُّ نُطْقٍ صَوْتٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: أَمَّا لَوْ ذَهَبَ النُّطْقُ وَالصَّوْتُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
(2/293)


وَدِيَةُ الْجُرُوحِ فِي النِّسَاءِ ... كَدِيَةِ الرِّجَالِ بِالسَّوَاءِ
إلَّا إذَا زَادَتْ عَلَى ثُلْثِ الدِّيَهْ ... فَمَا لَهَا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ تَسْوِيَهْ
يَعْنِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ دِيَةً فِي الْجُرُوحِ كَدِيَةِ الرَّجُلِ، حَتَّى تَبْلُغَ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ رَجَعَتْ إلَى حِسَابِ دِيَتِهَا، فَمَنْ قَطَعَ لَهَا أُصْبُعًا فَعَلَيْهِ عَشْرَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي أُصْبُعَيْنِ عِشْرُونَ، وَفِي ثَلَاثَةٍ ثَلَاثُونَ، فَإِذَا قَطَعَ لَهَا أَرْبَعًا فَعَلَيْهِ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ دِيَتَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ.
(قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ) : الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ فِي الْجِرَاحِ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهِ لَا تَسْتَكْمِلُهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ رَجَعَتْ إلَى عَقْلِ نَفْسِهَا. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ لَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَنِصْفِ أُنْمُلَةٍ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثُلُثَيْ بَعِيرٍ، وَالرَّجُلُ فِي هَذَا وَهِيَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنْ أُصِيبَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ وَأُنْمُلَةٍ رَجَعَتْ إلَى عَقْلِهَا، فَكَانَ لَهَا فِي ذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَثُلُثَا بَعِيرٍ أَيْ؛ لِأَنَّ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَأُنْمُلَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا، وَذَلِكَ ثُلُثُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَهِيَ لَا تُسَاوِيهِ فِي الثُّلُثِ بَلْ فِيمَا دُونَهُ، فَتَرْجِعَ لِدِيَتِهَا، فَيَكُونَ لَهَا فِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ الثَّلَاثِ خَمْسٌ، وَفِي الْأُنْمُلَةِ بَعِيرٌ وَثُلُثَا بَعِيرٍ، وَكَذَلِكَ مَأْمُومَتُهَا وَجَائِفَتُهَا، إنَّمَا لَهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَثُلُثَا بَعِيرٍ. اهـ
وَنَحْوَهُ فِي ابْنِ الْحَاجِبِ وَزَادَ وَالْمُوضِحَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ كَالرَّجُلِ لِأَنَّ دِيَتَهَا أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ. (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) : وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ يَسْتَشْكِلُهُ الذِّهْنُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَتْبَعَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَهُوَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ: سَأَلْتُ ابْنَ الْمُسَيِّبِ كَمْ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ. فَقُلْتُ: فَكَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ فَقَالَ: عِشْرُونَ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا؟ فَقَالَ: أَعِرَاقِيُّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: بَلْ عَالِمٌ. مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي. (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ هِيَ السُّنَّةُ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ.
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَائِدَةٌ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ سَبَبُ مُعَاقَلَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهِ وقَوْله تَعَالَى {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] وَمَعْنَى مَا تَغِيضُ مَا تَنْقُصُ مِنْ التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةٍ، وَمَعْنَى مَا تَزْدَادُ: عَلَى التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ إلَى تَمَامِ السَّنَةِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النُّطْفَةَ تَبْقَى فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَيْضَاءَ، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ أُخْرَى، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ أُخْرَى، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يُمَيَّزْ فِيهَا الذَّكَرُ مِنْ الْأُنْثَى، وَبَعْدَهَا يَتَمَيَّزُ، فَإِذَا سَمَّيْتَ الْأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ السَّنَةِ تَجِدُهَا ثُلُثًا؛ فَلِذَلِكَ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهِ، ثُمَّ تَرْجِعُ لِدِيَتِهَا. اهـ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إلَّا إذَا زَادَتْ عَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ. أَنَّ ثُلُثَ نَفْسِهِ مِنْ حَيِّزِ الْيَسِيرِ فَلَا تَرْجِعُ فِيهِ لِدِيَتِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إذَا بَلَغَتْهُ رَجَعَتْ لِدِيَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَوْ قَالَ: إلَّا إذَا وَصَلَتْ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ. لَكَانَ مُوَافِقًا لِلنَّقْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق