الاثنين، 8 ديسمبر 2014

سقوط القصاص ..من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني – د. عبد القادر عودة

سقوط القصاص


180- تسقط عقوبة القصاص بأربعة أسباب هى:
فوات محل القصاص - العفو - الصلح - إرث حق القصاص.
181- فوات محل القصاص: محل القصاص فى القتل هو نفس القاتل،
_________
(1) المغنى ج9 ص412 , المهذب ج2 ص197 , مواهب الجليل ج6 ص253.
(2/155)
________________________________________
فإذا فات محل القصاص أى انعدم محله بأن مات من عليه القصاص سقطت العقوبة لأن محلها انعدام، ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها.
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط القصاص بموت الجانب يوجب الدية فى ماله أم لا؟ فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص، ولا يترتب عليه وجوب الدية فى مال القاتل، لأن القصاص واجب عينًا، والدية لا تجب إلا برضاء القاتل فإذا مات القاتل سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية لأن القاتل لم يوجبها على نفسه، ويستوى أن يكون الموت بآفة سماوية أو بيد شخص آخر ما دام أن الموت بحق، فإذا مات الجانى بمرض أو قتل فى قصاص بشخص آخر أو زنًا أو ردة، ففى كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب بدلها الدية.
أما إذا قتل ظلمًا، فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول، فمثلاً من قتل رجلاً فعدا عليه أجنبى فقتله عمدًا فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول الثانى: أرضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم فى القتل أو العفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه، ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها. وإن قُتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول (1) . ويسوى أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطًا مطلقًا ولا يوجب الدية فى مال الجانى ولا فى مال غيره (2) إذا جنى عليه. ويرى الشافعى وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص فى كل الأحوال، سواء كان الموت بحق أو بغير حق، ولكنه يؤدى إلى وجوب الدية فى مال الجانى، لأن الواجب فى القتل أحد شيئين: عين القصاص أو الدية فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر،
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص231.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص246.
(2/156)
________________________________________
ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر كذوات الأمثال (1) .
ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء فى المثل الآتى: إذا قتل محمد عليًا، فإن لأولياء محمد حق القصاص على علىٍّ، فإذا مرض على ومات سقط القصاص بموته ولا شئ لأوليائه طبقًا لرأى مالك وأبى حنيفة، ولأوليائه الدية فى مال علىٍّ طبقًا لرأى الشافعى وأحمد، فإذا كان موت علىٍّ سببه أن زيدًا أطلق عليه عيارًا ناريًا عمدًا فقتله أو صدمه بسيارته خطأ فقتله فقد سقط معه القصاص ولا شئ لأولياء محمد كما يرى أبو حنيفة، وطبقًا لرأى مالك ينتقل حق القصاص إلى زيد ويكون لأولياء محمد أن يقتصوا منه فى حالة العمد، وليس لأولياء علىٍّ أن يقتصوا من زيد إلا إذا أرضوا أولياء محمد، وفى حالة الخطأ يدفع زيد دية على لأولياء محمد. وطبقًا لرأى الشافعى وأحمد يسقط القصاص وتكون لأولياء محمد ديته فى مال على.
182- العفو: أجمع الفقهاء على جواز العفو عن القصاص، وأن العفو عنه أفضل من استيفائه. والأصل فى جواز العفو الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد أقر العفو فى سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وفى سياق قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} إلى أن قال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45] .
وأما السنة: فإن أنس بن مالك قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شئ فى قصاص إلا أمر فيه بالعفو".
183- والعفو عن القصاص عند الشافعى وأحمد هو التنازل عن القصاص مجانًا أو عن الدية: فمن تنازل عن القصاص من القاتل مجانًا فهو عاف، ومن تنازل عن القصاص مقابل الدية فهو عاف، وإن كان مالك يرى أن العفو عن الدية يحتاج لنفاذه رضاء الجانى بدفع الدية، بخلاف الشافعى وأحمد اللذين يريان أن العفو عن الدية يعتبر نافذًا دون حاجة لرضاء الجانى (2) .
_________
(1) المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ج9 ص417.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230 , المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ج9 ص413 وما بعدها.
(2/157)
________________________________________
والعفو عند مالك وأبى حنيفة هو إسقاط القصاص مجانًا أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفوًا عندهما، وإنما هو صلح (1) ؛ لأن تنازل الولى لا ينفذ إلا إذا قبل الجانى دفع الدية (2) .
ويشترط مالك وأبو حنيفة أن يكون العفو عن القصاص من صاحب الحق؛ لأن العفو عنده إسقاط الحق وإسقاط الحق محال ممن ليس له حق، ويرتب على هذا أن العفو لا يصح من أجنبى لأنه ليس صاحب الحق ولا من الأب أو الجد فى قصاص وجب للصغير خاصة، لأن الحق للصغير وليس لهما وسلطتهما قاصرة على استيفاء الحقوق الواجبة للصغير، وولايتهما مقيدة بالنظر لمصالح الصغير، والعفو ضرر محض لأنه إسقاط الحق أصلاً ورأسًا فلا يملكانه، وكذلك لا يملك السلطان العفو فيما له ولاية الاستيفاء فيه (3) ولكن الأب والجد والسلطان يملكون الصلح.
ولكن الشافعى وأحمد يجيزان أن يكون العفو من الأب والجد على مال كما بينا فى الفقرة 167 كما يجيزون للسلطان أن يعفو على مال ولكنهم لا يجيزون له العفو مجانًا.
والفرق بين أبى حنيفة والشافعى وأحمد هو اختلاف فى تكييف التنازل عن القصاص على الدية، فأبو حنيفة يسميه صلحًا وباقى الأمة يسمونه عفوًا، وأبو حنيفة منطقى فى وجهة نظره لأنه يشترط رضاء الجانى بدفع الدية. فإذا كان التنازل معلقًا على رضاء الجانى بمقابل التنازل وهو الدية فالتنازل صلح لا عفو، والشافعى وأحمد يتبعان المنطق فى وجهة نظرهما لأن تنازل أولياء المجنى عليه عن القصاص على الدية لا يتوقف على رضاء الجانى إذ الواجب عندهما بالقتل
_________
(1) الزيلعى ج6 ص107 - 108 , 113 , البحر الرائق ج8 ص301 , 302.
(2) يسمى بعض الفقهاء فى مذهب مالك التنازل عن القصاص بمقابل عفواً , ويسميه بعضهم صلحاً وهؤلاء يتفق رايهم مع أبى حنيفة , راجع الفقرة 167.
(3) راجع الفقرة 163.
(2/158)
________________________________________
العمد القصاص والدية وللولى أن يختار بينهما فإذا اختار القصاص فله أن يتنازل عنه إلى الدية، فالتنازل إذن إسقاط محض لا مقابل له وترك للأكثر وأخذ للأقل فهو عفو لأنه إسقاط محض.
وفى مذهب مالك لا يرون بأسًا من اعتبار التنازل عن القصاص مقابل الدية عفوًا مع أنهم يعتبرون الواجب بالقتل العمد هو القصاص عينًا، ويوجبون رضاء الجانى إذا اختار الأولياء الدية ولكن بعضهم يعتبر هذا صلحًا لا عفوًا، ومن يعتبرونه عفوًا يفرقون بينه وبين الصلح بأن العفو يكون على الدية فقط أو اقل منها أما الصلح فيكون على أكثر من الدية ويكون على غير الدية ولا شك أن من يسمونه صلحًا أقرب إلى المنطق ممن يسمونه عفوًا (1) .
184- من يملك حق العفو؟: يملك حق العفو عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد من يملك حق القصاص (2) ، والقصاص عندهم حق لجميع الورثة من ذوى الأنساب والأسباب الرجال والنساء والصغار والكبار. فكل واحد منهم يملك العفو إذا كان بالغًا عاقلاً فإن لم يكن كذلك فلا يملك التصرف فيه وإن كان الحق ثابتًا لأنه من التصرفات الضارة والتى لا تجوز إلا للعاقل البالغ (3) .
ويملك العفو عند مالك من يملك حق القصاص، وهو العاصب الذكر الأقرب درجة للمقتول والمرأة الوارثة التى لا يساويها عاصب فى الدرجة، والتى لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب (4) ، ويشترط مالك أيضًا فى العافى أن يكون بالغًا عاقلاً.
185- هل يملك العفو فرد عند تعدد المستحقين؟: إذا كان المستحق للقصاص واحدًا بالغًا عاقلاً رجلاً أو امرأة فهو يملك العفو وحده عند
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص230 , مواهب الجليل ح6 ص252.
(2) راجع الفقرة 163.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص246 , المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ح9 ص388.
(4) راجع الفقرة 163.
(2/159)
________________________________________
أبى حنيفة والشافعى وأحمد وإذا عفا كان عفوه نافذًا وإذا تعدد المستحقون للقصاص فعفا أحدهم نفذ عفوه وأنتج أثره ولو لم يعف الباقون، وحجتهم أن القصاص حق مشترك بين المستحقين فإذا عفا أحدهم سقط بعفوه لأن القصاص لا يتجزأ بطبيعته إذ لا يمكن قتل بعض الجانى وإحياء بعضه وأن العفو أقرب للتقوى فهو أفضل من طلب القصاص، فمن عفا رجح عفوه على طلب القصاص ويستدلون على صحة رأيهم بما روى عن عمر من أنه أتى برجل قتل قتيلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول، وهى أخت القاتل: قد عفوت عن حقى. فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل. وفى رواية عن زيد قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فقال بعض إخوتها: قد تصدَّقت، فقضى لسائرهم بالدية. وروى عن قتادة: أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم، فقال عمر لابن مسعود: ما تقول: قال: إنه قد أُحرز من القتل. فضرب على كتفه وقال: كُنَيْفٌ مُلئ علمًا.
وزوال الزوجية بالموت لا يمنع استحقاق القصاص ثم العفو، كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوق القتيل الموروثة عنه، سواء على رأى القائلين بأن القصاص يرثه الورثة ابتداء أو يرثونه عن القتيل.
أما مالك فيرى أن المستحقين إذا كانوا رجالاً متساوين فى الدرجة فالعفو يملكه أى واحد منهم فإن كان فيهم من هو أعلى درجة فالعفو له دون غيره، وإن كان المستحقون نساء فالعفو لأعلاهن درجة كالبنت مع الأخت فالعفو للبنت دون الأخت ولو أن كليهما وارثة. هذا إذا كان القتل بغير قسامة فلا عفو إلا باجتماع النساء والعَصَبة. وإن كان المستحقون نساء وكلهم من درجة واحدة فعفت إحداهن فلا يعتبر العفو إلا إذا أقره الحاكم. وإذا كان المستحقون رجالاً ونساء أعلى درجة منهم وكان للرجال كلام لكونهم وارثين وثبت القتل ببينة أو إقرار أو قسامة أو كان الرجال وارثين ولكن ثبت القتل بقسامة فلا عفو إلا بإجماع الفريقين أو بإجماع بعض هؤلاء وبعض هؤلاء. أما إذا كان
(2/160)
________________________________________
الرجال مساوين للنساء فى الدرجة أو أعلى منهن فلا كلام للنساء معهم والاستيفاء للعاصب وحده (1) .
186- متى يعفو الولى؟: قد يكون العفو من الولى قبل الموت وقد يكون بعده، ولكل حالة حكمها الخاص. وقد يكون العفو من الولى المستحق الذى لا شريك له، وقد يكون من ولى له شركاء وقد يكون عن بعض الجناية دون البعض.
187- عفو الوالى بعد الموت: إذا استحق ولى الدم القصاص وحده فعفا بعد موت القتيل وكان ممن يملك العفو ترتب على عفوه أثر وسقط القصاص عن القاتل، سواء كان العفو مطلقًا غير مقيد أو كان العفو على الدية، وسواء قَبل الجانى دفع الدية أم لم يقبل، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، أما مالك فيرى أن حق القصاص لا يسقط إلا إذا قبل الجانى دفع الدية إذا كان العفو على الدية. وأساس الخلاف أن العفو على الدية يوجبها على الجانى عند الشافعى وأحمد فلا حاجة لرضاه، ولكن الدية لا تجب عند مالك وأبى حنيفة إلا برضاء الجانى (2) .
وإذا عفا الولى عن الجانى ثم قتله بعد العفو عنه اعتبر الولى قاتلاً عمدًا باتفاق؛ لأن الجانى بالعفو عنه صار معصوم الدم (3) ، وإذا استحق قصاصًا على شخص فقطع يده ثم عفا عنه بعد ذلك فهو مسئول عن قطع اليد عند مالك وأبى حنيفة، ولا مسئولية عليه عند الشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد. وحجة الفريق الأول أن حق من له القصاص فى الفعل وهو القتل، لا فى المحل وهو النفس، وإن كان فى النفس فهو فى القتل لا فى القطع لأن حقه فى المثل ومثل القتل هو القتل، فإذا قطعها فقد استوفى ما ليس له بحق ويرى مالك القصاص ولكن أبا حنيفة برأه للشبهة. أما الفريق الآخر فحجته أن نفس القاتل صارت ملكًا لولى
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص232.
(2) مواهب الجليل ج6 ص235 , بدائع الصنائع ج7 ص247.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص247 , الشرح الكبير ج9 ص391 , المهذب ج2 ص197 , نهاية المحتاج ج7 ص286.
(2/161)
________________________________________
القتيل، والنفس اسم لجملة الأجزاء، فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه وإذا كان قد عفا، فالعفو عن الباقى لا عما استوفاه. ومن المتفق عليه أنه إذا قطعه ثم قتله فلا شئ عليه إلا التعزير لتعذيبه القتيل (1) .
وإن كان القصاص على أكثر من شخص واحد كأن القاتل رجلين فأكثر فإذا عفا الولى عنهما أو عنهم جميعًا سقط القصاص، وإن عفا عن أحدهم أو بعضهم سقط القصاص عن المعفو عنهم وبقى على الآخرين؛ لأن العافى استحق على كل منهم قصاصًا كاملاً والعفو عن أحدهم لا يستوجب العفو عن الآخرين.
وإذا تعدد الأولياء فى قصاص مشترك فعفا أحدهم سقط القصاص عن القاتل؛ لأن سقوط نصيب العافى بالعفو يسقط نصيب الآخرين ضرورة لأن القصاص لا يتجزأ وهو قصاص واحد فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخرين مالاً فيأخذون حصتهم من الدية ولا يأخذون الدية كاملة لأن للعافى نصيبًا فيها فيأخذون الباقى بعد خصم نصيب العافى، أما العافى فإنه يأخذ نصيبه إذا عفا على الدية ولا يأخذه إذا عفا مجانًا (2) .
وإذا عفا أحدهم فقتله الآخر فإن لم يكن يعلم بالعفو أو علم به ولكنه لا يعرف بأن القصاص سقط فهو قاتل عمدًا عند أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، ويدرأ عنه القصاص وعليه الدية فى ماله لأن للولى القاتل حق القصاص، وهذا يورث شبهة فى عصمة الجانى والحدود تدرأ بالشبهات ولكن زفر يرى أن عصمة الجانى عادت بالعفو فإذا قتله أحد الأولياء فقد قتل معصومًا فعليه القصاص. وفى مذهب الشافعى رأيان كلاهما يعتبره قاتلاً عمدًا، ولكن أصحاب الرأى الأول يدرؤون القصاص للشبهة وأصحاب الرأى الثانى يرون القصاص، ومذهب أحمد أن لا قصاص للشبهة.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص304 , مواهب الجليل ج6 ص235 , المهذب ج2 ص203.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص248 , مواهب الجليل ج6 ص254 , المهذب ج2 ص202 , الشرح الكبير ج9 ص390.
(2/162)
________________________________________
وإذا قتله وهو عالم بالعفو وبسقوط القصاص كان قاتلاً عمدًا دون شبهة ووجب عليه القصاص عند أبى حنيفة وأحمد وطبقًا لأحد الرأيين فى مذهب الشافعى، أما الرأى الآخر فيشترط للقصاص أن يكون عالمًا بالعفو وأن يحكم القاضى بسقوط القصاص، وإن لم يتوفر هذان الشرطان درئ القصاص للشبهة؛ لأن مالكًا يرى أن حق الولى لا يسقط فى القود بعفو الشريك، وهذا الخلاف يعتبر شبهة تدرأ القصاص (1) [تبحث هذه المسألة من كتب المالكية] .
كل ما سبق إذا كان القصاص الواحد مشتركًا بين مستحقين متعددين فعفا أحدهم أو بعضهم عن نصيبه أما إذا وجب لكل من المستحقين قصاص كامل غير مشترك قَبل القاتل فإن الحكم يختلف، فلو قتل الجانى رجلين فعفا ولى أحدهما عن القاتل فإن عفوه لا يسقط حق ولى القتيل الآخر من القصاص من القاتل؛ لأن كل واحد من الوليين استحق على الجانى قصاصًا كاملاً مستقلاً عن القصاص الذى استحقه الآخر فإذا ما أسقط أحدهما حقه بقى حق الآخر، بخلاف القصاص المشترك فإن عفو أحد الشريكين فيه يسقط حق الشريك الآخر؛ لأن حق القصاص لا يتجزأ ومن المحال إسقاط بعضه وتنفيذ بعضه.
188- عفو الولى قبل الموت: إذا عفا الولى بعد الجرح وقبل الموت ففى صحة عفوه ونفاذه رأيان:
أولهما: أن العفو غير صحيح لأنه عفا عما لم يجب له لأن القصاص لا يجب له إلا بعد وفاة موروثه ولأن العفو عن القتل يستدعى وجود القتل والفعل لا يصير قتلاً إلا بوفاة الموروث فالعفو لم يصادف محله.
ثانيهما: أن العفو صحيح لأن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلاً من يوم وجوده فكان العفو عن حق ثابت، وإذا فرض أن القتل لم يوجد من يوم الجرح فقد وجد سببه وهو الجرح المفضى إلى الموت، والسبب المفضى إلى الشئ يقام مقامه وعلى هذا يكون العفو صحيحًا (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص248 , المهذب ج2 ص197 , نهاية المحتاج ج7 ص286 , المغنى ج9 ص465 - 466.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص248 , الأم ج6 ص14.
(2/163)
________________________________________
189- العفو من المجنى عليه: وكلما يصح أن يكون العفو من ولى القتيل يصح أن يكون العفو من القتيل قبل موته، فإن عفا المجروح عن الجانى وبرأ من جراحه دون أن يسرى إلى أعضاء أخرى فالعفو صحيح؛ لأن القاعدة أن للمجنى عليه أن يعفو عن القصاص مجانًا وله أن يعفو عن الدية أيضًا.
وإن عفا المجروح عن الجانى فسرى الجرح إلى عضو آخر كأن قطع إصبعه فعفا عنه، ثم سرى الجرح إلى اليد فأتلفها، فيرى أبو حنيفة أن العفو صحيح، سواء عن الجرح أو عن الجرح وما يحدث منه؛ لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها. أما الشافعى وأحمد فيفرقان بين ما إذا كان العفو شاملاً الجناية وما يحدث منها وفى هذه الحالة يصح العفو، وبين ما إذا كان العفو قاصرًا على الجرح فقط ففى هذه الحالة يكون الجانى مسئولاً عن السراية ولكن لا يقتص منه لأن القصاص فى الإصبع سقط بالعفو ولا يجب فى الكف لأنها تلفت بالسراية، فإذا كان العفو على الدية وجبت الدية فى اليد كلها، وإن كان العفو مجانًا وجبت الدية دون الأَرْش فيما تسرى إليه، والظاهر أن هذا الحكم عند مالك (1) .
وإن عفا المجروح ثم سرى الجرح إلى النفس ومات، فيرى أبو حنيفة وأصحابه أن العفو إذا كان بلفظ الجناية أو الجراحة وما يحدث منها صح العفو ولا شئ على القاتل لأن لفظ الجناية يتناول القتل، وكذلك لفظ الجراحة وما يحدث منها، فكان ذلك عفوًا عن القتل، وأما إذا كان العفو بلفظ الجراحة فقط ولم يذكر ما يحدث منها، لم يصح العفو عند أبى حنيفة وكان الجانى مسئولاً عن القتل العمد، ولكن تجب الدية بدلاً من القصاص درءًا لشبهة العفو، وعند محمد وأبى يوسف العفو صحيح ولا شئ على القاتل، لأن العفو عن الجراحة يشمل الجراحة وما يتولد عنها من السراية، لأن السراية أثر
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص249 , المهذب ج2 ص212 , المغنى ج9 ص472 , شرح الدردير ج4 ص235 , مواهب الجليل ج5 ص86 , 87.
(2/164)
________________________________________
الجرح، والعفو عن الشئ عفو عن أثره. وحجة أبى حنيفة أن حق المجنى عليه فى موجب الجناية أى القصاص لا فى عين الجناية أى الجرح وعين الجناية، ومن لا يتصور بقاؤه فلا يتصور العفو عنه، فكان عفو المجنى عليه عفوًا عن موجب الجراحة وبالسراية تبين أن لا موجب بهذه الجراحة، وأن الواجب عند السراية هو موجب القتل أى القصاص، كذلك فإن الجرح غير القتل، فالعفو عن أحدهما ليس عفوًا عن الآخر (1) .
ويقترب رأى الشافعى من رأى أبى حنيفة، فإن كان العفو عن الجناية وديتها وما يحدث منها فلا قصاص ولا دية، وإن كان عن الجناية فقط سقط القصاص ولم تسقط دية النفس، لأنه أبرأ فيها قبل الوجوب. أما سقوط القصاص فبالعفو بعد الوجوب ويسقط فى النفس لأنه لا يتبعض (2) . وفى مذهب أحمد رأيان: رأى يماثل رأى الشافعى ورأى يماثل أبى يوسف ومحمد (3) .
أما إذا كان الجرح أو الجناية لا يجب فيه القصاص كجائفة أو قطع يد من الساعد، فإن العفو لا أثر له عند الشافعى وأحمد، لأن العفو عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يصادف العفو محله، بخلاف ما إذا كان الجرح أو الجناية يجب فيه القصاص، فإن العفو يصادف محله فى الجرح، ويسقط القصاص فى النفس لأنه سقط فى الجرح، إذ القصاص لا يتبعض فإذا سقط فى البعض سقط فى الكل (4) .
وعند مالك: إذا كان العفو عن الجرح وما ترامى إليه من عضو أو نفس فالعفو صحيح نافذ، وإن كان العفو عن الجرح دون بيان فهو محمول على أنه عفا عما وجب له فى الحال، ويسأل عن السراية للعضو والنفس، ويعتبر فى حالة السراية إلى النفس قاتلاً عمدًا ويقتص منه بقسامة فى حالة العمد (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص249.
(2) المهذب ج2 ص202 , 203.
(3) الشرح الكبير ج9 ص427 وما بعدها , المغنى ج9 ص475 وما بعدها.
(4) المهذب ج2 ص203 , الشرح الكبير ج9 ص429 وما بعدها , المغنى ج9 ص475 وما بعدها.
(5) مواهب الجليل ج6 ص255 , 256 وج5 ص86, 87.
(2/165)
________________________________________
فالفرق بين الشافعى وأحمد وبين مالك، أنه يجعل القصاص فى كل حال، ولكنهما يجعلانه فى حالة ما إذا كانت الجناية لا توجب القصاص، أى أن رأى مالك يتفق مع رأى أبى حنيفة ويخالفه فقط فى أنه لا يدرأ القصاص للشبهة، ولكن بعض الفقهاء المالكيين يفرق بين ما إذا كان الجرح يجب فيه القصاص أو لا يجب، ويجعل القصاص قاصرًا على الجناية التى لا يجب فيها القصاص.
هل يعتبر عفو المجنى عليه وصية للقاتل؟: للفصل فى هذه المسألة أهمية كبرى لأن اعتبار العفو وصية يوجب أن يكون المعفو عنه فى ثلث التركة حيث لا تصح الوصية فى أكثر من ثلث التركة، فإن كان المعفو عنه فى ثلث التركة فالعفو نافذ إذا كان صحيحًا وتوفرت شروطه وإن كان المعفو عنه يزيد على ثلث التركة نفذ العفو فيما يساوى ثلث التركة فقط.
وإذا اعتبرنا العفو وصية فهناك رأيان: رأى يقول بأن الوصية لا يجوز أن تكون لقاتل ورأى يرى الجواز، فإذا أخذ بالرأى الأول كان العفو لغوًا إلا فى الجرح الحاصل قبله، ومن رأى مالك وأبى حنيفة أن عفو المجنى عليه لا يعتبر وصية للقاتل لأن موجب العمد هو القصاص عينًا والعفو ينصب على إسقاط القصاص، والقصاص ليس مالاً يملك والوصية تمليك لما بعد الموت، فالعفو عن القصاص لا يمكن أن يكون وصية.
ويرى أحمد أن العفو لا يعتبر وصية ولو عبر عنه العافى بلفظ العفو أو الوصية أو الغبراء أو غير ذلك، لأنه إذا كان الواجب فى العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فإن العفو قبل تعيين أحدهما لا يعتبر عفوًا عن مال، أو بمعنى آخر تمليكًا لمال، ومن ثم فلا يعتبر وصية، أما إذا تعين الموجب بأن أبرأه المجنى عليه من الدية أو أوصى له بها، فالتعرف وصية لأنه تمليك المال لما بعد الموت، وقد اختلفوا فى المذهب فى صحة الوصية لقاتل، فرأى البعض أن الوصية لا تصح لقاتل ويترتب على هذا الرأى أن الجانى يلزم بدية النفس بعد خصم دية الجرح، لأن العفو عن الجرح صادف محله فكان إسقاطًا لا وصية،
(2/166)
________________________________________
ورأى البعض أن الوصية تصح للقاتل، ويترتب على هذا الرأى أن الدية تسقط إذا كانت تخرج من ثلث التركة، فإن كانت الدية أكثر من الثلث سقط منها بقدر ثلث التركة، ووجب الباقى على الجانى (1) .
ومذهب الشافعى على أن العفو إذا جاء فى صيغة الوصية فهو وصية لقاتل، كأن يقول: أوصيت له بأرش هذه الجناية، فإذا جاء العفو بلفظ العفو أو الإبراء أو الإسقاط فيرى البعض أنه وصية أيضًا لأنه تبرع، ويرى البعض أنه ليس وصية لأنه إسقاط ناجز، والوصية معلقة بحالة الموت، والرأى الأخير هو الراجح، وكما اختلفوا فى حكم الوصية للقاتل هل هى صحيحة أم لا؟ فقال البعض إنها صحيحة وهو الرأى الراجح وقال البعض إنها غير صحيحة، ويترتب على هذا الخلاف فى صحة الوصية ما سبق أن بيناه (2) .
* * *

الصلح
190- لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلح على القصاص وأن القصاص يسقط بالصلح: ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها، والأصل فيه السنة والإجماع، فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل عمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثين حقَّة وثلاثين جَذَعة وأربعين خَلفة وما صولحوا عليه فهو لهم"، وفى عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً (3) ، فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله.
ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجرى فيه الربا فأشبه الصلح على العروض، فيصح أن
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص424 , 425 , الإقناع ج4 ص188.
(2) تحفة المحتاج ج7 ص296 , 297 , المهذب ج2 ص203.
(3) المغنى ج9 ص477.
(2/167)
________________________________________
يكون بدل الصلح قليلاً أو أكثر من جنس الدية أو من خلاف جنسها، حالاً أو مؤجَّلاً، بخلاف ما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية لأن ذلك يعتبر ربًا، فمثلاً لا يصح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل ولأن الزيادة ربًا.
191- الفرق بين العفو والصلح: العفو هو إسقاط دون مقابل أما الصلح فهو إسقاط بمقابل، وقد ذكرنا أن مالكًا وأبا حنيفة يعتبران العفو عن القصاص على الدية صلحًا لا عفوًا لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عينًا والدية لا تجب إلا برضاء الجانى، فإسقاط القصاص على الدية يقتضى رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو. أما الشافعى وأحمد فيعتبران العفو على الدية عفوًا لا صلحًا؛ لأن الواجب عندهما أحد شقى القصاص أو الدية والخيار للولى دون حاجة لرضاء الجانى، ومن ثم كان التصرف إسقاطًا من طرف واحد فهو عفو.
192- من يملك الصلح؟: يملك الصلح من يملك حق القصاص وحق العفو، وقد سبق أن بينا ذلك بمناسبة الكلام على العفو، ونزيد عليه هنا أن الشافعى وأحمد يجعلان العفو للسلطان لولى الصغير والجنون على الدية، أما مالك وأبو حنيفة فيجعلان لهم حق الصلح لا العفو لأن العفو عندهما إسقاط دون مقابل لما بينا، ويشترطان أن لا يكون الصلح على أقل من الدية، فإن صالح أحدهما على أقل من الدية صح الصلح ووجب باقى الدية فى ذمة لجانى، فإذا كان الجانى معسرًا وقت الصلح فيرى مالك عدم الرجوع عليه.
193- ويصح أن يكون الصلح من المجنى عليه ويصح أن يكون من الولى قبل الموت أو بعده: وحكم الصلح فى هذه الحالات جميعًا هو حكم العفو على الوفاق والخلاف الذى ذكرنا فى العفو.
194- وإذا صالح الولى القاتل على مال ثم قتله فهو قاتل له عمدًا: وقد مرت المسألة فى العفو. وإذا تعدد الأولياء والقصاص مشترك فصالح أحدهم سقط القصاص عن القاتل وانقلب نصيب الآخرين مالاً؛ لما ذكرنا فى العفو، وإذا قتله
(2/168)
________________________________________
أحد الآخرين بعد عفو صاحبه؛ على التفصيل والخلاف والوفاق الذى ذكرنا فى العفو. وإذا تعدد الأولياء ولكل منهم قصاص كامل فصالح ولى أحد القتلة فللآخرين أن يستوفوا، ولو تعدد القاتلون فصالح الولى أحدهم كان له أن يقتص من الآخرين، وهكذا كل ما ذكر فى العفو ينطبق فى حالة الصلح.
195- وصلح المجنى عليه حكمه حكم عفوه: سواء سرى الجرح وانتهى بالبرء أو الموت على الوفاق والخلاف الذى ذكرنا فى العفو، لكن إذا اعتبر الصلح غير نافذ ولم يقره الأولياء فعليهم أن يردوا للجانى مقابل الصلح إذا كان القتيل قد تسلمه.
* * *
إرث حق القصاص
196- يسقط القصاص إذا ورثه من ليس له القصاص من القاتل، كما يسقط إذا ورثه القاتل كله أو بعضه: فإذا كان فى ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص لأن القصاص لا يتجزأ، وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث له سوى القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعضه فإن القصاص يسقط ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية (1) . ومن الأمثلة التى يضربونها على سقوط القصاص بإرثه ما يأتى:
إذا قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى، وسواء كان الولد ذكرًا أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه فى الميراث أو لم يكن؛ لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه لأنه إذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص251 , شرح الدردير ج4 ص233 , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج7 ص362 وما بعدها.
(2/169)
________________________________________
لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقى القصاص عن نصيبه منها.
إذا قتل رجل أخاه فورثه ابنه أو أحد يرث منه شيئًا من ميراثه لم يجب القصاص؛ لما ذكرنا. ولو قتل خال ابنه فورثت أم ابنه القصاص أو جزءًا منه ثم ماتت فورثها ابنها سقط القصاص، ولا عبرة بكون الابن لم يرث القصاص إلا بعد وقوع القتل إذ القاعدة أن ما منع مقارنًا أسقط طارئًا.
ولو قتلت امرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص، سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره.
ابنان قتل أحدهما أباه والآخر أمه، فإن كانت الزوجية قائمة حال قتل الأول فالقصاص على قاتل الأم دون قاتل الأب. لأن الأم ورثت جزءًا من دم لأب فلما قُتلت ورثها قاتل الأب فورث جزءًا من دم نفسه فسقط عنه القصاص وبقى له القصاص على أخيه (1) ، وإن لم تكن الزوجية قائمة وقت القتل فعلى كل من الولدين القصاص لأخيه لأنه ورث الذى قتله أخوه وحده دون قاتله، فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى حقه وسقط القصاص عنه، لأنه يرث أخاه لكونه قتلاً بحق، فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه، فإذا لم يبدأ أحدهما الآخر بالقتل فقد اختلف أيهما يقتل أولاً، لأن القصاص من أحدهما يسقط القصاص عن الآخر إذا كان يرثه، ففى مذهب أحمد يرى البعض البدء بمن ارتكب جريمته أولاً، ويرى البعض الاقتراع بينهما والرأى الأخير مذهب الشافعى.
واختلفوا فى مذهب أبى حنيفة فرأى زفر ترك الأمر للقاضى يبتدئ بأيهما شاء ورأى الحسن بن زياد بأن يوكل كل منهما وكيلاً لقتل الآخر فيقتلان فى وقت واحد فلا يرث أحدهما الآخر، وقال أبو يوسف بإسقاط القصاص عنهما معًا، وحجته فى ذلك
_________
(1) هذا الحمل على مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد , أما على مذهب مالك فإن على كل ولد القصاص لأخيه كما هو فى السطر الثانى من المثال. وعلة الخلاف أن الزوجة لا تستحق عند مالك فهى لا ترث شيئاً من حق القصاص عند الأب.
(2/170)
________________________________________
تعذر استيفاء القصاص لأنه إذا استوفى أحدهما سقط القصاص عن الآخر، وليس أحدهما بالاستيفاء أولى من الآخر، وفى استيفاء أحد القصاصين إبقاء حق أحدهما وإسقاط حق الآخر، وهذا لا يجوز، والقول باستيفائهما بطريق التوكيل غير سديد، لأن الفعلين قلما يتفقان فى زمان بل يسبق أحدهما الأخر عادة وإذا اتفق الفعلان فإن أثر كل من الفعلين وهو فوات الحياة لا يمكن أن يتفق مع أثر الفعل الآخر، فإذا تخلف الفعل أو أثره فقد ورث من وقع عليه الفعل المخلف زميله وسقط عنه القصاص فكأنه قتل دون حق (1) .
ويلاحظ أن مالكًا يفرق بين استحقاق القصاص ووارث حق القصاص، فمستحق القصاص هو العاصب الذكر والمرأة التى توفرت فيها شروط خاصة سبق بيانها (2) فإذا مات من يستحق القصاص ورثه ورثته الذين يرثون المال من غير خصوصية للقضية فيرثه البنات والأمهات ويكون لهن العفو والقصاص كما لو كانوا كلهم عصبة لأنهم ورثوه عمن كان ذلك له، ولا يستثنى من الورثة إلا الزوجين فإنهما وإن ورثا المال لا يرثان حق القصاص.
ويرى أشهب أحد فقهاء مذهب مالك أن القصاص لا يسقط عن الجانى إذا ورث جزءًا من دم نفسه إلا إذا كان من بقى من المستحقين يستقل الواحد منهم بالعفو (3) ، أما إذا كان الباقون لا يستقل أحد منهم بالعفو ولابد فى العفو من إجماعهم عليه فلا يسقط القصاص عن الجانى الوارث لجزء من دمه كمن قتل أخاه شقيقه وترك المقتول بنتين وثلاثة إخوة أشقاء غير القاتل فمات أبوهم ولا وارث له إلا إخوته الثلاثة القاتل والأخوان الآخران فقد ورث القاتل قسطًا من نفسه ولا يسقط القصاص عنه حتى تعفو البنات والأخوان الباقيان أو البعض من كل (4) ؛ أى من هؤلاء وهؤلاء.
* * *
_________
(1) المغنى ج999 ص362 وما بعدها , بدائع الصنائع ج7 ص251.
(2) راجع الفقرة 163.
(3) راجع الفقرتين 184 , 185.
(4) شرح الدردير ج4 ص233.
(2/171)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق